المصنع/ حازم الأمين- عليا ابراهيم
1-“داعش” يتمدد بين مخيمات العزل ونقمة العشائر
يباشر “درج” بدءاً من اليوم نشر تحقيقات ضمن ملف “المصنع” الذي يتناول احتمالات انبعاث تنظيم “داعش” وشروطه، وذلك عبر رصد مصادر ولادته الأولى ومدى توفر شروطها اليوم وتوقعات انبعاثه. تحقيقات تتناول البنية العشائرية للتنظيم والسجون بصفتها “أكاديميات” صاغ فيها قادة التنظيم علاقاتهم ودمجوا خبراتهم، وما كشفته الهزيمة العسكرية للتنظيم من مآسٍ يبدو من الصعب على حكومات دول المنطقة التعامل معها. اليوم ننشر الحلقة الأولى من ملف “المصنع” على أن تتبعها حلقات وأشرطة وثائقية تنشر أسبوعياً.
خلافاً لأشقائها وأعمامها الذين يريدون قتلها بسبب فرارها من القدر الذي قرّروه لها عبر تزويجها من أحد عناصر “داعش” في مدينة الرطبة العراقية، لا يرى أخوال هبة أن فعلتها تستحق القتل، ذاك أن الأخوال أنفسهم كانوا فرّوا من التنظيم حين سيطر على مدينتهم، وشرع بقتل عناصر الشرطة المحلية التي كانوا ينتمون إليها. إلا أن تمنّعهم عن قتلها لا يعني حمايتها، فهبة تقول إن موتها أهون عليهم من بقائها على قيد الحياة هي وابنتها التي أنجبتها من عنصر التنظيم الذي قتل بعد أشهر من زواجهما. “أخوالي لن يحموني، لا بل طردوني أنا وشقيقتي وأمي، فعدنا إلى الرطبة حيث قتل التنظيم شقيقتي وأبقاني حية بانتظار أن ألِد، وهو ما مكّنني من الفرار مع أمي مجدداً”.
أخوال هبة خصوم “داعش”، إلا أن خصومتهم للتنظيم لم تعفِ الشابة التي هربت من “عدو أخوالها” من شعور الأخوال بأن موتها سيخفف عن “كرامتهم” أعباء ابنة أختهم التي انتهك التنظيم “شرفهم” عبرها. موتها أهون على رغم أنها لا تستحقه بحسبهم. لا يريدون قتلها، إلا أنهم لا يريدون حمايتها. وهي تقول إنهم يرغبون في أن يصل أشقاؤها إليها، فتموت على أيدي غيرهم.
في العراق، وفي أعقاب هزيمة “داعش”، ثمة موت موازٍ يحصل بصمت. قتل النساء ليس خبراً في تلك المساحات التي خلّفها التنظيم في أعقاب هزيمته. موت يعقب موتاً، والصمت المرافق لعمليات القتل يؤشر إلى قبول الجميع بهذه المصائر التي تواجه عشرات وربما مئات النسوة. المرأة ليست حساباً في ميزان الربح والخسارة في تلك البيئة العشائرية، وحياتها قد تكون التسوية الأسهل التي تجريها العائلات في سياق إعادة تموضعها في أعقاب انسحاب “داعش”.
وتقول هناء أدوارد، وهي عراقية وتدير مؤسسة الأمل التي أمّنت لهبة مخبأ في بغداد، إن قتل النساء لا يقتصر على أسباب انتقامية، إنما يمتد ليشمل قضايا الإرث. أخوال هبة يتمنون أن يقتلها أعمامها لأنهم يطمحون بإرث صغير هو منزلها في الرطبة. هذا ما قاله لها قريب هبة الذي أوصلها إلى دار الأمل.
تصلح قصة هبة لأن تكون مدخلاً لتناول “مجتمع المهزومين” في عراق ما بعد “داعش”. هذا “المجتمع” الذي يفوق عدد أفراده 200 ألف، بين امرأة وطفلٍ وعجوز، هو تلك العائلات التي أسسها عناصر التنظيم قبل موتهم أو انسحابهم أو تواريهم. 31 ألفاً منهم ينتظرون اليوم في مخيم الهول في سوريا موافقة السلطات العراقية على دخولهم العراق.
التقديرات العراقية التي تقول إن أعداد هذه الشريحة من العراقيين تصل إلى ما يفوق 200 ألف نسمة، ستتضاعف إذا أضفنا السوريين وعائلات “المهاجرين” من عناصر التنظيم، وهؤلاء كلهم ألقيت أعباء التعامل معهم على كاهل الدولة العراقية الضعيفة القدرات على مختلف المستويات.
وقال رئيس الجمهورية العراقية برهم صالح لـ”درج”: “هذه من دون شك واحدة من أكبر المشكلات التي سيوجهها العالم كله. حتماً ستكون هناك تحديات على مستوى الجهاز القضائي، وعلى مستوى مراكز الاحتجاز، وعلى مستوى القوانين وعلى مستوى الإمكانات. المشكلة كبيرة وتأمين محاكمات عادلة هي مسؤولية مشتركة لا يمكن أن تكون على عاتق العراق وحده. نحن نتحدث عن 30 ألف إنسان يعيشون في مخيم الهول لوحده. إنها غوانتامو مضروباً بألف مع تعقيدات إنسانية إضافية لها علاقة بوجود أطفال ونساء”
وقال مسؤول كبير في الدولة العراقية ل”درج”، “المشكلة الأكبر ليست المقاتلين، فالمقاتل سواء كان فرنسياً أو نيوزيلندياً أو شيشانياً أو تونسياً، هو قاتل ولا بد من محاكمته. المشكلة الأكبر هي النساء والأطفال، ودعوني أكون صريحاً، النساء الموجودات في مخيم الهول مثلاً، لسن سهلات، فقد تمت أدلجتهن ومعظمهن مقتنعات بما جئن لأجله. هذه معتقداتهن والتعامل معهن ليس سهلاً والمشكلة الأكبر أن بلادهن لا تريد استعادتهن… أي كلام عن مناصحة لن يكون سهلاً. هذه هرطقة، فالطفل الذي يبلغ من العمر 11 عاماً اليوم، سيصبح شاباً قريباً والمشكلة من دون شك إلى تفاقم”.
المشكلة في مستواها المحلي في العراق، ولاحقاً في سوريا، تبدو أكثر تعقيداً. التنظيم الإرهابي حكم مناطق واسعة وطبّق أحكامه على عشرات المدن وآلاف القرى والبوادي، وخلّف واقعاً اجتماعياً بدأ يكشف عن مآسٍ غير معهودة ولا تتسع لها الأنظمة والقوانين. أنماط من الزيجات غير المعهودة، وعائلات عابرة للدول والحدود تشكّلت بفعل الاختلاط غير المنتظم بين الجنسيات والأعراق والأقوام. استمر هذا نحو 4 سنوات، وترافق مع عملية تنشئة بالغة القسوة والأدلجة، تم خلالها تخصيب الوعي العشائري بمزيد من قيم العنف والقتل. ولعل أكثر من أصابهم زلزال “داعش” هذا، هم الأطفال والنساء، ذاك أنهم الشريحة الأضعف في البيئة العشائرية المنتشرة على طرفي الحدود بين العراق وسوريا، وفي أرياف باديتي البلدين.
والعالم إذ يشيح بوجهه عن ارتدادات الكارثة، يؤسس لكارثة موازية. هذا ليس توقعاً، ذاك أن مؤشرات الكارثة بدأت تلوح، فمخيمات “العزل” التي شرعت السلطات العراقية والكردية السورية بإنشائها لهؤلاء، ستدوم طويلاً في ظل استعصاء الحلول البديلة. ويقول أمنيون عراقيون إن هذه المخيمات ستكون بمثابة “أكاديمياتٍ للإرهاب”، ذاك أن كل عناصر ولادة العنف متوافرة فيها، بدءاً من القابلية الدينية والأيديولوجية، ومروراً بسوء الإدارة وندرة الموارد، ووصولاً إلى الاضطهاد والفساد والانتهاكات.
عبارة “مخيّمات العزل” على ما تنطوي عليه من دلالات، هي ما تقترحه الجهات الأكثر رأفة في هذه المجموعات. ويترافق هذا الاقتراح مع تصورات لأن تكون هذه المخيمات بعيدة من المدن ومناطق السكن في البادية. والصحراء الغربية الشاسعة وقليلة السكن في العراق هي ما يعتقده هؤلاء مكاناً مناسباً لمخيمات العزل. هذه الاقتراحات ليست مجرد أفكارٍ للتعامل مع هذه المشكلة، فهي بدأت تختبر عبر مخيم حمام العليل في شمال العراق ومخيم الهول في شمال سوريا. ومن اقترب من هذين المخيمين يمكنه أن يتصور ما ستؤول إليه أوضاع سكان المخيمات المقترحة الأخرى. عملية تخصيب هائلة للعنف في وعي آلاف الأطفال الذين على استعداد، لكي يتحولوا إلى فتية ومراهقين. وهؤلاء تُنتَهك أمهاتهم تحت أنظارهم من قبل الجماعات التي تحاصر المخيم ومن قبل “مجتمعات” المنتصرين على “داعش” من أولاد العم والخال والعشيرة والمدينة.
الإحاطة بالظاهرة وبما خلّفته من توترات وأشكال من العنف الفردي والجماعي وفي ظل ضعف السلطات وفسادها، كل ذلك سيفضي إلى قناعة حتمية بأن “داعش” سيولد من جديد. بيئة المنتصرين هي نفسها البيئة التي ولد فيها التنظيم أصلاً، وما حملته سلطة “داعش” من عنف وميول انتقامية، هي ما يعاد إنتاجه في أمزجة المنتصرين عليها. ليست قصة هبة سوى واحدة من آلاف القصص. فمحمد الفتى الذي انتمى إلى التنظيم لفترة أسبوع، ولجأ إلى حشد عشائري يضم أقرباء له بعد هزيمة التنظيم في الموصل، وهو اليوم يخدم عناصر هذا الحشد ويعد لهم الطعام، يؤدي لهم في الليل “خدمات جنسية”، وفق ما قاله أحد عناصر هذا الحشد متباهياً.
ظاهرة المبايعات الهائلة للتنظيم والتي أقدمت عليها عشائر الصحراء العراقية والبادية السورية بعد سيطرة “داعش” على مناطقها، توازيها اليوم ظاهرة مبايعات موازية للمنتصرين على التنظيم. وعلى ضفتي هاتين المبايعتين تترنح العشائر، وتقتل نساءً وتُعلن رفضها عودة أفخاذٍ منها انخرطت في “داعش”، وتتهم خصومها، وتحاول مفاوضة المنتصرين. ووسط هذا الاضطراب، تبدو النساء الحلقة الأضعف في مسار التحولات، وهن في الوقت نفسه الأكثر حضوراً في الوعي الانتقامي للثقافة المحلية.
وتقول هناء ادوارد: “من خلال رصد الوقائع بعد هزيمة داعش تبين أن هناك تعذيباً وحشياً للعائلات، وتعرضت نساء لأنواع من الاعتداءات بما في ذلك الاعتداء الجنسي الموثق، فيما أطلق سراح إرهابيين بفعل الرشى والفساد، وهذه أيضاً أفعال موثقة”. وتضيف: “عدد أفراد عائلات التنظيم من العراقيين يفوق 200 ألف، وإبقاء هؤلاء في مخيمات العزل وبعيداً من مناطقهم، سيعني عودة داعش”. أما رئيس الحكومة العراقي السابق حيدر العبادي وهو كان القائد الأعلى للقوات المسلحة في مرحلة استعادة المدن والمناطق من التنظيم، فقال لـ”درج”: ” الحل الوحيد بالنسبة إلى العائلات هي أن تعود إلى مناطقها، لكن في الفترة الأولى رفض أهل المناطق عودتهم، لذلك قررنا في حينها أن يعودوا تدريجياً خلال 6 أشهر أو سنة. اليوم يبدو أن هذا الملف أقفل وصارت المشكلة أكبر. تُرك هذا الأمر من دون علاج وهذا أمر خطير. مخيمات العزل مكان لتوليد إرهابيين جدد، ومعلوماتي أن داعش ناشط في المخيمات”.
مصدر أمني عراقي رسمي أكد لـ”درج” أن ليس لدى السلطات العراقية أي تصور للتعامل مع هذه المشكلة، وأن ضغوطاً تمارس على الحكومة من قبل الأميركيين لتسلم 31 ألف عراقي من قوات قسد في سوريا، هم عائلات عناصر التنظيم العراقيين الذين لجأوا إلى الباغوز ومنها إلى الهول، موضحاً أن ما يؤخر تسلمهم هو غياب أي تصور لاستيعابهم. ويضيف المصدر: “حتى فكرة عزلهم في مخيم في الصحراء غير ممكنة اليوم، لأنها تتطلب إمكانات أمنية ومالية غير متوافرة”. رئيس الجمهورية برهم صالح كرر ما قاله المصدر الأمني وأضاف: ” نحن نتحدث عن 30 ألف إنسان في مخيم الهول لوحده. إنها غوانتانامو مضروباً بألف، مع تعقيدات إنسانية إضافية لها علاقة بوجود أطفالٍ ونساء”.
القوانين أيضاً في العراق عاجزة عن استيعاب ما خلفه “داعش” من أزمات، ويعترف برهم صالح بأن القضاء عاجز عن التعامل مع حجم الظاهرة، ولهذا يقترح انشاء محكمة خاصة خارج العراق للتعامل مع هذه المشكلة الكبيرة. وما أشار إليه صالح يأخذنا إلى ما أنجزه القضاء العراقي حتى الآن على هذا الصعيد، فقد نُفذ حتى الآن نحو 700 حكم إعدام بحق مسؤولين وعناصر من التنظيم هم من بين آلاف تعج بهم السجون العراقية، في حين صدرت أحكام إعدام لم تنفذ بعد. ويقول هشام الهاشمي وهو باحث في الحركات الإسلامية أن عدد العراقيين الذين قتلوا في المعارك من عناصر التنظيم يبلغ نحو 23 ألفاً. وإذا كان القانون العراقي الذي سُن خلال الحرب على “داعش” نص على عقوبة الإعدام لكل من انتمى إلى التنظيم، فهذا يضعنا أمام أعداد ضخمة من أحكام الإعدام، تُطرح أسئلة عن مدى عدالتها، ما يضع العراق أمام أسئلة المنظمات الإنسانية الدولية.
والقضاء العراقي الذي هذه حاله ألقيت عليه أعباء إضافية، ذاك أن معظم حكومات الدول التي أرسلت “مجاهديها” إلى هذا البلد تفضل محاكمتهم في العراق، كما أكد لـ”درج” أكثر من مسؤول عراقي. وليس هذا وحسب، إنما يتعرض العراق لرقابة بعض الدول لجهة أدائه القضائي على هذا الصعيد. وخلال وجودنا في أحد مراكز التوقيف كان وفد من السفارة الفرنسية في بغداد يزور المركز الذي أوقف فيه 12 فرنسياً، وهؤلاء ترفض حكومة بلادهم تسلمهم وتطلب من الحكومة العراقية محاكمتهم. الأمر نفسه بالنسبة إلى الأردن الذي قال مسؤول فيه لـ”درج”، إن الأردنيين من عناصر التنظيم ارتكبوا جرائمهم في العراق، وعلى الأخير محاكمتهم. وإذا كان العراق لا يرى مانعاً في محاكمة هؤلاء، إلا أن عبء هذه المحاكمات سيكون ثقيلاً ومكلفاً، لا سيما أنه قد يشمل آلاف المتهمين بجرائم كبرى.
ما تم توثيقه حتى الآن من انتهاكات في مخيمات العزل يؤشر إلى ما ستكون عليه أحوال المخيمات الموازية التي ستقام لاستيعاب الوافدين من سوريا. وإذا كان الشرط السياسي لاستيقاظ “داعش” غير متوفر اليوم، فإن العراق بطن ولادة للعنف ولشروطه السياسية والطائفية، وهذه المخيمات ستكون قاعدة انطلاق جديدة للتنظيم. المسؤولون الأمنيون في العراق يجمعون على اقتراب هذه اللحظة، وثمة وقائع موثقة تؤكد أن “داعش” استأنف نشاطه. وقال لواء في الشرطة الاتحادية لـ”درج”: “أكثر من يخيفني هم الأطفال. بعض من ألقينا القبض عليهم كانوا من دون طعام منذ ثلاثة أيام، لكنهم بدوا أقوياء. وعندما قال أحد الضباط أمامهم كلمة “دولة الخلافة” صرخوا بصوت واحدٍ: باقية باقية باقية”.
2- ابن الأيزيدية مسلمٌ بالإكراه ووالده المُغتصِب ليس كافراً
ثمة أكثر من 40 طفلاً محررين، مع أمهاتهم الأيزيديات، ممن سباهن عناصر “داعش” واغتصبوهن، فأنجبن منهن، واليوم تحررت الأمهات والأطفال ووصلوا إلى العراق آتين من سوريا، إلا أن السلطات الدينية السنية في بغداد تُصر على تسجيل الأطفال كمسلمين، لأن آباءهم المُغتَصِبين مسلمون. علماً أن معظم آبائهم قتلوا أو تواروا بعد هزيمة التنظيم في الباغوز. وفي مقابل ذلك، ترفض عشائر الأمهات المحررات بقاء الأطفال “المسلمين” مع أمهاتهم الأيزيديات، ويشترطون على الأمهات لكي يقبلوا بعودتهن إلى سنجار ترك أبنائهن. وإذا كانت التسوية التي اقترحتها مؤسسات إنسانية هي أن يسجل الأطفال في سجلات أمهاتهم كأيزديين طالما أن الأب مجرد مغتصبٍ ومجهول أصلاً، فإن دوائر الإفتاء السني في العراق ترفض ذلك طالما أن الأب مسلم وإن كان مغتصِباً، وهذا المغتصب “غير كافر”، على رغم أنه مجرم بحسب هذه الدوائر.
لعل ما يحصل مع أمهات الـ40 طفلاً هو ذروة الظلم الذي تعرضت له الأيزيديات العراقيات ممن سباهن التنظيم، ويبدو أن المشكلة أكبر من هذا الرقم، فهناك مئات الأيزيديات وهنّ أمهات لأطفال من آباء مغتصبين، لم يعدن بعد، وهنّ مترددات في العودة على رغم تحريرهن من “داعش”، ذاك أن مصير أبنائهن غير مضمونٍ بعد، في ظل ما تعانيه اللواتي وصلن إلى العراق. وقال الرئيس العراقي برهم صالح لـ”درج” إن موضوع هؤلاء الأيزيديات يمثل منتهى الظلم وهو مأساة بكل معنى الكلمة، لكن ليس هناك أي حلول في الأفق. ويكشف كلام صالح صعوبة مقاومة قرار الإفتاء السني لجهة اعتبار الأطفال مسلمين لا أيزيديين، ذاك أن الرجل هو رأس الدولة ورمزها، لكنه هنا ممثل عجزها عن اجتراح حل لهذه المأساة في ظل قوة الدين وسطوته.
وإذا كانت قصة أطفال الأيزيديات من آباء مغتصبين هي ذروة مأساة ظاهرة السبي التي رافقت صعود التنظيم، إلا أن المأساة لا تقتصر عليها. ويقول حسو هورمي وهو ناشط أيزيدي نشر كتاباً عنوانه: “داعش وتجنيد الأطفال الأيزيديين”، إن هناك 3086 أيزيدياً ما زال مصيرهم مجهولاً معظمهم من الأطفال، علماً أن التنظيم اختطف بعد احتلاله سنجار نحو 6500 أيزيدي وأيزيدية.
وكما يخيّم التكتم على الكثير من الوقائع المأساوية التي رافقت صعود التنظيم الإرهابي وتدفقه إلى المدن في العراق وسوريا، يسيطر تكتم موازٍ على وقائع تشهدها البيئة الأيزيدية، ذاك أن أعمال الاغتصاب والسبي أفضت إلى واقع دام لأربع سنوات، كثيرات من الأيزيديات تشربن خلالها أفكار التنظيم، وبعضهن سبين مع أولادهن الذين صاروا فتية وانخرطوا بأشبال الخلافة وهم اليوم مقاتلون في التنظيم. وترفض نساء العودة إلى أهلهن “الكفار”، ويواجهن من يحاول إقناعهن باتهامات الردة والكفر. ويشير مسؤول أمني عراقي إلى معضلة أخرى تتمثل في اعتبار بعضهن مرتدات لأنهن أشهرن إسلامهن بعد اختطافهن، والإسلام يعتبر العائد عن إسلامه مرتداً يجب قتله. والقانون في العراق يعترف بذلك أيضاً، وهذا ما طرح تحدياً تصعب مواجهته، نظراً إلى قوة الهيئات الدينية ونفوذها الواسع في ظل الانقسام المذهبي الحاد الذي يسود في هذا البلد.
لا يبدو أن ثمة خبرات تمكن الاستفادة منها للتعامل مع هذه الظاهرة، ذاك أن السبي مع ما رافقه من إجبار نساء على تغيير أديانهن، وخلع أزواجهن ثم السعي إلى إنتاج ذاكرة أطفال معادية ورافضة لأهلهم ولبيئتهم الاجتماعية، ظاهرة لم يسبق أن شهدتها النزاعات في التاريخ الحديث.
توضح هناء ادوارد من “مؤسسة الأمل” أن عدداً من الأطفال الأيزيديين الذين خرجوا من الباغوز رفضوا أهاليهم وكانوا معبأين ضدهم. هؤلاء صاروا أحداثاً بعدما كانوا أطفالاً حين سبى “داعش” أمهاتهم. وأشار مكتب شؤون الأيزيديين في حكومة كردستان إلى أن التنظيم قام بتدريب نحو 1200 طفل أيزيدي تتراوح أعمارهم بين 7 و17 سنة، وتم إنقاذ 875 طفلاً و960 طفلة حتى الآن، وأن هناك حوالى 200 طفل أيزيدي ماتوا إما قتلاً أو جوعاً خلال المأساة التي عصفت في جبل سنجار. كما أفرزت “الغزوة” نحو 2745 طفلاً يتيماً.
وفي حالات عدة بدأ أهل الأب، الذي سبى واغتصب ثم قُتِل أثناء حروب التنظيم الكثيرة، يطالبون بحفيدهم. وأشار ناشط أيزيدي لـ”درج” إلى أن ثمة طفلاً نجح أهل والده بأخذه إلى السعودية، وهناك ثلاثة أطفالٍ تنظر محكمة تركية ببنوتهم بعد دعوى رفعها أهل والدهم التركي، واليوم تُجري لهم المحكمة التركية فحوص الـ”دي ان أي” للتثبت من دعاوى عائلة والدهم والنظر بمنحهم الحق بحضانة الأطفال. وهذه الوقائع تحصل في ظل تخلي الكثير من أهالي الأيزيديات عن دعم النساء في استعادة أبنائهن.
نزح فيصل رفو إلى مدينة دهوك في إقليم كردستان، وما زال مقيماً فيها على رغم هزيمة “داعش”. اختطف التنظيم في غزوه سنجار نحو 100 من عائلته بين امرأة وطفل ورجل، وعاد منهم حتى الآن حوالى 40، 10 منهم أطفال تم تحريرهم بعد معركة الباغوز. يقول فيصل لـ”درج”: “التنظيم فصل الأطفال عن أمهاتهم ولقنهم تعاليم الدين الإسلامي، ومن هم فوق الـ12 سنة جندهم مقاتلين… ووصلتنا معلومات عن أن اثنين من أطفالنا قتلا أثناء معارك الباغوز، بعدما زج بهما التنظيم في القتال وغسل دماغيهما. الأطفال العائدون يتحدثون معنا باللغة العربية وتم تصويرنا لهم بصفتنا كفاراً ويجب قتلنا”. وأضاف: “استطعنا أن نعيد عدداً من أطفالنا من تركيا، لكن بقي هناك ثلاثة منهم لم ننجح بإعادتهم، على رغم أننا أجرينا فحوص الـ “دي ان أي”. هؤلاء أطفالنا وتم التأكد من ذلك، وهم اليوم لدى عائلات كانت السبب في مصيبتنا، لكن لا أحد يحاسبها”.
لدى الناشطين الأيزيديين معلومات عن أطفال أيزيديين تم تهريبهم مع عائلات التنظيم إلى عدد من الدول. عائلات سعودية وتركية وعراقية اصطحبت معها أطفالاً أيزيديين إلى دولها بعد هزيمة التنظيم. الأطفال المفقودون يصل عددهم إلى حوالى 800 طفل من المرجح أنهم يعيشون لدى عائلات عربية في المخيمات أو في الدول التي عادوا إليها. ويقول ميسر الأداني، وهو الناطق باسم مكتب إنقاذ المختطفين الأيزيديين: “ننسق مع جهات عدة، لاستعادة من تبقى من المخطوفين. لكننا نواجه صعوبة بسبب تبعثر المخطوفين في مناطق عدة برفقة عائلات الدواعش. هناك عائلات تنكر أن هؤلاء الأطفال أيزيديون، ولهذا على الحكومة العراقية أن تباشر برنامج فحوص الـ”دي أن أي” لهم”.
شكاوى عائلات الأطفال المحررين تتركز على أوضاعهم النفسية وصعوبات دمجهم مجدداً في بيئتهم الأيزيدية. يقول ماهر حسن الذي حُرر راهناً ابنه بيوان البالغ من العمر عشر سنوات: “في المرحلة الأولى من تحريره كان بيوان يتحدث كما لو أنه عنصر في التنظيم. اعتبرنا كفاراً ونسي لغته الأصلية وكان يتحدث العربية”.
لكن الملاحظ أيضاً أن قصة الطفل المولود من أم أيزيدية مُغتصبة ومسبية وأب غير أيزيدي مغتصِب، غائبة عما يسردها الأيزيديون عن وقائع الإبادة التي تعرضوا لها. الناشطون والسياسيون والعائلات يمارسون صمتاً حول هذا الجانب من المأساة، وهذا يؤشر إلى حجم المعاناة التي تعيشها الأمهات. ذاك أن هؤلاء الأطفال خارج وعي الأيزيديين بمأساتهم، وخارج المطالبات بإنصافهم. والأرجح أن ثمة تواطؤاً مدفوعاً برغبة “المغتصَب” بالتكتم على ما أصابه. وهنا تترك الأمهات وحيدات في مواجهة المصير المجهول لأطفالهن في ظل استعصاء قانوني واجتماعي لا مخرج منه حتى الآن.
ويكشف بيانا المجلس الروحاني الأيزدي الأعلى حال الاختناق الاجتماعي الذي يسود في تلك البيئة حيال ظاهرة أطفال الأمهات الأيزديات المغتصبات من عناصر “داعش”، ففي بيانه الأول الذي صدر في 24 نيسان (ابريل) أبدى المجلس درجة عالية من التسامح ورغبة بقبول الأطفال، وقال ما حرفيته: ” أصدر المجلس قراراً بقبول جميع الناجين واعتبار ما تعرضوا له خارج عن إرادتهم”. لكن البيان أثار حفيظة عشائر أيزدية، وتعرض المجلس لضغوط أجبرته في اليوم الثاني على اصدار بيانٍ توضيحي جاء فيه: ” نوضح للرأي العام الأيزدي بأن ما جاء في البيان الذي أصدرناه بتاريخ 24-4-2019 لم يكن يعني بتاتاً الأطفال الذين ولدوا نتيجة الاغتصاب، بل المعنيين هم الأطفال المولودون من أبوين أيزديين والذين تم اختطافهم ابان غزو داعش…”.
ويبدو أن عائلات كثيرة فضلت التكتم على مآسيها والمغادرة إلى الغرب عبر فرص اللجوء التي وفرتها الكثير من الدول الغربية لأبناء هذه الأقلية. هذه المغادرة تشكل مخرجاً للجميع، لا سيما وأنها تُبعد الأمهات عن غضب عشائر الأب المغتصب ورفض البيئة الأيزدية. لكن هناء ادرارد تقول أن مغادرة العراق غير متاحة للواتي لم يجدن مخرجاً لتسجيل أبناءهن واستخراج وثائق سفر لهن. هذا الأمر يتطلب تأمينه قبول العائلة بالتحايل على القانون وتسجيل المولود باسم أب أيزدي.
وزائر مخيمات الأيزديين النازحين من جبل سنجار سيلاحظ قدراً من القبول العائلي بهذه الحالات، لكن يبدو أن مخاوف هذه الأقلية من جددت مخاوفها من نقمة العشائر العربية اذا ما أقدمت على تسجيل هؤلاء الأطفال على دين أمهاتهن، لا سيما وأن لا فتوى حتى الآن من أي مرجع إسلامي في كل العالم تعتبر أن “داعش” تنظيماً كافراً.
لكن قصص مأساة إبادة الأيزيديين وسبي نسائهم وأطفالهم لا تقتصر على هذه الوقائع، ذاك أن عشائر عربية تعيش في جبلهم (سنجار) شاركت على نحو واسع في هذه الانتهاكات، وهذا ما أسس لشعور هائل بعدم الأمان، ناهيك عن النزعات الانتقامية التي ضاعفها عدم وجود خطة واضحة لتحديد المسؤوليات الجماعية والفردية عما حصل لهذه الأقلية. حتى اليوم وعلى رغم مرور نحو ثلاث سنوات على تحرير سنجار من “داعش” لم يعد إلى جبل سنجار السكان الأيزيديون بغالبيتهم، في وقت هاجر عشرات الآلاف منهم إلى دول غربية فتحت لهم أبواب اللجوء. واليوم ثمة من يرى أن استيعاب الأطفال الذين أنجبتهم الأمهات الأيزيديات المغتصبات في دولة “داعش” لن يتم إلا في دول تتفهم قبولهم “دين أمهاتهم”. لكن هناء ادوارد تذكر أن مغادرة هؤلاء غير متاحة اليوم، طالما أنهم لا يملكون أوراقاً ثبوتية، ولا تعترف بهم الدولة العراقية بصفتهم عراقيين، على رغم أن القانون العراقي يسمح للأم بأن تعطي الجنسية لأبنائها، إلا أن الإسلام يفرض عليهم دين والدهم حتى لو كان مغتصِباً.
3- أين هو البغدادي ومن هم رجاله الجدد؟
أكد مسؤول أمني عراقي أن قتل أبي بكر البغدادي أمر بالغ الأهمية في الحرب التي يخوضها العراق مع “داعش”، بغض النظر عن أهمية الرجل في التنظيم وفي العمليات التي ينفذها. البغدادي هو “الخليفة”، وفي تنظيم كـ”داعش” سيكون قتله خطوة ضرورية للقضاء على التنظيم.
ولعل ظهور البغدادي في شريط فيديو أخيراً، يعزز ما أشار إليه المسؤول العراقي، لا سيما بعد الهزائم الميدانية المتتالية التي مني بها التنظيم. لكن وفي موازاة هذه الهزائم كشف أكثر من مسؤول أمني عراقي التقاهم “درج”، أن معارك يومية ما زالت تشهدها مناطق واسعة في العراق مع مجموعات من التنظيم انتشرت في الصحراء الشمالية والغربية من العراق، وثمة قتلى يسقطون يومياً من التنظيم ومن الجيش العراقي.
وقال لواء في الجيش العراقي لـ”درج”: “التهديد الداخلي حقيقي ولا يجب الاستهانة به. فبعد هزيمته عام 2018، بدأ التنظيم إعادة تشكيل قوته محلياً على شكل 3 قواطع”. وأضاف: “القاطع الأول غرب الموصل وصولاً إلى الحدود السورية وجنوباً إلى الرطبة والنخيل. وعملية التنقل في هذا القاطع تتم عبر رعاة الأغنام والبدو. والقاطع الثاني يشمل مناطق البعاج والحضر وبيجي في محافظة صلاح الدين وصولاً إلى سامراء. في هذا المحور، شكل التنظيم مفارز تبعد الواحدة من الأخرى بين 5 و10 كيلومترات. ومسؤولو المفارز هم من أهل المنطقة وممن يجيدون التعامل مع سكان القرى ويعرفون شبكة الطرق معرفة جيدة. والمحور الثالث وهو الأصعب ويقع في منطقة كركوك، حيث جبال حمرين ومكحول وخانوعة، وبين هذه الجبال وديان صعبة، منها وادي الشاي الذي يبلغ طوله نحو 60 كيلومتراً”.
المواجهات المستمرة مع التنظيم في مناطق الشمال والغرب في العراق تحصد يومياً بين 5 و7 قتلى من الجيش العراقي، بحسب الخبير في شؤون الجماعات الإرهابية هشام الهاشمي. ويشير مسؤول في الاستخبارات العراقية إلى أن التنظيم نفذ بعد هزيمته في الموصل وحدها عام 2018، نحو 68 عملية اغتيال لمخاتير في المدينة. ويشير المسؤول أن للتنظيم استراتيجية ينفذ على أساسها الاغتيالات، وتتمثل أولاً في استهداف مخاتير الأحياء والمتعاونين مع القوى الأمنية بحيث تصبح القواطع عمياء، وفي المرحلة الثانية يبدأ استهداف “السيطرات” والقضاة ومراكز القوى الأمنية. وفي المرحلة الثالثة، يبدأ التنظيم مساعيه لـ”التمكين”، من أجل السيطرة مجدداً على مناطق في المدن وفي الصحراء.
و”داعش” باشر على ما يبدو استثماره في ضائقة السكان المحليين الاقتصادية والمذهبية، وهو استفاد إلى حدٍ كبير من شبكة “أطفال الخلافة” التي أنشأها في سنوات سيطرته على تلك المناطق. فقبل أيام قليلة نفذ انتحاري من مواليد عام 2003 عملية في حي الانتصار في القسم الأيسر من مدينة الموصل. هذا الفتى والده في السجن بتهمة ترويج مخدرات، وشقيقه في السجن أيضاً بتهمة إرهاب، وهو كان عمره 11 سنة حين دخل التنظيم إلى الموصل وتم تجنيده في “أطفال الخلافة”. ويقول المسؤول الاستخباراتي إن هولاء الفتية يستفيدون في تحركهم من كونهم خارج الرصد الأمني، وهم معبأون فكرياً بحيث يصعب ردعهم عن تنفيذ ما يكلفون به”.
ويجمع الأمنيون في العراق على أن “داعش” ما زال التنظيم الإرهابي الأغنى في العالم، وأن مصادر تمويله ما زالت قائمة، وأن أطرافاً كثيرة ما زالت تتعامل معه مالياً كحقيقة ميدانية لا يمكن تفاديها. في المساحات التي يظهر فيها التنظيم في الصحراء ما زال يتقاضى دولاراً واحداً عن كل برميل نفط تنقله الحافلات من المناطق الشرقية، إلى ايران عبر طريق علاس وعجيل وليلان، أو في المناطق الغربية إلى الأردن، علماً أن الميليشيات الشيعية والكردية تتقاضى أيضاً خمسة دولارات على كل برميل نفط يمر في مناطق سيطرتها في الصحراء. ويشير مسؤول أمني إلى تمويل خارجي لـ”داعش” يتمثل في شركات أنشأها التنظيم لاستثمار أمواله، لا سيما في تركيا، وهذه الشركات ما زالت تدر عليه عائدات ليست قليلة. وقال: “نحن نعرف الكثير عن هذه الشركات لكن لا ندري ما إذا كانت السلطات التركية تعرف عنها”.
ويبدو أن التنظيم باشر عمليات جباية منظمة في الكثير من المناطق المدينية أيضاً، فقد وزعت الشرطة العراقية الأسبوع الفائت صورة لمجموعة من التنظيم، قالت إنها ألقت القبض عليها أخيراً ومهمة أعضائها نقل الأموال للتنظيم. علماً أن “داعش” كان مهد لاحتلال الموصل عام 2014، بسيطرة موازية باشرها عام 2013، فرض خلالها اتاوات على تجار المدينة، قدرت في حينها بملايين الدولارات، وهي مكنته من إنشاء شبكة علاقات محلية استثمرها في انقضاضه على المدينة.
يبدو أن التنظيم أراد من وراء بث شريط البغدادي يوم الاثنين الفائت، استئناف مساعيه لـ”التمكين”، مستفيداً من حال الانقسام الحاد التي يشهدها العراق ومن اضطراب أحوال السكان في المحافظات الشمالية والغربية، لا سيما أن التقديرات تذهب إلى أن عدد من يشملهم تصنيف “عائلات الدواعش”، يبلغ حوالى 230 ألف عراقي. وفي هذا السياق، أشار مسؤول عسكري عراقي إلى أن المساعي الأمنية والعسكرية لمحاصرة التنظيم يوازيها استعصاء سياسي وعجز عن إدارة مرحلة ما بعد هزيمة التنظيم في المدن العراقية. ويبدو أن مخيمات النازحين هي المكان النموذجي لاحتمالات الاستثمار.
القوى الأمنية والعسكرية العراقية تدرك أهمية القضاء على البغدادي في حربها على “داعش”، ويشير مسؤول فيها إلى “تعقبه عن قرب عبر مقربين منه، وعبر شبكات قرابية لهم”. لكن في مقابل ذلك، يشير أحد شيوخ العشائر إلى أن المساحات التي من المحتمل أن يتحرك فيها زعيم “داعش” واسعة جداً، وأن أريافاً فيها مئات القرى المهجورة هي مناطق ما زال التنظيم يسيطر عليها. وهذه القرى هي نفسها المناطق التي يواجه أهلها صعوبات بالعودة إليها نظراً لاعتبارهم “البيئة” التي التحقت بالتنظيم، ومعظمهم اليوم يقيم في مخيمات العزل.
4- هل بدأ لغز إحراق معاذ الكساسبة يتكشف؟
يبدو أن فصولاً بدأت تتكشف من حكاية إقدام تنظيم “داعش” على إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، الذي أسقطت طائرته في شرق سوريا عام 2015. “درج” عاد وتقصى الحكاية من خلال لقاءات مع “قادة” في التنظيم، في مراكز احتجازهم في بغداد.
قبل أن ينشر “داعش” الشريط المصور الذي يُظهر فيه إحراق الكساسبة، كانت السلطات الأردنية باشرت مفاوضات مع التنظيم تولاها في حينها الداعية الأردني القريب من تنظيم “القاعدة” أبو محمد المقدسي، وللأخير تأثير كبير في بيئة “السلفية الجهادية”، لا سيما الأوساط الخليجية وتحديداً السعودية منها.
المفاوضات التي باشرها المقدسي من سجنه الأردني، حينها، أبدى خلالها الأردنيون مرونة في إمكان مبادلة الكساسبة بعدد من عناصر “داعش”، ومن بينهم ساجدة الريشاوي التي كانت حاولت تفجير أحد فنادق عمان. وأثناء المفاوضات فوجئ المقدسي بالشريط المصور. وكان الرد الأردني على عدم التزام التنظيم شروط التفاوضات، تنفيذ حكم الإعدام بالريشاوي وبآخرين من عناصر التنظيم. وبعد أسابيع من الواقعة، أفرجت السلطات الأردنية عن المقدسي، وحين التقيناه وقتذاك، أكد أن القرار في “دولة الخلافة” هو بيد الضباط العراقيين السابقين، وأن “داعش” تنظيم بعثي، أكثر من كونه “سلفياً جهادياً”. وقال: “لقد كذبوا علي وكذبوا على شرعيين في التنظيم تعهدوا لي بعدم قتل الطيار”.
“درج” التقى مسؤول ديوان التعليم في “داعش”، إسماعيل علوان العيثاوي في مركز احتجازه في بغداد، وهو ينتظر تنفيذ حكم الإعدام الذي صدر بحقه. أشار العيثاوي إلى ما خلفه بث الشريط في البيئة القيادية “الشرعية” للتنظيم من ردود. فأكد أن المفاوضات التي كان يقودها المقدسي تولاها من طرف “داعش” مسؤول ديوان القضاء والهيئات الشرعية تركي بن علي، وهو بحريني الجنسية وقتل لاحقاً في شرق سوريا. العيثاوي قال إن تركي بن علي أخبره شخصياً أن التنظيم لم يفِ بالتزاماته. وبن علي بحسب العيثاوي، هو أحد تلامذة المقدسي وكان ينشر مقالات في موقعه “منبر التوحيد والجهاد”، وحين بث التنظيم شريط الكساسبة، كان تركي بن علي ومعظم القادة “الشرعيين” للتنظيم غاضبين، فإضافة إلى عدم التزام التنظيم تعهده بعدم قتل الكساسبة، اعتبر شرعيوه أن القتل عبر الإحراق بالنار تحديداً غير جائز، فبحسبهم “لا يحرق بالنار إلا خالقها”.
لكن العيثاوي ورداً على سؤال “درج” عن تبرير التنظيم لشرعييه إقدامه على إحراق الطيار الأردني، قال: “التنظيم لم يبرر ما فعله، واقتصر التذمر على احتجاجات بأصوات خافتة، ثم سكت الجميع”.
ويبدو أن ما قاله المقدسي لجهة أن القرار في التنظيم كان بيد الضباط السابقين في الجيش العراقي، وأن شرعيي التنظيم كانوا الحلقة الأضعف على المستوى الميداني، له ما يؤكده، فواقعة إحراق الكساسبة أحدثت لغطاً وجدلاً في البيئة الشرعية، لم ترق بحسب العيثاوي إلى مستوى الاحتجاج. والتنظيم الذي استثمر في ضباط الجيش السابق، وفي فتاوى البعث في العراق وفي سوريا، أعطى هؤلاء هامشاً لمضاعفة العنف والمشاهد المرافقة له ووظفها في صورته، ليبث قدراً من الرعب في البيئة التي حكمها.
وهنا لا بد من العودة إلى موضوع الكساسبة الذي تتهم عائلته القيادي السوري في “داعش” صدام الجمل بالوقوف وراء إحراق إبنها، وصدام الجمل نجحت المخابرات العراقية في أسره عبر عملية أمنية داخل الأراضي السورية، وتمت محاكمته في العراق، وصدر حكم إعدام بحقه. واليوم تطالب عائلة الكساسبة السلطات العراقية بتسليمه إلى الأردن.
صدام الجمل الذي التقاه “درج” في مركز احتجازه في بغداد، نفى أن تكون له علاقة بإحراق الكساسبة، علماً أن المنطقة التي أسقطت فيها طائرته، كانت جزءاً من المنطقة التي يتولى الجمل مسؤوليتها. ثم إن الجمل الذي يُعرف بدمويته وتصويره أشرطة فيديو يحمل فيها رؤوساً مقطوعة، نفى لـ”درج” وقائع أخرى موثقة ومصورة من أفعال أقدم عليها، وهذا ما يُضاعف الشكوك بنفيه المشاركة في إحراق الكساسبة.
صدام الجمل الذي تُنقل روايات عن قتله أكثر من ألف سوري بيده وعن مشاركته في المجزرة التي ارتكبها التنظيم بعشيرة الشعيطات في ريف دير الزور، نفى لـ”درج” كل هذه الروايات، وقال إنه كان حين وقوع المجزرة في الرقة، ثم عاد وأكد أن رؤوس عناصر “النصرة” المقطوعة التي كان يحملها في شريط الفيديو في دير الزور، في الفترة التي حصلت فيها المجزرة، ليس هو من قطعها، لافتاً إلى أنه حملها وتصور معها “ليكيد النصرة” التي قتلت شقيقه.
لا شيء يحسم مسألة مشاركة صدام الجمل في إحراق الكساسبة، لكن هناك مؤشرات تضاعف الشكوك فيه. فمستوى العنف الذي انطوى عليه مشهد الحرق، كان صدام شارك بأفعال لا تقل عنه عنفاً، ونفيه المشاركة في أفعال موثقة ومصورة يضعف نفيه المشاركة في مشهد الإحراق. وإذا كان المحققون العراقيون يميلون إلى نفي المعلومات التي لدى عشيرة الكساسبة والتي تشير إلى علاقته بعملية الإحراق، فإن رغبة العراقيين في أن يُنفذ حكم الإعدام به في العراق، قد تكون أيضاً سبباً في قولهم أنهم يستبعدونها.
العيثاوي قال: “إن تركي بن علي كان من أكثر الشخصيات قرباً من أبي بكر البغدادي”، وعلى رغم ذلك لم يحترم التنظيم وعده للمقدسي بمبادلة الكساسبة بمساجين للتنظيم في الأردن. وصدام الجمل أتى إلى التنظيم من خارج “السلفية الجهادية”، فالرجل كان قائداً عسكرياً في “الجيش الحر” وانتقل إلى “داعش” عام 2003، وهو جزء من جهاز العنف البعثي في التنظيم، على رغم أن سيرته لا تلحظ انتماءه للبعث. لكن الرجل ولد في البوكمال، أي على الحدود التي تفصل بين البعثين، وهو حمل في اسمه صدى لبعث العراق، وفي خدمته في جيش النظام السوري أثراً من البعث السوري، وهو أيضاً تسرب من “الجيش الحر” بعدما هزمته جبهة النصرة، إلى “داعش”، كما تسرب الضباط العراقيون من الجيش العراقي المنحل إلى التنظيم بعدما تم حل هذا الجيش.
لطالما افتعل “داعش” مشاهد عنفه عبر تحويله غير الممكن والمتصور إلى ممكن. من يلتقي صدام الجمل، ويسمع قصته من فمه، يشعر بأن الروايات التي قرأها عنه ملتصقة بوجهه، على رغم أنه على بعد خطوة واحدة من تنفيذ حكم الإعدام به.
المصنع 5: قصة “داعش” المتنازع بين عراقيته وسعوديته
يروي عمر الشاهر، وهو صحافي من مدينة الرمادي في غرب العراق، وخريج دراسات إسلامية، وعمل مؤذناً ومجوداً في أحد مساجد المدينة، كيف أن “داعش” قتل النغم في الأذان العراقي. يقول: “الأذان في الأنبار متعدد الأنغام، وتدخل فيه مقامات الصبا والرست والحجاز وغيرها من المقامات. هذه الأنغام تؤدى في الأذان. عندما دخل التنظيم اعتبر التنويع النغمي في الأذان نوعاً من الغناء، فمنع ذلك لمصلحة النموذج السعودي الذي يؤدى بنغمٍ واحد”.
وأضاف: “القرآن كله يُقرأ بنغم واحد في السعودية، وهذا ما تم فرضه. ومن يخالف، يُحكم عليه بالتعزير، أي الجلد”. ويشرح: “الأذان العراقي الذي نشأ في المدن السنية، ورعته التكايا متأثرة بالمقامات التركية والفارسية والحلبية، فيه تمازج نغمي قد يصل إلى نحو العشرين مقاماً في الأذان الواحد. هذا الثراء لم يعد موجوداً بعد هيمنة بيئة النغم الواحد الصحراوية. فوفق هذا النموذج يؤدى الأذان بنسقٍ واحد لمدة ثلاثين دقيقة، غالباً ما يكون مقام الحجاز”.
بموازاة الغزو الأميركي للعراق، كان ثمة غزو أقل ضجيجاً يحصل، يتمثل بتسربٍ للسلفية، مصدره الأساسي السعودية. في سجن بوكا في البصرة تم تخصيب عنف البعث ودموية ضباط في الجيش العراقي بأفكار السلفية القتالية. هناك تماماً ولد “داعش”. سجن بوكا كان موقع النطفة الأولى. كل قادة التنظيم من شيوخ وضباط كانوا نزلاء هذا السجن. نظموا حلقات “تثقيفية” وأخرى تنظيمية بانتظار الإفراج عنهم. التقى ضباط سابقون متوسطو الرتب العسكرية من أمثال حجي بكر وشيوخ السلفية القتالية من أمثال البحريني تركي بن علي والسعودي أبو بكر القحطاني. وهناك تم طبخ التنظيم وتولية أبي بكر البغدادي أميراً له، والأخير كان نزيل السجن نفسه وفي مرتبة وسطى بينهما، فتجمعه مع الضباط عراقيته ومع الشيوخ سلفيته، ويضاف إلى ذلك، نسبه الذي يدعيه والذي يرشحه لأن يكون “الخليفة”.
الحديث مع قادة في “داعش” التقاهم “درج” في مناطق الاحتجاز في العراق، يُشعرك بأن مياهاً كثيرة كانت تجري بعيداً من الرصد الحقيقي للبيئة التي نشأ فيها التنظيم في المدن والأرياف العراقية. إسماعيل علوان العيثاوي، وهو كان مسؤول ديوان التعليم في “دولة الخلافة”، وقبل ذلك أستاذ مادة الفقه في جامعة بغداد، كان ممن التقيناهم في مركز احتجازه بانتظار تنفيذ حكم الإعدام الذي صدر بحقه. يشدد إسماعيل وهو العارف بأحوال أهل العراق، على أن “الاتجاه الديني العام في العراق قبل عام 2003، كان الاتجاه الصوفي، ولم تكن هناك تيارات فكرية واضحة. وفجأة بعد عام 2003، ظهر التيار السلفي الجهادي. سجن بوكا كان أهم مصدر لهذا الفكر. هناك التقى أبو بكر البغدادي، السعودي تركي بن علي والبحريني أبا بكر القحطاني، وهما أكثر من أثر به. فمواد العقيدة في مناهج التعليم التي كنا نعدها أسندت كتابتها إليهما، وفكرهما هو الذي طغى وكانا يعتبران لسان حال البغدادي”. ويضيف: “في موضوع مناهج التعليم، لا سيما في موضوع العقيدة، وهو من تولى تركي بن علي أمر كتابته، لاحظت أن المنهج استل من كتب كانت تدرس في السعودية، كما هو مع بعض التغييرات، ألحقت به بما يناسب الوضع الجديد. ولكي أكون دقيقاً لم أتابع كل المواد، ولكن ما اطلعت عليه منها كانت مناهج رسمية سعودية”.
لكن ليس سجن بوكا وحده في العراق من تولى مهمة صهر الخبرات، فسجن أبي غريب كان “أكاديمية إرهاب أخرى” وعملية الفرار الكبير والمتزامن من سجني أبي غريب والتاجي، توحي بأن السجون العراقية بين العامين 2003 و2013 مكان نموذجي لبناء التنظيم. وإسماعيل العيثاوي نفسه كان في سجن آخر هو سجن المطار أو ما يطلق عليه سجن بروكر، ويقول إنه تعرف في هذا السجن إلى رجل يدعى أبا تراب من منطقة الأنبار. وفي حين يقول مسؤول أمني عراقي إن العيثاوي بايع تنظيم القاعدة في زمن الزرقاوي، يقول إسماعيل إنه دخل السجن ظلماً وخرج منه لأنه بريء، وعندما خرج حاول أن يعود إلى التدريس ففشل، وقرر الخروج من العراق. كان أبو تراب قد زوده برقم هاتفه، فاتصل به وتواعدا في الصحراء. ويؤكد إسماعيل أنه لا يعرف شيئاً عن المنطقة التي أخذه إليها أبو تراب وانتقل منها إلى سوريا، إلى منطقة تسمى الدواجن، وبعدها إلى مدينة الرقة.
اليوم عادت السجون العراقية لتمتلئ بعناصر التنظيم، والسلطات العراقية حاولت وتحاول تفادي تحول هذه السجون إلى مكان يعيد تجميع قادة وعناصر التنظيم، عبر وسيلتين أثارتا وتثيران الكثير من التساؤلات حول جدواهما. فخلال المعارك مع التنظيم كانت التوجيهات تعطى للوحدات المقاتلة بتفادي الأسر، وهو ما قد يصل إلى مستوى الإعدامات الميدانية في عرف مؤسسات حقوق الانسان. هذا الأمر أدى إلى مقتل نحو 23 ألف مقاتل لـ”داعش”، في هذه المعارك، بحسب المصادر الرسمية العراقية. أما الوسيلة الثانية التي تواجه فيها السلطات العراقية احتمال أن تشهد سجونها إعادة بناء التنظيم، فهو قانون مكافحة الإرهاب الذي يعتبر أن أي شخص يثبت انتماؤه للتنظيم يستحق الإعدام. وإلى اليوم، تقول السلطات العراقية أنها نفذت نحو 700 حكم بالإعدام بحق عناصر وقادة من “داعش”. ويقول مصدر أمني عراقي إن الموقوفين قيد التحقيق ويبلغ عددهم نحو ثلاثة آلاف، وهناك 5 آلاف مشتبه بهم ونحو 19 ألف مطلوب.
الحلول المقترحة اليوم للتعامل مع البيئة العراقية التي نشأ فيها التنظيم وأقدم فيها على عمليات تجنيد واسعة، يتم التفكير بعزلها اجتماعياً وجغرافياً. إنها النواة الأولى التي تشكل فيها التنظيم والتي تصل تقديرات أعداد أفرادها نحو 218 ألف عراقي معظمهم من الأطفال والنساء. العزل الاجتماعي يعني فصل هذه العائلات عن بيئاتها العشائرية، والعزل الجغرافي يعني إنشاء مخيمات في الصحراء لهم. ومن الواضح أن ذلك يشكل وصفة نموذجية لمساعدة التنظيم على استئناف نشاطه في هذه البيئة، وبدأت مؤشرات كثيرة تلوح على هذا الصعيد.
“داعش” في أحد تعريفاته هو تنظيم الصحراء بلا منازع. كل روايات من التقيناهم من قادة التنظيم ومن عناصره تمر عبر الصحراء، وتستأنس بأخلاقها. والصحراء الغربية والشمالية المترامية والتي تبلغ مساحتها نحو نصف العراق، قليلة السكان باستثناء مدن يفصل بينها مئات الكيلومترات. وفي هذه المساحات الرملية الغامضة الشديدة الحر في الصيف والبرد في الشتاء، تقاطعت معظم الحكايات. في السنوات والعقود التي تم خلالها تطويع المزاج الصحراوي الذي أشار إليه عمر الشاهر عبر استدخال التصوف وتسرب بعض التمدين إلى الحواضر والمدن، جاء “داعش” ودفعه إلى الوراء. قد تكون الموصل أكثر من قاوم على هذا الصعيد، إلا أن الشاهر يشير إلى أن مقاومة التصوف وما يسميه كثيرون هنا في بغداد “تدين العوام”، لطالما شهد مقاومة من قبل المؤسسة الدينية الرسمية وهي أشعرية. ما يعني أن قيم التنظيم سبقته بعقود، وهو إذ جاء وفرضها بقوة السيف، كانت المؤسسة الدينية الرسمية تحاول مقاومتها في أمزجة المؤمنين قبل “داعش” بسنوات وبعقود.
يمكن أن يرسم المرء خريطة متخيلة لكيفية ولادة التنظيم (عراقياً) ولتدفقه على المدن والقصبات. السجون حيث حصل تلاقح بين مشايخ السلفية الجهادية وضباط الجيش، ثم الصحراء وعشائرها، والحدود والقوام الاجتماعي والنفسي الذي تشكل على طرفيها. وكان العامل الحاسم في الولادة هو الأزمة السياسية والمذهبية الحادة التي رافقت ولادة التنظيم. معظم هذه العناصر متوافرة اليوم، تضاف إليها ظاهرة المخيمات الهائلة التي تحيط بالمدن المدمرة، ومئآت وربما آلاف الفتية الذين تمت تنشئتهم في معسكرات “أشبال الخلافة”، وهم اليوم من بين سكان هذه المخيمات. أما الشرط السياسي، فلم تنضج ظروفه بعد، على رغم الضغوط الهائلة الذي تتعرض لها بيئة الجماعة السنية في العراق.
لم تكن مهمة بعث قيم التدين الجديد صعبة في بيئة البعث الصحراوي والعشائري على جهتي الحدود العراقية السورية. صدام حسين كان استبق ذلك قبل سقوطه عبر ما سمي “الحملة الايمانية”، والتي نفذت في ظلها عملية “أسلمة البعث”، وهذه الجماعات لم يكن قد رسخ أي نموذج في ممارساتها الاجتماعية والدينية باستثناء العلاقات العشائرية، ودولتي البعث في العراق وفي سوريا.
ثم نتحدث عن عشر سنوات مؤسسة، هي التي فصلت بين سقوط النظام في العراق عام 2003، والموعد الرسمي لولادة “داعش” أو لبداية انقضاضه على المناطق في العراق. وهذه الفترة الزمنية كانت كافية لاستدخال وعي لطالما ردد عراقيون أنه غريب عنهم. خلال السنوات العشر هذه، حصلت أحداث هائلة لم تكن “أكاديمية بوكا” وحدها مؤشرها، ذاك أن حدود العراق التي لم تكن أصلاً محكمة الإقفال، فتحت على شراعيها واستقبلت مقاتلين وأفكاراً وأنماط عيش من كل حدب وصوب. وفق تقديرات الأمن العراقي أنه وفور إعلان “الخلافة” قفز عدد السعوديين في التنظيم ممن وصلوا إلى العراق إلى حوالى 7 آلاف مقاتل، وهؤلاء تولوا بالدرجة الأولى إضعاف الحدود الاجتماعية التي رسمتها الدول في أعقاب تحولها دولاً. وعشر سنوات كانت فيها المدن السنية عبارة عن وحدات فيدرالية محاصرة بالجيوش العدوة، وتتشكل في داخلها جماعات “جهادية” وفصائل مقاتلة، وضَعف خلالها شعور أهل هذه المناطق بأن هذا العراق هو عراقهم. وبين السجون والحصار والقتال واستقبال “المجاهدين” وبغياب أي رغبة لدى الحكومة وحلفائها الإيرانيين، صار العراق السني مستعداً لاستقبال المولود الجديد.
الأنبار هي امتداد صحراوي للجزيرة العربية، وهي أيضاً امتداد صحراوي للبادية السورية. من البادية السورية وصلت ظلامة السنة مع نظام البعث العلوي وأضيفت إلى ظلامة سنة العراق مع حكومة نوري المالكي، ومن الجزيرة العربية وصلت “الخلافة”، وأوهمت أهل الصحراء ومدنها أنها آتية لانقاذهم من الشيعة والإيرانيين.
حين يتحدث صدام الجمل، وهو سوري وأمير “داعش” في مدينة البوكمال الحدودية وهو اليوم يواجه حكماً بالإعدام في العراق، عن عمله السابق في التهريب بين سوريا والعراق، يُشعرك بأن “داعش” عندما ألغى الحدود بين البلدين جاء لتصحيح خطأ ارتكبته “الحدود” بين البلدين. لا يمكنك أن تحدد في كلامه أين يمكن اعتباره سورياً، وأين يمكن اعتباره عراقياً. لم تقم الحدود فارقاً بين المواطنتين، وهو يقول إن عشيرته وجدت بإلغاء الحدود وسيلة لتجديد اللحمة بين أهلها في العراق وأهلها في سوريا. وهو ما مارسه هو شخصياً عبر قتله من العراقيين ما يوازي من قتلهم في سوريا. وهو اليوم اذ حكم عليه في العراق بالإعدام، على ما ارتكبه فيه، يستحضر سوريته بصفتها منقذاً محتملاً له من هذا الحكم، ذاك أنه سوري ولا علاقة له بالعراق.
ومرة أخرى تلوح الصحراء كأفق طبيعي لتمدد التنظيم، فهي المكان حيث أحدثت الدول أثراً ضعيفاً في أهله، ما جعله مكاناً سهلاً لبعث “الخلافة”، ولعل اقتران العبارتين، أي “البعث” و”الخلافة” هو الأثر الوحيد الذي يملك الحزب فيه شيئاً مما يدعيه.
المصنع(6): داعشي سابق يروي… هأنذا أصوّر شقيقي “ينفّذ”
بداية شكوكي أنا مصطفى عبد الباسط عبد الصمد أحمد الغانمي، الإعلامي في “داعش”، بالتنظيم كانت في أواخر عام 2015، وما حصل حينذاك أنه بينما كنت أتولى تصوير إحدى غزوات التنظيم في مدينة الرمادي، وإذ بشقيقي الأصغر وهو من مواليد عام 1995، مشاركاً في القتال ومرتدياً حزاماً ناسفاً. سألته عن سبب ارتدائه الحزام، فأجاب أنه من باب الاحتياط ومنعاً لوقوعه في الأسر. وفيما كانت المعركة محتدمة ومقاتلو “داعش” يحاولون اقتحام مبنى تمركزت فيه قوات حكومية، وأنا اقترب بكاميرتي إلى مكان الاشتباك، وقع انفجار كبير، فصرخ المقاتلون: “لقد نفذ… لقد نفذ”، وكان المنفذ شقيقي، والتقطت بكاميرتي مشهد الانفجار. والمشهد ظهر في إصدارٍ للتنظيم اسمه “غرم الكماة 2”.
أنا من مواليد عام 1992، من مدينة البصرة. أنا الابن الوسط لعائلة من أب وزوجتين و11 ولداً. غادرنا البصرة عام 2003، بعد الغزو الأميركي للعراق. عائلتنا كانت قريبة من النظام السابق. والدي كان شيخ عشيرة وكان ضابط اتصالات في المحافظة. وعمي قتل أثناء الغزو فقرر والدي مغادرة البصرة إلى مدينة الفلوجة حيث له معارف وأقارب، والفلوجة بقيت شديدة الولاء لنظام صدام حسين، على رغم سقوطه.
كنا عائلة مقاومة للاحتلال الأميركي. شقيقي الأكبر قتل في معركة الفلوجة الأولى عام 2004. كان يقاتل مع المجاهدين. والدي وقتذاك كان يوصينا بالقتال، ولكن قبل أن يظهر تنظيم الدولة.
في ذلك الوقت، كنا انتقلنا إلى الرمادي، ذاك أن الفلوجة تحولت إلى مدينة حرب متواصلة، وكانت الرمادي ملجأ لعائلات نازحة كثيرة من الفلوجة. وكان التنظيم بدأ نشاطه، لا سيما في أعقاب هزيمة تنظيم القاعدة ومقتل أبي مصعب الزرقاوي. وكنا نحن الفتية قد بدأنا بمشاهدة إصدارات التنظيم، لا سيما بعد بدء الأحداث في سوريا. وأذكر أن الشريط المصور الأول الذي جعلني أتعلق بالتنظيم كان مشهداً مصوراً لذبح طيارين سوريين نصيريين وكان اسم الإصدار: “ولو كره الكافرون”. هذا الشريط كان بداية قناعتي بأهمية الإعلام في هذه الحرب، وقررت من بعده أن أكون إعلامياً. فقد كنا في حينها نشعر بالمهانة والهزيمة وكانت هذه الأشرطة تبث فينا روح الانتصار.
في هذا الوقت كانت المدن السنية بدأت تنتفض على الحكومة، وبدأت الاعتصامات تكبر في الساحات، وشارك فيها الجميع ومن بينهم عناصر تنظيم الدولة، الذي وجد في هذه الاعتصامات فرصته لينقض على الجميع. أما الخدمة الكبيرة التي قُدمت للتنظيم فتمثلت في إقدام القوات الحكومية على إطلاق النار على المعتصمين، وهو ما أفضى إلى حمل كثيرين السلاح لمواجهة الجيش.
الاعتصامات في بدايتها كانت سياسية، وعلى رأسها قضية اعتقال مرافقي رافع العيساوي. وأنا كنت أتولى تصويرها. وفي ظل الفوضى العارمة التي سادت المدينة في حينها، أقدم تنظيم الدولة على السيطرة على قاطع جنوب الرمادي وتم تعييني مسؤولاً عن النقطة الإعلامية في هذا القاطع.
كانت مهمتي توزيع الإصدارات ومجلة النبأ، وإدارة شاشة كبيرة عُلقت في أحد الشوارع تعرض مشاهد من المعارك التي كان يخوضها التنظيم لا سيما في سوريا. والتنظيم كان يدرك جيداً أثر الأشرطة التي يبثها وما تخلفه من تعبئة وحماسة. كنا فتية مهزومين وجاءت انتفاضة المدن لتدفع بنا إلى مواجهات كنا ننتظرها. عائلات بأكملها شاركت في القتال.
كان للإعلام دور رئيسي في حروب الدولة، وكان للإعلاميين موقع مميز. أرسلوني إلى الموصل التي كانت الدولة أحكمت السيطرة عليها، وهناك خضعت لدورة إعلامية تضمنت تدريباً على التصوير وعلى تنزيل الأشرطة على الكومبيوتر، وعلى الطبابة، وختمت الدورة بدروس شرعية. عدت بعدها إلى الرمادي، أو إلى جزئها الجنوبي الذي كانت تسيطر عليه الدولة. وبعدها حصلت المعركة التي نفذ فيها شقيقي الأصغر العملية الانتحارية. شعرت بألم شديد من أجله وقتها، لكن ذلك لم يكن كافياً لإقناعي بمغادرة التنظيم.
أشقائي كلهم كانوا في التنظيم وقتلوا جميعاً. بقي منهم شقيق واحد في الباغوز ولا أعرف مصيره اليوم. أما أنا فما أن بدأت المدن تسقط بيد الجيش والحشد عام 2017، حتى غادرت إلى سوريا، مع أمي وزوجتي الاثنتين وأبنائي.
وصلت الى مدينة البوكمال، وفيها سجنني التنظيم نظراً لعدم التزامي قرار البقاء في العراق. وفي هذه المرحلة، بدأت تتضاعف شكوكي بالتنظيم. كانت عمليات قتل المدنيين مشهداً يومياً في البوكمال، والأخطاء الشرعية صارت أمراً شائعاً، وكان التكفير يعتمد على فتاوى أحمد بن حنبل وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب. حاولت الهرب إلى تركيا، ولكن في الطريق ألقت قوات سوريا الديموقراطية القبض علي، وسلمتني إلى المخابرات العراقية. وها أنا اليوم قيد المحاكمة، في حين تقيم أمي وزوجتي في مخيم الهول في سوريا.
درج