العقوبات على النظام السوري وذكاؤها الملتبس/ موفق نيربية
تفاقمت الأزمة المعيشية في سوريا مؤخراً بشكل كبير، وتزايدت الفجوة بين الأسعار والأجور حتى أصبحت أحجية لأي باحث. وكانت ظاهرة فقدان الوقود وتعطّل حركة السير بسببها أيضاً علامة فارقة، تؤشّر إلى فشل وتدهور حال الدولة. ولا يمكن بسهولة، في الواقع، تبيّن ما هو حقيقي وما هو مفتعل في الأجواء السائدة. فهنالك حديث عن حصار أمريكي من البحر وفي قناة السويس يمنع مرور نواقل النفط باتجاه الساحل السوري، وحديث آخر عن حظر لتأمين تلك العمليات، يمنعها عن التنفيذ.
وعلى عادة سلطة البعث- الأسد القديمة، تجري إحالة الموضوع برمته إلى “المؤامرات الإمبريالية”، وإلى استهداف النظام- البلد بسبب “صموده” ووطنيته وبسالته في الوقوف بوجه الصهيونية. وعادت إلى الظهور أبحاث وسجالات حول العقوبات، وكيف تخلط ما بين استهداف النظام المعني والشعب، الذي يعاني، فيزداد عدد أفراده الذين يلتفون حول النظام المارق. نحاول تلمّس ذلك في ما يلي.
في فوضى النظام الدولي، كانت العقوبات الأشهر هي تلك التي تمّ فرضها في التسعينات من القرن الماضي على النظام العراقي مثالاً صارخاً. حين نتج عنها موت نصف مليون طفل عراقي بسبب التغذية السيئة، وانهار الاقتصاد العراقي عملياً. وقد انتشر مفهوم “العقوبات الذكية” كنتيجة لتلك الأزمة، إضافة إلى مفهوم “النفط مقابل الغذاء” الذي أقره مجلس الأمن وأصبحت له آليات ومؤسسات خاصة تعمل على أساسه. وجانبياً، نشط أيضاً تهريب النفط، وتوزيع “البونات” من قبل نظام صدام على أصدقائه العرب والأجانب، أو على أولئك الذين يريد صداقتهم. أصبح مألوفاً آنذاك أن نرى أشخاصاً يسألون عن تصريف بونات بعشرات الآلاف من براميل النفط، لتحويلها إلى سيولة مالية.
العقوبات إجراء دولي سلبي سياسي واقتصادي، هي جانب من الجهود الدبلوماسية للدول والمنظمات المتعددة الأطراف أو الإقليمية، ضدّ دولٍ ومنظمات أخرى، إما لحماية مصالح الأمن القومي، أو بسبب خرق القانون الدولي، أوتهديدات- محتملة أو مزعومة- للسلام العالمي ، وهي يمكن أن تكون على شكل “حصار” أو “مقاطعة”، أو تجميد لحسابات مصرفية، أو تعليق وعرقلة المساعدات الخارجية، وكذلك من خلال وضع قوائم سوداء لبعض الشخصيات النافذة في النظام المُعاقب، مع قيود على التنقل والسفر، وربما ملاحقات قضائية أيضاً.
في الحالة السورية، لا بدّ من الإشارة أولاً إلى انعدام وجود عقوبات “دولية”، بمعنى إقرارها وتنفيذها من قِبَل ومن خلال الأمم المتحدة، لأنه- كما هو معروف- لم يترك الفيتو الروسي المتكرر، ومعه الصيني، أية ثغرة لاتخاذ مثل هذا القرار أو القرارات. مما أفسح مجالاً لأن تكون العقوبات خارج ذلك الإطار، بمبادرات منفردة أو جماعية، لا يمكن تتبع مدى “ذكائها” واستهدافها للنظام من دون السكان بالسهولة نفسها لو تمّ الأمر تحت سلطة وإشراف الأمم المتحدة. تلك آثار جانبية للموقف “الصلب العنيد” الذي داومت عليه السياسة الروسية والصينية، ومسؤولية ينبغي الإشارة إليها عند التحدث إليهم.
هنالك عقوبات مفروضة في حالتنا السورية من قبل الولايات المتحدة: وأخرى من قبل الاتحاد الأوروبي ودوله الـ28 وكذلك سويسرا والنرويج وكندا وأوستراليا واليابان وتركيا وآخرين. إضافة إلى ذلك هنالك عقوبات مقررة من الدول العربية، ملتبسة في طبيعتها ومدى تطبيقها بالطبع، من دون أن نهمل تأثيرها المضاف إلى عقوبات الدول الأخرى. عقوبات الولايات المتحدة عموماً هي الأشد والأقسى والأوسع، وهي التي تنعكس على الدول الأخرى في العالم، ليس بسبب القوة السياسية والعسكرية وحدهما، بل خصوصاً بسبب الهيمنة الأمريكية على عمليات التحويل المالية، وإمكانية تقييد عمليات الدول الأخرى بتلك الآلية.
ولتفكيك تعقيدات مسألة التحقق من “ذكاء” العقوبات، ثمة مثالان جانبيان: يتعلق أحدهما بما تفعله القيود على التحويلات المالية من صعوبات في عمليات تقديم المساعدات الإنسانية، وعلى شغل المنظمات اللاحكومية المعنية بهذا الأمر، بحيث غدت العقوبات هنا معرقلاً فعلياً لوصول تلك المساعدات إلى مستحقيها ومحتاجيها. ويتعلق الثاني بالقيود على “الحوالات” التي يرسلها السوريون في الخارج إلى عائلاتهم وأقربائهم، والتي تلعب دوراً كبيراً في استمرار حياتهم ولو بالحدود الدنيا. هذه “الحوالات” لها جانب غير رسمي وغير قانوني أحياناً، ولكنها منفذ مهم وشريان حياة مهما كان صغيراً.. وهذان مجرد مثالان بسيطان كما ذكرنا.
يحتج على العقوبات ويرى فيها ضرراً كل من جماعة النظام أولاً، ثم المستثمرون الداخليون والخارجيون الذين زادت كلفة أعمالهم بشكل كبير نتيجة لصعوبة الأعمال “الورقية” لاستصدار رخصة بما يقومون به من عمليات، و يحتج أيضاً بعض المعارضين الذين لا يريدون أن يقع السكان ما بين المطرقة والسندان، كما يرون. فزادت مؤخراً الدعوات إلى أن تكون العقوبات أكثر ذكاءاً، بحيث تستهدف بالفعل أولئك المقصودين منها، ولا تنعكس مصائب على حياة الناس واستمرارهم، بل لا تدفعهم إلى التعاطف مع النظام الذي قتلهم ودمر مجتمعهم.
يتداول باحثون بعض الأفكار من أجل جعل العقوبات- عموماً- أكثر ذكاءاً واستهدافاً، ويقولون مثلاً أنه ينبغي ألا تكون هنالك مبالغة فيها، تدفع إلى اتخاذ إجراءات أكثر انعزالاً وتفلتاً من الأنظمة الدولية المرعية، مثل ما فعلت روسيا الاتحادية حين قامت بتعميم استعمال بطاقة دفع وطنية للالتفاف على القيود المالية المفروضة عليها. كما يمكن الدفع حتى تُدرس كل حالة بعينها، حتى تكون العقوبات فعالة تؤدي الهدف المطلوب منها، ولا تفعل عكس ذلك، كما جرى مع كوريا الشمالية التي فشلت العقوبات في وقف تطويرها لسلاحها النووي. ذلك كله بمعنى الانتباه حتى لا تكون العقوبات حلاً كلياً لكل الحالات، ولا مانعاً لأية مشكلة، وإلى خصوصية كل دولة ونظام وشعب. وربما كان من المسائل الأكثر أهمية أيضاً، عدم السماح للنظام المعني أن يُظهر العقوبات كفعل إمبريالي، معادٍ للوطن والأمة والشعب. ولقد كان ذلك سلاحاً فاقعاً لمادورو في فنزويلا، وفي العراق سابقاً، وهو يستعمل كنهج ثابت من قبل النظام السوري، ما زال فعالاً لدى الكثير من مؤيديه، وقسم من معارضيه، والأهم أنه يثير دخاناً كثيفاً بين المترددين في الوسط بين هؤلاء وهؤلاء.
لا يمكن الحكم بصدقية كافية إلا من مؤسسات متخصصة وقادرة على المحافظة على موضوعية توجهاتها، لا تخشى اتهاماً بالتخاذل إن طالبت بأن تكون العقوبات أكثر ذكاءاً وأدقَّ استهدافاً حتى تتجنب تأثيرها المدمر على الشعب قبل النظام، ولا اتهاماً بالتفريط بمعاناة الناس العاديين- الأهل- إن رأت من المهم تشديد تلك العقوبات والمطالبة بالمزيد منها، لعلها تجعل رحيل نظام الطاغية أقرب، وفرج الناس في متناول اليد، بعد أن كاد يتلاشى ويزول. وفي النهاية يبقى الناس محور تركيز أية معارضة …أو ثورة.
المدن