خلافات سورية/ فايز سارة
ربما لم يسجل التاريخ السوري منذ تكريس استقلال الدولة السورية بجلاء الفرنسيين عام 1946 مستوى من الخلافات بين السوريين أعلى مما هو عليه حالياً. وقد سجل أن الخلافات في غالب الأحيان خلافات بين النخب والقيادات السياسية، ومثلها خلافات بين الحكومة والمعارضة، وخلافات بين أرباب العمل والنقابات العمالية، وجميعها خلافات تقليدية، تحصل في كل المجتمعات بما فيها أكثر المجتمعات ديمقراطية واستقراراً.
وبخلاف السياق التقليدي والعادي، فإن الراهن السوري يعج بالخلافات، وهو إحساس لا يستمد من متابعة ما يكتبه السوريون ويناقشونه في وسائل التواصل الاجتماعي فقط، بل مستمد من الواقع المحيط بحياة السوريين الموجودين داخل سوريا أو في بلدان الشتات رغم الفروق الجوهرية بين البيئات، التي يعيشون فيها.
إن الأبرز في خلافات السوريين هو خلاف بين النظام والشعب، خلاف بين أقلية السلطة وأكثرية الشعب، أقلية ديكتاتورية مستبدة مصرة على البقاء في سدة الحكم، وأكثرية تسعى بأشكال مختلفة للحصول على الحرية والعدالة والمساواة والمشاركة في إدارة حياتها ومستقبل بلادها، وقد استخدم الطرفان في الأعوام الماضية كل الأدوات والأساليب الممكنة في صراعهما مع ملاحظة الفرق بين إمكانيات وقدرات وموقع كل منهما.
وتمثل الخلافات العرقية نمطاً آخر من الخلافات.
ولئن بدا الأهم فيها عبر العقدين الماضيين الخلاف بين العرب والكرد بسبب السياسات الاضطهادية، التي طبقتها الحكومات، وخاصة في عهد البعث حيال الكرد، وتطورت الخلافات بانضمام الآشوريين-السريان، ثم التركمان إلى تلك المظلوميات، مما أدى إلى خلافات بينية، شملت معظم المكونات العرقية في الجماعة السورية، وقد طور العديد من تلك الجماعات تعبيرات سياسية وتشكيلات عسكرية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وتحول بعضها إلى قوى أمر واقع على نحو ما يظهر لدى كرد حزب الاتحاد الديمقراطي pyd الذين يقودون قوات سوريا الديمقراطية تحت الرعاية الأميركية في شرق الفرات، وقريباً منها بعض تشكيلات المجلس التركماني والتشكيلات التركمانية المسلحة في منطقة غرب الفرات تحت الرعاية التركية.
وتبدو الخلافات الطائفية الأهم بين خلافات السوريين، ورغم أن مضمونها يتعلق بالخلافات بين الطوائف الإسلامية وخاصة بين السنة والعلويين، فإن البعض يعممها، ويوسعها إلى حدود الخلافات الدينية بين المسلمين والمسيحيين، رغم أن هذا المستوى من خلافات السوريين لا يكاد يظهر إلا وسط تدقيق خاص. وهو خلاف يتعلق بالخلافات الدينية، لا بالخلافات الطائفية.
لقد غذت سلطة البعث منذ مجيئها عام 1963 النزعات الطائفية وخاصة وسط الجيش والأمن، وتعززت النزعات بعد انخراط جماعات إسلامية سنية ضد نظام البعث، وبعد وصول الأسد الأب إلى سدة السلطة عام 1970. زادت النزعات الطائفية، حيث أقام النظام تمثيلات طائفية في كل المستويات السياسية والإدارية في السلطة، لكنه جعل السيطرة الأساسية في الجهاز الأمني-العسكري في يد بطانته من الطائفة العلوية، فاتحاً الباب نحو تحول الصراع بين النظام والجماعات الإسلامية إلى صراع طائفي مسلح، ظهر بقوة أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات وانتهى بهزيمة منكرة للجماعات الإسلامية، وللحركة الشعبية، التي رأى النظام صراعه مع الإسلاميين فرصة مناسبة لإحكام قبضته على الأخيرة، وتدمير تمثيلاتها السياسية الضعيفة أصلاً.
ووفق السياق ذاته، صعد نظام الأسد النزعة الطائفية مع انطلاق الثورة عبر منظومة من خطوات، شملت اتهام المتظاهرين بـ«السلفية» و«الإرهاب» و«التكفير»، وبث الشائعات ومقاطع الفيديو والأخبار التي تغذي الطائفية، وتوجيه القمع الرهيب للتجمعات السكنية ذات الأغلبية السنية، وقد ذهبت لاحقاً جماعات الإسلام السياسي والتشكيلات الإسلامية المسلحة على الطريق ذاته وصولاً إلى أسلمة الثورة وتطييفها، الأمر الذي أعطى الصراع السوري في بعض محطاته طابعاً طائفياً، يتضمن خلافاً بين الطوائف ولا سيما بين السنة والعلويين.
وإذا كانت الخلافات السياسية حالة طبيعة نتيجة تباين الرؤى والمواقف والسياسات لمختلف الأطراف. فإنها تجاوزت ذلك كله في شكلها ومحتواها عند السوريين. وإذا كان ذلك يتبدى فيما أظهرته السنوات الماضية في صراعات السلطة مع أكثرية السوريين، فإن الخلافات العرقية والطائفية هي الأخرى أخذت المسار ذاته في تغيير شكل ومحتوى، ما كان يمكن أن يكون خلافا سياسيا، يجري حله بالوسائل السياسية، لا بالعنف والإكراه وفرض سياسات الأمر الواقع على نحو ما حصل ويحصل.
لقد ذهبت الخلافات السياسية في مسار غير طبيعي، بحيث صعبت معالجتها، ولم يتم حل المشكلات والاستعصاءات القائمة، أو تبريدها على الأقل، وهو النهج المفروض اتباعه بين الجماعات السياسية المتقاربة على نحو ما هو حال جماعات المعارضة، وقد فشلت الجهود في توحيدها رغم تقارب أهدافها في تغيير النظام وتأييد مطالب السوريين في الحرية والعدالة والمساواة، بل إن الفشل ذهب حد تكريس الخلاف، فصارت هيئة التنسيق، تتهم المجلس الوطني السوري، ثم الائتلاف الوطني بأنه «معارضة الخارج» تشكيكاً بتمثيله، فيما كانت نظرة الأولين للهيئة بأنها موالية للنظام وبعض قياداتها مرتبط بأجهزته، وجميعها ادعاءات لا معنى لها، وهي تأكيد لعجز متبادل في الوصول إلى توافقات، أو عدم رغبة في ذلك لأسباب متعددة.
وما حصل بين الائتلاف والمجلس الوطني قبله مع هيئة التنسيق، مثال على ما حصل في الخلاف بين الحزب الديمقراطي الكردي pyd والمجلس الوطني الكردي، حيث فشلت كل المساعي في معالجة الخلافات أو تبريدها أو تخفيف الاحتدامات بين الطرفين، وهو السياق ذاته الذي سارت فيه اختلافات التشكيلات المسلحة في المعارضة السورية، والتي تجاوزت السبل السلمية، والحوار في حل الخلافات إلى استعمال السلاح، مما كان سبباً في نهاية الكثير منها وتحجيم ما تبقى.
إن الحديث عن الخلافات السورية اليوم، يشبه قصة الشيطان التي لا نهاية لها في امتداداتها وفي تفاصيلها، وكلها تتواصل في أسبابها، التي يغلب عليها عدم توفر إرادة لمعالجتها، وعدم وجود تجارب وخبرات موضوعية ومتوازنة في معالجة قضايا الخلاف، ووجود الحسابات الخاصة ما تعلق منها بالتنظيمات أو بالقادة، إضافة إلى العوامل الخارجية في تأثيرها على الجماعات والأفراد، لمنعهم من الذهاب في معالجة الخلافات مع غيرهم خارج أجندات الأطراف المحلية والإقليمية والدولية الغارقة في الوضع السوري أو المعنية به.
الشرق الأوسط