تشارلز سيميك والكتابة في العتمة
ترجمة محمد زيدان
هذا حوار نشر في المدونة الأدبية “LitHub” مع الشاعر والكاتب والمترجم تشارلز سيميك، وأجراه معه الشاعر بيتر ميشلر. سيميك من أهم الشعراء الأمريكيين المعاصرين وهو من مواليد يوغوسلافيا (1938) وقد حاز على العديد من الجوائز الأدبية المرموقة، ولعل أهمها جائزة البوليتزر، وجائزة غريفين للشعر، وجائزة والاس ستيفنز. ويدرّس سيميك في جامعة نيوهامبشر في الولايات المتحدة منذ العام 1973.
مجموعتك الشعرية الجديدة تتناول أمرًا لم أتنبّه له كثيرًا في كتاباتك من قبل: الجنس والإيروتيكية، ثم حين عدت وراجعت أعمالك السابقة، اكتشفت أنهما لم يكونا نادرين في كتاباتك كما تخيلت سابقًا. فهل تهتم بالجنس بشكل خاص في قصائدك؟
أتفاجأ حقًا حين أجد عددًا كبيرًا من الشعراء لا يتطرقون إلى الجنس في قصائدهم، وكأنهم لا يفكرون بالأمر بتاتًا، أو كأنه لا يوجد أصلًا وجود معروف وقديم جدًا للإيروتيكا في الشعر منذ عصر اليونان والرومان وشعرائهم. ولو قام أحدهم وجمع كل ما كتبتُ عن هذا الموضوع فإنه سيخرج بكتاب ضخم بلا شك.
لكن مع ذلك فإن القراء والمحررين يصفون شعرك عادة بأنه كئيب وظلامي ومتشائم.
أعتقد أن تفسير هذا الأمر يعود إلى شعوري الذي لا ينقطع بالشر القائم في العالم. لقد نشأت خلال الحرب العالمية الثانية في مدينة عانت من الاحتلال وأنهكها القصف في أوروبا، ولم أر منذ ذلك الحين وحتى الآن أي أمر يجعلني أعتقد أن البشر قد تعلموا درسًا من فظائع الماضي، وليس ثمة ما يبشر بأن يكون هذا القرن أفضل من الذي سبقه.
كيف تفسر لنا ذلك الوجود المستمر للأطفال في شعرك؟
لم أكن أعي ذلك في واقع الأمر، لكني لست متفاجئًا كذلك. فكأي شخص نشأ وقضى حياته في مدينة، فإن مشاهدة الناس ما تزال تمثل شغفًا بالنسبة لي، وهذا ينطبق على الأطفال كذلك. فالأطفال يثيرون اهتمامي كأفراد وكائنات غامضة يكبرون ويتحولون إلى أي أمر يريدون أن يكونوا عليه. في هذا العالم المنحط أجدني أشعر بالحسرة تجاه الأطفال أكثر مما أشعر به تجاه الكبار في السن.
ماذا تقول عن الظهور المتواصل لبعض الصور عمومًا فيما تكتبه من أعمال؟ هل الهوس كلمة منصفة يسعني استخدامها في هذا السياق؟
نعم، أعتقد أنه من الإنصاف أن تستخدم هذه الكلمة هنا. جميع الشعراء، إن عاشوا بقدر ما عشت أنا، يميلون إلى تكرار أنفسهم. فوراء تلك الصور والموضوعات التي يعود إليها الواحد منا مرارًا وتكرارًا ستجد خفايا وأسرارًا لا يمكن أن تكشف كنهها، لأن فيها شيئًا من غوامض هوية الإنسان وقدره. لدينا حياة واحدة وحسب، وهذه الحياة لا تكف عن كونها أحجية محيرة، ولذا سيكون من المستحيل أن أترك كل ما يمثله ذلك وأبدأ صفحة جديدة كشاعر في كل مجموعة شعرية أكتبها.
لقد كان عنوان مجموعتك الشعرية الأخيرة “خربشات في الظلام”، فهل هذا العنوان يكشف شيئًا عن طقوس كتابتك لقصائدك؟
أكتب مسودات قصائدي على دفاتر أو قصاصات من الورق مستخدمًا قلم رصاص أو قلم حبر جاف، فأخط بعض ما يخطر لي من صور أو أسطر شعرية أينما كنت. أما في الليل، وحين أكون على سريري ولا أريد أن أشعل النور فأزعج زوجتي، فإنني أخطّ بعض الأشياء في العتمة. بالطبع أنهض أحيانًا عن السرير وأذهب إلى غرفة أخرى، ولكني غالبًا أبقى في مكاني لأني لو فعلت ونهضت فإني سأعاني معاناة مريرة للعودة للنوم مجددًا.
هل تعتقد أن ما تعانيه من مشاكل في النوم يفسر تلك السمة الفريدة التي تتمتع بها قصائدك التي كتبتها في الليل؟
أعتقد أني أختلف عن بقية الذي يعانون من الأرق بأنني لا أشتكي من هذه المعضلة التي أعيشها. والسر الذي يجعلني قادرًا على متابعة حياتي في اليوم التالي لليلة صعبة هو أنني أمنع نفسي من أن أكون يقظًا بشكل كامل أبدًا. فأستلقي في العتمة دون أن أشعل الضوء، ويمكن أن أكتب بعض الأشياء المتفرقة، ولكني لا أكتب قصائد بأكملها وأنا في هذه الحالة. وهنالك عدد من القصائد التي كتبت في الليل، وربما يعود الفضل في كتابتها لما أعانيه من أرق.
لقد فقد الشعر الأمريكي الكثير من الشعراء في السنوات الثلاث الأخيرة، مثل مارك ستراند، وجيمس تايت، وبيل نوت، وأنا أعرف أنهم كانوا أصدقاءك وأنت على معرفة جيدة بأعمالهم، فما هو في رأيك في الرسالة التي تركها مثل هؤلاء الشعراء بعد وفاتهم؟
افعل ما ترغب في فعله! هذه هي الرسالة الحقيقية التي تركوها من بعدهم، وليس هؤلاء الشعراء فقط، بل ومن قبلهم والت ويتمان، وإيميلي ديكنسون أيضًا. لقد كانت السنوات المئة الماضية هي العصر الذهبي للشعر الأمريكي، وهنالك العديد من الأسماء العظيمة التي يمكن ذكرها. لم يكن هنالك سمات مشتركة كثيرة بين ستراند وتايت ونوت كشعراء، ولذلك فإنهم أيضًا يمثلون هذه الرسالة لأنهم ساروا عليها. ونصيحتي لأي شاعر شاب هي أن يقرأ كل شيء ومن ثم يفعل ما يحلو له.
أعرف أنك كنت شخصًا طموحًا حين كنت شاعرًا في شبابك، فهل وجدت أن عليك أن تبقي على جذوة ذلك الطموح مشتعلة كي تواصل الكتابة وأنت في هذا العمر بعد عقود عديدة؟
الجواب نعم ولا. صحيح أنني كنت أرغب أن أكون مختلفًا عن الجميع، ولكني لا أفكر بهذا الأمر حين أكتب. ربما فعلت ذلك حين كنت شابًا، ولكن بعد انقضاء 60 عامًا فإن ما يدفعني للكتابة هو استمتاعي بتكوين شيء من لا شيء، إذ تخطر لي كلمة ثم عبارة ثم تبدأ تتشكل لدي قصيدة قد أعمل عليها لسنوات بأكملها. وطموحي الوحيد الآن هو أن أقوم بأمر لم يتسن لي القيام به من قبل، وأن أفعله بإتقان.
إنك تكتب بدقة بالغة ومعرفة كاشفة عن المجتمع والسياسة في أمريكا في مقالاتك التي تنشرها مجلة “نيويورك ريفيو أوف بوكس”، أما في قصائدك فهنالك نوع آخر من تقديم شهادة على ما يحدث من حولك، ولكن دون أن تطرح أن تفسير لأي حقيقة أو واقعة. فهل ثمة علاقة أو تنازع بين هذين النوعين من الكتابة؟
إطلاقًا. أنا أمقت الشعر الوعظي، أي ذلك النوع من الشعر الذي يحمل رسالة، ولذا فإنني أتجنب الإدلاء بأي تصريح في شعري عن المأزق الذي نعيش به حاليًا على المستوى الوطني. ففي شعري أحاول أن أعبر عما لدي من مشاعر وأنا أعيش هنا في هذه اللحظة في هذه الدولة التي يبدو أنها فقدت بوصلتها وقد ينتهي بها الأمر في مزبلة التاريخ كما حصل مع العديد من القوى العظمى في الماضي. وهذه هي الرؤية الكئيبة التي تسيطر على الكثير من القصائد، وأعرف أن العديد من الناس سواي يمتلكون الشعور ذاته. لقد أخبرني جار لي مرة وقال لي بعبارة لاذعة وغاضبة “لقد قضي علينا يا تشارلي”حتى أنه لم يشعر بأي دافع ليفسر لي ما يعنيه بعبارته تلك. أما في اللحظة الراهن، فأنا أشاهد أزهار الليلك وقد تفتحت، والأطفال يلعبون في ساحة المدرسة ويمرحون، وأعتقد أنني سأخرج في جولة لطيفة بين الأشجار.
الترا صوت