جرّة ينبع منها نهر/ أحمد عمر
إرسم مزهرية.
يكتب المعلم بالطباشير التكليفَ على اللوح الأخضر، ويخرج للجلوس على باب الصف مثل الراعي الذي ترك النحل يحوم عاجزاً حول مزهريّات صلبة خالية من العطر. قضينا المرحلة الابتدائية ونحن نرسم المزهريات ولم نرها سوى في الصور، ثم صار حال البلاد يشبه جرّة أثرية مكسورة، حُطمت يدها المقطوعة الموشومة بنقوش وأحرف كيَدِ زينب في قصيدة حسان بن ثابت، ونُزعت وسُرقت وهُرّبت لتباع في بلاد بعيدة بثمن يكفي ليعيش سارقها حياة مترفة، فالآثار ثمينة ومقدّسة في بلاد الفرنجة، كأنهم يريدون ماضينا بعد أن سرقوا مستقبلنا، ولو بقيت يد الجرّة مكانها فوق خصر الجرّة الغانية، لعاشت بها بلدة طيّبة وربٌّ غفور.
كنت أرسم المزهرية على شكل جرّة الماء ومن غير أزهار، أرسمها كبيرة الحوض، وجيداء، بعيدةً مهوى القرط، تتدلى منها مغرفة مثل قلادة على صدرها، تنوس مثل بندول الساعة مع نسيم الزمن، وقد نطّقت بنطاق من الخيش، فتصير تمثالاً حياً، ليبرد حملها من الماء، لكن هواي كان في رسم الخرائط، مثل الشعراء الجاهليين الذين يرسمون الخرائط بالكلمات، أول ما يبتدرون القصيدة برسم ديار الحبيبة، وقد سألني معلم، من أين حبك للخرائط، أمنْ كتب الجغرافيا؟ فقلت: منها، ومن أقوال الشعراء. وفي ذلك أنه خرج وفدٌ من جهينة يريدون النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما قدموا عليه سألهم عن مسيرهم، فقالوا: يا رسول الله! لولا بيتان قالهما امرؤ القيس لهلكنا! قال: وما ذلك؟ قالوا: خرجنا نريدك، حتى إذا كنا ببعض الطريق، إذا برجل على ناقة له مقبلٍ إلينا، فنظر إليه بعض القوم، فأعجبه سير الناقة، فتمثل ببيتين لامرىء القيس، وهما قوله:
ولمّا رَأَتْ أنّ الشّريعَةَ وِرْدُها … وأَنَّ البَيَاضَ من فَرائصِها دامي
تَيَمَّمتِ العَينَ التي جَنبَ ضارِجٍ … يُفيءُ عليها الظِلُّ عرْمَضُها الطامي
وقد كان ماؤنا نفد، فاستدللنا على العين بهذين البيتين فوردناها.
أرسم بلدتي الصغيرة وثرواتها المعدنية والطبيعية، بعد أن امتلأ دفتر الرسم بالمزهريات المتشابهة التي يطنُّ حولها نحل عاجز منتحر، وأرسم طريق عودتي إلى البيت، ونهر بلدتي، وبيتي الذي لم يكن يبعد سوى أمتار، ومنعطفات النهر، وحصان جارنا الذي يجرُّ عربة العنب في المساء، وجميلات البلدة اللواتي في عمري: شيرين، ونسرين، وهزار.. وأرسم الأماكن الضيقة في النهر التي يمكنني القفز فوقها، وأرسم بجانبها خاتماً، وكان النهر يعرض بعد خروجه من بلدتنا ، ولم أكن أحب الأنهار الكبيرة، التي يمكن أن تغرق فيها السفن، أو تربض في جوفها أسماك عملاقة مخيفة، وأرسم الشوارع الكبيرة في البلدة، وبجانب محلات السكاكر على الخريطة رمز ربطة شريط، والمكتبات وبجانبها رمز كتاب، دارة السينما وبجانبها بكرة فيلم، واسم الفيلم المعروض، والجامع الكبير بقبته اللامعة، ومصاحفه التي تشبه حدائق من الجنة، والكنائس الطين، وأرسم بيوت أصحابي والملعب، ثم أشرح الرموز في ركن الخريطة كما في الخرائط، الخاتم: جسر نهري، العقدة: السكاكر، والصياحات، وهي جوزات تربط بخيطان ثم ترمى فتدور، حرف “واي” الإنكليزي، ويعني مضيقاً في النهر، وأشجار الزيزفون الغنيّة بالنقيفات. وأرسم المقبرة على شكل سلاحف راسخة في مكانها، وأرسم المكان الذي عثرت فيه مرة على ورقة نقدية عليها صورة ربّة الينبوع الصبوح السورية وهي تسكب نهراً من جرة، وهكذا كنت أرسم ثروات بلدتي في خرائطي.
وكان في بلادي ثروات كثيرة، مثل النفط الذي يرسم على شكل أبراج معدنية تضخ البترول من الأرض بمضخات لها مناقير، تضخ السائل الأسود بقوة الاهتزاز الذاتي، وفوسفات، ورمل كوارتزي، أملاح بحرية وأملاح صخرية، وثروات كثيرة، وحبوب بأنواعها.. وكان للثروات رموز في ركن الخريطة، على شكل دوائر أو مربعات أو مثلثات أو سنابل، وكان المعلم يقول: إنَّ بلادنا غنيّة بالثروات وأهمها القمح وهو من أجود أنواع الحنطة، ثم سمعنا مرة صوت تلميذ شجاع سأل المعلم: لمَ إذاً نقف ساعات على أبواب الأفران وخبزنا لا يؤكل سوى ساعة خروجه من الفرن!
فاعتكر وجه المعلم من حجر السؤال، وكان عليه أن يفرح به، وأن يقول لنا: صفقوا للتلميذ النجيب، ثم تنهد، حتى شعرنا بالنار تخرج من الفرن وتلفحنا بصهدها، ثم سكت لأن للجدران آذانًا وهذا يعني أن لها ألسنة، وكنا نقرأ كثيراً عن الثورة المجيدة التي قضت على الاقطاع، لقد قضي عليه فلمَ كل هذا الفقر؟ فيقول لنا أحد الكبار: لقد قضى الاقطاعي الكبير على الاقطاع، وأخذ مكانهم. ثم يشير إلى صورة الإقطاعي التقدمي الاشتراكي الأكبر. ولم يكن الاقطاع بذاك السوء التي تذكره الثورة، كان منهم أغنياء يأكلون جهد الفلاح، ومنهم أغنياء نبلاء يتصدقون ويزكوّن، ولم تكن الحكومة بذلك البطش قبل الثورة النكراء المتنكرة.
وأرسم دائماً بيت بدر البدور في مركز الخريطة، ولم يكن هذا هو اسمها الحقيقي، تحصيناً لاسمها من الذيوع وستراً لها من ألسنة الزملاء، وهي جارة حسناء في مدرسة البنات، واسم شارع بيتهم طارق بن زياد الذي أحرق السفن وراءه، وأرسم بجانب بيتها رمزاً مثل شعلة نار، وأشرح الشعلة في ركن الرموز: بيت بدر البدور التي أحرقت القلوب وراءها، وكان اسمها يتغير حسب القصة التي أقرؤها، فيصير أحياناً ازميرالدا، وأحياناً ذات الهمة، وأحياناً قمر الزمان، وأحياناً شهرزاد..
أرسم بيتهم قصراً في الخريطة مع حديقة، مع أن بيتهم كان من الطين مثل بيتنا، ولم يكن فيه سوى شجرة توت واحدة.
ومع سطوع نجم الاقطاعي الاشتراكي الأوحد، الذي احتكر كل ثروات البلاد باسمه، بنى رئيس البلدية الاشتراكي في بلدتنا صرحاً؛ لا ليس حديقة، ولا مزرعة خيول، ولا ملعباً، ولا مكتبة؛ بنى سوراً للنهر يحوطه من ضفتيه، عبر البلدة، وكان سوراً عجيباً، ومكلفاً، كان جدراناً من الاسمنت عالية، وكان ذلك خطأ هندسياً يشبه الكفر، وكان النهر قد جفّ من الحنق والغيظ، ففصل رئيس البلدية شرق البلدة عن غربها، وكان ذلك دأب الحزب الحاكم بفصل الشعب عن بعضه شيعاً، ثم تحوّل النهر الجاف إلى مجرور لمياه الصرف غير الصحي تعيث فيه الجرذان بعد أن كانت مرتعاً للأسماك الملونة، ثم كان أن نقب الأهل نقوباً في الجدران لاختصار الشقة، كما يفعل الفلسطينيون في السور العازل، وكان الحائط سهل النقب، فقد كانت الجدران مغشوشة الاسمنت مثل الطباشير، ثم انهارت كلها في أول عاصفة مطر، وبقيت منها بعض القطع المتآكلة، فحمداً لله على فساد الضمائر، وقال لنا الكبار شارحين الرموز في أسفل خريطة السور: هذه طريقة معروفة للسرقة، لكنه كان قد جعلنا شيعاً وطوائف. فرِّق تسدْ، وابنِ السدود تفرِّق.
كنا نعبر النقوب من حيّنا العثماني، إلى الحي الشمالي الروماني بنسائه الجميلات المكشوفات، فنعلق في معارك مع صبيان الحي الشمالي، الذين يجاهدون في طردنا، ويقولون: اذهبوا إلى نسائكم وبناتكم وانصرفوا، وكنت أرسم الحي الشمالي الرومي بناتٍ جميلات واقفات مثل الأشجار الحور على طول الطريق، لكن لم ينتصروا علينا، وكنا نقول إذا كنتم تغارون على نسائكم فاستروهن، قالوا: بل سنفقأ عيونكم. وتحاربنا وانتصرنا، فيئسوا واستسلموا، وتركونا نتمتع بمناظر المزهريات البشرية. ربما وجدوا أنها طريقة للتعذيب!
ضاقت البلدة مع الزمن، ونشأت حدود كثيرة، واعتقل صديق لي لاحقاً يهوى رسم الخرائط، وكان قد أعاد طبع خريطة للسياحة عليها عناوين الآثار المندثرة، فهاجت المخابرات وماجت، وحكمت عليه من غير محكمة بثلاث سنوات، قدّر صديقي أن سببها هو إيقاظ الذكريات من نومها. الطغاة يمقتون الذكريات، ولهذا باعوا كل الآثار.
وجاء وقت عندما اندلعت ثورة على الثورة الأولى المجيدة، ثورة تأخرت كثيراً، فنشأت جدران وأسوار كثيرة، وتحرك النهر من جديد، ليس بالماء، ولا بالصرف غير الصحي، هذه المرة جرت فيه الدماء! وسبحت فيه جثث فتيان لم يبلغوا اليفاع، بعد جيل من الأسماك ثم الجرذان، ولم نعد نستطيع الحركة، فالحواجز كثيرة، وعدت إلى رسم الخرائط التي نسيتها، و رسمت الحواجز في بلدتي، رسمت كثيراً من القبور التي دفنت في الطرقات حتى لا تندثر تحت الأقدام، أما الثروات الطبيعة والمعدنية فرسمت بدلاً عنها فروع المخابرات، على شكل كراسٍ ألمانية: الجوية، السياسية، أمن الدولة،… كي أتجنب المشي فيها، مثل حقول ألغام، ثم ضاقت البلاد، وكانت بلاداً واسعة، لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها، فهاجرت، ونزحت وتخليت عن كل شيء، وكنت اشتريت بيتاً من مدخرات انتزعت فيها دراهمي من فم الذئب وتركتها للكلاب، والكلاب ليسوا محتلين كما في فلسطين فهم يتكلمون لغتي، واكتشفت في المنفى أنّ المدارس الأوربية تولي عناية خاصة لتدريب التلاميذ على رسم الخرائط، كما لو أنها فنٌ من الفنون، فسررّت كثيراً، وكانت خرائطها تشبه خرائط مدينة ديزني لاند، بمراجيحها، وزوارقها، وشلالاتها الصناعية، ونواعيرها.
واكتظت خرائطي، بعد أن كبرت، بالسلاحف المقلوبة على ظهرها، في كل مكان قبور، قبور في الشارع، وفي الحديقة وفي الكراجات، وتحولت البلاد كلها إلى آثار، كانت خرائطي المتأخرة خالية من السكاكر، وأشجار النقيفات، وبيوت بدر البدور، ومُنية النفوس، وقبلة القلوب، وكرات اللعب المطاطية والزجاجية الملونة، خلا مرة رسمت فيها شاباً وشابة في يدها نقوش وأحرف وطلاسم في أقصى الخريطة، بأشكال بدائية رمزية، على شكل خطوط أولية، وشرحت في الركن الأيمن من الخريطة الحوار بينهما:
هل أنت بدر البدور؟
منْ بدر البدور؟
إذاً أنت قمر الزمان؟
لست قمر الزمان ولا بدر البدور
– إذاً ازميرالدا؟
منْ ازميرالدا؟
هي حسناء تشبه جرة المياه الباردة في يوم حار
ومنْ بدر البدور؟
فأخرجت ورقة الخمسين ليرة من محفظتي، التي احتفظت بها طويلاً، وعليها صورة حسناء، يسيل نهر من جرتها.
فسألتها: هل هذه صورتكِ؟
فابتسمتْ ابتسامة تشبه وميض برق طويل المكوث في السماء، والابتسامة إجازة ورخصة، ربما كانت فتحاً لأبواب القلعة الحصينة أمام حصاني الأعجف النحيل الذي قطع مفازة شاسعة، وأصدر باب القلعة صوتاً يشبه أنين الحديد الصدئ، وتفتحت الورود في المزهريات الحجرية القديمة فوق شرفة القلعة، وتيممتُ العين الذي جنب ضارج، يُفيءُ عليها الظِلُّ عرْمَضُها الطامي، ثم شربت وكان مائي قد نفد، وأشرفت على الهلاك.
المدن