وداعا طيب تيزيني: مقالات تناولت الامر والضجة التي أعقبت وفاته
تيزيني وصكوك الغفران/ عمر قدور
كأنه كان لا بد من تعكير الحزن المشترك الذي أبداه كثيرون من السوريين على رحيل المفكر طيب تيزيني، في موطنهم المشترك الوحيد “وسائل التواصل الاجتماعي”. بدأ الأمر بنعي مُستغرب من الدكتور أحمد برقاوي، ليستعيره لاحقاً الدكتور عماد الدين الرشيد، المعارض الإسلامي الذي يُصنَّف معتدلاً، والذي سبق أن شغل منصب نائب عميد كلية الشريعة في جامعة دمشق. ما كتبه برقاوي والرشيد أثار ما أثار من استهجان وردود أفعال، وهذا الجدال لا يخلص عادة سوى إلى نتيجة إنسانية واحدة هي إفساد ذلك الحزن النبيل، وإلى نتيجة سياسية واحدة هي اليأس من إمكانية بناء مشتركات بين السوريين.
ثمة اختلاف لا ينبغي تجاهله بين ما كتبه برقاوي وما كتبه الرشيد؛ برقاوي كتب ما كتب تعبيراً عن رأي شخصي، ومهما رأينا فيه من التعسف وانعدام الرحمة يبقى في الإطار الشخصي الذي يحتمل تأويلات مختلفة في الحيز نفسه. أما عماد الدين الرشيد فيتوجه إلى الإسلاميين، مؤنّباً منهم مَن زكّى المفكر الراحل، حتى إذا كان هناك تفصيل يستحق الثناء في مسيرته، ومميِّزاً بين الثناء والتزكية من حيث شمول الأخيرة على مجمل أفكار ومواقف المرء واقتصار الأول على جانب ما، مع أنه لا يرى في سيرة الراحل ما يستحق الثناء أيضاً. لكننا نعلم، ويعلم أكثر منا جمهورُه من الإسلاميين، وجود تمييز آخر بين الثناء والتزكية استخدمه الفقهاء قديماً، يحتمل فيه الثناءُ التنويه بما هو سلبي وما هو إيجابي بينما لا تحتمل التزكية سوى الإيجاب، ولعل هذا هو باطن الكلام الذي يُراد قوله.
بتعبير آخر، يتوجه عماد الدين الرشيد إلى من يراهم بمثابة خراف الإسلاميين الضالة، وليس من المصادفة إطلاقاً أن يسترجع في النص ذاته الدكتور الشيخ البوطي ليقول أن الأخير كان يشتم بشار الأسد في السر، مثلما صار يفعل تيزيني متأخراً عنه، ولا ينسى الترحم على البوطي، من دون أن يشير صراحة إلى عدم جواز الترحم على تيزيني تاركاً للنص أن ينضح بذلك. المقارنة بين البوطي لا يبررها ما سبق بقدر ما هي واقعة أصلاً تحت شبح مناظرتين تلفزيونيتين قديمتين جمعتا تيزيني والبوطي، وهما بما لهما وعليهما تقادمتا بموجب المستجدات العاصفة إلا لمن يحمل ثأراً أيديولوجياً كان البوطي نفسه قد حذّر منه في التمهيد للمناظرة الثانية التي أدارها مفكر إسلامي هو الدكتور محمد حبش، وفُهم آنذاك أن إشارة البوطي موجهة لجمهوره الإسلامي الواسع.
عندما قُتل الشيخ البوطي، في انفجار مسجد شابه الكثير من الغموض والشكوك حول ضلوع مخابرات الأسد فيه، أكد عماد الدين الرشيد “الذي استضافته قناة الجزيرة تغطية للحدث” أن الراحل كان في صدد تغيير مواقفه الموالية للأسد ما أدى إلى اغتياله. برر الرشيد مواقف الشيخ الموالية بأنها من باب “فقه الاحتياط”، وكما نعلم لهذا الباب فقهاؤه المتشددون والمعتدلون ضمن الحقل الديني، على العكس من النزول به إلى السياسة حيث يُفهم غالباً على محمل المرونة، وتحت لافتته يُبرَّر انصياع الإسلاميين للاستبداد لا نحو لا يُبرَّر فيه لغيرهم.
ومن المعلوم أن مواقف الشيخ البوطي السياسية المعلنة كانت أسوأ نهاية له قبل اغتياله، بخلاف مواقف تيزيني الذي لا يحسبه أحد على صقور المعارضة، لكنه انتقد فساد سلطة الأسد “خارج المجالس الخاصة” قبل الثورة بعبارات من قبيل: هناك في العالم فساد دولة، أما في سوريا فلدينا دولة فساد. سيرة الرجل عموماً المعلنة، وما دفع قسماً من الإسلاميين إلى الترحم عليه، فيها مواقف توجّها وهو على أعتاب الثمانين من عمره بمشاركته في واحدة من أولى المظاهرات في دمشق، وقد اعتُقل حينها لساعات. من دون الدخول في مبالغات مضادة، ما هو معروف عن تيزيني أنه فعل أفضل ما في وسعه في أسوأ الظروف، وضمن حد من الالتزام الوطني والأخلاقي يلقى ترحيباً من قبل شرائح واسعة.
بأثر رجعي، يؤنب عماد الدين الرشيد “في النص نفسه” قسماً من الإسلاميين بسبب ترحمهم من قبل على الفنانة الراحلة مي سكاف، ويدسّ بخبث بين اسمَيْ تيزيني وسكاف اسم شيخ ترحم عليه بعض الإسلاميين مؤخراً رغم موالاته. وكما نذكر، إثر رحيل مي أيضاً، ظهر إسلاميون للتساؤل عن الهوية الدينية للراحلة، وعن جواز الترحم عليها من عدمه بما أن سيرتها تدل على كونها كافرة، رغم أن نظراءهم الإسلاميين الذين ترحموا عليها فعلوا انطلاقاً من موقفها الوطني والأخلاقي أيضاً.
على العموم يبدو دكتور الشريعة عماد الدين الرشيد، وهو مصنَّف على المعتدلين، كمن يضع في جيبه وجيوب أمثاله صكوك غفران، يقررون على أساس منحها مَن الأولى بالذهاب إلى الجنة ومن سيذهب إلى النار. وهم، في سبيلهم إلى ذلك، يسعون مع كل مناسبة إلى تطويع ما يرونه خرافاً ضالة عن صراطهم. بالأحرى هي إعادة تربية شاملة، كما فعلت جميع الأنظمة التوتاليتارية، وهي على الضد من الوجدان الذي ساد طويلاً لدى مسلمي سوريا، حيث لم يكونوا يتوقفون عند أسئلة من نوع جواز الترحم على ميت، بل يعتبرون الترحم وطلب المغفرة له بمثابة “صدَقة”، حتى إذا كان الراحل معروفاً بسيئاته أو آذاه الشخصي أو الاجتماعي. الوجدان نفسه كان يضع أمر الرحمة والمغفرة من شؤون الله، وتزكية الميت لا تعدو كونها تراحماً بين الأحياء وتعبيراً عن إنسانيتهم.
وفق عماد الدين الرشيد وأمثاله، وصولاً إلى من يُتَّفق على وصفهم بالمتطرفين، ينبغي ألا تربط الإسلاميين “وتالياً المسلمين” أية صلة إنسانية بغيرهم، ينبغي إعادة المجتمعات إلى قسمة سالفة بين دار الكفر ودار الإسلام. الاعتدال المزعوم يظهر على حقيقته عند أول امتحان، والإسلاميون الذين يغادرون القطيع الشمولي هم أول من يتعرض للّوم والتعنيف، بما أن من هم خارج القطيع أصلاً يسهل تكفيرهم. ما سبق ينسحب سريعاً على المسألة الوطنية والسياسة، إذ يستحيل العمل على اجتماع وطني في ظل القسمة بين كفار وإسلاميين، ومن يضنّ بالترحم على الموتى لن يكون أكرم في مجال السياسة ولا أكرم على الأحياء، وقد اختبرنا كيف ينظر الإسلاميون إلى الآخرين كمطايا لهم من أجل استلام السلطة والتفرد بها. ولقد عايشنا في السنوات الأخيرة تفاقم الظاهرة الإسلامية، وتفاقم المزايدات بين أصحابها. إذا لم نشأ توخي الحيطة، نستطيع القول أن الأمر تعدّى مصادرة الإسلام واحتكار فهمه، فاستلهام مفهوم صكوك الغفران يعني مصادرة الله نفسه والتقرير نيابة عنه.
لم يكن الراحل طيب تيزيني، وقبله فدوى سليمان ومي سكاف، في حيواتهم من النوع الذي يسعى إلى صكوك غفران من أحد، بل من طينة على النقيض تماماً. وما سبق ليس بالطبع من باب الدفاع عن حقهم في جنة إسلاميينا، المسألة هي الدفاع عن جثثهم من المتاجرة، والدفاع عن حقنا البسيط في حزن يحترم الخصومة الفكرية مثلما يحترم الاتفاق، حزنٍ نبيل فحسب.
المدن
—————-
خلدون النبواني… لا ترجموا أحمد برقاوي(*)
ليس علينا ونحن متجهون لتأبين الراحل الكبير طيب تيزيني أن نحفر قبراً آخر لأحمد برقاوي. دعونا ننسى قليلاً حرفة القتل السوريّ ونتعلم، ولو لمرة، أن نسامح حتى من ارتكب خطأً قاتلاً. لا ينقصنا خسارة مفكر آخر في زمنٍ يعزُ فيه الفكر ويكثر فيه التكفير، ينعدم فيه التسامح ويستشري فيه القتل. كلنا يخطئ وأحمد برقاوي قد أخطأ بالوصف والتوقيت والأسلوب المتعالي الخاص به، لكن هذا لا يعني فتح النار عليه كما فعلنا منذ الصباح بما فيهم أنا.
لبرقاوي شخصيته النزقة ومزاجه المُتقلب المُتعِب، ومن يعرفه عن قرب يعرف أنه خلف كل تصريحاته الصادمة والقاسية هناك شخص، نبيل في العمق، وقلبٌ طيب لا يؤذي، بل يحب. صدقوني برقاوي لا يؤذي نملة (اللهم الأذى اللفظي) على خلاف البعض ممن يخربون البيوت. بل على العكس هو شخص يمد يده للمساعدة وقد ساعدني شخصياً مثلاً وأنا طالب في إخراجي من ورطة شحطي إلى الجيش وضياع بالتالي مستقبلي الأكاديمي بقصة طريفة قد أرويها يوماً. قد تسمع من البرقاوي مثلاً أن محمود درويش ليس بشاعر، لكنه محب لدرويش كثيراً كشخص وكشاعر، بل إن برقاوي قد يقول لك مقهقهاً أن المتنبي لم يكن شاعراً بينما تجده يترنم في كل مناسبة بأبيات للمتنبي وغيره. برقاوي يقدِّم في كل مناسبة تصريحات نارية ضد صادق العظم تجعل الشخص يشد شعره ويفتح فمه، لكن صداقته مع العظم قوية جداً رغم كل ما يقوله ضد صاحب “نقد الفكر الديني” وعندما مُنع العظم من مغادرة سوريا قبل اندلاع الأحداث بسنوات قليلة كان برقاوي هو من توسط له عند نجاح العطار ليسمحوا له بالسفر.
كنت شاهداً على كرم أحمد برقاوي مرات ومرات وكنتُ أندهش من المال السخي الذي كان يدسه، بعد استلام راتبه، في يد المستخدم اللطيف في قسم الفلسفة ويقول له بهمس هذا للأولاد. برقاوي الذي لم يتعرف عليّ في إحدى زياراتي إلى سوريا ولم يرد على سلامي له هو نفسه الذي ما أن رآني في زيارتي التالية لسوريا في قسم الفلسفة (وكنت أريد تحاشيه لما فعله معي المرة السابقة) هو نفسه من أخذني بالأحضان صارخاً: النبواني ثم ساحباً أياي من يدي ومتصلاً بكل من الراحل صادق العظم والدكتور يوسف سلامة داعياً أياناً جميعاً إلى غداء على حسابه في مطعم دمشقي بالقرب من باب توما.
أحمد برقاوي هو هذا الإعصار غير المستقر، لكنه المحب حقيقة من الداخل. كلنا كان يعرف خلافه الفكري مع طيب تيزيني وكان لا يوفره بالنقد المنطلق بقوة وبقسوة كعادة برقاوي تجاه كل شيء وأي شخص، لكن دون خلفية خبيثة.
أعرف أن كلامي هذا لا ولن يعجب البرقاوي وقد أخسر صداقته على إثر ذلك، لكن أجد من واجبي أن أقول كلمة حق تجاه الرجل الذي، كعادته، يتكلم حين يريد هو الكلام حتى ولو كان في أسوأ الأوقات.
طيب تيزيني رغم اختلاف معظمنا مع أيديولوجيته الطاغية يظل مفكراً كبيراً وإنساناً عظيماً والاحتفاء الشعبي الذي يشهده اليوم يؤكد على ذلك، لكن لنعذر كبوة برقاوي ولنصفح ولنفتح الأبواب أمام التسامح وإلا لبقينا في دائرة القتل والقتل المعنوي.
كلنا نخطئ، وعلينا أن نتفهم ونغفر ونفتح النقاش لا النيران أما من كان منكم بلا خطيئة فليكن أول من يرمي البرقاوي بحجر.
____________
أحمد نسيم برقاوي
توضيح:
أثار عزاؤنا بطيب تيزيني حفيظة كثير من الأصدقاء وغير الأصدقاء، ووصلت ردود الفعل على ما قلنا حد استخدام الشتائم من أناس لا نعرفهم ،ولكنه تبين أنهم في عداد الذين وافقنا على قبول صداقتهم. لأننا بالأصل نادراً ما نطلب صداقة أحدٍ لا نعرفه معرفة جيدة وحميمة، بل ونتردد حتى في طلب صداقة الأقربين.
وكل ما قلته بضع كلمات هي: بأني لم أعجب ولَم أستحسن ولَم أرض. والإستحسان والإعجاب والرضى مسائل ذاتية شعورية قد تقال بحق أقرب الأقربين. وهذا أولاً حق من حقوقي، وكل زملائي في القسم وطلابي القريبين مني والذين صاروا أصدقاء وزملاء وأصدقائي يعرفون موقفي ورأيي هذا. وليس هناك أسباب تحملني على تغييره بسبب رحيل الرجل .
وليس هذا فحسب فإن أصدقائي وزملائي الذين يشاركونني الرأي، وأعرف بأنهم يشاركونني، وبيننا نقاش حول طيب، كانوا أكثر كياسة مني وتحولوا فجأة إلى مادحين للرجل، وهذا حقهم . مع أن الرثاء في العربية هو الكلام مع الدمع ليس إلا.
هؤلاء، وامتثالاً لذهنية الرثاء العربية، التي هي مدح، قالوا ما يخالف قناعاتهم. لقد رثيت الرجل وأنا أختلف معه اختلافاً يصل حد التناقض معبراً عن هذا الإختلاف. وهذا لعمري أمر فكرت به طويلاً.
بقي أن أقول إن الذين تكدر خاطرهم وراحوا يشتمون لم يطلعوا على صفحة واحدة من أي كتاب من كتب الراحل، وليس هذا فحسب، بل إن بعض من عبروا عن انزعاجهم لا يعرف تيزيني إلا من خلال نقلي لهم شفاهياً زاوية رؤيته للتراث.
وبكل الأحوال فإني لم أكن أريد الإساءة للرجل لا من بعيد ولا من قريب، ولا الإساءة لأحد من محبيه أو من يسمعون باسمه ،ولا علاقة لما قلته بأي أمر متعلق بالمسألة الوطنية ،كما تهيأ لبعضهم. وما كنت أتوقع أن ينشغل الناس، بنوع من الرثاء مختلف على هذا النحو الذي وصل عن بعضهم حد المهاوشة والمشاجرة والمهابشة، وفي هذه الظروف الصعبة.
مرة أخرى العزاء العميق لأهله ومحبيه.
(*) مدونة كتبها خلدون النبواني في صفحته الفايسبوكية للتعليق على ردود الفعل التي، جاءت ردا على طريقة رثاء أحمد برقاوي للطيب تيزيني، ننشرها هنا الى جانب توضيح برقاوي حول الردود
المدن
الطيب تيزيني: سيرة سياسية/ محمد سيد رصاص
يمكن تلخيص استقطابات السوريين، من خلال أصداء رحيل الدكتور الطيب تيزيني الذي توفي يوم الجمعة 17 أيار (مايو) الجاري: استنكر إسلاميون، ومنهم قادة في المعارضة، الترحم عليه باعتباره “علمانياً وملحداً”، فيما هاجمه موالون للسلطة على صفحات التواصل الاجتماعي واعتبروه “خائناً”، لأنه كان صاحب موقف معارض في فترة ما بعد الأزمة السورية التي بدأت في 18 آذار (مارس) 2011، كما استذكر وتبنى كثيرون، وبعضهم كان متطرفاً في معارضته وينادي بإسقاط النظام ويؤيد السلاح المعارض، مواقف الدكتور تيزيني التي دعت في صيف العام 2011 إلى “حرمة الدم السوري على السلطة والمعارضة… وحرمة السلاح على السلطة والمعارضة”، وإلى تسوية سياسية مبنية على حوار سوري – سوري، قبل أن تتحول الأزمة السورية إلى أزمة يتحكم بمساراتها الخارج الدولي والإقليمي. قال الدكتور تيزيني آنذاك إن “هناك دائرة مغلقة حول السوريين، إن لم يفتحها الداخل لكسر المأزق فسيدخل منها الخارج”. يلفت النظر أيضاً أن الكثيرين ممن كانوا يهاجمونه في فترة “ربيع دمشق” (أيلول 2000 – شباط 2001) ويتهمونه بالانحياز للسلطة في العهد الجديد، بسبب وقوفه ضد فكرة “المجتمع المدني” كعنوان وشعار للعمل المعارض، مفضلاً عليها عناوين “الديموقراطية” و”تفكيك الدولة الأمنية”، هؤلاء كالوا له الكثير من الرثاء على الأرجح من خلال نظارة الأعوام 2011 و2019 وليس من خلال سيرته السياسية العامة.
ظهر الدكتور الطيب تيزيني إشكالياً في مماته، بسبب السياسة، فيما لم يكن شخصاً منخرطاً في السياسة المباشرة والعملية، بسبب العنوان الرئيس الذي عرف به شخصه كأستاذ للفلسفة في “جامعة دمشق”، وصاحب مؤلفات في الفلسفة والفكر.
ربما تكون مواقفه أثناء فترة الأزمة السورية أسهمت في بروز جانبه السياسي، أو تغليبه على جانبه الفلسفي، أو يمكن أن يكون السبب في أن الموقف السياسي عند السوريين أصبح هو النظارة الوحيدة التي ينظرون من خلالها إلى بعضهم البعض، ضمن تخومي (موالاة – معارضة). وما يلفت النظر هنا، أن يكون شخصاً مثل الدكتور تيزيني، نادى بخط ثالث، ولو من موقع المعارضة هو خط التسوية بين السلطة والمعارضة كطريق لحل الأزمة، واقعاً كضحية بين فكي حدي هذه الثنائية: موالاة – معارضة.
يمكن لحياة الدكتور الطيب تيزيني أن تبرز ذلك، حيث البداية سياسية مباشرة، ثم تدريس الفلسفة في الجامعة، قبل أن يعود في نهاية حياته إلى السياسة. وحتى كتاباته في سنوات الأزمة السورية كان فيها انشغال بالسياسة وابتعاد عن الجانب الفلسفي.
انتسب الطيب تيزيني (مواليد 1934 في مدينة حمص) إلى “الحزب الشيوعي السوري” أثناء دراسته الفلسفة في “جامعة دمشق”. وعندما بدأت حملة الاعتقالات في “دولة الوحدة” السورية – المصرية يوم رأس السنة من العام 1959 مستهدفة الحزبين الشيوعيين السوري والمصري، لجأ الطيب إلى بيروت، حيث أقام سنة كاملة قبل أن يوفده “الحزب الشيوعي” إلى ألمانية الشرقية في عام 1960لإكمال دراسة الفلسفة ونيل الماجستير والدكتوراه. وهو نال شهادة الدكتوراه عن أطروحته: “تمهيد في الفلسفة العربية الوسيطة” في عام1967. وعندما عاد إلى دمشق وقدم طلباً من أجل التدريس في قسم الفلسفة في كلية الآداب في “جامعة دمشق” للعام الدراسي 1969 – 1970، جوبه باشتراط قبوله بأن يترك “الحزب الشيوعي” وينتسب إلى “حزب البعث”. قبل الدكتور الطيب تيزيني هذا الشرط، وأصبح بعثياً، فيما رفض ذلك رفيقه في “الحزب الشيوعي” العائد معه حاملاً الدكتوراه في الفلسفة أيضاً الدكتور نايف بلوز.
وإلى جانب التدريس في الجامعة، شارك الدكتور تيزيني بالكتابة في مجلة “الشبيبة”، التي كان يرأس تحريرها عقاب يحيى وهي تصدر عن منظمة “اتحاد شبيبة الثورة” التابعة لـ “حزب البعث”، وفي مجلة “الطليعة” التي كانت تصدر أسبوعياً عن “دار البعث”. وبعد حركة 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، بقيادة وزير الدفاع السوري الفريق حافظ الأسد، التي أنهت نظام 23 شباط 1966، تابع الدكتور تيزيني نشاطه في “حزب البعث”، وكانت له أطروحات عن “اشتراكية عربية” تجمع بين شيء من الماركسية وشيء من الفكر القومي العربي. وخلال الأحداث السورية 1979-1982، التي حصل فيها صدام مسلح بين السلطة السورية و(جماعة “الإخوان المسلمين”)، كان الدكتور تيزيني من المنظرين البارزين للسلطة السورية ضد “الإسلام السياسي”.
لم يحصل أن أخذ الدكتور تيزيني مسافة من “حزب البعث” والسلطة السورية، سوى في صيف العام 2000، عندما طرح مقولة “تفكيك الدولة الأمنية”. حينها، شكك الكثير من المعارضين في دوافعه، واعتبروا أطروحته المذكورة جزءاً من عملية التسويق للعهد الجديد في مرحلة ما بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد في 10حزيران (يونيو) 2000.
وقع الدكتور تيزيني على “بيان الـ 99” الذي نشر في الصحف اللبنانية في 27أيلول (سبتمبر)2000، وهو البيان الذي تضمن برنامجاً كاملاً: “إلغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية، عفو عام عن السجناء السياسيين والملاحقين والمنفيين، إرساء دولة القانون”، إطلاق الحريات والاعتراف بالتعددية السياسية والفكرية، أولوية الاصلاح السياسي على الاصلاحات الإدارية والقانونية”.
كان رأي الدكتور تيزيني، ومعه الدكتور عصام الزعيم، الذي أصبح في عام 2000 وزيراً للتخطيط، وهو الموظف في “البنك الدولي” والآتي أيضاً من خلفية شيوعية – ماركسية، بأن إصلاحاً يأتي من طرف السلطة، سيجنب سورية السيناريو الصربي، الذي أسقط فيه التدخل الخارجي، المترافق مع اضطراب داخلي، الرئيس سلوبودان ميلوسوفيتش في خريف العام 2000. ولو أن الدكتور الزعيم كان يرى الاقتداء بالنموذج الصيني الذي جرى فيه تسبيق الإصلاح الاقتصادي، فيما كان الدكتور تيزيني متقيداً بما وقع عليه في “بيان الـ 99” بتسبيق الإصلاح السياسي على أي إصلاح آخر.
عند نشوب أزمة العلاقات الأميركية – السورية في العام 2005، وما رافقها من تحقيق ديتليف ميليس في موضوع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حصلت مراهنات كثيرة عند معارضين سوريين على سيناريو شبيه بالسيناريو العراقي. عندما أسقط التدخل العسكري الخارجي صدام حسين، كان الدكتور تيزيني ضد هذا التوجه وكان يرى الربط بين “الوطنية” و”الديموقراطية”. وعند نشوب الأزمة السورية في عام 2011، لم يكن الدكتور تيزيني مع شعار “إسقاط النظام” وضد استعمال السلاح والعنف عند السلطة والمعارضة، وكان من الدعاة البارزين، ومن الأوائل الذين نادوا بحل تسوَوِي للأزمة السورية. مال الدكتور تيزيني في السنوات الأخيرة إلى الانكفاء عن الحياة العامة، وكانت نشاطاته مقتصرة على كتابات في الصحف مع مشاركات قليلة في ندوات أو في إلقاء محاضرات في الخارج.
لم يغادر الراحل سورية، وكل من التقاه في السنتين الأخيرتين كان يشعر بمدى حزنه العميق. على الأرجح أنه أحس بمأساة “الخط الثالث” في سورية ما بعد درعا (18 آذار2011) ولمسها.
* كاتب سوري.
الحياة
حروب السوريين: حجر الفلاسفة وشيطان الخيمياء!/ حسام الدين محمد
لم يكن للطيب تيزيني، الكاتب وأستاذ الفلسفة السوري، على الأغلب، أن يتوقع حجم النقاش الذي سيثار حول شخصه وأعماله بعد رحيله، ولعلّه تمنّى، وهو الشخصيّة الفكريّة المعروفة، أن يحظى بقراءات تتناسب مع تاريخه ومع المشروع الفكري الذي بناه، ومع جرأته التي تحتسب لشخص في عمره، في الوقوف مع ثلّة صغيرة من المتظاهرين عام 2011، وتعرّضه للضرب والاعتقال، وبعدها متابعة انتقاده العلنيّ لنظام مشهور بإجرامه غير المحدود، وقبلها رفضه «كرم» حافظ الأسد عليه مما أجّج غضب النظام عليه.
كان حجم تجاهل السلطات لوفاة تيزيني أمرا مفهوما (وقد أبدع الكاتب والشاعر السوري ماهر شرف الدين في تحليل ذلك في مقال بعنوان «جنازة صغيرة») غير أن المفاجأة كانت تصدّعا في «الجبهة» التي يُفترض أن تحتفي بتيزيني، وهو أمر بدأه الكاتب وأستاذ الفلسفة السوري ـ الفلسطيني أحمد برقاوي بنشر فقرة على «فيسبوك» حول تيزيني، يقول فيها إنه لم يعجب «بأي صفة من صفاته ولم يرض عن أي سلوك من سلوكاته، ولم يستحسن أيا من مؤلفاته»، وهو ما أثار استنكاراً من كثيرين بينهم أصدقاء أو معارف لبرقاوي مثل إسلام أبو شكير وخلدون النبواني وحسام الدين درويش وخضر زكريا، فسئل برقاوي، على سبيل المثال، إذا كان لم ير في مواجهة تيزيني للسلطة سلوكا يثير الإعجاب، كما سوئل عن موضوعيته وإنسانيته، وقام آخرون، كعدنان عبد الرازق، باعتبار رأي برقاوي «نشازا»، ناتجا عن «عداوة الكار» ومحمولا على الإطلاق والنرجسية، واعتبر حسام ميرو «الظاهرة» هذه «مرضا»، فيما نُشرت ردود أخرى تحاول الموازنة وتدعو لعدم «حفر قبر آخر لأحمد برقاوي»، فـ»كلنا يخطئ وبرقاوي أخطا بالوصف والتوقيت والأسلوب المتعالي، لكن هذا لا يعني فتح النار عليه».
منظّر لاستبداد حافظ الأسد؟
ما لبث متابعو تفاعلات الحدث أن تلقّوا مفاجأة جديدة من أكاديمي آخر هو عماد الدين الرشيد، الذي كان أستاذا في جامعة دمشق أيضاً ونائبا لعميد كلية الشريعة، بنقله النقاش إلى حقل أيديولوجي آخر، عبر استغرابه صدور ثناء وتزكية من الإسلاميين للكاتب الراحل وكأنهم «لا يعرفون أن فكر الرجل كله يستهدفهم»، و»لا يعرفون أنه كان من أهم المنظّرين لاستبداد حافظ الأسد، والمسوّقين لموقفه من الإسلاميين بل ومن الإسلام»، وأن موقفه في الثورة «يفيض انتهازية» وأنه «انتقل من كفر إلى كفر آخر» متسائلا إن كان الأمر غفلة أم نفاقا، ومطالبا إياهم بعدم تزكيته، وساحبا قياسه إلى شخصيات أخرى رحلت وحظيت بتبجيل وتقدير السوريين كالفنانتين الراحلتين المعارضتين فدوى سليمان ومي سكاف، من دون أن ينسى الإحالة مجددا إلى تعليق أحمد برقاوي (رغم أنه أيضاً من حقل الفلسفة «الكافر» مثل تيزيني)!
استدعى تصريح برقاوي ومقالة الرشيد ردّا من عمر قدور بعنوان «تيزيني وصكوك الغفران» أشار فيه إلى «انعدام الرحمة» و»إفساد الحزن النبيل»، وإلى «نتيجة سياسية واحدة هي اليأس من إمكانية بناء مشتركات بين السوريين»، مفككا منطق الرشيد على أنه «إعادة تربية شاملة» على جري النظم الشمولية، وانتكاس عن الرحمة الاجتماعية المتعارفة بين السوريين لتقسيمها بين «داري الكفر والإسلام» وهو ما يجعل الاجتماع الوطني عملا مستحيلا «فمن يضن بالترحم على الموتى، لن يكون أكرم في مجال السياسة»، وأن الأمر تجاوز مصادرة الإسلام واحتكار فهمه إلى «مصادرة الله نفسه والتقرير نيابة عنه».
على الضفّة المعاكسة لعماد الدين الرشيد، نشر الشاعر والكاتب عادل محمود مقالة أيضاً يعدد فيها بعض مناقب تيزيني وأفكاره متذكرا فيها طلبا منه عدم الحوار المعرفي والثقافي مع الشيخ محمد رمضان البوطي لأنه «حتى الآن لم ينجح في أي يوم طوال 1400 سنة أي حوار مع الدين»، وهنا نلمس أيضاً قسمة أخرى شبيهة بقسمة الرشيد وإن بطريقة أكثر حذراً، فاستحالة الحوار مع الدين تفضي، من دون حاجة لتمحّك كبير، إلى استحالة الحوار مع المتدينين، فما بالك بالحوار مع «الإسلاميين»؟
«المجتمع العميق»
بعد تجاهل النظام للجنازة وصاحبها، ونفي برقاوي الجازم لأي حسنة لدى تيزيني، ثم إخراج الرشيد له من «جنّة» الثناء عليه وتزكية عمله، وتأنيب محمود له على «حواره مع الدين»، ظهرت مقالة بعنوان «الطيب تيزيني… قيامة الطريق الثالث» للروائية السورية سوسن جميل حسن، التي تبدأها بالقول إن مشكلات منطقتنا «ليست الأنظمة السياسية أو الحكومات العميقة» فهناك برأيها مشكلة «أكثر خطورة وأكثر إلحاحا لتفكيكها» وهي «المجتمعات العميقة التي كشفت الأزمة السورية عن مدى تمكّنها ورسوخها في البنيان السوري». تقدّم الروائية السورية هذا الرأي على أنه رأي تيزيني نفسه، وهو ما اعتبره حسام الدين درويش، الكاتب السوري وأستاذ الفلسفة، «تشويها لفكر طيب تيزيني ومواقفه»، متسائلا إن كان «في نصوص تيزيني ومواقفه وكلامه ما يدعم هذه الرؤية أو يسوغها أو يتبناها صراحة أو ضمنا؟»، خالصا إلى أن هذا الخطاب الثقافوي «يجعل من الضحية مجرما ويسهم في تبرئة المجرم».
وفي مقابل «تقريع» الإسلامي «المعتدل» عماد الدين رشيد جمهور «الإسلاميين» على التعاطف الإنساني مع تيزيني «الكافر» ونشر البعض حكاية مروية عن قريب لتيزيني تحدث فيها عن صلاته عدة مرات في الفترة الأخيرة من حياته (وتشهّده قبل وفاته) فقد قام زعيم حركة «النهضة» الإسلامية، راشد الغنوشي، بنشر تغريدة ينعى فيها تيزيني ويعزي «أهل الفقيد والشعب السوري والعربي في وفاته»، في تعبير يظهر إمكانية التأكيد على الإنساني والسياسي والمشترك بين الإسلاميين وغيرهم حين يتعلق الأمر بالفكر ومواجهة الاستبداد.
هذا جسدي فكلوه!
يثير الموت مشاعر عميقة لدى البشر فهو يذكرهم بفنائهم ويدفعهم لفحص علاقاتهم بالشخص المتوفى، أما حين يكون الميت شخصية عامة فيتحول الموت إلى مسرح لحضور التناقضات والاختلافات البشرية والسياسية والفكرية.
بين أقصى قوسي التناقضات يمكن أن تحضر طقوس التقديس الطوطمية، فيتحول الميت إلى مسيح يقوم تلاميذه بأكل جسده الرمزي، أو إلى الحسين المطالب بإمامته والثأر لمقتله، أو إلى تموز القتيل الساعي لإعادة دورة الحياة والخصوبة؛ كما يمكن أن تحضر طقوس الالتهام والانتهاب (كان موت بعض الباباوات في القرون الوسطى مناسبة لحصول نهب عام لممتلكاتهم)، وتحضر سرديّات أوديب وكاليغولا ويهوذا الأسخريوطي.
يمكن، في وفاة تيزيني، تلمّس بعض آثار هذه الطقوس العميقة الأثر في النفس البشرية. لأسباب تتعلق بالتراجيديا السورية المفتوحة، ولوقوف فكر تيزيني على تخوم أيديولوجيات متعارضة (الماركسية والدين)، ولبقائه في البلاد، رغم معارضته للسلطة (زعم البعض أنه بعثيّ وهو أمر غير صحيح، فيما تحدث آخرون عن شيوعيته) الخ… ليوضع في حقول قد يجدها قارئوه متعارضة، فيطالب عادل محمود بعدم الحوار مع المتدينين، أو تستنتج سوسن جميل حسن من أعماله أن المشكلة هي في المجتمع لا في الاستبداد، أو يعتبره عماد الدين رشيد كافرا، فيما يورد أحمد عمر خبرا عن قريب له عن صلاته وتشهّده قبل موته، وتؤكد ابنته منار تيزيني على الرابطة التي تجمعه بحسين مروة ومهدي عامل، الكاتبين الشيوعيين اللبنانيين اللذين تم اغتيالهما… وفي كل ذلك يعيد السوريون تكرار حروبهم، ويسعى الخيميائيون لاكتشاف وصفة حجر الفلاسفة، فيما يتابع شيطان الاستبداد، بأشكاله السياسية والدينية والاجتماعية، عملية إبادة كيميائية ممنهجة للجميع.
القدس العربي
الطيب تيزيني.. قيامة لـ”الطريق الثالث”/ سوسن جميل حسن
ليست مشكلات منطقتنا التي لا يبخل التاريخ بتقديم نماذج عنها، أو الراهن بما كشف عنه ما سمي الربيع العربي، في الأنظمة السياسية، أو الحكومات العميقة الراسخة التي تعتقل المجال العام في قبضتها، وتدير الحياة بسطوتها متعدّدة الأدوات، بل هناك مشكلة أشد خطورةً وأكثر إلحاحًا لتفكيكها، كي يكون هناك إمكانية نهوض من حالة الانحدار التي نحن فيها، إنها المجتمعات العميقة، تلك التي كشفت الأزمة السورية عن مدى تمكّنها ورسوخها في البنيان السوري، وتم الاشتغال عليها وتغذيتها وتعزيزها هوية بديلة عن الهوية السورية الجامعة.
نادى المفكر السوري، الراحل أخيراً، الطيب تيزيني، بالمشروع العربي في النهضة والتنمية، وصفه بأنه مشروع ثقافي ـ سياسي، بدلاً من المشروع السياسي الثقافي الذي اعتبر أن سمته الأولى مطلبية، تلحّ على اللحظة الآنية بأن تطرح الأقصى في مرحلةٍ لا تحتمل إلاَّ الأدنى، فالنظام يرفض والشعب غائب، ولذلك تبعثرت قوى كثيرة. ولأنه كان يعرف أن في سورية، في العمق منها، مجتمعاتٍ مغلقةً يلفها نظام شمولي، يلقي خيمته متعدّدة الطغيان عليها جميعًا، طغيان سياسي وديني واجتماعي واقتصادي، ليبدو ظاهريًا أن ما يكوّن الشعب السوري المتعدد هو مجتمع متجانس مستقر، فقد كان يركّز على المشروع النهضوي التنويري، نادى بالمشروع الثقافي السياسي كما يسميه، و”انبثقت ضروراته من هذه المرحلة السورية تحديداً، ولكن منذ أن انبثقت تبين أنها ليست مشروعا سوريا، وإنما هو مشروع أمة.. هنالك احتمال وجود انفجارين كبيرين فيها، انفجار طائفي، أو انفجار طبقي ملوث طائفياً، ليس فقط كما حدث في مصر تحت ما سماها أنور السادات انتفاضة الحرامية، وإنما بتزوير الحدث.. وهذا لن يكون انفجاراً يعبر عن الجياع، وإنما سيكون مشكلة طائفية، وهذان احتمالان أراهما بوضوح، إذا كان الحديث
يتعلق بسورية، فليس هذا لأن الشعب السوري طائفي، بل لأن هنالك مسوّغات لمثل هذا الاحتمال”. تصريح كهذا، منشور في موقع البوابة في حوار أجراه معه الكاتب السوري، نبيل الملحم، قبل أكثر من عقد على اندلاع الانتفاضة السورية ومآلاتها الكارثية، لا يمكن إشاحة النظر عنه، بل كان حقيقةً ناقوسَ خطر يقرعه في ضميرنا، وعلى مسامعنا، رجل متبصّر دارس، عارف، نزيه، منتمٍ إلى إنسانية الإنسان، وإلى وطنه سورية، سورية التي بكاها، وهو القامة الفكرية الشامخة في إحدى محاضراته الحاشدة في المغرب، بكاها بدموع القلب وحرقته، بكاها بكاء طفلٍ لم تلوثه مكائد الفكر، ولم يعرف الكذب أو النفاق. لم يزعزع انتماءه إلى سورية كعبُ بندقيةٍ، تطاولت على أهرامات عمره النبيل، وسنينه الطوال، بغضونها العميقة على وجهه.
لم يؤجج الاعتداء عليه، في 16 مارس/ آذار 2011 في اعتصام سلمي في دمشق، ثأرية أو ضغينة كالتي أعمت البصائر لدى بعضهم ممن لم يذوقوا ما ذاق من الاعتداء على كرامته، لكنهم، بين عشيةٍ وضحاها، ترجلوا عن فرس السلطة، وغادروا مواكبها المتنمّرة الموغلة في الفساد والجبروت، ثم ركبوا موجة الثورة، وفرّوا هاربين إلى مراتع الدول الوافرة، يشتمون ويسبون ويلعنون بادعاء الثورة وحماية الشعب، الشعب الذي وحده دفع ثمن نفاقهم وتبعيتهم وارتهانهم، معتبرين أن للشعب ذاكرة السمك وغفران الأنبياء.
كانت مشكلته بالنسبة إلى شريحة من “الثوريين” أن “مشروع النهضة والتنوير يبدأ بفكرة مركزية حاسمة”، كما يقول، “التنوير في مواجهة الظلامية، والإقرار غير المشروط بالتعدّدية بكل أنماطها، والقبول بما ينظم الناس جميعاً، وهو السقف الوطني والقومي الديمقراطي.
نادى بالطريق الثالث، الطريق الذي لا هو صِدام ولا استكانة، هو طريق “تحت سقف التصادم وفوق سقف التسليم” يصلح عنوانًا لمشروعه الفكري، ورؤيته لما يمكن أن يصلح الأحوال، ولو ببطء، في سورية، بدلاً من ذهابها الحتمي إلى المصير الذي وصلت إليه.
لم يكتفِ الطيب تيزيني، وهو العالم في الفلسفة، أن يبقى في حيز التأمل وتفسير الظواهر والواقع، بل انطلق من فسحة التأمل والفكر إلى مسعى التغيير، فوضع خلاصة فكره ونتائج بحثه في عمق التاريخ والراهن، وقدّم خريطة طريقٍ تتطلب نفسًا طويلاً، لكنها أكثر أمنًا وأمانًا، كانت غالبًا ستجنب البلاد المصير المهول الذي وصلت إليه بالصدام، فهو يرى أن المشكلة في الخطاب السياسي أن تكون “لغته صدامية، النظام السياسي لا يحتملها، والجمهور لا يستطيع حمايتها”، فأن “تطرح الأقصى في مرحلةٍ لا تحتمل إلاَّ الأدنى.. النظام يرفض، والشعب غائب” يبدّد القوى ويبعثرها ويجرّ البلاد إلى الهاوية. وهنا لبّ المشكلة التي أدت بالانتفاضة السورية إلى أن تتحول حربا، وتتحول معها القضية السورية إلى أزمة فائقة التعقيد والخطورة، أولى نتائجها، وربما أخطرها، انهيار الكيان السوري، دولة ومجتمعًا، والنكوص بوعيه وحياته إلى مراحل ما قبل الدولة، وانهيار المجتمع، لتنكشف البنى المجتمعية العميقة المتجذّرة التي صارت مهمة تفكيكها أولوية ملحة، ومهمة جسيمة، وفائقة التعقيد والصعوبة.
لم يفقد الطيب تيزيني إيمانه بالشعب، ولم يكن الشعب خارج أطروحاته ومشروعاته المستقبلية التي طرحها إنقاذًا لسورية، لم يدقّ أسافين القطيعة بينه وبين فئات الشعب، مثلما راكم غيره من خطاباتٍ دقت هذه الأسافين بقسوةٍ وشراسة، أسافين محمّاة على نيران الضغينة والفتنة والثأرية، فأضرمت النيران أكثر من نيران البراميل والصواريخ والمدافع، وأراقت دماء أكثر من السكاكين والسواطير المباركة، كان يفهم طبيعة النظام والسلطة، مثلما يفهم طبيعة الشعب، ولديه تصورّه السلمي، من أجل إنقاذ سورية، يطرح مشروعًا لكل السوريين من دون تمييز أو إقصاء “أعتقد بوجود مجموعة ليست قليلة ممن لا يناسبهم هكذا طرح، وهؤلاء من النخب العسكرية والمالية والسياسية، هؤلاء الذين كادوا أن يلتهموا كل شيء، حتى في الحزب الحاكم. أنا أعتقد أن الحزب الحاكم في أي بلد ينبغي أن ينظر إليه على أنه ثلاثة أنساق، الحاكم فعلياً، والرديف الثاني الذي يهيئ نفسه للانطلاق باتجاه النخب الأولى، والنسق الثالث هذا الذي يسوق كل شيء باسمه، وهو لا يملك شيئا، وهذا هو الذي يشعر بمرارة الموقف لأنه مواجه له، ولأنه داخل الدائرة… باسمه تنهب البلاد وهو لا يملك شيئاً… هذا الأمر ينسحب على أنساق أخرى، أنساق بعينها، مجموعات وليست أفرادًا، مثلاً فئة إثنية، المتنفذون يحكمون باسمها فيما من هم في القاع جياع. أنا أعرف أن في البعث ألوف الجياع يحكم باسمهم. وكي لا أبسط المسألة، أقول إن هؤلاء جاهزون لفعل جديد”.
للأسف، تبدّدت القوى التي يمكن التأليف بينها وتوحيدها بتعزيز الشعور بالانتماء إلى الوطن لديها، وكُمّت الأفواه عن أي حديث أو خطاب من هذا النوع، خطاب موجّه إلى السوريين جميعًا، يكسب ثقتهم، ويشعرهم بالمسؤولية أمام مشروعٍ جامعٍ، يتعلق بكرامتهم جميعًا، وبإنشاء دولة تتسع للجميع، ليحل مكانه خطاب التقسيم واحتكار الوطن والوطنية وإقصاء الآخرين، وبقي صوت السلاح الأعلى، وبقيت المعارك في الميدان هي التي تقود الحراك السياسي إلى بازارات العرض الرخيص، تُعرض فيها سورية عارية، جاهزة لاقتطاع أطرافها، وبقر بطنها، واستخراج أحشائها.
الطيب تيزيني يحوّل الفضاء الأزرق إلى لون الحداد، متشحًا بالسواد، ينضح بالدموع، من كل أطياف الشعب السوري وشرائحه. من نعوه يشكلون مروحة واسعة من الموالاة والمعارضة، وهذا يدلّ على حلم “الطريق الثالث” الذي اغتيل في الصدور، يتجدّد رثاؤه والبكاء عليه بموت الطيب. من صمتوا سنوات خلال الحرب السورية ليسوا ضد ثورة شعبٍ مقهور مقموع، وليسوا رماديين كما وُصفوا، إنهم كانوا ينتظرون قطار الطريق الثالث في محطاتٍ دمرها عنف النظام وعسكرة المعارضة وارتهان الأطراف كلها إلى الخارج، وترك البلاد رهينة السلاح والتطرّف الديني والمذهبي والقومي.
رحل الطيب، بكل طيبته وحكمته، فالموت حق، لكن ضميره سيبقى حيًا بما ترك من أفكار ومقولات وكتب وأبحاث. لروحه السلام، ولنا من بعده حسن الختام، نحن من بقينا على مشارف الهاوية، نمسك بلادنا قبل السقوط الأخير.
العربي الجديد
لن أقول وداعاً/ ميشيل كيلو
كنت ألتقي الطيب في فتراتٍ متباعدة، لكنني كنت واثقا من أنه صديقي، مثلما كان صديقا لكل من أراد أن يتعرّف عليه أو يحاوره أو يلتقيه على فنجان قهوة، فالطيب كان متاحا دوما لمن يود أن يجالسه أو يحاوره، بما أن عالمه الخاص كان على قدرٍ من التشابك مع عوالم الآخرين، جعل حياته جزءا منها، وألزمه بوضع فكره في خدمة ما تطلعوا إليه من حريةٍ وحقوق، وبالدفاع عنهم، وعن إيمانه بأنهم يستحقون العيش بشرا لا تنتهك كرامتهم سلطة، أو ينتقص من إنسانيتهم سبب.
لا أعرف إلى أي درجة كان طيب تيزيني فيلسوفا أو مفكرا. أعرف أنه كان هذا وذاك، وصاحب رأي، لذلك لم يتردّد في إعلانه بأكثر الكلمات وضوحا: في جميع المناسبات، وكائنا من كان الذي يجالسه، حافظ الأسد أو أحد بسطاء مخلوقات الله. وكان من رأيه أن السوريين يجب أن يكونوا أحرارا، لا سلطة عليهم فوق أو غير سلطة الحرية، كما تتجلى في سيادة القانون وسيطرة المساواة وحكم العدالة، وانتفاء ما أعادي النظام الأسدي من أجله: الدولة الأمنية التي لم تفته مناسبة مهما كانت عابرة، من دون أن يجاهر بضرورة القضاء عليها، ليصير النظام نظاما بحق، وينتقل من الهمجية إلى السياسة بمعناها الأرقى: الذي وضعها عند أرسطو تحت مفهوم قريبٍ من فهم عربي قديم، ساوى بينها وبين العدل عند تدبير الشأن العام، على أن تتفق وسائله مع غاياته، وتلتزم مثلها بالحرية كخصيصة يتعرّف ويتعين الإنسان بها، وليس بأي خصيصة غيرها، إن أريد له أن يكون إنسانا بحق، وليس عبدا للاستبداد والمستبدين، أعدائه الألداء.
لم يكن الطيب يرى نفسه ودوره بدلالة موقعه أستاذ فلسفة في جامعة دمشق، وفردا نافذا من النخبة المتعلمة، بل كانت تلقائيته تزيل أية حدود بينه وبين الآخرين، بمن فيهم الذين يختلف معهم أو يختلفون معه، وكانت آراؤهم، مهما قست، لا تفسد للود قضية عنده. ومع أنه كان يشعر بالامتعاض من حين إلى آخر، إلا أنه كان يخفي امتعاضه، لاعتقاده أنه ضعف إنساني لا يليق به، وإنه لا يجوز إطلاقا أن ينقلب إلى غضبٍ عليهم. لذلك كنا نتساءل دوما، عندما نلتقي به وكأننا ودعناه قبل قليل: هل قرأ ما كتبناه من انتقادٍ لهذا أو ذاك من كتبه ومقالاته، وكنا على ثقةٍ من أنه لو قرأه لكان غضب كما نغضب نحن، ولظهر ذلك في سلوكه نحونا. كنا، بصراحةٍ، نقيس على أنفسنا، ولم نكن نصدّق أنه قادر على امتلاك درجة الترفّع على الإساءة والتجريح، والتي كان يبديها بتلقائيةٍ تخلو من التصنّع والتكلف تجاه من كانوا يؤذونه في فكره وشخصه.
كان الطيب طيبا بحق، لذلك، لا أعتقد أنه دخل في عراك كلامي مع أحد، أو أساء إلى أحد، أو غلّف آراءه بغمز ولمز بأحد، بل كان، ككل صاحب رأي يحترم غيره بصفته من أصحاب رأي، ويرى في احترامه لهم احتراما لفكرهم وآرائهم، فلا يتطاول عليهم أو يهزأ بهم أو ينتقص من قيمة ما يعبرون عنه من أفكار. بهذه الروح، كان يتعامل مع طالباته وطلابه في الجامعة، ويضع نفسه تحت تصرّفهم في الوقت الذي يريدونه، ويجعل علمه فرعا من علمهم، ودوره جزءا من حاضرهم ومستقبلهم، وكان يفعل ذلك بتواضع محبّ المعرفة الذي يرى إيصالها إلى الآخرين معيار جدارته العلمية والحياتية.
لن أقول وداعا، أيها الراحل الذي زلزلنا موته، كأنه لم يمت أحد غيره منذ وقت طويل، مع أن موته لن يغيّبه عن الثورة التي شارك في صنعها، وسيخلده أيضا دوره فيها.
العربي الجديد
من هو الطيب تيزيني؟ ملاحظات منهجية وإجابة أولية/ حسام الدين درويش
من هو الطيب تيزيني؟ ملاحظات منهجية وإجابة أولية معظم المشيدين به، من مؤيدي الثورة السورية، اختزلوه في المواقف السياسية التي اتخذها بعد 2011
“من هو الطيب تيزيني؟”. هذا السؤال ليس سؤالًا خطابيًّا، بحيث لا يكون بحاجةٍ إلى إجابةٍ، كما أنه ليس سؤالًا استهجانيًّا ساخرًا، قد يطرحه كارهٌ لتيزيني ومستخفٌّ أو جاهلٌ به. السؤال استفهاميٌّ، ويهدف، ليس فقط البحث عن إجابةٍ، وإنما أيضًا إلى إبراز بعض الملاحظات/ البديهيات المنهجية التي ينبغي أخذها في الحسبان، عند محاولة الإجابة عن مثل هذا السؤال، لتجنب عمليات الملأكة أو الشيطنة، التي يقع الكثيرون في فخاخها.
تتضمن الملاحظة المنهجية الأولى التشديد على وجود جوانب مختلفة في شخصية الطيب تيزيني: فثمةٌ تمايزٌ، أو ضرورةٌ للتمييز، بين تيزيني الإنسان أو الكائن الاجتماعي (بوصفه أبًا أو ابنًا أو أخًّا إلخ)، وتيزيني الأستاذ الجامعي، وتيزيني المفكر أو الفيلسوف والكاتب، وتيزيني صاحب المواقف والنشاطات السياسية؛ وربما كان هناك مجالٌ للحديث أيضًا عن تيزيني الأيديولوجي. وعلى الرغم من الارتباط والتأثير المتبادل، بين هذه الجوانب، فإن إدراك تمايزها النسبي، أو التمييز بينها، أمرٌ ضروريٌّ بالتأكيد. وتبلغ هذه الضرورة ذروتها، عند حضور حالات الملأكة والشيطنة، حيث ينبغي نسبنة هذه الحالات وإبراز أنها تتناول غالبًا جانبًا واحدًا فقط، وليس كل جوانب الشخص المعني. وغالبًا ما يكون هناك تباينٌ واختلافٌ بين جوانب الإنسان المختلفة. فعلى سبيل المثال، كان شوبنهاور فيلسوفًا مبدعًا، لكنه كان أستاذًا جامعيًّا فاشلًا، وماركس كان فيلسوفًا عظيمًا، لكنه لم يكن أبًّا مثاليًّا من وجهة نظر كثيرين، وفرنسيس بيكون كان فيلسوفًا مهمًّا، لكن سمعته الأخلاقية لم تكن جيدةً عمومًا،… إلخ.
تتضمن الملاحظة الثانية تشديدًا على ضرورة اتسام الإجابة عن السؤال المذكور بالسمة التاريخية، بحيث تُؤخذ في الحسبان التغيرات التي طرأت على مختلف جوانب هذا الشخص والظروف الموضوعية المحيطة به، والتفاعل بين هذه الجوانب، والتفاعل بينها وبين هذه الظروف. فليس نادرًا أن يشهد فكر المفكرين والشخصيات العامة عمومًا تغيراتٍ كثيرةً وكبيرةً، قد تصل درجة أن تكون جذريةً. ففكر كانط، قبل قراءة هيوم، ودخوله المرحلة النقدية، يختلف عن فكره بعد تلك القراءة وذاك الدخول، والفكر العربي قبل هزيمة 1967 يختلف اختلافًا جذريًّا عن فكر ما بعد تلك الهزيمة. وتبدو ضرورة أخذ البعد التاريخي في الحسبان كبيرةً، في حالة تيزيني، لأن حياته الفكرية امتدت أكثر من 60 عامًا، حصل خلالها كثيرٌ من التغيرات والتغييرات الكبيرة في فكره وفي الواقع المحيط به، من جهةٍ، ولأن منهجه وفكره عمومًا اتسما، دائمًا تقريبًا، بالسمة التاريخية، من جهةٍ اخرى.
تبدو ضرورة الانتباه إلى هاتين الملاحظتين المنهجيتين، في الإجابة عن السؤال المذكور، واضحةً و/أو كبيرةً؛ بسبب عمليات الاختزال التي مورست بحق تيزيني، خلال الأيام القليلة الماضية إثر إعلان وفاته. فمعظم المشيدين به، من مؤيدي الثورة السورية، اختزلوه في المواقف السياسية التي اتخذها بعد 2011، وعمموا أحكامهم على كل جوانب شخصيته، وعلى كل تاريخه الطويل، بلا (أدنى رغبةٍ في) إدراك التمايز بين هذه الجوانب والتغيرات أو التحولات الكثيرة التي حصلت في هذا الإطار. وتجاهل هاتين الملاحظتين، أو الجهل بأهميتهما، إضافة إلى غياب أو ضعف الحس النقدي والنقد الذاتي، هو السبب الأساس الذي أفضى ويفضي إلى عمليات الشيطنة والملأكة، في مثل هذه السياقات. وانطلاقًا من الملاحظتين السابقتين، يكون السؤال: كيف يمكننا فهم العلاقة بين مختلف جوانب شخصية طيب تيزيني عبر سيرورته التاريخية الطويلة؟
https://www.youtube.com/watch?v=PQqawHn-0l0
في الإجابة عن هذا السؤال، أقترح الانطلاق مما أسماه تيزيني، في حواره التلفزيوني مع البوطي، “جدلية التواصل تفاصلًا، والتفاصل تواصلًا”. والفكرة الأساسية في هذه الجدلية هي نفي وجود قطيعةٍ معرفيةٍ أو تاريخيةٍ (تامةٍ)، في السيرورة التاريخية للاختلاف والتغير. ونعتقد أنه من الملائم محاولة فهم كل جوانب شخصية تيزيني، وكل سيرورته التاريخية الغنية، انطلاقًا من الجدلية المذكورة، بدون الزعم بأن حضور التواصل والتفاصل في هذه الجدلية كان متوازنًا دائمًا. فنحن نعتقد أن تيزيني كان يميل غالبًا إلى تأكيد الاستمرارية والتواصل، أكثر من ميله إلى الحديث عن القطيعة والتفاصل.
فعلى صعيد منهجيته، ومقارباته المعرفية/ الأيديولوجية، نلاحظ أنه كان دائمًا (تقريبًا) ضد مفهوم القطيعة المذكور، وضد كل توظيفاته الأيديولوجية. فقد رفض القول ﺑ”المعجزة اليونانية”، وبوجود قطيعةٍ بين الفلسفة اليونانية وما قبلها، وشدد على وجود تواصلٍ واستمراريةٍ ما، بين تلك الفلسفة والفلسفات والأساطير الشرقية التي كانت سائدة قبلها. وعلى خلاف الرؤية الأيديولوجية المنتشرة لدى الإسلاميين، انتقد تيزيني فكرة وجود قطيعةٍ تامةٍ بين العهد الإسلامي والعصر الجاهلي. وعلى نقيض القائلين بالمركزية الأوروبية، تبنى تيزيني رؤية الأفغاني القائلة بوجود تواصلٍ أو استمرارٍ قويٍّ، بين الفلسفة الإسلامية في العصر الوسيط والفلسفة الأوروبية الحديثة. وعلى العكس من التحديثيين العلمانويين الجذريين، كما كان حال صادق العظم في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لم يقل تيزيني بوجوب إحداث قطيعةٍ بين الحاضر/ الراهن العربي والتراث العربي/ الإسلامي، كما قال، مع ابن رشد، بإمكانية التواصل والانسجام والاتصال، بين العفل والنقل، بين الفلسفة والدين؛ في المقابل، لم يقبل تيزيني بأي عودةٍ ماضويةٍ إلى التراث، تتجاهل معطيات الحاضر وشروطه ومتطلباته وإيجابياته، كما كان يفعل الإسلام السياسي السلفي، من وجهة نظره، بل رأى ضرورة اتسام هذه العودة بالسمة التاريخية، لا بالنزعة الماضوية، وبالسمة النقديةً، التي تسمح لها بإظهار معقولية جزء من التراثٍ الذي يمكن البناء عليه، والاستمرار معه، واستبعاد جزءٍ آخر ينبغي قطع العلاقة به، والانفصال عنه.
وعلى صعيد الموقف السياسي من السلطة المستبدة في سورية، والعلاقة معها، نجد هنا أيضًا حضورًا قويًّا للجدلية المذكورة، بين التواصل والتفاصل. فمن حيث المبدأ، كان تيزيني حريصًا دائمًا (تقريبًا) على ان يحافظ على “شعرة معاوية” على الأقل مع هذه السلطة، وكان قريبًا منها غالبًا لدرجة أثارت شبهات و/أو امتعاض كثيرين من معارضي/معادي هذه السلطة، لكنه كان أيضًا، وفي كثيرٍ من الأحيان، منفصلًا عنها، ومنتقدًا لها، إلى درجة أثارت حفيظة رجالات هذه السلطة وشبيحتها. فعلى الرغم من قناعاته الشيوعية، قبِل تيزيني أن يترك “الحزب الشيوعي” وأن ينتسب إلى “حزب البعث”، عندما كان ذلك شرطًا لتعيينه أستاذًا في جامعة دمشق. وحاول تيزيني في السنوات التالية التوفيق بين الاتجاهين الشيوعي والقومي البعثي، وظهر ذلك في نشاطه في منشورات حزب البعث و”مؤسساته الثقافية”. واستنكف تيزيني عن المشاركة في التوجهات الجذرية المناوئة للسلطة، والتي بلغت ذروتها بين العامين 1979-1982، ولم يكن استنكافه ناجمًا عن (مجرد) الخوف من السلطة المستبدة، وإنما كان ذلك نابعًا من قناعته الجزئية بالأيديولوجيا التقدمية لتلك السلطة ومن رفضه الأيديولوجي/ السياسي للإسلام السياسي السلفي، خصوصًا ذاك الذي لجأ إلى التكفير والعنف وحمل السلاح حينها.
وفي التسعينيات، ازدادت درجة انفصاله عن السلطة، وبدأ نقده لها يعلو تدريجيًّا. وازدادت حدة الانتقادات، في العقد التالي على توريث السلطة وانتقالها، من الأسد الأب إلى الأسد الابن. لكن هذا الصوت العالي كان متقاطعًا ومتصالحًا، جزئيًّا ونسبيًّا، مع صوت السلطة نفسها. فالحديث عن الفساد والإفساد والفاسدين المفسدين، لم يكن غريبًا على سلطة بشار الأسد التي رفعت حينها شعار “مكافحة الفساد”؛ كما أن نصوص تيزيني عن “ثلاثية الفساد” كانت تُنشَر في الصحف السورية الرسمية، وهذا يعني أن ثمة قبولًا رسميًّا ما لها. لكن التواصل أو التقاطع بين تيزيني والسلطة بدأ يتلاشى أو يضعف تدريجيًّا، وبدا ذلك، على سبيل المثال، في حديث تيزيني عن “قانون الاستبداد الرباعي” و”الدولة الأمنية” التي حولت الشعب/ المجتمع إلى ما سمّاه “الحطام العربي”. ومع قيام الثورة السورية، بدا لتيزيني أن هذا الحطام قد أصبح حطامًا مفتوحًا على احتمالات عديدةٍ، بعضها إيجابيٌّ جدًّا، مما أنعش آماله التي كادت أن تتلاشى نهائيًّا. وعلى الرغم من ثورية موقف تيزيني وتأييده الكامل والصريح للثورة السورية، فإنه ظل يرفض المواجهة الصدامية الكاملة مع السلطة الأسدية ويأمل بأن تصلح هذه السلطة نفسها بنفسها، وتخضع لمطالب الشعب/ المحتجين أو الثائرين. وعلى هذا الأساس، سعى إلى تشكيل “مجلس حكماء”، وبلغت آماله (أو أوهامه؟) درجة المراهنة على إمكانية وجود حكماء في هذه السلطة. ومع خبو هذه الآمال وازدياد ضعفها لاحقًا، ازدادت مواقفه جذريةً وانفصالًا عن السلطة، وظهر ذلك، على سبيل المثال، في انتقاده الشديد لما أسماه محقًّا ﺑ “الأبدية الأسدية”.
لا يتسع المجال هنا لمزيد من التفصيل في خصوص منظور القراءة/الإجابة المقترحة، لكنني أعتقد أنه يمكن لهذا المنظور أن يسهم إسهامًا كبيرًا في تقديم الإجابة عن سؤال “من هو الطيب تيزيني؟”. وفي انتظار تكامل الجهود التي يمكن أن تقدم هذه الإجابة المتعددة الأبعاد والمنظورات، أرى ضرورة الحذر من اختزال تيزيني في رؤيةٍ أو جانبٍ أو مرحلةٍ ما. وفي الوقت الحالي، وإضافةً إلى الاتجاه الذي يختزل تيزيني في موقفه السياسي، بعد قيام الثورة السورية، ثمة اتجاهٌ يضع تيزيني في خانة “الرماديين” و”الطريق الثالث أو الرابع”، ويزعم بثقافوية فكره السياسي. وإذا كان لظهور هذا الاتجاه ما يبرره في فتراتٍ سابقةٍ، بسبب تركيز تيزيني حينذاك على نقد الثقافة/ التراث/ الإسلام السياسي… إلخ، فمن الضروري أن ينتبه المتبنون، بحسن نيةٍ، لهذا الاتجاه، إلى أن تيزيني قد تخلص تدريجيًّا من كل العوامل التي جعلت نايف سلوم وبعض الكتّاب يتهمونه أو يصفونه بأنه “ثقافويٌّ”. وفي كل الأحوال، من الواضح الغياب التدريجي، ومن ثم التام، لهذه الثقافوية، الفعلية أو المزعومة، لدى طيب تيزيني، في القرن الحالي، حيث حل محلها اتجاهٌ سياسويٌّ يرى أن حصول/ إحداث تغيُّرٍ/ تغييرٍ في بنية السلطة/ الدولة المستبدة هو الشرط الأساسي حصول/ إحداث تغير/ تغيير في الثقافة والمجتمع. ففي تلك السلطة/ الدولة، التي أحالت المجتمع/ الشعب إلى “حطامٍ”، تكمن المشكلة الأساسية والأكبر، وليس العكس، كما يزعم الثقافويون.
المدن