الدولة المدنية وأضاليل السلطة العميقة/ ماجد الشيخ
لا يمكن اختزال الحراك الشعبي والهبات الجماهيرية والانتفاضات الشعبية، أو أي شكل من أشكال التمرد على سلطة النظام الاستبدادي، كون أي واحدة منها أو كلها بمثابة صراع من أجل الاستيلاء على السلطة، مع أن أياً من هذه الأشكال الكفاحية، يمكن أن تنجح بالانقلاب على السلطة أو الإطاحة برأسها الأول. كما حصل أخيراً في الجزائر وفي السودان، ومن قبل في بدايات ثورات “الربيع العربي” بدءاً من تونس مروراً بمصر ومن ثم ليبيا واليمن، مع الفارق بين محطة وأخرى؛ على رغم ذلك تبقى الثورة الشعبية أشمل في منطلقاتها وسيرورة مآلاتها.
الثورة وأهداف الحرية والتغيير، أوسع وأشمل من تلك الرؤى ضيقة الأفق والحدود، التي يقف عندها “أصحاب المغانم” ورواد الشعارات وانتهازيو اللحظة، من نخب عسكرية وأمنية ورواد “التقية” الدينية السلطوية، ومن يدعمهم من أصحاب المصالح والمنافع من قوى النفوذ والهيمنة الإقليمية والدولية، الساعون إلى اقتناص الفرص السانحة وركوب الموجة، وصولاً إلى ما ابتغت وتبتغي قوى الثورة المضادة، ومشايعو الأنظمة الاستبدادية، وبيروقراطيات الرأسماليات الغربية؛ في سعيهم الدؤوب للحفاظ على مصالح “جيواستراتيجية” هامة، يقف في مقدمتها أمن إسرائيل وحماية الثروات الطبيعية، وفي مقدمتها النفط والغاز وطرق التجارة الدولية.
لذلك، أمكن القول أن مسيرة الثورة وسيرورتها، مشروطة بتواصل عملية التغيير، والسعي نحو إحداث أوسع تحولات تاريخية ممكنة، في مجتمعات توقف تطورها عند حد الجمود والثبات وتخلف العقل والفكر السياسي والتهميش، وتحريم استخدام العقل وتجريمه واستبداله بمسائل نقلية، احتكمت وتحتكم بدورها إلى “عقل نقلي” استنسخ ما قبله، وما قبل قبله، وصولاً إلى نوع من الجمود المزمن؛ وها نحن هنا نجلس عند قارعة انتظار طويلة، على أمل تحقيق إصلاحات شاملة؛ دينية وثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية، انفكاكاً من أسر التقليد والتقاليد المزمنة، والأحكام المسبقة والسلطات الجائرة، من أجل الانتقال خطوة نحو تجاوز كل معوقات التقدم والتنوير والحداثة، في إطار صراع القوى المحتدم، القائم اليوم في مجتمعاتنا.
وهنا أمكن ملاحظة الاعتراضات والتدخلات الأميركية والأوروبية الغربية والشرقية، وكذلك الإسرائيلية، في محاولة توجيه حراكات المجتمعات وهبّاتها الجماهيرية، وتحت حجة “دمقرطتها”، جرت وتجري محاولات إفقادها براءتها ورؤاها الخاصة، بما يخدم المصالح التكتيكية والاستراتيجية الخاصة بقوى رأسمال الدولي، على حساب مصالح المجتمعات الوطنية التي تسعى قوى الحداثة والمعاصرة لبنائها وفق مصالحها وتطلعاتها وأمانيها في التقدم؛ وبموجب رؤيتها هي، لا وفق مصالح استتباع خاصة بهذا أو لهذا الطرف أو ذاك.
شكلت معوقات التقدم، واحدة من أهداف تشترك في التصدي لها قوى أساس في الدواخل الوطنية، تقف في مقدمتها نخب المؤسسة العسكرية العليا وقوى دينية وغير دينية، تستمد ديمومة مصالحها من حفاظها على الستاتيكو الآيديولوجي بتزييفاته المتعددة، ومن ثوابت سلطوية مهيمنة سياسية ومجتمعية أهلوية ما قبل مدنية؛ ثقافية وسياسية واقتصادية تسعى لإقامة تحالفات مع قوى في الخارج، كل ما يهمها في سياق العلاقة ببلدان المحيط “العالمثالثي”، الحفاظ على تبعية سياسية واقتصادية شاملة، تعيد انتظام المجتمعات الوطنية على وقع “مركز قائد” ومحيط تابع؛ على رغم الأزمة المالية العالمية غير المسبوقة، التي لا يتوقع لها أن تنتهي في ظل استمرار اختلال السلم الأهلي داخل المجتمعات الوطنية، أو في ظل سلم إقليمي أو دولي مضطرب، في غياب نواظم في العلاقات الدولية؛ التي افتقدت هيمنة قطب أحادي، في وقت لم تتبلور بعد أي مساحة من الهيمنة والتأثير الفاعل لقوى وأقطاب تعددية، يؤمل أن ترث هيمنة ونفوذ الدولة القطبية الأحادية التي مثلتها الولايات المتحدة.
إن غاية الثورة ومآلاتها الأخيرة، كما التغيير؛ مهمة تاريخية، تتسم بإجراء تحويلات وتحولات شاملة، تتلخص في مهمة بناء مجتمع مدني ودولة مدنية تعددية وديموقراطية، تمثل مصالح وتطلعات وأماني شعبها أولا، من دون أن تمتثل لمصالح قوى النفوذ والهيمنة وتطلعاتها، ومن غير انحياز أو تحيّز لمركز سلطوي في الداخل أو الخارج.
وحدها الدولة المدنية التي يؤمل، بل ويجري العمل من أجل أن تقوم على أنقاض دولة العسكر ونخبها البوليسية العميقة، أو صاحبة الآيديولوجيا الدينية أو السياسوية، استبدادية الطابع؛ دولة ديموقراطية مدنية، يمكنها أن تنسجم وأهداف ثورات الاستحقاق التاريخي لشعوبنا، في تخطيها حواجز النهوض الوطني للدولة ومعوقاته، التي أريد لها أن تقوم قيامتها على أسس ديموقراطية تعددية، لا تحتكم لأي آيديولوجيا أو تصورات شعبوية، أو تعتمد أي نوع من التمذهب المرجعي، من حيث الادعاء بانتسابه لما يطلقون عليه “الألطاف الإلهية” المصلحية والمنفعية الخاصة بهم؛ كواحدة من عوامل التزييف الآيديولوجي ليس إلاّ.
وحدها الدولة المدنية التي تنتجها الإرادات البشرية المناضلة، من أجل استعادة هويتها وثقافتها وسياستها ووجودها الوطني الفاعل، في إطارات الضرورة التاريخية، هي التي تستحق الكفاح من أجلها، ومن أجل التخلص نهائياً من كل معوقات التقدم الإنساني ومجده المجتمعي – الدولتي المجسد في دولة؛ دولة مدنية حديثة عصرية ناهضة، تنير دروب التقدم لذاتها ولمن هم حولها، ولا تطفئ حتى شمعة من شموع التجارب والخبرات والفاعلية الإنسانية، باسم التزييف الآيديولوجي الرائج في عالم التديّن الطوائفي المتمذهب، كما في عالم السياسوية المتمذهبة هي الأخرى، وهي تروج لحطام وهشيم الآيديولوجيا السلطوية الأكثر استملاكا واستهلاكا لأدلوجات “المقدس الديني” و”المقدس السلطوي”.
أخشى ما نخشاه اليوم في سياق الطور الثاني من ربيع الانتفاضات الشعبية، أن يعاود العسكر الانقلاب مرة أخرى بالمراوغة والخداع على الثورة وقوى الحرية والتغيير، ومنعها من تحقيق أهدافها، حفاظاً على مصالح جنرالات السلطة العميقة، وعبر إتاحة المجال لاستعادة بعض قوى النظام القديم وتمكينها من مجدداً، أو إعادة تلميع بعض نخب قوى الثورة المضادة، والزج بها في معركة استعادة السلطة العميقة التي بقيت تحيط النظام القديم، طوال أكثر من عهد من عهود الاستبداد السلطوي الذي حكم في كل من الجزائر والسودان، وهما المثالان البارزان اليوم؛ المرشحان لتلقي سهام الخدع وأضاليل عسكرهما وقوى التدين السياسوي، في محاولتهما الحفاظ على “ستاتيكو” الاستبداد في مواجهة حراكات الشعب وقوى الثورة والتغيير، وهي تسعى حثيثا ًللتحرر من قيم الطغيان، وكل القوى التي تساندها؛ بدءا من رأس هرم السلطة، مرورا باحتياطيها العسكري، وانتهاء بتلك الانتهازية والوصولية الدينية التي شكلت على الدوام الاحتياط الرجعي لسلطات الاستبداد العميقة والمباشرة، القابضة على مغانم السلطة.
* كاتب فلسطيني.
الحياة