«الشباب الطاهر البريء» وثقافة روح العصر/ محمد سامي الكيال
اكتسب تعبير «الشباب» دلالات مهمة في الآداب والفنون على مرّ العصور، وارتبط بمفاهيم مثل القوة والعنفوان والعشق والفروسية، أي بحالة الجسد الإنساني في أكثر فتراته صحةً وفتوة، قبل أن يصبح متلازماً مع المفهوم الحديث للتقدم. فقد افترضت الأيديولوجيات الحداثية أن التغيير، وتجاوز الأفكار وأنماط الحياة التقليدية، هو من حتميات حركة التاريخ، وبالتالي تمثل الفئات الأصغر سناً المستقبل، التمرد والتجديد. هكذا أصبح الشباب «روحاً» أكثر من كونه حالة جسدية، وبات من غير النادر أن يتم مدح كبار السن، من سياسيين ومثقفين ورجال أعمال، بالقول إنهم يملكون «روح الشباب». مثل الكثير من المفاهيم الأخرى إذن، أصبحت الصفة الشبابية مقولة سياسية في الشرط الحداثي، وصار للشباب ثوراتهم وحركاتهم السياسية والثقافية.
ولكن تغيراً مهماً طرأ على هذا المفهوم في السنوات الأخيرة، فمع تصاعد سياسات الهوية صار الشباب يعدّون من الهويات ذات الخصوصية في الخطابات الليبرالية الغربية، إلى جانب النساء والمثليين والسود والمسلمين وغيرهم، أي أصحاب منظورات وخبرات لا يمكن ترجمتها إلى لغة عقلانية عمومية مفهومة للجميع. كونك بالتالي خارج الهوية، يجعلك في موقع لا يسمح بالتدخل في مقولاتها أو مناقشتها. هذا الوضع جعل للشباب مكاناً ضمن هرمية الضحايا، في القسمة الثنائية للمجتمع بين جلادين سلطويين وضحايا مطلقين أبديين، فهم ومستقبلهم ضحايا جشع الرجال البيض المسنين وعنصريتهم وتدميرهم للبيئة. خسرت روح الشباب كثيراً من عموميتها ودلالتها على التاريخ، وباتت مقولة فئوية تطالب، كالآخرين، بتمييز إيجابي.
في العالم العربي عرفنا، بعيد فترة الثورات، تطوراً شبيهاً، فبات الإعلام يتحدث عن الشباب «الطاهر البريء»، الذي ركب الأشرار ثورته، واستغلوا مطالبه المحقة. كيف تحول الشباب من متمردين إلى دعاة للصوابية ورمز للبراءة؟ وما معنى صفة «الطهر»، سواء قيلت بشكل مباشر في السياق العربي، أو مضمر في السياق الغربي؟ وما علاقة كل هذا بمفهوم «روح العصر»، الذي مازالت له استخداماته المعاصرة؟
الطهارة الغربية
إسناد المقولات والدعوات السياسية إلى حياة وهوية فئاتَ ضعيفة أو بريئة في جوهرها، هو أسلوب بات شائعاً لكبح النقاش الاجتماعي، وتمرير إجراءات تبدو، بدون هذا الإسناد، مغرقة في لاعقلانيتها وقمعيتها. فيصبح التشكيك أو الاعتراض اعتداءً على وجود تلك الفئات، وعدم فهم لمعاناتها. وبما أن هذه المعاناة وخبراتها غير قابلة للترجمة، كما قلنا، فلن يبقى أمام الآخرين إلا الموافقة على كل ما يدعيه ممثلو الهوية. وهم ليسوا ممثلين منتخبين من قبل أفراد هويتهم، بل هم ناشطون، برزوا نتيجة شبكة معقدة من العلاقات التمويلية والإعلامية والسياسية. نجد هذا في كثير من الميادين، من الهجوم على مبدأ «قرينة البراءة» القانوني، في ما يتعلق بادعاءات الانتهاك الجنسي، مروراً بمسيرات «جمعة المستقبل»، التي يخرج بها بعض تلاميذ المدارس في عدد من الدول الغربية، بتنظيم متين من قوى «المجتمع المدني»، لأجل المطالبة بمزيد من السياسات البيئية، إضافة لبروز الطفلة السويدية غريتا تونبرغ، التي تحاط شخصيتها بهالة من التقديس الإعلامي (فهي طفلة وأنثى ومصابة بالتوحد). وصولاً إلى بعض الدعوات، الجدية أحياناً، لحرمان كبار السن من حق التصويت، باعتبارهم مسؤولين عن كوارث سياسية، مثل البريكست في بريطانيا، الذي سيحطم مستقبل الشباب المرتبط بأوروبا. هل هنالك من يجرؤ على انتقاد معاناة ضحايا الاعتداء، أو براءة الأطفال وأحلام الشباب؟
هذا الأسلوب يفضي حتماً إلى نزع السياسة والديمقراطية، فخيارات الشأن العام أصبحت مرتبطة بشكل لازم بوضع جسدي وثقافي، ما يجعل طرح البدائل والتفاوض حولها أمراً متعذراً. إذا قارنّا هذا الوضع بالثورات الطلابية والشبابية التي انطلقت من فرنسا عام 1968 (وما سبقها من حراك طلابي في تونس)، سنجد أن هذه الحراكات ضمّت تيارات متنوعة ومتعارضة، وصراعات داخلية عنيفة، فكونك شاباً لا يحدد لك خطاباً أحادياً جاهزاً، عليك أن تكرره لتثبت انتماءك الهوياتي. كما أن الحراك الشبابي لم يلعب دور الضحية على الإطلاق، بل اعتبره دوراً مذلاً، وسعى لانتهاك كل صواب سياسي أو اجتماعي مفروض، عن طريق التمادي في تجارب التحرر الذاتي. وأخيراً فإن شبابية الحراك لم تمنع مفكرين كباراً من انتقاده، مثل ميشيل فوكو الذي أدان، وهو كهل، «نمط الحياة الفاشي» لدى كثير من الشباب، بدون أن يتهمه أحد بأنه رجل أبيض عجوز.
هذه المقارنة تتيح لنا فهم خاصة أساسية في ممارسات الأجهزة الأيديولوجية في عصرنا، فعلى العكس من مرحلة الستينيات من القرن الماضي، التي وصلت فيها المؤسسات الانضباطية، مثل المدرسة والجامعة والكنيسة والمصنع، إلى حالة من التكلس والجمود، لم تعد معها قادرة على صياغة الذوات الفردية وضبطها بشكل تام، تبدو أجهزة التحكم والهيمنة في أيامنا في أفضل حالاتها، بعد أن سيطرت على كل الهوامش وسلّعت كل أشكال التمرد. حتى الغضب بات قيمة محببة تشجعها السلطة ووسائل الإعلام. فبتنا نرى أرتالا من «الضحايا»، يعبّرون عن استيائهم كل يوم، بشكل مدعوم وآمن. ورغم كل المظاهر الخادعة، نشهد اليوم بروز جيل هو الأكثر انضباطاً وترويضاً في أنماط حياته وأشكال تعبيره وآفاق تمرده، رغم أنه، إحصائياً، ينال أقل من الجيل الذي سبقه من العوائد المادية، وفرص وحقوق العمل، وإمكانية الاستقلال الاجتماعي والاقتصادي، والحريات السياسية والثقافية الفعلية.
البراءة العربية
نعت «الشباب الطاهر البريء» العربي ارتبط بفهم الثوار لأنفسهم، بوصفهم متعالين على السياسة ودهاليزها، فشباب الميادين والساحات طالبوا دوماً بقيم شديدة العمومية، على القوى السياسة، بل الأنظمة القديمة نفسها، تحقيقها بمعرفتها. وهنا يبرز تناقض غريب: كيف يمكن لقوى ومؤسسات غير نظيفة بطبعها، بوصفها سياسية وأيديولوجية وسلطوية، أن تحقق مطالب هي النظافة بعينها؟
إعلام الأنظمة القديمة فهم هذا بسرعة، وزاود في تمجيد الشباب مع تصاعد القمع السياسي والهجوم على الحريات العامة. فالمظاهر السياسية ما هي إلا تدنيس للطهارة الأصلية واستغلالاً لها، ثم عادت القيم التربوية التقليدية للظهور، مع وصول موجة القمع إلى «شباب الثورة» نفسهم، فباتوا يلامون على براءتهم، بوصفها سذاجة كارثية، مكّنت المتآمرين وأعداء البلاد من هزّ الاستقرار الوطني العتيد، واستجلبت الإرهاب والحروب الأهلية وانهيار الدول. يشترك مفهوما «الشباب» العربي والغربي بكونهما جانباً من أيديولوجيا تعمل على نزع السياسة وطفلنة المجتمع، فهناك يعرّف البشر بوصفهم مجموعة من الضحايا، المتسمين بالهشاشة والمحتاجين إلى التمكين، وهنا يقدمون رعيةً تائهة، معرّضة للافتراس، بغياب الدولة الأبوية الراعية، ورغم أن أجهزة الدولة الأيديولوجية العربية لا تتمتع بقوة نظيراتها الغربية، فقد استطاعت تحقيق الهيمنة، عن طريق إشارتها إلى أفضلية الحد الأدنى من الاستقرار، حتى لو ترافق بالطغيان وانعدام الأمن، وسوء الأحوال المعيشية، على ضرر طموح بالتغيير، لا يستطيع ولا يريد تحقيق هيمنة بديلة.
عودة «روح العصر»
على الرغم من أن مفهوم «الشباب» لم يعد معنياً بتمثيل الروح التاريخية العامة، بعدما أصبح فئوياً، إلا أن الأيديولوجيا النيوليبرالية السائدة لم تتخل عن مفهوم «روح العصر» Zeitgeist، بل بنت نفسها أساساً عليه، فكل ما نشهده من إجراءات وتغيرات، من الخصخصة، إلى تهميش دور المؤسسات الديمقراطية الوطنية، وصولاً لتمكين «الضحايا»، يُقدّم بوصفه تغيرات حتمية تفرضها روح العصر، لا يرفضها إلا المتحجرون، بدون تحديد لماهية هذه الروح: هل هي التكنولوجيا والاقتصاد والتغيرات الديموغرافية التي ستؤدي حتماً إلى وعي سليم؟ أم أن هذه التطورات تقودنا إلى القيامة البيئية، ما يؤدي إلى انبثاق روح مقاومة، ممولة جيداً، لتحقيق مستقبل آمن؟
يمكن للمؤرخين استخلاص «أرواح» للعصور التي يدرسونها، أي سمات عامة تحدد الطابع العام للتطورات والأحداث التاريخية في فترة معينة، ولكن استعمال هذا المصطلح لتحديد الحاضر هو أيديولوجي بالضرورة، يقوم باضفاء طابع من الحتمية على ممارسات سياسية معينة، وإظهار عبثية مقاومتها. وإذا كانت هوية الشباب، وغيرها من الهويات المغلقة، تقدم بوصفها جزءاً من روح عصرنا، فإن نقد الجذور الرومانسية والمثالية لهذا المفهوم، ومعارضته بوقائع مناقضة، قد يكون مفيداً: لكل مجموعة سياسية وخطاب أيديولوجي، تقدمياً كان أو رجعياً، شبابه، ومنظوراته المختلفة للمستقبل. سنجد شباباً لدى اليمين الشعبوي، الحركات الجهادية، التنظيمات اليسارية، المليشيات الأهلية والطائفية، المنظمات غير الحكومية، الخ. بطموحات شبابية متعارضة. كما أن شباب اليوم لن يظلوا شباباً للأبد، وسيتغيّرون كثيراً مع تراكم التجارب والتقدم بالسن. دعك من أن محصلة الصراعات الحالية غير محسومة سلفاً، لأن «روح العصر» مجرد إمكانية اجتماعية، ليس فرضها مُحتكراً لفئة بعينها. لعل استعادة السياسة والديمقراطية الليبرالية، وبنائها حيث لا توجد، هو أسلم طريقة، كي لا يتحول الصراع على «روح العصر» إلى مآسٍ دموية لا يمكن ضبطها.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي