مهدي عامل ومفارقات الدولة المركزية الطائفية/ وسام سعادة
أهمية المفكر الماركسي اللبناني مهدي عامل بين كل الذين كتبوا عن الطوائف والطائفية أنه شَخّص الى مسألتين بالغتي الأهمية.
الأولى انه ليس للطائفة كينونة قائمة بذاتها ولذاتها مفصولة عن جهاز الدولة ومؤسساتها، بل ان الدولة الطائفية هي التي تعيد انتاج الطوائف «المكونة» لها.
الطوائف غير موجودة بالاستقلال عن الدولة، انما بالانخراط فيها. الدولة طائفية مثلما ان الطوائف «مدولتة».
طبعا، بسبب من الحدود الذي يفرضها النسق الايديولوجي الذي كان يتحرك من ضمنه منطق مهدي عامل، لم يكن بامكانه ان يقرّ بأن هذه الطوائف، ولو كان يعاد انتاجها على محك الدولة والسياسة.. والاحتراب والتدخلات الاجنبية، انما هي تنطلق ايضا من وقائع اثنوغرافية، متفاوتة في منسوبها واشكال تبلور ذاكراتها وتخريج وتنقيح سردياتها وصياغة اساطيرها من جماعة الى اخرى، ومن فترة الى اخرى، وان اعادة الانتاج السياسي المتواصل لهذه الجماعات كطوائف «مدولتة» يمرّ ايضا من خلال طمس هذا التفاوت في الرصيد «الاثني» من طائفة الى اخرى. فهم مهدي ان الطائفة لا تشكل لبنة سوسيولوجية قائمة بذاتها، اي ان مدلول كلمة طائفة لا يعني الشيء السوسيولوجي نفسه عند كل طائفة، لكن ما لم يقرّه هو ان كل طائفة تقوم على تركيب يتم بشروط التحديث الكولونيالي المعطوب، والدولتي، لعناصر ما قبل حديثة، ممتدة، لها علاقات متشعبة ومعقدة مع الزمان والمكان.
الامر الثاني الذي توقف عنده مهدي مليا في كتابه عن الدولة الطائفية، وفي سائر نصوصه التي تناولت الموضوع، هو مفارقة ان هذه الدولة طائفية ومركزية في الوقت عينه. لكن مهدي، ايضا من ضمن المنطلقات الايديولوجية والسياسية التي كانت تحدد اطار نظرته، كانت عنده الامور محصورة بين احد خيارين، اما دولة طائفية ومركزية في آن، واما دولة مركزية لاطائفية، «وطنية ديمقراطية»، رغم انه، على صعيد ماركسيته، وبتطويره نموذجا نظريا هو «نمط الانتاج الكولونيالي» الذي يلغي امكانية انبثاق برجوازية وطنية قادرة على التحويل المجتمعي في مجتمع كولونيالي، كان يطعن بشكل او بآخر بامكانية هذه الدولة المركزية الوطنية الديمقراطية اذا كانت مرهونة بتمكين برجوازية وطنية لا يمكن الرهان عليها، بموجب منطق «نمط الانتاج الكولونيالي».
هذا على الرغم من ان كل تاريخ الحزب الشيوعي الذي انتمى اليه مهدي عامل وصولا الى استشهاده على يد «الظلامية» على ما جرت التسمية وقتها، كان تاريخ البحث عن هذه البرجوازية الوطنية، وتقديم النصح والتشجيع والنقد لها.. كان الحزب ينظر الى هذه البرجوازية الوطنية على انها محرك التاريخ في لبنان، ولو حتى في نطاق رص «طوائف وطنية»، اما مهدي فكان يرى الحزب نفسه هو «محرك التاريخ»، الامر الذي يجعله في الوقت نفسه غير نقدي وتبرير تجاه خيارات وسياسات هذا الحزب، ونقدي متطرف له في آن، ما دام يراه الفاعل الاساسي، فيما هذا الفاعل لا يرى نفسه الا كثانوي!
هذه المفارقة ارتبطت بمكابرة على السؤال الاساسي عن الطبقة الاجتماعية القادرة، في حال تخلف البرجوازية الوطنية عن دورها، او تهلهل هذه البرجوازية نفسها، ان تقود الثورة الوطنية الديمقراطية العتيدة. لم يكن مهدي تروتسكيا كي يقول بوضوح منهجي ان الطبقة العاملة تتولى ذلك عوضا عن البرجوازية، وتدغم آذاك بين مهام الثورة البرجوازية وبين مهام الثورة الاشتراكية، لكنه كان «تروتسكيا لاواعيا» يرد هذه السيرورة الى طبيعة كون التحرر الوطني في البنية الكولونيالية هو هو مسار الانتقال الى الاشتراكية.
وكما ان اسهام مهدي في فهم التوليد الدولتي للطوائف يميزه عن كل الانتاج الفكري حول الطائفية، مع انه فهم منقطع عن واقع الحيثيات الاثنية المتفاوتة بين الطوائف، التي تشكل «المادة» و«المادة المتخيلة» التي تجبلها الدولة والحقل السياسي.. والحربي ايضا (والعنف هنا استكمال للسياسة وانقطاع عنها في ذات الوقت). كذلك، فهمه لمفارقة ان تكون هذه الدولة مركزية وطائفية يحتاج الى عدم اختزال البديل الوحيد عنها في دولة مركزية «وطنية» او في دولة لكل طائفة.
وجود دولة طائفية ومركزية في نفس الوقت هو واقع مرير يتولد عنه كل تهافت للسياسة كما للاجتماع. وليس نافلا في هذا الصدد التوقف امام ما وصل اليه هذا النموذج اليوم. دولة مركزية طائفية بقطاع عام ضخم، انما منحازة تماما الى الاوليغارشية المالية، وقائمة على ثنائية سلاحي الجيش وحزب الله، ودولة متفاوتة في حضور القانون وفي الجباية بين مناطقها، مع مركز ضخم هو عاصمة تضم بامتدادها الفعلي نصف سكان البلد، وفوق كل هذا مجموعة من الأجهزة الأمنية المتشابهة تماما في الوظيفة، تارة تتوازى، تارة تتزاحم، تارة تتقاطع، تارة تغار من بعضها البعض، تارة تهيم حبا ببعضها البعض. دولة كهذه أنى لها من الأساس الترشح لأهلية «احتكار الدولة لمنظومة العنف الشرعي» اذا ما استعدنا ماكس فيبير؟
كاتب لبناني
القدس العربي