لا منتصر إلا “الشيطان”.. ولا خاسر إلا الشعب!/ موفق نيربية
على هامش اجتماعات مجلس الأمن الدولي، مؤخراً، قال مبعوث الأمم المتّحدة إلى سوريا غير بيدرسن إن “التعاون الأميركي – الروسي هو المفتاح للدّفع باتّجاه اتّفاق سلام في سوريا”، لكنّه اعتبر أنّه “يجب على حكومة دمشق الموافقة على مجموعة خطوات”. وقال أيضاً “من دون ذلك، فإنّنا نُجازف بما أسمّيه أنا سيناريو “لا حرب ولا سلام “حيث يتواصل تعقّد الأمور، وبحيث لن نرى سوريا جزءاً طبيعياً من المجتمع الدولي في المستقبل”.
وكانت المناسبة هي ما يجري في شمال سوريا: شمال حماة ومثلث جسر الشغور، وشمال سوريا عموماً. حيث لا تأبه أطراف الصراع الدولي- الإقليمي كثيراً بما يجري على الأرض أو في السماء، ولا بما يلحق بالمدنيين من خسائر تقشعرّ لها الأبدان. في حين يمكن استخدام حرارة الميدان لتمرير ما يرغب فيه كل طرف من الأطراف، مغامرين- كما أشار بيدرسن عن حق- بتحويل سوريا إلى دولة فاشلة، حقلاً للتجارب وتجارة الحرب وتوليد الإرهاب والفوضى، وشعباً تتجه عيونه إلى خارج سياج النار والدمار والجوع، الذي يحمل اسم سوريا.
على تلك الأرض، تصطرع قوى عديدة الآن، روسيا وإيران، وروسيا والولايات المتحدة، وروسيا وتركيا، والنظام مع نفسه، و”المعارضات “في ما بينها، والخاسر الوحيد هو الشعب السوري بأفراده المدنيين ومجتمعه المدني وغير المدني، وكيانه الوطني ومستقبله المنظور.
ولم تنضج بعد التناقضات الروسية- الإيرانية. تتّضح يوماً بعد يوماً ولكنها لم تصل بعد إلى العلن المكشوف. ربما يكون هذا بين كل الصراعات القائمة، الأكثرَ إيجابية وتأثيراً في اتجاه الأحداث. ولكن ما نراه على الأرض استمرار لتوازن معيّن لهاتين القوتين، غير متناسب، ولكنه مستمر. ما زال الإيرانيون يعملون على شقِّ ممر دائم لهم من طهران إلى دمشق بطرق عدة أكثرها أهمية لهم في البوكمال وبادية الشام، حيث يزداد وجودهم عن طريق “الحشد الشعبي“ العراقي مؤخراً، إضافة إلى القوى المتواجدة أساساً هناك وفي دير الزور. في حين يبدو أن المعارك التمهيدية قبل التطور الأخير باتجاه شمال حماة في كفونبودة وقلعة المضيق وما بعدهما في مثلث جسر الشغور، ربما تهدف إلى إبعاد إيران عن خط النار، ومن ثَمّ عن طاولة التفاوض القائمة أو القادمة.
ويقول الروس والأميركيون إنهم “مستمرون بالتشاور من أجل التوصل إلى تسوية مستدامة في سوريا”، ولكنهم في الواقع ما زالوا على قارعة الطريق في هذا الشأن، يتبادلون المساخر. فروسيا بوتين تمعن في جشعها، لتحويل معركتها في سوريا، بما أخذته- عن رضى أو انتزاعاً- من وجود على الأرض لا يضاهيه وجود آخر، إلى أداة تكرّس بها تربّعها على الكرسي الثاني في عالم ثنائي القطبية تستردّّه من تاريخ ما بعد الحرب الكونية الثانية. وفي طريقها هذا، تختبر أسلحتها بشكل واسع النطاق، وتدرّب قواتها في فروعها المختلفة، وتجرّب أسلحتها وذخائرها أمام عيون زبائنها المحتملين، وتتمتّع أخيراً بدفء مياه المتوسّط الذي كان يحلم به كل قياصرة روسيا، الملكيون والشيوعيون، في التاريخ. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون رضا اللاعب الثاني- الأكبر والأهم في الواقع- ولا تتحقق المعادلة إلا بوجوده، ولا تقتحم الولايات المتحدة الساحة عن جدٍّ حتى الآن، الأمر الذي يُحنق الروس، ولكنه يُطيل آلام السوريين ومأساتهم أيضاً، ويزيد من انزعاجهم وغضبهم من براغماتية الإدارة الأميركية، وفظاظتها الممتزجة بأسلوب البلطجة أحياناً في السياسة الخارجية.. ورغم ذلك، لعلّ وعسى في رذاذ المواقف مؤخراً ما يُفضي إلى طريق مختلفة، ومن ذلك ما يتسرب عن تطور ومتابعة الاتصالات بين الطرفين بهدف التوصل إلى تسوية القضية السورية.
وما بين الروس والأتراك، الضامنين الكبيرين لأربع مناطق تمّ تعميدها باتفاقات أستانة باسم مناطق خفض التصعيد، وانهارت ثلاث منها تحت ضربات النظام مدعوماً بالطيران والسلاح والنصح الروسي، وتتعرض الثالثة في إدلب وما حولها إلى هجمات وغارات تهدد بانهيار اتفاق سوتشي نفسه، لأنها تجرى حيث اتُّفق على وجود مناطق عازلة أساساً، ويترافق ذلك مع قصف عنيف أعمى، أو يتظاهر بالعمى، للمدنيين والوحدات الصحية في أكثر من مكان، الأمر الذي يدفع بالآلاف من السوريين للنزوح إلى البساتين والعراء، ويهدّد بما قد يسفر عن تحرّك أكبر بكثير نحو الحدود التركية. ذلك كله حقل للتوتر في العلاقة التركية- الروسية، يهدف من قبل الروس إلى تعميق الهوة الفاصلة بين الحكومتين التركية والأمريكية، ومن قبل الأتراك إلى التمسّك بما بقي من أوراق تكتسب أهمية كبرى، من الناحية الجيواستراتيجية إقليمياً،أو من جهة “الأمن القومي”، وربما أيضاً من جهة استعادة الإمساك بالأمور في الداخل التركي ذاته.
أما النظام، فليس على الخط أبداً. يتنازعه اتجاهان: أولهما، وهو الأقوى والأكثر ارتباطاً بما يمكن تسميته بالشبكة الإيرانية، وتعتمد على بعض القوى الأمنية والعسكرية والقيادات الفاعلة، وقوى اقتصاد الحرب التي تعمل على مبدأ الغنيمة، التي تستعجل الفوز بمقدار أكبر منها ومن مفاتيحها المستقبلية، وينظم هذه الأوركسترا مايسترو في الحرس الثوري، يحسب الطرف الأسدي أنه شريك مكافئ له. وثانيهما، ينتمي إلى الشبكة الروسية، بقواها العسكرية التي تعمل مباشرة من حميميم وطرطوس وغيرهما، أو من خلال قوى جديدة كالفيلق الخامس، وكذلك أجهزة وقطاعات تمسك بعنانها بالتدريج. تتحكم الجهة الروسية بالعلاقات الخارجية أكثر نسبياً، والإيرانية بالعلاقات العصبوية على الأرض أكثر من جهة أخرى. وتصطرع الجهتان بأكثر مما يمكن رؤيته مباشرة بكثير، لأن للطرفين مصلحة بإخفاء صراعهما، وإبراز حلفهما أما الخصوم المشتركين. كان لهذا الصراع وقائع هامة مؤخراً في شمال حماة، قبل بداية الفصل الحالي من المعارك.
في الجهة المقابلة تتعارض “المعارضات”. وهذه، لو نظرنا إليها من منظور الاجتماع الأخير قادة الفصائل المشاركة في معارك شمال حماة(كفر نبودة وقلعة المضيق وسواهما) بوجود شخصيات مهمة بدت تدور في فلك الجولاني في تلك الجلسة العربية الأصيلة، مع تركيز العدسة على “هيئة تحرير الشام” التي هي الفصيل الذي لا يدانيه فصيل آخر في القوة والعزم والفاعلية، تلك القوى مع ظهور ما كان مخزوناً من السلاح، وما تدفق من دعم تركي مشفوع برسائل إلى موسكو تعترض على توسيع تلك المعارك إلى حدٍّ لا يٌطاق، أصبحت قادرة على تبادل الهجمات والسيطرة مع النظام، في ظل نشاط أضعف من المعتاد من قبل الطيران الروسي، الذي كان يمكن أن يكون له دور كبير، وربما حاسم.
ولا نرى معارضة مختلفة في الصورة الشاملة- حتى الآن – يحتاج إليها السوريون حتى يشعروا بوجودهم حيث وحين يتقرر مصيرهم، لأن تلك التي بقيت في اسطنبول أو دمشق، أو عواصم أخرى، قد تهلهلت وزاد ارتهانها عمقاً، ومكانتها انفصالاً عن الشعب.. هذا الشعب الذي ما زالت خسائره تتزايد، لأن الجميع يبحثون عن مكاسبهم وانتصاراتهم على حسابه!
المدن