زكريا تامر: أكتب منصتاً فقط للصوت الداخلي
ديمة الشكر
بهدوء لافت يجرّ القاصّ السوري الكبير زكريا تامر، القارئ نحو عوالم شاسعة بقليلٍ من الكلمات. وبقليلٍ من الكلمات، ينقل تامر القارئ من “الإمتاع والمؤانسة” إن صحّ التعبير، إلى التأمّل في الواقع العربي والتفكّر فيه، وصولًا إلى نقد السلبيات فيه.
القصّة التي يكتبها زكريا تامر حادّة وساخرة، محرّضة ومستفزّة، لكن منطلقها الأوّل حبّ وعاطفة نبيلان.
الحي المكان الأوّل
– أريد سؤالك عن الحيّ الذي وُلدت فيه، حي ساروجة وبشكل أكثر تحديدًا البحصة، وكذلك حي عين الكرش الملاصق لحي ساروجة أو إسطنبول الصغرى كما كان يسمّى.
لا يقارن حي سوق ساروجة بحي عين الكرش، فسوق ساروجة هو حي قديم عريقٌ، بينما عين الكرش حي جديد نشأ وتكوّن بعد الأربعينيات، أما حارة البحصة الجوانية التي ولدت فيها، فقد تعرّضت لتبدّل جذري في سكّانها، ففي عهد الأتراك كان سكّان منطقة البحصة خليطاً من المسلمين والمسيحيين والأرمن، وقد اتفقوا في ما بينهم على أنهم جميعاً سوريون، لكن لكلّ منهم عادات وتقاليد مختلفة، فسكن المسيحيون والأرمن في البحصة البرانية، وسكن المسلمون في البحصة الجوانية. البحصة البرانية غير مسدودة، تدخلين إليها من المرجة تقريباً، وتخرجين عند سينما الأهرام، وكانت أغلبية الدكاكين فيها يشغلها أفضل خطاطي دمشق.
أمّا البحصة الجوانية، فقد كانت حارة مسدودة، أي كما يقال حارة سدّ، تشتمل على سبعة أزقة على اليمين والشمال، كلّها مسدودة، وتضم زهاء مائة بيت، وكان كلّ سكان البحصة الجوانية هم من الدمشقيين. البحصة الجوانية كانت قريبة من ساحة المرجة التي كانت في ذلك الوقت هي وسط البلد، فكلّ المظاهرات المعادية للمحتل الفرنسي والسياسيين السوريين المتعاونين معه كانت تنطلق منها، وكلّ أحكام الإعدام شنقاً كانت تنفذ فيها، فيتاح لسكان البحصة أن يكونوا أوّل المتفرجين على الشنق فجراً، ولا أنسى ذلك المحكوم بالإعدام الذي سئل عن رغباته الأخيرة، فأجاب أنه يريد أن يغني، وقعد تحت المشنقة وغنّى موالاً يعاتب فيه الزمان الظالم.
وكانت البحصة الجوانية قريبة أيضاً من أسواق دمشقية مهمة، كسوق الهال المختصّ ببيع الخضروات والفاكهة وسوق العتيق المختص ببيع اللحوم والأسماك والخبز وسوق الزيت في خان البطيخ المختصّ ببيع الزيوت والسمن وسوق التبن المؤلف من جانبين، جانب مختص ببيع الدجاج والبيض والسلال وأطباق القش، وجانب آخر مكتظ بدكاكين السمانة. وكانت البحصة قريبة أيضاً من دور السينما والبارات والملاهي الليلية والدوائر الحكومية وكراجات السفر إلى بغداد وعمان وبيروت.
وهذا الموقع الجغرافي الفريد لحارة البحصة كان يتيح لأي طفل فضولي أن يرى الحياة مكثفة، ويخيل إلي أني تمكنت في سنّ مبكّرة من التعرّف هناك إلى كثير من الحقائق عن الحياة والموت وعن طبائع الناس.
وحارة البحصة الجوانية الآن لا وجود لها، واكتشفت مصادفة في عام 1980 أنها لم تعد موجودة، فقد كنت أنا ومحمّد الماغوط، نذهب من مقهى الهافانا إلى محل شعبي قرب سوق العتيق كي نأكل الفول المدمّس. كان الماغوط يختار طريقًا مختصراً يمرّ بخرابة. وكلّما مررت بها تضايقت نفسياً من دون أن أعرف السبب، وأحاول تجنب المرور فيها. وفي يوم بعد أن انتهينا من الأكل، قلتُ للماغوط تعال معي أريد أن أريك الحي الذي وُلدت فيه. مشينا، لم يكن قد بقي من الحارة إلا بوّابتها، دخلنا، فوجدنا الخرابة نفسها، وكأن جسدي كان يضطرب كلّما مررت فيها لأنها المكان الذي وُلدت فيه.
بدايات القراءة والكتابة
– عند قراءة قصصك الأولى، يصل انطباع قويّ بأن القصة وُلدت لديك “ناضجة” و”تامّة”، أيعود الأمر إلى القول الشهير: تمام الصنعة في إخفائها، أم إلى قراءاتك المبكّرة؟
تركت المدرسة عندما كان عمري 13 عاماً، وبدأت أقرأ من دون أي توجيه من أحد. لم يكن في بيئتي من يقرأ، كانت بيئة فخورة بجهلها. المرّة الأولى التي رأيت فيها كتاباً غير الكتاب المدرسي، شعرت بأني قد سحرت. أظنّ ذلك كان في مكتبة المدرسة. لا أتذكّر إن كان كتاب قصّة أو رواية، أتذّكر الكلمات، الكلمة بجوار الكلمة وكيف عرّفتني إلى مدن ورجال ونساء، فوجدتها سحراً خالصاً. وعندما شرعت في القراءة لم أقرأ الكتب الأدبية فقط بل كنت أقرأ كل ما هو مطبوع، وأجهل السبب الذي دفعني إلى القراءة. أحياناً أضطر إلى الإيمان بأمور وراثية، فأوّل مرة استمعت فيها للموسيقى الكلاسيكية مصادفةً، وكان عمري زهاء 10 سنوات، تذوّقتها على الفور مع أنها كانت صعبة نسبياً، موسيقى لهايدن أو باخ. أستغرب كيف لطفل ابن بيئة شعبية دمشقية أن يتذوّق هذه الموسيقى الكلاسيكية كما لو أنه ابن بيئتها. لا يوجد عندي تفسير لهذا.
– وكيف بدأت الأمور كتابةً؟ أقصد هل اتخذت قرارًا بذلك؟
بدأت الكتابة عام 1958 خاضعاً لرعب حقيقي من القصّة القصيرة، إذ كنت أنظر إليها على أنها بناء شاهق بينما أنا مجرد عامل بناء جاهل لا يتقن إلصاق حجر بحجر. وكنت مؤمناً منذ البداية أنه لا وجود لشيء اسمه القصّة الواقعية بل توجد قدرة الكاتب على إقناع قرّائه بأن ما يقرأه هو واقع وحقيقي، وقد حدث فعلاً، فثمّة قصص ملأى بأسماء الأماكن والشوارع والمدن والقرى والأشخاص، ولكن قارئها لا يقتنع أنها واقعية بينما القارئ نفسه إذا تفرج على فيلم عن الفضاء أيقن أنه واقع في الوقت الذي تؤكد له مداركه العقلية بأن ما يراه ليس أكثر من خيال وتلفيق وكذب.
وكنت مؤمناً أيضاً بأن الكاتبَ إذا لم يقدّم العالم بشكل مختلف، فلا مسوّغ لكتابته، خاصة وأن كلّ الناس يعرفون واقعهم، ولكن الكاتب يقدّم إليهم ذلك الواقع نفسه مضافاً إليه عمل المخيلة، وهذه المخيلة على الرغم من أهميتها وخطورتها هي مهملة ومنبوذة في النتاج الأدبي العربي. وقد تنبّهت منذ البداية إلى أن الواقع نفسه يتبدّل باستمرار، فالشارع الدمشقي في سنة ما سيكون مختلفاً في سنة أخرى، ورأيت أن من الأفضل فنياً أن أقدم المحتوى دون المظهر، ولذا خلت معظم قصصي من أسماء الشوارع والمدن.
وكنت معتقداً أن كتابة القصّة تشبه عمل العديد من الطهاة، فكلهم يستخدم المواد الأولية نفسها، ولكن النتائج تأتي مختلفة، وكل طبق يختلف عن الآخر، فثمة طبق شهي، وثمة طبق آخر مثير للاشمئزاز، وقد حاولت أن يكون طبقي من الأطباق الشهية، ولا أدري مدى نجاحي.
ولا بدّ لي من التأكيد على أني منذ بداياتي لم أتعمّد التجديد بل كنت أحرص على أن أكتب الكتابة الصادقة المعبّرة عما أحسّ به، وعن رؤيتي الخاصّة للحياة والإنسان بعيداً من أية موضة من الموضات الأدبية والفنية والفكرية التي كانت تجتاح الساحة الأدبية وتستولي على الكتّاب. وكنت أحرص بالطبع ألا أكون مقلّداً لأي كاتب، مع ثقتي بأن الكاتب لا ينشأ من فراغ مهما كان موهوباً، وأستطيع القول إني استفدت من كلّ تجارب الكتاب الذين كتبوا قبلي، وكان نتاجهم الأرض الصلبة التي وقفت عليها متأهباً للبدء بمسيرتي الخاصة.
ومن الطريف أني لم أقرأ أي كتاب عن فن القصّة قبل أن أكتب، ولم آسف لأني لو قرأت مثل هذه الكتب لما استطعت الكتابة مثلما كتبت، وقد قرأت كتاباً عن فنّ القصة بعد أن أصدرت أربعة كتب، فاكتشفت أن ما كتبته مخالف لكلّ شروط القصة كما ووردت في الكتاب.
– هل صحيح أن يوسف الخال كان وراء مساعدتك في نشر “صهيل الجواد الأبيض” عام 1960؟
كانت الناقدة الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي معجبة بما أكتبه، وتطالبني بإلحاح بجمع قصصي المنشورة في المجلات والجرائد ونشرها في كتاب، فلبيت ما طلبته، وجمعت القصص، وأعطيتها لها، فقالت لي: اختر دار النشر التي تفضلها، فأنا أعرف جميع الناشرين في بيروت، فاخترت دار شعر لاعتقادي أنها المؤهلة لفهم ما أكتب فنياً. وبعد حوالي أسبوعين اتصلتُ بسلمى العائدة من بيروت، وسألتها عن قصصي. ففوجئت بها تقول لي: لو بقيتُ يوماً آخر في بيروت، لجلبت لك نسخة من كتابك. فقد أعطيتُ المخطوط ليوسف الخال، ونشره فوراً. وهذا صحيح. خبرني يوسف نفسه أنه بعد لقائه بسلمى، شرع في قراءة المخطوط في مكتبه، ثم نهض وأعطى المخطوط للمطبعة التي كانت لا يفصلها عن غرفة مكتبه إلا جدار من خشب.
يوسف الخال مظلوم، فهو داعية إلى الحداثة في كلّ المجالات الشعر والمسرح والنقد والقصة والرواية والرسم والسياسة، وكنت كلّما زرت بيروت حرصت على لقائه، وأذكر أنه في عام 1961 التقيته، وكان برفقته ليلى بعلبكي ولور غريب، فسألني فجأة: ما رأيك في مجلة فصلية خاصّة بالقصّة القصيرة الحديثة على غرار مجلة شعر؟ فامتدحت الفكرة، فقال لي: وأنت ترأس تحريرها، فاعتذرت بحجة أني ما زلت أديباً في أوّل الطريق، فسألني ساخراً: ومن تقترح لرئاسة التحرير؟ فقلت فوراً: جبرا إبراهيم جبرا، فقال: لا إمّا أنت أو لا. فاعتذرتُ ثانية لأنني تهيّبت رئاسة التحرير. كنت في الثلاثينيات من عمري كاتباً جديداً، ومن غير المعقول أن أؤدّي دور “المعلم”، فأجيز للنشر وأمنع. كنتُ منسجماً مع نفسي، فأنا كاتب جديد وأمامي معركة طويلة وطريق صعبة، وعلي أن أعمل لتطوير نفسي. وما زلت حتى اليوم أعتبر نفسي كاتباً مبتدئاً، وأحاول نسيان ما كتبته من قصص.
– أتنسى عن قصد؟
نعم في البداية كنت أحاول نسيان ما كتبت عن قصد، حتّى أبدأ الكتابة كأني كاتب يكتب أوّل نص من نصوصه، لا تقنية معينة ولا تقاليد فنية ولا لغة محددة لأن كلّ كاتب مطالبٌ بالتحرّر من ماضيه الأدبي ومنعه من أن يتحول قيوداً خاصة إذا كان ذلك الكاتب راغباً في التطور الدائم.
القصة وميزان الذهب
– أنت تكتب القصة الأدبية بطريقة خاصّة، فيها شيء من العبرة، ثمة مغزى باستمرار في قصصك، مع أنها فعلًا بعيدة من الوعظ، كيف تستطيع إقامة هذا التوازن الأدنى إلى ميزان الذهب؟
كل شيء في حياتنا يتصف بكونه متضمناً عبرة ما ونوعاً من الحكمة الخفية غير المباشرة، لا وجود في الحياة لما هو مجاني، وأنا أحبّ أن أقول ما أطمح إلى قوله بأقلّ قدر من الكلمات، فاللغة البسيطة القادرة على التعبير عن كلّ ما يتوق الكاتب إلى قوله هي لغة مطلوبة فنياً، ولا يستطيع الوصول إليها كلّ راغب، فهي السهل الممتنع الذي يحتاج إلى معرفة عميقة باللغة وموهبة حقيقية قادرة على تطويعها وترويضها، وفي كلّ قصصي لم تكن اللغة هي عائق يمنع وصولها إلى الناس بل كان محتوى القصص هو الصعب.
وقد يبدو للمتسرع أن تركي المدرسة في سن مبكرة له آثار سلبية، ولكن ما حدث لي كان العكس لأن التعليم إذا كان متخلفاً تحوّل أصفاداً. كنت في بداياتي أقرأ كلّ ما هو قادر على إمتاعي وتثقيفي بغير أن أكترث للأسماء سواء أكانت مشهورة أم مغمورة، وبدأت أكتب بغير موجه، منصتاً فقط للصوت الداخلي الذي كان يحضّني على الكتابة. ولعل هذا ما أدّى بي إلى أن أكتب قصّة مختلفة لا تحترم ما يسميه النقاد بقواعد كتابة الفنّ القصصي. وثمّة أدباء عرب أضاعوا أعواماً كثيرة من عمرهم بغية التحرر من المفاهيم الرثة التي غرستها فيهم المدرسة والجامعة والأسرة المتسلطة.
– في أسلوبك تمزج الوهم والمتخيل بالواقع، وتمزج المنطق باللا منطق. المفارقة حاضرة، وكذلك السخرية والقسوة. هل هذه عناصر القصّة الناجحة برأيك؟ كيف تحكم على قصة بأنها ناجحة؟
لست ناقداً، لكن كلّ كاتب يحاول أن ينقل إليك شيئاً معيناً عن البشر والأمكنة. حين يكون ناجحاً في تصوير ذلك، ويصل إلي أنا كقارئ، لا يعود مهماً إن كان حداثياً أو تقليدياً، وأنا من أشدّ المعجبين بالقصص القصيرة التقليدية لعبد السلام العجيلي.
أحياناً يكون للإصغاء للنقد جانب سلبي حين لا يعرف الكاتب ماذا يريد، فلو مدح النقد اللغة الشعرية لكاتب ما، فإنه لا شعورياً سيركّز على اللغة الشعرية، وبالتالي لن يكتب ما يريده هو بل ما يريده النقاد، وإحدى الكاتبات ولن أذكر اسمها مدح النقاد كثيراً لغتها الشاعرية، فركّزت عليها إلى درجة أن تحوّلت كتابتها إلى نوع من الطلاء الخارجي الذي لا علاقة له بالمضمون. من غير الممكن الكتابة بلغة واحدة متوترة ومشدودة لمشاهد مختلفة، فمثلًا يوجد لغة للذي يصعد درج المشنقة غير تلك التي للذي يصعد درجاً للقاء حبيبته مثلًا. يجب أن يكون لدى الكاتب حساسية ترشده إلى الفرق بين الدرجين.
– وهل تزعجك الأخطاء اللغوية؟
تزعجني جداً، وأترك الكتاب فوراً، وقد اقتنيت كمية كبيرة من الروايات المترجمة، ولكني لم أتمكن من قراءتها لكونها ملأى بالأخطاء اللغوية الفاحشة، ومن المؤسف أن ثمّة نقاداً باتوا يلومون دور النشر حين تنشر كتباً من دون أن تصحح لغتها، ولا يلومون مؤلفي تلك الكتب كأن الكتابة بلغة سليمة ليست من الصفات الحالية للكاتب المعاصر.
– ثمة من يبدأ بكتابة القصة القصيرة، ثم ينتقل إلى كتابة الرواية، كما لو أن القصّة تدريب على الرواية؟
هؤلاء ليسوا مؤمنين بالرواية كلون بالغ الأهمية من ألوان التعبير الأدبي، بل هم ينتقلون إلى شكل أدبي يتيح لهم الثرثرة الكتابية بعد عجزهم عن كتابة القصّة القصيرة التي هي فنّ الإيجاز حيث كلّ كلمة في مكانها.
– أي أنها تشبه الشعر؟
حين يبتعد كاتب القصّة عن السطح ويحاول التغلغل في الأعماق لا بدّ له من اللجوء العفوي إلى الشعر، أما إذا كانت القصّة تتناول موضوعاً فاجعاً، فمن المؤكد أن لغتها ستكون آنذاك دقيقة مكثّفة وشبه محايدة، لأن الشعر إذا استخدم في تلك الحالة تحوّل إلى مخدر لعقل القارئ وإحساسه، ينقله من التحريض على هدم عالم مظلم وفاسد إلى الندب الغنائي.
وسأزعم أني أكتب القصّة بلغة مكثفة مختصرة معبرة بعيدة من الثرثرة، وبعيدة أيضاً عن الإنشاء الجديد الحديث الذي حل محل الإنشاء المنفلوطي.
– إخلاصك للجنس الأدبي القصّة من أجل تلك “اللغة المكثّفة المختصرة المعبّرة”؟
أنا فخور بأني أكتب القصّة القصيرة التي أعتبرها أصعب نوع من أنواع التعبير الأدبي، وأنظر إليها على أنها الجنس الأدبي المظلوم الذي لا يحظى حالياً بما يليق به من مكانة وتقدير، فالقصة القصيرة إذا كان كاتبها موهوباً استطاعت الاستفادة من أفضل المزايا التي تمتلكها الرواية والمسرحية والشعر والموسيقى. ويخيل إلى أن القصة القصيرة شديدة الشبه بسكين، يستخدمها الكاتب الرديء في تقشير البطاطا بينما الكاتب الجيد قد يستخدم السكين ذاتها لقتل نمر.
– على ذكر النمر، في قصّتك الشهيرة “النمور في اليوم العاشر” ثمّة ما لفتني؛ بطل القصة نمرٌ واحد، وفي العنوان نجد “النمور” بصيغة الجمع، بدا العنوان كأنه إشارة إلى إمكانية تعميم حالة النمر، هنا أحس تماماً أنك تكتب قصة على شكل حكاية ذات مغزى.
لا، لأنه في نهاية القصة يصير النمر مواطناً في مدينة. أنا أتحدّث عن مواطنين في مدن.
– لكنك وضعت العنوان بعد كتابة القصة لا قبل؟
صحيح. لكني عندما كتبت تلك القصّة لم يخطر في بالي أن يكون النقّاد جاهلين إلى هذا الحدّ، إلى درجة أنهم لا يعرفون ما هو معروف عن طبائع النمور، فالنمر هو الحيوان الذي لا يمكن ترويضه، وإن رُوض، فترويضه مؤقت، وحين يقدّم النمر عروضه في السيرك، يوجد دائماً رجل يحمل بندقية متأهباً لقتل النمر إذ لا يمكن معرفة متى يعود النمر إلى طبيعته كنمر. لذا اتخذت النمر رمزاً للشعب، لأقول للحاكم ألا ينخدع بالشعب الذي يبدو خانعاً مطيعاً لأنك لن تعرف في أية لحظة سينتفض ضدّك.
– هل تتيح التجربة الطويلة في الكتابة والمراس الراسخ في الكتابة، سهولة أكبر؟ أم على العكس؟ هل من الممكن أن تحس كأنك تكرّر قولًا سبق وكتبته؟ وكيف تعمل على النصّ تنقيحًا وتصحيحًا؟
كلّ قصّة من قصصي تتكوّن تكويناً مختلفاً. قد أكتب قصّة كاملة في يوم واحد، ولكني أظل شهوراً أنقّحها وأضيف إليها، وأفكر في كلّ كلمة من كلماتها متسائلاً: هل وجودها ضروري؟ أليس من الأفضل أن تستبدّل بكلمة أخرى؟
حتّى الفواصل والنقاط أفكّر فيها التفكير الطويل، وعندما أنشر قصة وتخطئ المطبعة وتضع فاصلة بدلاً من النقطة أشعر بالخجل من القرّاء كأني اقترفت ذنباً لا يغتفر. وحين أقتنع بتغيير ما في أحداث القصة ومفرداتها، يتمّ التغيير بسرعة وسهولة ويسر.
– أي لديك مخزونٌ لغوي كبير؟ بسبب قراءاتك ربّما؟
لا، لا يعود الأمر إلى المخزون اللغوي، بل إلى المخزون من التجارب الحياتية.
عادات ودوافع
– هل تكتب يومياً؟ ما هي عاداتك في الكتابة؟
الكتابة بالنسبة إليّ هي شديدة الارتباط بالحركة الجسدية، فما إن أتحرّك حتى تتحرّك أيضاً قدرتي على التفكير والكتابة. كما أنها مرتبطة بإحساسي بأني موجود بين الناس.
في دمشق، كنت أكتبُ وأنا أسير في الشوارع أو أنا جالس في مقهى أو مطعم، فحين أكون محاطاً بضجيج الناس تزداد قدرتي على التركيز وأستطيع الكتابة بسرعة وسهولة، ويتحول ذلك الضجيج إلى ما يشبه الموسيقى التصويرية المرافقة لأحداث فيلم من الأفلام. أما في بريطانيا، فقد تعوّدتُ الكتـــابة في الباص والقطار، وكتاب “سنضحك ” وكتاب “الحصرم” وكتاب “تكسير ركب”، كتبتُ معظم قصصهم في القطار بين أكسفورد ولندن. وإذا اضطررت إلى الكتابة في البيت بسبب سوء الأحوال الجوية، فإني أكتب بعسر وبطء شديد. أكتب المسوّدة الأولى للقصّة بخط اليد في زهاء ساعة واحدة ثم أنقلها إلى الكومبيوتر حيث يتمّ طوال أيام أو أسابيع أو أشهر التنقيح والتعديل والصياغة الأخيرة. وقد تعوّدت ألاّ أفكر مسبقاً في ما سأكتبه، ولا أفكر في القصة إلاّ لحظة أمسك القلم وأتأهب للكتابة.
– من يقرأ القصّة قبل نشرها؟
القارئة الأولى هي زوجتي ناديا. وأنا أثق بملاحظاتها، ويسرني الإنصات لها، وأطلب أحياناً عونها بإلحاح، فعندما كنت منهمكاً في تأليف كتاب “سنضحك”، جلبتُ قاموساً، ورجوتُ ناديا أن تغمض عينيها، وتضع إصبعها على أية كلمة. كانت تفعل، وآخذ الكلمة، فأبني قصّة عليها. وكانت في بعض الأحيان تغش ولا تغمض عينيها، وتحاول العثور على كلمة صعبة لا يمكن بناء قصة عليها، لكنني كنت أكتب القصّة المطلوبة.
– ما الذي يدفعك إلى الكتابة؟ وما الذي يحفزك؟
بعد صدور كتابي الأوّل تحدد مصيري عفوياً، ولم يعد لدي في الحياة ما أفعله سوى الكتابة، ولا أعرف ما الذي يحفّزني، أنا مثل آلة مبرمجة تعمل بلا توقف (ولكنها تتوقف في أثناء المرض). ودافعي إلى الكتابة هو ذاتي، فأكتب كل ما أريده غير طامع في شهرة أو مجد أو منصب ومن دون أن أبالي بآراء النقّاد لاعتقادي بأن الكثير منها بعيد عن الصواب، ففي الستينيات انتقدني ناقد عربي بحجة أني استورد مشكلة الآلة من الغرب زاعماً أن الوطن العربي لا وجود فيه لمثل هذه المشكلة، وزعمه باطل لأن عمّال النسيج اليدوي في سورية أعلنوا الإضراب في عام 1936، وحطّموا آلات النسيج الآلي، وفي عام 1952 كان يوجد في معامل دمشق آلات تعمل وحدها ولا تحتاج إلى عامل. وما قاله الناقد عني سطا عليه نقّاد آخرون، وبات الخطأ الناتج عن جهل بالواقع حقيقة ثابتة كأنها الليل والنهار.
وحتّى كبار النقاد الغربيين يرتكبون أخطاء شنيعة، فثمّة رواية لأرنست همنغواي هي “عبر النهر نحو الأشجار” أجمع النقّاد الأميركيون على أنها من أضعف أعماله، لكنني أجدها من أروع أعماله. يخيّل إلى قارئها أنها مليئة بالحشو، لكنها ليست كذلك على الإطلاق، هي قصّة رجل يتعرض للعديد من النوبات القلبية، وينجو منها، ولكن الأطباء يحذرونه قائلين إن النوبة القادمة هي قريبة ومميتة، فيرافق فتاة تحبّه، ويعيشان معاً، ويذهبان إلى المطاعم والحدائق والمقاهي والبارات. يصف مثلاً وجبة الهامبرغر بإسهاب ممل، لكنك حين تربطين ذلك الوصف بسياق الرواية، تجدين أنها قد تكون آخر وجبة هامبرغر سيأكلها. هذه الرواية هي نشيد ملحمي مكرس لتوديع الحياة ومتعها الصغيرة ومسرّاتها. النقاد قرأوا الرواية قراءة سطحية، وأصدروا عليها حكمهم الظالم.
على العكس من ذلك، ثمّة إجماع على مديح رواية غابرييل غارسيا ماركيز “وقائع موت معلن” بوصفها تصويراً ناجحاً لعدم الاكتراث في القلب البشري، ولكني رأيتها رواية رديئة ساذجة تصوّر معاقبة المذنب والمسيء على أنها جريمة نكراء متناسية ضرورة تطبيق العدالة خاصة وأن كلّ الأديان والشرائع تحضّ على معاقبة المذنب وتطالب بها.
لا حصانة
– لكن لا عدالة اليوم أبداً، وكثير من المجرمين يفلتون من العقاب.
إذا أفلت المجرمون من العقاب، فهذا ليس مبرراً كي لا نؤمن بالعدالة ونسعى إلى انتصارها.
– هل تملقت حاكماً عربياً؟
فنّ التملق والمديح له فرسانه وأبطاله، وأنا لست واحداً منهم، ولن تعثري في كلّ كتاباتي منذ عام 1958 وإلى اليوم على كلمة مديح واحدة قلتها عن نظام ما أو حاكم ما. كتبت في جريدة القدس العربي مدّة 6 أو 7 سنوات، زاوية يومية ملأى بالنقد والهجاء، ما عدا زاويتين، واحدة عن محمود درويش وأخرى عن ألفت الإدلبي، والباقي كلّه هجاء للتخلّف المهيمن على حياتنا العربية.
أحياناً أتعرّض لانتقاد سببه أنني كتبتُ في الجرائد الرسمية السورية، مع أن المقالات التي نشرتها في جريدة الثورة عام 2007 أكثر جرأة من تلك التي نشرتها في القدس العربي في التسعينيات. هذا الانتقاد أنظر إليه على أنه أوّل ملمح من ملامح التفكير الداعشي، ففي سورية الجرائد للحكومة والتلفزيون للحكومة ومؤسسة السينما للحكومة. أين سينشر الكاتب؟ أنا مسؤول عمّا أكتب لا عن مكان ما أكتب.
– لكنك كاتبٌ كبير، واسمك يعطيك نوعاً من الحصانة؟
لا غير صحيح، الكلّ يستطيع كتابة ما يشاء من دون أن يتاح له طبعاً أن ينشر ما يشاء. منذ عام 1963 لم يملِ أحد عليّ ما أكتب. أقصد لم يقل لي أحد اكتب عن كذا أو كذا. ثمة من يكتبون مديحاً للحكّام ويقولون: طلبوا منّا.. كتبنا مرغمين، وقولهم كاذب الكذب المفضوح، فهم قد اختاروا النفاق والتملق وسيلة للحفاظ على مصالحهم الخاصة واقتناص المزيد من الغنائم.
أما الحصانة التي تشيرين إليها، فلا وجود لأية حصانة لأي كاتب حين يقترب من تناول ما هو محظور. في السبعينيات، كنت والماغوط نتناوب على كتابة زاوية يومية في جريدة ” تشرين”، فصدر أمر من رئاسة الجمهورية بمنعي من الكتابة في الصحافة السورية بذريعة أني أسأت إلى شاه إيران وزوجته، وفي الثمانينيات كتبتُ افتتاحية لمجلة “المعرفة” الصادرة عن وزارة الثقافة، وكنت أرأس تحريرها. كانت الافتتاحية مأخوذة بكاملها من كتاب عبد الرحمن الكواكبي “طبائع الاستبداد”. انتقيت من الكتاب مقاطع غير شائعة تحض على رفض الذل. بعد تسليم الافتتاحية لمطبعة المجلة، ذهبت إلى بيروت لارتباطي ببعض الأعمال، وحين عدت منها قالت لي زوجتي: ارجع من حيث أتيت، فالمخابرات تسأل عنك، وقد أقالوك من عملك، وسحبوا ما بقي من أعداد المجلة من السوق. كانت مجلة المعرفة توزّع وقتها 7000 نسخة، ولم تسترجع المخابرات أكثر من 300 نسخة.
زكريا المحرر
– تخيّل أن رقم 7000 نسخة يبدو كبيراً لمجلة ثقافية بالنسبة لأرقام اليوم! وأتذكّر أنك خبّرتني أن مجلة أسامة كانت تطبع 18 ألف نسخة، وحين تسلّمتها أنت غدت تبيع 45 ألف نسخة. ما السرّ؟ ما الذي تغيّر؟
ما تغيّر اليوم هو أن مسؤولي المنابر الثقافية ليسوا أكفّاء وغير مخلصين لمهنتهم، بينما كان العاملون في الصفحات الثقافية في الستينيات يتباهون بكونهم أوّل من نشر نبأ عن صدور الكتاب الفلاني وأوّل من نشر نقداً للكتاب العلاني، أما الآن، فلا أحد ينشر خبراً عن كتاب إلا إذا كان مؤلفه صديقاً له. ما تغير اليوم هو أن الدخلاء الذين يرتدون ثياب الأدباء والمفكرين والنقّاد اجتاحوا الحياة الثقافية العربية، واحتلّوا الكراسي التي لا يحق لهم الاقتراب منها، كأن انتماءهم السياسي والحزبي هو قيمة أدبية وفنية.
وما تغير اليوم هو أن القارئ العربي يثبت ذكاءه ووعيه عن طريق رفضه لنتاج ثقافي مسخٍ، ولصحافة تباع وتشترى ولكتاب مهرجين لا يتقنون التهريج.
– وأنت لك تجربة كبيرة في الصحافة الثقافية، فقد عملت لسنوات محررًا ثقافيًا ورأست تحرير بعض الدوريات الثقافية وأدرت بعضها، آخرها مجلة الناقد المميزة. بصمتك واضحة في التحرير.
كلّ المجلات التي عملت فيها كانت رسمية أو شبه رسمية، أما مجلة “الناقد”، فقد كانت أوّل مجلة خاصة أعمل فيها. وكنت أعتقد أن مسوّغ صدور أي مجلة أدبية هو إتاحة الفرصة لأصحاب المواهب الأصيلة، ولذا لم أكن أبالي باسم الكاتب بل أركّز على ما قدّمه من نتاج. الأديب الكبير هو صاحب المادة الجيدة. كنت أحرر كلّ مواد المجلة تقريباً، أقرأ كل نصّ وأصححه، وحين أجيزه للنشر، فالشرط الأوّل هو أن يتوفر فيه مقدار كبير من الجودة. كنت أصحح اللغة، وأغير العناوين أحياناً كي تكون أكثر تعبيراً عن النص وجذابة صحفياً.
بالنسبة للرسوم في “الناقد”، فقد اتبعت أسلوباً سبق لي أن استخدمته في دمشق إبّان عملي رئيساً لتحرير مجلة للأطفال اسمها رافع، وكانت مجلة أسبوعية. وبسبب ضيق الوقت، كنت أذهب إلى الرسام، وأطلب منه أن يرسم ما يحلو له. بعد ذلك آخذ الرسوم، وأكتب القصص المطلوبة مستلهماً تلك الرسوم. كنت أكتب المجلة كلّها وحدي تقريباً بما في ذلك صفحة التسالي، كان الشاعر سليمان العيسى يساهم كلّ عدد بمادتين، وأنا أكتب باقي المواد كلّها. هذه الطريقة التي نشأتْ بسبب الحاجة هي التي اتبعتُها في الناقد، كنت أقول للرسّام أيضاً ارسم كلّ ما يخطر في بالك، ثم أختار أنا الرسم الصالح لكل نص لكوني قرأت النصوص جيداً ولي خبرة في تآلف النص مع الرسمة، وكان كتّاب “الناقد” يتبارون في التعبير عن دهشتهم وإعجابهم بقدرة رسّامها على الفهم العميق لنصوصهم.
– السؤال الأخير، هل لديك كتاب جديد؟
– لدي كتاب جديد، وقد صدر عن دار جداول في بيروت، وعنوانه “أرض الويل”، وهو مجموعة مقالات أظن أنها مكرّسة لهجاء الطغيان والطغاة.
العربي الجديد
تعليق واحد