تمثيليات من غير كاميرا/ أحمد عمر
المهن الغريبة كثيرة، إحداها “النوّاحة”. والأجر طيب، سبعون دولاراً في ساعتين، والشركة بريطانية، وهي مهنةٌ عراقية مألوفة وقديمة، لأن العراق أرض السواد والدماء والدموع والبكاء وتموز والشهيد الحسين. مهنة “المُعانق” أكرم أجرها أكبر، وقد يعانق المعانق حسناوات مثل البدر في تمامه، ومهنة “حاجز الدور”، وهي معروفة في بلادنا، لأنها بلاد انتظار المهدي المخلص الذي حلّ محله الممثل، الممثل هو البطل، أبطالنا أكثرهم ممثلون، وهناك مهنٌ خشنة، مثل “شمّام الأفواه”، و”شمّام الآباط”، ومهنة بريطانية اسمها “مُدفئة الفراش”، وهي متصلة بمهنة المسّاج الفليبينية، فلا بأس من سوء الظنّ. طار خبرٌ قطّع نياط القلوب، وشقَّ الجيوب، عن موظفٍ ينال عشرين ألف دولار في الشهر في مقابل تبديل مصابيح برج أيفل وتنظيفها، وأظنها مهنةً غير صعبة، وأجرها كبير، ولو كانت نزولاً إلى بئر لخُشي منها.
كانت هذه مقدمة للحديث عن خبرٍ طارت به وكالات الأنباء عن مهنة جديدة في اليابان، أطلقتها شركة “فاميلي رومانس”، مؤسسها شاب اسمه أشي، بعد أن طلبت منه صديقته مصاحبتها وطفلها إلى المدرسة، لأن شروط التسجيل تستوجب حضور الوالديْن، فأعجبته الفكرة، فأسّس شركة غايتها تأمين الأواصر الإنسانية المفقودة، تجاوزاً: محل قطع تبديل عائلية ولوازم ِأسرية وأكسسوارات أهلية؛ أبناء، بنات، آباء، أمهات، أجداد، خالات، عمات.. ذكر مدير الشركة أنَّ الأب هو الأكثر مبيعاً في “شباك تذاكر الأرحام الصناعية”، لكثرة الأيتام في المجتمع الياباني المعاصر. ومثله المجتمع الأوروبي، بسبب كثرة حالات الطلاق التي تبلغ مائتي ألف سنوياً. الأيتام في سورية أكثر بسبب دعوى طلاق رفعها الشعب السوري ضد الأب القائد الذي اغتصب الأم.
تصلح فكرة أشي لفيلم كوميدي. وقد ذكر الخبر أنَّ الشركة تقدّم آباءً، حسب الرغبة والطلب؛ أباً صارماً للعائلات المتفلّتة، أباً حنوناً للعائلات المتجافية، أباً أنيقاً للعائلات الراقية… وعلى الأب الذي طرأ حديثاً على حياة الابن أن يبرّر له غيابه الطويل، بقصة معقولة، والقصة الأصعب هي لحظة انتهاء المهمة الخالدة؛ وداع الأب ابنه. بعد انتهاء الدور الذي يمثل بعيداً عن الكاميرا. وقد باع أشي صِلاته وقراباته، كان في أكثرها أباً بمختلف الأحوال والصفات.
تروي قصة “الزوار” ليوسف إدريس حكاية المريضة سُكينة التي تختلس أقرباء مصمص، حتى تصير أقرب منها إليهم. في التعريفات الماركسية، الإنسان أثمن رأسمال، وروى فيلم “العازب” الذي مثّله شامي كابور في الستينيات حكاية شاب يتبنّى الأطفال الأيتام المشرّدين، ويهديهم إلى عائلات محرومة من الخلفة، وهم في الهند بالملايين.
وكانت سورية قد أسست مؤسسة أبناء الشهداء، أبوهم هو الأب القائد الذي صار أباً للشعب السوري، فكأنهم كلهم شهداء؛ آباءً وأبناء. وكانت تُروى طرفة عن راتب الرئيس وثروته، فقيل إنه كبير بسبب التعويض العائلي لكثرة أبنائه.
يبحث الشعب، العربي عموماً والسوري خصوصاً، عن أبٍ رحيم، وقد تعب من تمثيل دور الابن المحبّ لمغتصب أمه وبيته، فتبادلت صفحات التواصل صور آباء سياسيين يتّصفون بصفاتٍ لا يجدونها في آبائهم المغتصبين، مثل رئيس أوروغواي السابق الرحيم العطوف، خوسيه مونيكا، والرئيس التركي، أردوغان الذي يتلو القرآن بتجويد وتحبير، وهي صفة مفقودة في آبائنا الزعماء، ورئيسة سنغافورة حليمة يعقوب، والرئيس الماليزي مهاتير محمد الذي رفض استقبال الفريق الإسرائيلي الرياضي، وطاف حول الكعبة من غير حرس رئاسي.
يُقال إنَّ السياسة ضد الفراغ، وقد زحفت الرياضة إلى السياسة، فكان العربي المخذول في السياسة والرياضة والدين يبحث عن أندية رياضية يمحضها حبه وفؤاده، فيتبنّاها كعقيدة ويخاصم بها، ما دامت السياسة محرّمة، ويزرع أعلام فرقها فوق بيته كأنها أعلام وطنية، تعويضاً. ونقلت وكالات الأنباء خبر أثر الفراشة الذي أحدثه لاعب الكرة اللامع المصري، محمد صلاح، بين محبي نادي ليفربول، فخفّتْ نزعات الإسلاموفوبيا العدوانية في بعض أحياء بريطانيا، وهذا أمرٌ مبشّر، لكن محمد صلاح لاعب كرة، وليس محمد صلاح الدين الأيوبي. وكان سبب الثورات الأول أنَّ الشعب تعب من التمثيل. الحرب خدعة، لكن من المحزن أن تكون الحياة كلها تمثيلاً وخدعة.
العربي الجديد