الحوت العائد إلى حلب/ عمر قدور
بدا كأن سلطة الأسد وجهت ضربة معنوية مظفّرة عبر إعادتها الشيخ محمود الحوت إلى حلب قبل أيام؛ الشيخ كان مقيماً في مصر منذ سنوات، وعودته أتت من البوابة العراقية بما يعنيه ذلك من إشراف إيراني على عودته. إلا أن الإشراف الإيراني يجب ألا يطغى على موافقة مخابرات الأسد، وتلك الأخيرة ليس لها مشكلة مع شيخ حرَّم مع انطلاق الثورة الخروجَ على الحاكم، ووصف الثورة بـ”الهرج”. ثم إن إعادة الحوت مكسب لسلطة الأسد، لأنه يحظى بأتباع لا يحظى بهم مشايخ آخرون مثل المفتي أحمد حسون المعروف بتاريخ طويل من الانتهازية والعلاقة المباشرة بالسلطة، وربما كان سفر الحوت إلى مصر “مع بدء سيطرة فصائل معارضة على الأحياء الشرقية من حلب” تجنباً لاتخاذ موقف سياسي، أو تهرّباً من إملاءات السلطة التي تريد استخدامه على نحو أكثر ابتذالاً مما يحتمل.
هو الخطيب الذي كان يستقطب حشوداً آتية من مختلف أحياء حلب للاستماع إليه في خطبة الجمعة، حتى أن المسجد الذي يخطب فيه في حي باب الحديد صار يُعرف شعبياً باسم جامع الحوت! وهو أيضاً مدير المدرسة الكلتاوية، وتُعرف أحياناً باسم النبهانية، المدرسة التي لا تحظى شهادتها باعتراف رسمي إلا أنها مدرسة دينية داخلية، بما يعنيه ذلك من توفر الدعم المالي ومن موافقة رسمية على وضعيتها، وأيضاً على أسلوب ومنهاج التعليم، وصولاً إلى تعيين الخريجين منها كخطباء في المساجد التي تشرف عليها وزارة الأوقاف.
المدرسة “بحلتها الجديدة” كان قد أسسها الشيخ محمد النبهان عام 1964، أي بعد سنة من انقلاب البعث، وتوفي ودفن فيها بعد حوالي عشر سنوات. ضريح الشيخ “الصوفي” محمد النبهان في المدرسة سيحظى برمزية مقدسة لدى الطلاب، الرمزية التي لا تتوقف عند اعتباره ولياً من أولياء الله الصالحين، بل تتعاظم لدى بعض المريدين فيكاد ينافس على النبوة. وإذا استقطبت المدرسة في بداياتها أبناء الريف، ليعودوا منها إلى الأرياف كخطباء ودعاة، فإنها مع العهد الذهبي للشيخ الحوت راحت تستقطب الكثير من أبناء المدينة حتى أصبحت ظاهرة استثنائية حقاً.
تقبل المدرسة المنتسبين بدءاً من سن الثانية عشر، ليدرسوا فيها ست سنوات تصل بهم إلى ما يعادل البكالوريا في المدارس الأخرى. بعدها يكمل بعض الطلاب دراستهم في الأزهر الذي يعترف بشهادة المدرسة، بينما يباشر الآخرون عملهم كخطباء في المساجد. الطفل الذي ينتسب إلى المدرسة يخلع ثيابه المعتادة ليلبس فوراً زي المشايخ وعمامتهم، لف العمامة وحده ربما يستغرق أوقاتاً طويلة من التعلم بالنسبة لهؤلاء الأطفال. منهاج التعليم يتراوح بين بعض الكتب التي تميل إلى الصوفية، وأخرى تميل إلى السلفية، مع تقدير جاثم لشخص الشيخ النبهان الحاضر بضريحه وذكره الدائم.
يغادر الأطفال المدرسة في إجازات محددة، ويخرجون بزيّ المشايخ، ولا يندر أن يناديهم أحد من الكبار كان يوبخهم قبل أسابيع بلقب “شيخي”. من الشائع أيضاً أن يبدأ الطفل الشيخ بممارسة صلاحياته في بيت أهله عندما يعود لزيارتهم، فيعنّف أخته أو أمه لأنهما لا تضعان الحجاب المناسب، أو يقرّع الجميع لأنهم فاسقون يشاهدون التلفزيون الذي ينبغي عدم وجوده في البيت أصلاً.
أكثر ما يثير الاستغراب ليس الوضعية الشاذة للمدرسة، من حيث افتراقها عن المدارس الشرعية الأخرى الخاضعة للإشراف الرسمي، بل هي الوضعية الشاذة للتعاطي مع خريجي المدرسة الذين يصادف تخرجهم مع سن التجنيد الإلزامي، فالخريجون عبر تسهيلات غير منظورة لا يؤدون الخدمة الإلزامية التي يصعب على غيرهم الإفلات منها. قد يُفسّر تسهيل التملص من الخدمة بسعي السلطة إلى إبعاد هؤلاء عن الجيش، وعن احتمال التأثير بغيرهم من العناصر واستقطابهم، إلا أن هذا التفسير لا يكفي ما لم يتضافر مع توظيفهم كدعاة وخطباء.
جدير بالذكر أن المدرسة الكلتاوية وضريح الشيخ النبهان تعرضا للتخريب أثناء سيطرة فصائل مسلحة على المنطقة، والضريح تحديداً تعرض لتخريب متعمد شاركت فيه “أو قادته آنذاك” جبهة النصرة. السبب المعلن للاعتداء على الضريح هو وقوف النصرة وأشباهها على الضد من ظاهرة تقديس ما يسمى “الأولياء” وتقديس أضرحتهم، لكن السبب الآخر “والأعمق” هو وقوف التنظيمات الجهادية على الضد من الإسلام الصوفي.
في الجوار التركي قبل حوالي نصف قرن، شجع العسكر انتشار الطرق والمدارس الصوفية مثل النقشبندية والبكتاشية، بخلاف موقفهم المتشدد من الإسلام السياسي. اليوم لا يخفى التنازع بين أردوغان والإسلام الصوفي التركي، وكما نعلم وجهت لفتح الله غولن مباشرة تهمة التورط في المحاولة الانقلابية، ما يدل على انتشار وقوة الفرق الصوفية التي تنأى في الظاهر عن النشاط السياسي. ربما أثّر القرب الجغرافي في جعل حلب أكثر تأثراً بالمدارس الصوفية، بحكم عراقة الأخيرة وتجذرها منذ أيام السلطنة العثمانية، وفي أغلب الأوقات لم تكن العلاقة طيبة بين صوفيي المدينة والإسلام الحركي ممثلاً بالإخوان المسلمين، مع التنويه بقدرة الفرق الصوفية على التغلغل في أوساط اجتماعية أوسع.
من السهل في ظل الاستقطاب الحالي الهجوم على الشيخ الحوت العائد إلى حلب من قبل مشايخ آخرين يقفون ضد الأسد، إلا أن تأثير هجومهم سيبقى محدوداً، ومحصوراً بالذين يعادون سلطة الأسد سلفاً. تسجيل مواقف إعلامية ضده لن يعيق ماكينة الحوت التي عادت إلى العمل، ولن يمنعها من حصد نجاحات تفوق السابق عطفاً على فشل الإسلام السياسي الحركي والجهادي، وعطفاً على فشل مغامرة “الخروج على الحاكم”. مكمن الرهان أن يقدّم هذا النوع من الإسلام السلوى على الخيبات المتأتية من الواقع السياسي، أي استحضار الدين مرة أخرى لمعالجة أزمات سياسية في المقام الأول، وخطورته هي في تنميط جزء من المجتمع بحيث يبدو الدين السبيل الدائم إلى رشوته وبديلاً عن مطالب ملحّة تمس حياته ودنياه. تكرار المأساة لن يجعل منها مهزلة بل مأساة أفدح، وما يشير إلى بؤس القادم أن الذين يريدون إعادة الصراع إلى مكانه في السياسة باتوا محيَّدين في صراع الحيتان.
المدن