الجيش ومجتمعه: من أين أتى العسكر؟/ محمد سامي الكيال
تسود في الجدل السياسي والثقافي العربي نزعة قوية لتجريم «العسكر»، واعتبارهم السبب الأساسي لكثير من الكوارث التي تعاني منها المجتمعات العربية، مثل الاستبداد والعنف والانهيار الحضاري. وبعد موجة قصيرة من الثقة بالجيوش، وتفويضها لإجراء المراحل الانتقالية، وخلع الرؤساء المستبدين، صارت تعتبر النقيض الأساسي لطموحات التحرر والتغيير. ترتبط هذه الأحكام عادة بعدد من التحليلات السياسية والتاريخية، لبنية الدول العربية، التي توصف أحياناً بأنها «متغولة» على مجتمعاتها.
وعلى الرغم من أهمية هذا الطرح، إلا أنه كثيراً ما يرسم صورة هزلية بعض الشيء عن العسكر، فهم حسبه مجرد انتهازيين لا همّ لهم إلا السلطة، يستغلون كل الأيديولوجيات لتحقيق هيمنتهم، ويتلاعبون بتناقضات القوى السياسية والأهلية، على مبدأ «فرّق تسد». ما يجعلهم أشبه بفئة معزولة أو مستعلية على المجتمع، لها مصالحها واهتماماتها المستقلة، وبمجرد الخلاص منها أو تفكيكها ستستعيد المجتمعات المقموعة عافيتها، وتتخلص من الاستبداد، ما يجعل التحرر السياسي مختزلاً بمواجهة العسكر ودولتهم.
يُغفل هذا الاختزال كثيراً من الوقائع السياسية والتاريخية، ويضيّع إمكانية فهم التركيبة الاجتماعية والثقافية للجيوش، وموقعها في الصراع الاجتماعي، وعلاقاتها مع البنى الأهلية. هل يمكننا فصل العسكر عن طوائفهم وقبائلهم وثقافتهم الاجتماعية؟ وهل كانوا يوماً بمعزل عن التأثر الفعلي بالأيديولوجيات والعقائد السائدة؟ ما صحة تلخيص طموحاتهم وفعاليتهم بمجرد رغبة عبثية وانتهازية بالسلطة؟ الأهم: ما هي الوظائف الاجتماعية التي يؤدونها، فتجعلهم مقبولين من فئات واسعة من محكوميهم؟ وهل يمكن للمجتمعات، بصيغتها الأهلية، أن تؤدي بنفسها هذه الوظائف، في حال تخلصها من تسلّط العسكر؟
عسكر مثقفون
ليس نموذج العسكري الجاهل والانتهازي هو ما كان سائداً في القرن الماضي، فقد كان العسكر مشاركين بفعالية في الحياة السياسية وحركات التحرر الوطني، ومتأثرين بشدة بالحركة الثقافية في بلدانهم. وإذا كان أول انقلاب عربي على السلطة المدنية، أي انقلاب حسني الزعيم في سوريا، تحركه دوافع فئوية هي، وقاية الجيش من رقابة ومحاسبة السياسيين المدنيين، إلا أنه حقق في الآن ذاته رغبة شرائح واسعة في التخلص من هيمنة «السياسيين القدامى»، و«حكم المزرعة»، وهو النعت الذي أُطلق على عهد الرئيس شكري القوتلي، في إشارة إلى سياسات الإقطاعيين والتجّار، واحتكارهم للحياة العامة. وغياب تمثيل مصالح بقية الطبقات الاجتماعية، خاصة الفلاحين والفئات الوسطى، الذين وجدوا في الجيش أداة مناسبة لتحقيق «ثوراتهم». دعك من اتهام السلطة المدنية بالتخاذل في حرب النكبة، وتضييع الحقوق العربية.
شكلت الجيوش إذن ما يشبه «طليعة» سياسية وثقافية، ومثّلت مصالح متنوعة، في بلدان ضعيفة التطور، تفتقر للمؤسسات الاجتماعية الحديثة. وتشهد صراعات أهلية وطبقية شديدة، وبالتالي لا يمكن تلخيص تبني العسكر للأيديولوجيات السائدة بالانتهازية. واقع التسيس الشديد للضباط، وتأثرهم بحساسيات مذهبية وعصبوية ومناطقية، أمر لا يمكن تجاوزه، ولذلك يمكن القول إن المجتمعات هي التي طغت على الجيوش وتركيبتها الاحترافية، وليس العكس، أي أن ظاهرة تسييس الجيوش، وجعلها «اجتماعية»، كانت سابقة على عسكرة الحياة العامة، ونزع السياسة من المجتمع بواسطة العسكر. انقلاب السيسي في مصر يعطينا مثالاً معاصراً على عَسكَرة تتم بموافقة وتفويض فئات اجتماعية واسعة، تعجز بذاتها عن إيجاد إطار مدني لتحقيق تطلعاتها.
مثّل العسكر غالباً الأيديولوجيا السائدة اجتماعياً، أي القومية بتنويعاتها، سواء كانت قومية عربية أو إسلامية، وهي أيديولوجيا رافقت الدولة العربية الحديثة منذ نشأتها، التي قامت على ثنائية الجيش، بوصفه أساساً للتوسع والمقاومة والتحرير، والدين بوصفه مستودعاً للهوية والعقائد الحربية. الأغلبية الساحقة من الانقلابات نفذها عسكر قوميون أو إسلاميون. وكان الانتقال من الصيغ القومية للصيغ الإسلامية سلساً إلى حد كبير، سواء في حالة «دولة العلم والإيمان» في عصر أنور السادات، أو في ممارسات صدام حسين وشحنه المذهبي ضد الشيعة، وموجات الأسلمة التي كانت يجريها بشكل تصاعدي، وكذلك في «ثورة الإنقاذ» في السودان، التي ترافق تطبيقها للشريعة بتعريب قسري لبلد يتسم بتنوعه اللغوي والثقافي والديني الكبير. الصراع بين العسكر وتيارات الإسلام السياسي كان في كثير من الأحيان نوعاً من المزاودة في أسلمة دول، تؤكد دستورياً أن دينها ودين حكامها ومصدر تشريعها هو الإسلام. فتغدو السيادة الشعبية (التي لا يمكن الحديث عن علمانية دونها) معطلة، أو مشروطة بأن يكون «الشعب» مسلماً بما فيه الكفاية، ومتوافقاً مع هويته وشرائعه المحددة سلفاً. بهذا المعنى لم نعرف في معظم تاريخنا الحديث إلا الحكم الإسلامي. القول إن العسكر استغلوا الأيديولوجيات الإسلامية، يغفل البنيان الأساسي للدولة العربية، وهو بنيان تتم إعادة التأكيد عليه مع كل محاولة انقلابية «إنقاذية»، تسعى لحفظ سيادة الدولة أو الأمن والاستقرار.
مجتمع قوي، جيش قوي
مع التراجع العام لأيديولوجيات التحديث ودولة التحرر الوطني، اتخذ حضور الجانب الأهلي والعصبوي في الجيوش طابعاً أكثر صراحة، وأصبحت رعاية شبكات المصالح الزبائنية في صلب وظيفتها الاجتماعية، ينعكس هذا على التركيبة العسكرية نفسها، فكثير من الجيوش العربية، أو المجموعات التي تدعي أنها جيوش، أصبحت تدمج أنماطاً متعددة من المليشيات الأهلية والطائفية في بنيانها، وتستخدمها بشكل أساسي في عملياتها العسكرية. نرى أمثلة عن ذلك في مليشيات «الشبيحة» والجماعات الشيعية المقاتلة في سوريا، مليشيات الجنجويد في السودان، والجماعات السلفية والقبلية في «الجيش الوطني» وقوات «الحكومة الشرعية» في ليبيا.
من الصعب الحديث عن تناقض بين العسكر (أو الدولة) والمجتمع، أو عن معادلة صفرية ترتبط فيها قوة الدولة ومؤسساتها طردياً بإضعاف المجتمع وبناه الأهلية. على العكس، كثيراً ما ترافق ازدياد ضراوة وتوحش الدولة بدور أكبر للعصب المتناحرة، وحضور الحساسيات والمصالح الاجتماعية المتعارضة في جهاز الدولة. لدرجة يكاد فيها الأهلي يبتلع الدولة ويفقدها أي استقلالية، أي أن سياسات «الاستيعاب» و«الإدماج»، التي تنفذها الدول عادةً على الفــئات الاجتماعية، تتم في السياق العربي بشكل معكوس. فتصبح الدولة مدمجة في الصراعات الأهلية. ربما كان مثال المجتمع القوي والدولة الضعيفة ملهماً لكثير من الأفكار اللاسلطوية، أو الناقدة للحداثة، ولكن تجسيده الواقعي في السياق العربي مأساوي بشدة، فهو لم يؤد لتخفيف قمع الدولة، بل لاستخدامها في تصفية الحسابات الاجتماعية، وبدلاً من تصغير أجهزتها، تم تضخيمها بشكل كبير، عبر تسرّب مختلف مراكز القوى الاجتماعية إليها. وكلما ازداد طغيان «الأهلي» على «الدولتي»، نرى ميلاً للمطالبة بمزيد من السلطات للدولة، بما يتفق مع مصلحة الجماعات التي تخترقها.
أين الدولة؟
ليست المشكلة إذن في الحضور المبالغ فيه للدولة وعسكرها، وليست كذلك في غيابهما التام، ربما كان الأجدى البحث في البنى الاجتماعية والثقافية التي تنتج دولا كهذه وعسكرا كهؤلاء، والابتعاد عن التنظيرات التي ترى في السلطة جسماً غريباً، مفروضاً بشكل فوقي على الفعالية الاجتماعية، أو في الاستبداد لعنة تسببها قوى شريرة، يمكن الخلاص منها ببعض التعاويذ الثورية.
لكل نظام استبدادي، أو حكم عسكري عربي، قاعدته الاجتماعية الواسعة، يؤدي لها وظائف أساسية، مثل وعود «الاستقرار» وتجنب الفوضى الشاملة، عن طريق حصر الصراعات الأهلية في هوامش وحدود آمنة نسبياً، وإعادة توزيع العوائد المادية بطرق عدّة، منها دعم بعض السلع الأساسية، والتوظيف في جهاز الدولة، فضلاً عن تأمين سيطرة القيم الاجتماعية المحافظة. وهي وظائف لا يمكن للمجتمع وحده، بدون جهاز دولة متضخم، القيام بها. الشكل الحالي للمجتمع يدين باستمراره للدولة، ولا يمكن تخيله دونها. وسيعاني مع غيابها مزيداً من العنف والدماء، وانحطاطاً ثقافياً وأخلاقياً أكبر. وهذا يفسر نجاح الخطابات السياسية التي تقوم على التخويف من انهيار أنظمة الحكم (السيسي تحدث عن «فوبيا» سقوط الدولة).
إلا أن التشكيلات الاجتماعية – الاقتصادية العربية لا تحوي فقط العسكر والعُصب، بل هي خليط من عناصر إنتاجية واجتماعية وثقافية متفاوتة في تقليديتها أو حداثتها، ما ينتج كثيراً من أشكال التداخل والتناقض في وضعية الأفراد والجماعات. ثورات الربيع العربي جمعت في كثير من الأحيان تطلعات الفئات الأكثر تضرراً من صيغة الحكم القائمة، على المستويين الاقتصادي والثقافي، وكانت أقرب للنجاح كلما ابتعدت عن العصبوية والبنى التقليدية، وتأطرت بمؤسسات اجتماعية حديثة، وعلى رأسها النقابات. وهذا يفسر أفضلية الثورتين التونسية والسودانية. لا يعني هذا الدعوة إلى نقد المجتمع بدلاً من السلطة السياسية، بل إلى فهم التشابك بين الطرفين، وضرورة العمل على تغيير يبدأ من القاعدة الاجتماعية، ويهتم بالمؤسسات والتنظيم والثقافة السياسية، أكثر من تعويله على مقولات مجردة، مثل «الحرية» و«الكرامة»، التي تفقد معناها إن لم تقترن بممارسات وأطر مادية، فيغرق أنصارها بسرد مظالمهم التاريخية، وانتظار «عدالة» قدرية، لن تأتي يوماً.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي