خواطر غاضبة على هامش مؤتمر البحرين/ جلبير الأشقر
«مرتفعات ترامب»: هكذا قرّر أكثر رؤساء الحكومة الصهيونية تطرّفاً في تاريخ دولته، والتطرّف الصهيوني يعني بالطبع التطرّف في العداء للشعب الفلسطيني وفي احتقار العرب أجمعين، هكذا قرّر التعبير عن امتنانه لأكثر رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية تطرّفاً في تاريخ بلاده الحديث، والتطرّف هنا هو في البغض العنصري لشتّى شعوب العالم، وشعوب البلدان الفقيرة على وجه الخصوص، ليس المسلمة منها وحسب بل شعوب أمريكا اللاتينية أيضاً وكل من يسعى وراء الهروب من واقع بلاده الأليم بالهجرة إلى الشمال العالمي، هكذا إذاً قرّر بنيامين نتنياهو أن يكرّم دونالد ترامب بإطلاق اسمه على مستعمرة جديدة أنشأها الصهاينة على هضبة الجولان المحتلّة. أما امتنان نتنياهو فهو بالمباركة التي حصل عليها من ترامب في شأن ضمّ الجولان رسمياً إلى الدولة الصهيونية، تمهيداً لضمّ معظم أراضي الضفّة الغربية التي احتُلّت في عام 1967.
وبدل أن يقوم الحكّام العرب بإطلاق اسم ترامب على المجارير في بلدانهم، تعبيراً عن سخطهم على أفعال الرئيس الأمريكي وردّاً على تكريم نتنياهو له، وبدل أن يُرفقوا مثل هذا الإجراء الرمزي بما هو أهم منه بكثير، ألا وهو مقاطعة عربية شاملة للمصالح الأمريكية وطرد كل أشكال التواجد العسكري الأمريكي من الأراضي العربية، نرى عدداً من الحكومات العربية يستعدّ للمشاركة في الملهاة التي سوف يُخرجها في المنامة بعد أيام قليلة جارد كوشنر، صهر ترامب الصهيوني بامتياز. والحقيقة أن تكليف هذا الأخير بإخراج ما سماه حموه «صفقة القرن» لم يكن بسبب خبرته العميقة بملفّ النزاع الإقليمي، ولا لأنه يدّعي خبرة فائقة في عقد الصفقات على غرار حموه، بل لسبب واحد وحيد هو أنه شديد الرغبة في الإسهام في تكريس المساعي الصهيونية التوسّعية وكبير الثقة في أن علاقته الوطيدة بآل سعود في مجال الصفقات الدولارية سوف تيسّر تعاونهم معه في إخراج تلك الملهاة.
تذكّرنا «صفقة القرن» التي يعدّ كوشنر لها بفيلم «العرّاب» الشهير عندما يقول الزعيم المافياوي دون كورليوني (شخّصه مارلون براندو) أنه سوف يعرض على أحد منافسيه المافياويين «عرضاً لا يمكنه رفضه»، مع فارق هو أن ما يعرضه العرّاب الأمريكي على الفلسطينيين هذه المرّة إنما هو «عرضٌ لا يمكنهم قبوله». فقد قامت إدارة ترامب بكل ما بوسعها لتنفير الفلسطينيين، حتى أكثرهم استعداداً للقبول بأسوأ المساومات. فأبدت تواطؤها العميق مع نتنياهو بشتّى الأشكال وفي شتّى المناسبات، وعيّنت لديه سفيراً جاهر بتأييده لحركة الاستيطان الاستعماري الصهيوني في أراضي 1967، وقطعت مختلف المعونات الإنسانية عن الشعب الفلسطيني، ونقلت سفارة الولايات المتحدة إلى القدس تعبيراً عن تأييدها لحيازة الدولة الصهيونية على المدينة بشطريها، وهلمّ جرّا.
وقد جاءت الإجراءات والمواقف الأخيرة الصادرة عن الإدارة الأمريكية لتؤكّد ما حذّرنا منه قبل عام تحديداً («صفقة القرن واستكمال النكبة»، 4/7/2018) في أن الغرض الحقيقي من مساعي كوشنر غير الحميدة إنما هو توفير ذريعة للحكم الصهيوني كي يضمّ «منطقة ج» من أراضي الضفة الغربية المحتلة سنة 1967، التي تشكّل ٪61 من تلك الأراضي فضلاً عن القدس الشرقية التي ضمّتها الدولة الصهيونية بُعَيْد احتلالها. وقد أكّدت إدارة ترامب مؤخّراً تأييدها لضمّ إسرائيل القسري لأراض عربية محتلة بمباركتها الضمّ الصهيوني للجولان، ومن ثم بتصريح سفيرها قبل أيام أن إدارته ترى أنه من حق الدولة الصهيونية أن تضمّ بعضاً من أراضي الضفّة الغربية. هذا ولا عجب من أن يكون نتنياهو قد شعر خلال حملته الانتخابية الأخيرة أنه مخوّل أن يصرّح على الملأ بنيّته ضمّ «منطقة ج».
فلم يعد الأمر موضوع تكهّن مثلما كان قبل سنة عندما حذّرنا منه، بل أصبح مكشوفاً لا يمكن إغفاله سوى بالتغافل. وقد فطن مسؤولو «السلطة الفلسطينية» أنفسهم للأمر وأخذوا يحذّرون منه منذ أن بدأ التمهيد لمؤتمر المنامة. غير أن كل ذلك لم يثنِ عدداً من الحكومات العربية عن إبداء نيّتها التوجّه إلى المنامة كالخرفان وراء راعيها. في زمن آخر يبدو اليوم وكأنه غابر، كانت تُطلق على من يقومون بأقلّ من ذلك بكثير تسمية «خونة» ويجري التشهير بهم بوصفهم متآمرين على الأمة العربية وشعوبها. أما اليوم فقد باتت لهم الغلبة في المجال العربي الرسمي، ويبرّرون تواطؤهم مع المؤامرة المكشوفة على الشعب الفلسطيني بإحلالهم «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» محلّ الدولة الصهيونية في مرتبة العدوّ الرئيسي، وهو ما لم يتجرّؤوا عليه عندما كان يرون في مصر الناصرية عدوّهم الرئيسي. ويلخّص الفرق بين الزمنين مدى انحطاط النظام العربي الرسمي ومدى إلحاح مهمّة إسقاطه باستكمال السيرورة الثورية التي دشّنها «الربيع العربي» قبل ثماني سنوات تحت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام».
كاتب وأكاديمي من لبنان
القدس العربي