بين دول الخليج وجرح سوريا النازف/ موفق نيربية
يتجلّى بوضوح أثر الخلاف الخليجي على ثورة السودانيين وقضيتهم راهناً، بأن يفتح المرء تلفزيون “الجزيرة” لمتابعة ما يحصل، ثم ينتقل إلى تلفزيون “الحدث” أو “سكاي نيوز العربية”، فهنالك من يميل إلى جانب المجلس العسكري الانتقالي، في حين يمكن أن نلمس انحيازاً مقابلاً إلى قوى الحرية والتغيير. وينعكس ذلك الآن مثلاً على الموقف مما حدث يومَ فضّ الاعتصام بالقوة، ويواصل دعم جانب من الطرفين عند الحديث عن الإضراب والعصيان المدني وعملية التفاوض ذاتها. يمكن تعميم هذا طبعاً على أنباء الانتفاضة الجزائرية أو الوضع المتفجر في ليبيا أو على التطورات المصرية.
وقد عاش السوريون وما زالوا آثاراً مدمرة لهذا الخلاف والنزاع، عاشوه قبل ثورتهم، وفي مراحلها الأولى والتالية، وبعد تفجر الخلاف بعنف بين السعودية والإمارات من جهة وقطر من جهة أخرى، لا سيما مع فرض الحصار عليها.
قبل الثورة، كان الوجود الخليجي داعماً بصلابة لعائلة الأسد ونظامه، داعماً بشكل عضوي وفعال. هو عضوي لأنه دعم الاقتصاد الأسدي الذي ازدادت طبيعته الزبائنية إلى الحد الأقصى مع حكم الأسد الابن، وتم تسليمه للأصدقاء والأصحاب والوكلاء المباشرين الممسكين بالسلطة فعلياً. الاستثمارات الخليجية شاركت مباشرة، باستثمارات قطرية بنحو 6 مليارات دولار، وإماراتية بثلاثة مليارات، وسعودية بمليارين. وأصبح هنالك رنين سوري لأسماء مثل بن لادن- الشركة- والوليد بن طلال والديار القطرية والخرافي الكويتي. ودخل مستثمرون سوريون بزخم إلى الخليج بمئات الأسماء، وربما بالآلاف. كانت على رأس هذا “التبادل”، أسماء من العائلة الحاكمة في سوريا وأقرب أصدقائها ووكلائها. وحصل أن تطورت العلاقات الشخصية إلى مستوى إهداء العقارات والأراضي لشيوخ وأمراء أيضاً، وبنيت عليها قصور ومنتجعات ووسائل ترفيه رفيعة المستوى. باختصار، كان التعامل رأساً إلى رأس، وكأن الأسد من سلالة مالكة نهائياً وإطلاقاً، في خلد أهل الخليج وقناعتهم. وكان هذا يسعد الطغمة في سوريا آنذاك، ويبث الطمأنينة السياسية “الأبدية”.
بالنسبة إلى قطر، ترافق الربيع العربي والحراك السوري في ما يعنينا هنا، مع بدء تحولات السياسة القطرية الخارجية، من الاعتماد على دور الحكمة والوساطة واعتماد التسويات، إلى استراتيجية أكثر هجومية واستثماراً في عمليات التغيير السياسي. ولم تنجح محاولات التوليف بين الاتجاهين لاحقاً، لأن الاندفاعة والتفاعلات ازدادت سرعة ولم يعد التوقف ممكناً.
في البدء برز اسم وزير الخارجية حمد بن جاسم، الذي استخدم رئاسة القمة العربية من قبل قطر ليرأس اللجنة العربية ويعتمد على الجامعة العربية في تطوير الدور القطر، الذي حاول الضغط على النظامو تركيا، من أجل التراجع واحتواء الحراك، الابتعاد من الحل الأمني والشروع في السياسي.
بالتوازي مع ذلك عملت الدوحة على رعاية حوارات المعارضة لتشكيل كياناتها الموحدة، ابتداء من أيلول/ سبتمبر 2011، مع انطلاق عملية حوار انتهت بإعلان قيام المجلس الوطني السوري… في اسطنبول! كان ذلك تعبيراً عن شراكة تركية- قطرية مقبلة، برعاية الثورة السورية أو استثمارها، إذ كان الوضع واعداً بالنسبة إليها. كان لدى القطريين خط قوي مع الإخوان المسلمين، وخط آخر مع الديموقراطيين الأقرب إلى العلمانية، من طريق المركز العربي للبحوث ودراسة السياسات أي عزمي بشارة. والأخير هو صاحب نفوذ في مبادرات الحوار بين المعارضين السوريين. وكانت لدى الأتراك وقتها مجموعات خلفيات إسلامية وإخوانية سابقة- أو لاحقة- مثل مجموعة العمل الوطني والكتلة الوطنية والتيار المستقل، فتكونت القدرة على توسيع نطاق التحالف المنشود، بحيث ضم الإخوان وجماعة ائتلاف اسطنبول وإعلان دمشق (ما بقي منه)، وعجز عن ضم هيئة التنسيق لنفور مكوناته من سياساتها الرخوة أو لتفضيلها البقاء بعيداً من بؤرة الصراع الساخنة والتحولات المحتملة عسكرياً وإسلامياً في ما بعد، وانعكاسات ذلك على موقف النظام منها.
كان قيام المجلس الوطني يعتمد على فكرة دعم التدخل الخارجي في القضية السورية، وبالطبع كان القطريون ومعهم الأتراك يرغبون بأن يكون هذا التدخل محصوراً وإقليمياً، حتى لا تضيع حصتهم بين أصحاب الأسهم الكبار في ما بعد. كما كانوا لا يعترضون على إبقاء الباب مفتوحاً لحل سياسي، يساهم ذلك التدخل بتشكيل معالمه. لذلك بدأ تطوير الصراع العسكري وتوريد مواده ومستلزماته ورعاية مجموعات إيديولوجية (إسلامية) أكثر تشدداً وقدرة على الحسم، كما تخيل الداعمون. شاركهم بذلك آخرون مثل مجموعات سلفية دينية في السعودية والكويت، ليست للسلطات هناك مصلحة في وقفها، ولا في ترك سلوكها حراً بشكل كامل… مجرد استثمار غير مباشر قابل لإعادة النظر بين حين وآخر.
عام 2012، لم تستطع الجامعة العربية ومصر مع تعاطف الدول الغربية، وحياد الروس والصينيين نسسيبياً، أن تستعيد زمام الأمر وتقوم بتوحيد المعارضة، للشروع في عملية سياسية أسس لها مؤتمر جنيف وبيانه في حزيران/ يونيو من ذلك العام. وهو كان تزامن مع مؤتمر المعارضة الشامل في القاهرة. فاستقر الرأي على الانتهاء من المجلس الوطني وتأسيس كيان أقرب إلى الطبيعة السياسية، مع تفويض لقطر بالقيام بذلك.
ما هو أساسي، هو أن نظاماً مثل نظام الأسد لا يمكن إسقاطه، ولا حتى تهديده بالسقوط، من دون مجاراته بالعنف المسلح، ومن دون تطوير عقيدة قتالية تتفوق على عقيدته. فكان توريد السلاح والتشجيع على تشكيل الفصائل المسلحة، ثم التركيز بالدعم على الأقوى عقيدةً، الإسلاميين الأكثر تشدداً، ولو مر ذلك عن طريق القاعدة. سبقتهم الولايات المتحدة باللعب الحارق هذا قديماً في أفغانستان، وبمشاركتهم أيضاً. هنا كان قصب السبق والتفوق للقطريين والأتراك من دون شك.
ركّز الإماراتيون اهتمامهم على حماية الأردن ودعم الجبهة الجنوبية وبالتعاون مباشرة مع غرفة الموك (غرفة عسكرية)، التي قادتها الولايات المتحدة وعملت على ضبط عملية الدعم في شمال سوريا وتنظيمها، أيضاً من طريق غرفة الموك، في حين اشتغل السعوديون على هذا النمط أيضاً، بتشدد أقل بالطبع، وبدعم أطراف إسلامية أيضاً، ولكنه تشدد أقل نسبياً، وإن في الظاهر.
كان الصراع على الأرض غالباً انعكاساً للصراع في الخليج، وكان ذلك مدمراً. وبعد انفجار الخلاف القطري – السعودي الإماراتي، وإعلان الحصار على قطر، أصبح المفعول مباشراً، وظهر في أحيان أخرى على شكل استهانة بهذا الحقل السوري الذي أصابه ما يشبه التفسخ، مع نجاحات النظام وحلفائه في أكثر من مكان، أو لنقل نجاحاً روسيا وحلفائها على وجه أكثر دقةً. وبدأ التسابق باتجاه تغيير الخط وفتح النوافذ باتجاه النظام، بالموقف أو بالخطى العملية.
ومن الناحية السياسية، توافق الجميع من دون اتفاق مسبق على تهميش السوريين ومعارضتهم، التي لم يبق رسمياً سوى ظلال لها، في ائتلاف مقيم في اسطنبول صار هزيلاً على صورة ضحايا قيصر، وهيئة تفاوض مقيمة- رسمياً- في الرياض على صورة يجتمع الكل على أنها مجرّد خيال للسوريين الغائبين عن البحث في قضيتهم وتقرير مصيرهم.
بالطبع يبقى السؤال: كيف سمحت قوى الثورة والمعارضة السورية بحدوث ذلك؟! وكيف يمكن توزيع أو توزّع المسؤولية بين من ارتهن تماماً، وهؤلاء ليسوا قلة أبداً، ومَن تغافل أو تراخى أو استسلم لهذه الوقائع، من دون تركيز حثيث على خلق آلية لاستقلال القرار السوري، نسبياً على الأقل… هذه المسؤولية تقع على الجميع، وأنا منهم!
درج