جون شيفر: آلام الوحدة وكيف تثري الجمال والهياج الإبداعي في مرحلة الشباب
ترجمة علي زين
“إن الوحدة تجعل من الرجل شيئًا مهجورًا، قطعة حجر، عظمًا، عصا، مستودعًا للخمر القوي الفاخر، تجعل منه جسمًا منحنيًا يجلس على حافة سرير في أحد الفنادق، بينما الآهات تتدفق منه بغزارة مثل رياح الخريف”.
كتبت فيرجينيا ولف متأملةً العلاقة بين الوحدة والإبداع قائلةً: “لو أمكنني القبض على ذلك الإحساس لفعلت؛ الإحساس بأن العالم الواقعي يُغني والمرء مدفوعًا بالوحدة والصمت في العالم الذي نسكنه”، كما فكرت بعد نصف قرن حنة أرنت في كيفية استخدام الطغاة للوحدة كعامل مشترك لإرهاب الناس،. بالإضافة إلى مقولة أوليفيا لاينغ في استقصائها الرائع عن نسيج الوحدة في الفن والحياة، إذ تقول: “من الصعب الاعتراف بالوحدة، ومن الصعب كذلك تصنيفها، إذ يمكن أن تتغلغل بعمق في نسيج الشخص”.
ومع ذلك لم يتمكن الكثير من الكتّاب من التعبير عن كيفية تمزيق الوحدة لنسيج النفس البشرية بين قطبيّ الإبداع والطغيان على نحوٍ أكثر وضوحًا من جون شيفر (من 27 مايو 1912 حتى 18 يونيو 1982) إذ يُعدّ كتاب يوميات جون شيفر “( المتضمن “الوحدة: ألمها وبوحها ترياقها والقبول النهائي بها)” من بين الأعمال النادرة التي تتطرق إلى ذلك الاستبطان، مصوبةً الكثير من الضوء على التجربة البشرية العامة.
حاز جون شيفر على جائزة البوليتزر، ولم تكن تلك اليوميات تمثل سجلًا للأعمال الأدبية التي ألفها بقدر ما كانت سجلًا يعبر عن شخصيته، والصراعات التي عانى منها بنفسه. وكان ابنه يعلم أن والده يريد نشر تلك اليوميات، ويقول ابنه بنيامين شيفر في مقدمة الكتاب:
“بحلول عام 1979 كان جون شيفر قد أصبح أديبًا مخضرمًا، وعادةً ما كان يقول: “أنا علامة مسجلة، مثل الكورنفليكس أو القمح المبشور”، ويبدو أنه كان يستمتع بتلك المكانة، ولا بد أنه كان يخشى من أن يؤدي نشر تلك اليوميات إلى تغيير تلك المكانة”.
[…]
لم يكن يعلم بشذوذه الجنسي سوى القليل من الناس، ولم يكن يُعرف عدد المرات التي مارس فيها الخيانة سوى عدد أقل من الناس، ولم يكن أحد تقريبًا يتوقع مدى اليأس الواضح في حياته الشخصية، وطبيعة رؤيته الساخرة، ولكن لا أظن أنه كان يتهم كثيرًا بكونه شهيرًا مثل الكورنفليكس، لقد كان كاتبًا قبل أن يكون مشهورًا مثل طعام الإفطار هذا، لقد كان كاتبًا قبل أن يصل إلى سن الرجولة تقريبًا.
[…]
كان يرى أن الكاتب الجاد يلعب دورًا نبيلًا وعمليًا في الوقت ذاته، واعتاد القول بأن الأدب من أول أمارات الحضارة، وكان يقول كذلك إن قطعة النثر الممتعة لا يمكن أن تعالج الاكتئاب فقط ولكن يمكن أن تشفي أشد أنواع الصداع كذلك، وكان يريد أن يشفي نفسه على غرار الكثير من المعالجين المشهورين.
لكن الشيء الذي كان يريد علاجه أكثر من غيره والذي تشبع به أكثر من غيره كان شعور وحدته، يقول ابنه:
“كان يعاني معظم حياته من الوحدة التي بلغت حدًا من القسوة لا يمكن معها تمييزها عن المرض الجسدي”.
[…]
إذ كان يلجأ إلى الكتابة للهروب من الوحدة، وكسر عزلة الآخرين. وكان الغرض من اليوميات أن يؤكد للآخرين أن أفكارهم واردة.
لقد كان يعاني من وحدة عميقة أصابته منذ الطفولة رغم ما يبدو من السعادة التي تربى فيها في أسرة ثرية تسكن بين أحضان أحد ضواحي مدينة “نيو إنجلاند” الرائعة، ويعبر شيفر عن ذلك الاغتراب المُبطن في أحد يومياته المبكرة على النحو التالي:
“لا أزال أتذكر بينما كنت عائدًا من النهر تلك الوحدة المزعجة في أيام المراهقة، ولا يبدو أني تمكنت من الهرب منها تمامًا، إنه إحساس المتلصص، لذلك الصبي الوحيد، الوحيد للغاية الذي لا دور له في الحياة سوى اختلاس النظر من النوافذ المضيئة للآخرين، وما تحويه من السرور والحيوية، ويبدو من المضحك -والهزلي جدًا- أن تلتصق في مخيلتي صورتي بثبات وأنا طفل وحيد حيث أمشي تحت المطر على الطرق الجانبية في شرق مدينة ميلتون، بعد هذا الكرم الذي عوملت به.
تلك الوحدة التي ظلت تصاحبه طوال حياته لتتفاقم وتسيطر على أفكاره في أوقات التقلب والشك:
“إن منتصف العمر يمثل لي لغزًا وغموضًا، وأكثر ما يمكنني تمييزه من تلك الفترة هو نوع من الوحدة، نوع من الوحدة كان يبدو معه حتى جمال العالم المرئي متداعيًا، نعم حتى الحب.
وبينما يطيل النظر في الجانب البعيد من الحياة لا يجد سوى الوحدة أيضًا -الوحدة المطلقة- التي يراها:
“بينما أغسل الصحون أفكر في والدتي المتوفية وهي مستلقية في قبرها، ويبدو لي أن الموت هو أحد قوى الوحدة، ويمثل أكثر أنواع الوحدة التي نعرفها في الحياة وحشةً، وذلك لأن الروح لا تغادر الجسد أبدًا ولكنها تتلكأ معه في جميع مراحل تحلله، وإهماله، في الحر والبرد، وخلال الليالي الطويلة.
وفي أحد يومياته الأخرى يقدم جون شيفر تشخيصًا روحانيًا عمليًا للوحدة:
“إن الوحدة نوعٌ من الجنون”.
فعندما يتمكن شيفر من الابتعاد بالقدر الكافي فقط عن جنون وإلحاح ذلك الألم الشخصي وعن سيادته لبعض نواحي الوحدة التي تبدو لا نهاية لها، سينزلق عندها دون جهد إلى الجانب الشعري:
“إن الوحدة تجعل من الرجل شيئًا مهجورًا، قطعة حجر، عظمًا، عصا، مستودعًا للخمر القوي الفاخر، تجعل منه جسمًا منحنيًا يجلس على حافة سرير في أحد الفنادق، بينما الآهات تتدفق منه بغزارة مثل رياح الخريف”.
وكثيرًا ما ينقل لنا في مجمل يومياته هذه الوحدة المدوّية ليس بصفة مباشرةً ولكن بأسلوب مضمر يتميز بقدر كبير من الحذق والبساطة، حيث يقول:
“أجلس على طاولة المطبخ، أشرب القهوة الداكنة، وأفكر في فيردي”.
كان يدرك حزينًا كيف أن نزعته الداخلية تجاه الوحدة كانت تدفعه بدورها باتجاه حياة تزيد من تلك الوحدة، فكان يشاهد وحدته وهي تنمو وتتعاظم: “بالسفر، وفي غرف الفنادق، وبالطعام السيء، وإلقاء الشعر في المحافل، وسطحية الوقوف في طوابير الاستقبال”، كان جون شيفر يتطلع إلى هيمنغواي الذي جعل من الوحدة محور الكلمة التي ألقاها أثناء استلام جائزة نوبل، فكتب في واحدة من آخر يومياته يقول:
“إن الوحدة التي أتجرعها، والكرسي الذي أجلس عليه، والغرفة، والمنزل، ليس لأيٍ منهم جوهر. كنت أفكر في هيمنغواي، فنحن لم نكن نتذكر من أعماله ماذا كان لون السماء بقدر ما كنّا نتذكر مذاق الوحدة المطلقة فيها. فالوحدة على ما أعتقد ليست مطلقة، ولكن مذاقها أكثر قوة وقسوة من أي شيء آخر، إذ أرى أن الكاتب الذي يسعى لأن يكون جادًا ستكون مهمته محفوفة بالمخاطر”.
ومع ذلك فإن الوحدة ما تزال تمثّل تلك الأهمية الشديدة لكياننا بالمجمل، ولا بد وأن تكون جزءًا لا يتجزأ من تلك القوة الحيوية المسؤولة عن مساهمة المرء من إبداع تجاه العالم -وهو ما يعبر عنه شيفر على نحوٍ رائع في واحدة من آخر يومياته على النحو التالي:
“أتأمل في حساسية مرحلة الشباب ووحدتها، وأدرك مساهمة ذلك الشعور في إثراء سنوات الشباب، وجمال الشباب”.
رابط المقال الأصلي: