تقارير لوي ماسينيون الاستخبارية… سياسة من غير “استشراق”!/ وضاح شرارة
تقارير لوي ماسينيون الاستخبارية… سياسة من غير “استشراق”! أما “معركة” الرجل الأولى فهي اللغة العربية
في أثناء نصف قرن تقريباً، من 1907 إلى 1955، تردد دارس الإسلاميات واللغويات والاجتماعيات والإناسيات العربية والاسلامية (“المستشرق”، في كلمة تختصر الموضوعات والحذر والتشكيك)، الفرنسي لوي(س) ماسينيون (1883-1962)، إلى معظم بلدان الاسلام، مشارقها ومغاربها، متذرعاً بذرائع كثيرة. فكان، تباعاً ومعاً، الاختصاصي في الحفريات والآثار، ومتقصي أحوال الاجتماع والعمران، وضابط الاستخبارات والجندي المقاتل، وديبلوماسي المستعمرات، ومستشار وزرائها وجنرالاتها في الحواضر، ومفاوض المعاهدات والسياسات، وعضو المجامع العلمية اللغوية، وزائر أضرحة كبار الصوفيين والفقهاء، ووسيط بعثات الممنوحين، والمشرف على الأطاريح (أطروحات الاختصاص)، ومحاور كبار السياسيين الوطنيين في المعارضة والحكم، والأستاذ المحاضر في الفرنسية والعربية ولماماً في الفارسية والأوردو، إلخ. واضطلع الرجل في أوقات حاسمة شهدت الإعداد للحرب العالمية الأولى، واقتسام المنتصرين ممتلكات الامبراطوريات الآفلة، وحركات التحرر من السيطرة الاستعمارية والانتدابات والفصل الأول من تاريخ الدول المستقلة، بدور الناصح أو المشير السياسي، والمستشرف أطوار المجتمعات القادمة في ضوء رصده صيرورة المعاني الثقافية والتاريخية التي يبلورها أقوام هذه المجتمعات وشعوبها في حقبات تاريخها الطويل.
وفي هذا كله، كان ماسينيون، على ما لم ينكر يوماً، موظفاً استعمارياً فرنسياً، وخبيراً في ثقافات بعض المستعمرات الفرنسية في طوريها. وأسهم، يوم عمل في فريق جان – فرنسوا بيكو مفاوض مارك سايكس البريطاني (والفريقان “ولدا” اتفاق “سايكس- بيكو” على تقسيم المشرق العربي العثماني)، في الاتفاق العتيد. ولم يقبل بنوده الثلاثة الأساسية: تقسيم سوريا على حساب المسلمين السنة، وإنشاء لبنان الكبير، وتمهيد الانتداب البريطاني لاستيطان المهاجرين اليهود الاوروبيين” بيتاً- وطناً- دياراً” في فلسطين.
وندد لاحقاً بإخلاف كليمنصو عهده إلى فيصل بتأييد قيام مملكة فيديرالية عربية، وماسينيون اضطلع بدور في اتفاق الرجلين. ولويس ماسينيون في المشرق، كتابات سياسية (عن دار ألبان ميشال الفرنسية، نيسان/أبريل 2019، نشر وعناية وتمهيد جيرار د.خوري، اللبناني- الفرنسي، وتقديم هنري لورينس، أستاذ كرسي في كوليج دي فرانس)، تقتصر على رسائله وتقاريره الإدارية عن بعثاته إلى السفراء ومديري الأقسام الوزارية والوزراء الذين ندبوه رسمياً إلى جولاته. والرسائل والتقارير هذه لم تنشر من قبل، ووقع عليها جامعها في الملفات الديبلوماسية. ولم يرفقها، طبعاً، بالمقالات والمحاضرات التي كتبها ماسينيون في الأثناء، وطبعتها دوريات علمية بارزة قبل أن يصدر معظمها في كتب “متفرقات” (الأعمال الثانوية في 3 مجلدات اعتنى بنشرها يواكيم مبارك وطبعتها دار المشرق، ومعظمها جدد نشره في أعمال متقاطعة على ترتيب مختلف…).
وسعي الكاتب والمتصوف (والاستخباري والعسكري والمؤرخ ودارس الاجتماعيات وواصفها اللغوي الذي شغلته أواخر الأفعال وصيغ جمع التكسير…) في مناكب أراضي الاسلام وبين أظهر المسلمين ومنازلهم، يثير سؤالاً عن علاقة “العالم” بموضوع علمه. ومن يوضع عليهم “العلم” هم أهل هذا العمران. وعلى خلاف دارسين و”علماء” من هذا القبيل كثر، تناول ماسينيون موضوعه على وجهين: الوجه التاريخي والثقافي والاجتماعي المديد، وهو يدعو أو دعا زمناً طويلاً إلى التحجير على “جوهر” موضوعه وحمله على “طبائع حضارية” ثابتة؛ والوجه السياسي المعاصر والماثل، والممتحن يوماً بعد يوم الاجراءات والقرارات التي تحكمها مصالح ومعايير وموازنات ملحة.
وبعض التقارير مرآة حوادث ووقائع تجمع في وقت واحد وضيق جملاً وآماداً زمنية شديدة التفاوت. فإذا استقر ببغداد في الشهر الأول من عام 1908، ونسج أواصر صداقة ببعض أدباء حيدرخانة ووجوهه، خلص إلى أن الكتابات التي خص بها باحثون ألمان وبريطانيون وفرنسيون رسوم بغداد القديمة وحاراتها ونهوجها وشوارعها غير وافية. ولم يغفل في الأثناء عن ملاحظة فتك الأوبئة ببغداد وأهلها. وحين أراد تعقب طريق خراسان، شمالاً وشرقاً، وطريق الأهواز، شرقاً، حالت المناوشات التركية – الفارسية بينه وبين السفر على الطريقين. ويعود إلى ماسينيون، وهو في الخامسة والعشرين، نبش آثار قصر الأخيضر الساساني. وغزا عرب الحواطين بعثته، وهو يقفل عائداً من مسح الأثر الجديد. فيتصل على نحو متشابك زمن الامبراطوريات بزمن المنازعات القبلية والمراتب الاجتماعية التقليدية والحفريات الأثرية الألفية والمعاصرة وأوبئة المدن وصرفها الصحي…
ويقضي الملازم الفرنسي الشاب بعض الوقت في أحد مخيمات الفيلق العربي بالاسماعيلية مراقباً ومجنِّداً، في صيف 1917. فيتناول تقريره نهج التدريب الفرنسي وأثره في المتطوعين. ولا يتردد المراقب في تفضيل نهج وطنه على النهج البريطاني، شأنه في معظم المقارنات تقريباً، إذا استثنيت مقارنة سياسة الانتداب الفرنسي على “الدول” السورية وعلى لبنان بسياسة الانتداب البريطاني على العراق (وليس على فلسطين). فهو يقدم السياسة البريطانية، وتقسيمها السلطات على النخب المحلية وعلى سلطة الوصاية، على التصلب الفرنسي وميله إلى جماعة دون جماعة. ويتناول تقرير المخيم علاقات المتطوعين بعضهم ببعض، أفراداً وجماعات، ويدون مراعاة الجنود المسلمين لزملائهم المسيحيين على نحو ملفت. ويقول إن ذلك لم يكبح نازع “الجماعة المضطهدة” إلى “الانفصال”، ولم يحفزها على التخلي عن “قرفها من مهنة السلاح”، على جاري عادة “أهل الوضاعة الصاغرين” (ص 128). ويخلص من ملاحظته القاسية إلى أن “اصطناع الخصوصية ليس غالباً إلا ثوباً حيياً تلبسه” ميول هؤلاء. ويروي التقرير أن المسيحيين رفضوا جميعاً ارتداء اللباس العسكري، واشترطوا لقاء بقائهم في الفيلق تولي أعمال الخياطة والسكافة والخدمة، والاقتصار عليها.
وأجيز للـ”جنود” المسيحيين الخروج إلى الاسماعيلية في عطلة يوم الأحد، وعهد إلى ماسينيون بالنظارة عليهم. فلم يفته اعتدادهم ببزتهم العسكرية، غداة تمردهم على تجنيدهم ومشيهم في المدينة “أحراراً”، على قوله. وهم يعون “شخصيتهم الجماعية الموروثة”، ويدركون “خصوصيتهم الدينية وليس البلدية”، على تمييز وترتيب ثاقبين. فاللحمة التي تشد هؤلاء “العرب” بعضهم إلى بعض، وتفرقهم، ليس مرجعها الأرض (البلد) بل المعتقد الذي يجتمعون عليه، ويرتضونه تعريفاً، ويتوارثونه تاريخاً ومعاني رمزية. وينسب ماسينيون، في تعليله المضمر، أفعال المجندين إلى لحمة جماعتهم الناشئة عن تاريخ من الاضطهاد والعزلة عن الجماعة الغالبة والكثيرة، وإلى اعتيادهم مزاولة مهن وحرف “مدنية” أو “معاشية” على هامش “المجتمع العسكري” الذي توسط العلاقات السياسية والمراتب الاجتماعية في كنف سلطاني أو امبراطوري “وارف”. وغداة النزهة في الاسماعيلية، في الزي العسكري، دعا الضباط المسلمون (حكماً) المجندين المسيحييين إلى أداء تمارينهم، فثار هؤلاء على الضباط وتمردوا، وأعملوا اعتداد البارحة في تمرد اليوم، مع ما في الأمر من مفارقة وغرابة.
ولا يجاري الضابط ماسينيون تعليل آمر السرية العربي رفض المجندين المسيحيين التمرين العسكري. فالآمر لا يشك في أن تمرد المجندين ثمرة “إيحاء” وتحريض، بينما يتعقب المستشرق سلسلة الأسباب الظرفية الاجتماعية والنفسية، وتضافرها على تعليل اعتزال الحرب وإنكارها، وإن لبست لبوس تمارين وتدريب. ولا يحجِّر التعليلُ الحالَ التي يشرحها على نزاع “طائفي”، مسيحي وإسلامي، يتجدد جراء جذور تضرب في عتمة الجهل والظلم والانحراف عن المعتقد القويم. فيرد الانفصال الذي يشهده إلى شبيهه، ثورة أهالي الفانديه، الكاثوليك الفرنسيين، في أثناء الثورة الفرنسية الكبيرة على باريس اليعقوبية، وإلى قيام الإيرلنديين الكاثوليك على لندن “البروتستانتية” الانجيلية، والكنديين الفرنسيين والكاثوليك على حكومة الملكة (البريطانية) ودستورها.
وفي تناوله قضايا أخرى مثل قضية الهند عشية استقلالها، وانفصال باكستان الدامي عنها، مال ماسينيون (وهو التقى غاندي) إلى سياسة تنأى بالجماعات عن اختبار موازين القوى الداخلية ومنازعاتها الأهلية الملازمة. ونعى على السياسة الفرنسية في المشرق مماشاتها “بيروت” ومصالحها الضيقة والمتعنتة و”المتفرنسة” على حساب الداخلية الاسلامية والعربية. وحمل على إبراز الانتداب حركات تغالي في الخصوصية، على شاكلة حركة سليمان مرشد العلوي. وقد يكون ماسينيون من الباحثين والشهود القلائل الذين حمّلوا سلطة الانتداب واستخباراتها المسؤولية الاولى عن هذه الحركة.
وأما “معركة” الرجل الأولى فهي اللغة العربية. فلم ينفك يدعو إلى تعليمها، والتعلم بها، وإعداد معلميها ومتعلميها، من فرنسيين وعرب، في العربية. ونسب إليها “فهماً” للعالم يتخطى التجزئة التحليلية والتقنية. وهذا ربما من تهويمات (بعض) العصر، ولكنه لا يقتصر عليها. فهل هذا “المستشرق” يُرمى جزاء خطيئته، بحجر المجدلية؟
المدن