الحرب الثقافية الساخنة: بوتين و«نهاية الليبرالية»/ محمد سامي الكيال
أثارت تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في قمة العشرين المنعقدة في اليابان، استياء كثير من السياسيين ووسائل الإعلام الغربية، ودفعت بعض المشاركين في القمة، مثل دونالد تاسك وإيمانويل ماكرون، إلى إطلاق تصريحات لا تبدو مألوفة في لقاء مخصص لبحث القضايا السياسية والاقتصادية الاعتيادية. ما يعطي إشارة عن طبيعة السياسات الروسية في عصرنا: ما زالت هذه الامبراطورية، التي تعتبر نفسها وريثة القسطنطينية وروما، تقدم نفسها قوةً حضارية قادرة على نقد الغرب، وادعاء نوع من التفوق عليه، وهي نزعة لم تنقطع طيلة التاريخ الروسي الحديث.
بالنسبة لبوتين الليبرالية تجاوزها التاريخ، وباتت تتناقض مع مصالح أغلبية السكان. بعض عناصر الفكرة الليبرالية مثل التعددية الثقافية و«الإفراط» في قضايا الجندر والمثلية الجنسية لم تعد مقبولة، ودليل على انفصال النخب الليبرالية عن حياة البشر العاديين، ما أدى إلى تصاعد الظواهر الشعبوية ونجاح دونالد ترامب. قد تبدو هذه التصريحات محاولة لاستمالة اليمينيين في الدول الغربية، أو تعبيراً عن التفكير المحافظ الذي تتسم به القيادة الروسية، إلا أنها تحمل أبعاداً أخرى تتعلق بطبيعة الحروب الثقافية التي تدور في كثير من أنحاء العالم، خاصة في الغرب، والتي تصاعدت بشدة عقب الأزمة المالية العالمية عام 2008، وأدت لطرح أسئلة جدّية حول كفاءة ما يفترض أنه نموذج ديمقراطي ليبرالي غربي، كان يبدو منتصراً حتى وقت قريب، وساعياً لتعميم مبادئه على الصعيد العالمي. في هذا الشرط تقدم دول مثل روسيا والصين والمجر نماذج أخرى، تعطي للسيادة أولوية على التعددية، وللسياسي أفضلية على الحقوقي، وللدولة صلاحيات أكبر على حساب المجتمع المدني.
ولكن هل الميل لهذا البديل يقتصر على الدول غير الليبرالية مثل روسيا؟ وهل يبدو بوتين في تصريحاته ممثلاً للاستبداد ضد النزعة التحررية، كما اتهمه كثيرون؟ وما هي أفضلية الغرب على روسيا في حروب الثقافة والهوية هذه؟
أمنا الفاضلة روسيا
علاقة روسيا بالتحديث على النمط الأوروبي كانت دائماً معقدة، تراوحت بين السعي لتجاوز التخلف المحلي و«أوروبة روسيا»، ونزعات تعطي للثقافة والروح الروسية أفضلية على الغرب. وبعد عهد الرئيس بوريس يلتسين، الذي يعدّه كثيرٌ من الوطنيين كارثياً، بما شابه من تبعية سياسية وثقافية، وتفريط بالأمن القومي الروسي، تصاعدت من جديد النزعة القومية المحافظة، والميل لتقديس الدولة الروسية مع بوتين. وهو ميل يبدو واضحاً في التعامل مع الرموز التاريخية للبلاد، فيتم الاحتفاء رسمياً بالقياصرة المستبدين مثل إيفان الرهيب ونيكولاي الأول وألكسندر الثالث، على حساب الحكّام الإصلاحيين مثل، ألكسندر الثاني، الذي ألغى القنانة وأدخل كثيراً من الإصلاحات الليبرالية للبلاد. ويترافق ارتفاع شعبية ستالين، للمفارقة، بميل لإدانة لينين والثورة البلشفية نفسها، لأنه وبعض رفاقه «زرعوا بأفكارهم قنبلة ذرية تحت الصرح المسمى روسيا»، حسب تعبير بوتين. وبعد عقود من نشر «الإلحاد العلمي» تعود الكنيسة الأرثوذوكسية لمكانتها، بوصفها أحد أهم أعمدة الدولة الروسية. وهذا ليس رأي المحافظين الروس حسب، بل عبّر عنه أيضاً غينادي زوغانوف، زعيم الحزب الشيوعي الروسي. وفي مواجهة «الروسوفوبيا» (الخوف المرضي المزعوم من كل ما هو روسي) تتم إعادة الاعتبار للقيم المحافظة والمؤسسات الاجتماعية التقليدية، وإصدار قوانين التجديف. إنها روسيا التقليدية، الأوراسية، القائمة على الهرمية البطرياركية، التي ترى في القيم الريفية القديمة «روح البلاد». وتختلف عن روسيا الأكثر أوروبية وحداثة وتمدناً، التي سعى إليها الثوار الليبراليون واليساريون، منذ «انتفاضة الديسمبريين» عام 1825، وصولاً لتصورات لينين وتروتسكي عن دور البروليتاريا المدينية في إخراج روسيا من تخلفها الآسيوي الفلاحي.
في روسيا اليوم كثير من المنظرين، على شاكلة ألكسندر دوغين، الذين ينتقدون التحديث والليبرالية والديمقراطية، وكل ما له علاقة بما يرونه غرباً منحلاً ضيّع قيمه. وتتحدث الصحافة الغربية عن تأثيرهم على القيادة الروسية، إلا أن تصريحات بوتين، رغم ما تبدو عليه من شعبوية وتبسيط، لا يمكن ردها إلى هذا التأثير وحده، فهو لم يتحدث وحسب عن ضياع القيم التقليدية، و«نسيان الأصول التوراتية التي يقوم عليها عالمنا»، ولم يكن طرحه قائماً أساساً على تفضيل التسلطية على التحررية، بل ركز على أن القيم الليبرالية نفسها أصبحت قائمة على التلقين والقمع، الذي تفرضه نخب وفئات ذات امتياز على المجتمع. هو لا يشتكي من فرط التفلّت، والتحرر المبالغ به لليبراليين، بل من تسلطهم. إلى درجة أنه استخدم، في رده على الهجوم الذي شنّه عليه المغني البريطاني إلتون جون، بسبب موقفه من المثلية، عبارات كانت حتى فترة قريبة من أساسيات الخطاب الليبرالي: «دعوا القاصر يكبر وعندها يقرر هويته، أتركوا الأطفال وشأنهم»، و«لا يمكن فرض وجهة نظر بالقوة». هنا تبدو المسألة أكثر تعقيداً من مجرد نعت بوتين بالتهم التقليدية: أبوي، ذكوري، متخلف، الخ.
فرط الأخلاق الليبرالي
إذا كانت روسيا تميل بشدة إلى القيم البطرياركية، فإن الليبرالية المعاصرة تشهد بدورها اتجاهاً نحو الأخلاقوية المفرطة، التي أصبح لها حضور مؤسساتي مهيمن، والقدرة على فرض خطابها في كل المجالات. عندما يكتسب كل موقف أو رأي مبرراته من تصور مكتفٍ بذاته عن الأخلاق، تصبح المعارضة والرأي الآخر أمراً لا أخلاقياً بالضرورة. وبالتالي عنصراً يجب إقصاؤه وحصاره اجتماعياً. لطالما امتلكت الأيديولوجيات المختلفة مواقفها الأخلاقية الصلبة، ولكن الجديد في عصرنا أن الليبرالية تجعل تفضيلاتها الأخلاقية برامج مؤسساتية ملزمة، تكتسب طابعاً فوق سياسي وفوق أيديولوجي. إنها ليست مجرد وجهة نظر، ومطالب يمكن مناقشتها لفئات معينة، أو منظومة تسمح بالجدل الاجتماعي الحر، بل هي «الموقف الشرعي الوحيد». يبدو هذا مخالفاً للتصورات الكلاسيكية عن الليبرالية، فبدلاً من المطالبة بالسماح للجميع بالتطور الذاتي المستقل وحرية الاختيار، يتم إنتاج أنماط حياة وتفكير صحيحة، يتصاعد الميل لحظر وتحريم كل ما يخالفها.
يستعمل بعض المحافظين الأوروبيين اليوم أعمال الفيلسوف والأنثروبولوجي الألماني أرنولد غيلين لتفسير ونقد الأخلاقوية الليبرالية، ففي كتابه «الأخلاق والأخلاق المفرطة»، الصادر عام 1969، يؤكد غيلين على التنوع الأنثروبولوجي لمصادر الأخلاق الإنسانية، مثل العمليات الغريزية التي يمكن تفسيرها فيزيولوجياً، ومبدأ المعاملة بالمثل، المشترك بين كل الثقافات، والسلوك الأخلاقي المستمد من القيم الأسرية، بالإضافة لدور المؤسسات الاجتماعية في تنظيم حياة البشر. تنبع الأخلاق المفرطة، بحسبه، من إنكار هذه التعددية، والاعتماد على مصدر أخلاقي واحد يدعي تفوقه على البقية، وصلاحيته لإجراء هندسة اجتماعية تجعل كل المجالات متوافقة معه، ما يشكّل خطراً على استقلالية الأنظمة الاجتماعية، وعلى رأسها السياسة، التي لا يمكن تنظيمها جميعاً وفقاً للمبدأ الأخلاقي. يحمّل غيلين التنوير والنزعة الإنسانية مسؤولية الأخلاقوية المفرطة، ويرى أن تراجع الدين والدولة والبنى التقليدية جعل للأخلاق منظومة مستقلة بذاتها، تطغى على كل ما حولها. لا نظن أن ثقافة بوتين وصلت لدرجة الاطلاع على كتابات غيلين شديدة التعقيد، ولكن تصريحاته، في كل الأحوال، يمكن أن تعطي دفعة للنقد الأكثر عمقاً لليبرالية.
هل هي ليبرالية؟
إلا أن الأخلاقية المفرطة ليست سمة ملازمة لكل أشكال التنوير والنزعة الإنسانية، وقد لاحظ الكاتب الألماني المعاصر ألكسندر غراو، المتأثر بغيلين بشدة، أن تراجع الأيديولوجيات الكبرى جعل الأخلاقوية «أيديولوجية نفسها»، وعقيدة لا تقبل التسامح مع أي مبدأ آخر. فضلاً عن كونها تعبيراً ثقافياً مناسباً لنمط الرأسمالية الحالي، لأنها تعطي العمليات الاقتصادية طابعاً متوافقاً مع التطور الأخلاقي المزعوم للإنسان المعاصر.
هذا التصور مفيد جداً لفهم ما يسمى ليبرالية في عصر ما بعد الأيديولوجيا، فهي، خلافاً لليبرالية بمعناها السياسي القديم، الذي قام على أساس الحريات الفردية والحقوق العامة، مبدأٌ يساهم في نزع السياسة من المجتمع، واستبدالها بهيمنة تكنوقراطية – بيروقراطية فوق سياسية، تبرر نفسها بتصور نرجسي عن الواجب الأخلاقي.
يمكننا أن نلاحظ أن تصريحات بوتين لا تحوي أي إشارة واضحة للقضايا الاجتماعية والاقتصادية، فالمشكلة بالنسبة إليه ثقافية تماماً على ما يبدو، ما يجعله أكثر ثقافوية حتى من بعض قادة اليمين الشعبوي، مثل ماري لوبان، التي تشير إلى الآثار السلبية للعولمة على القدرة الشرائية للفرنسيين وفرص عملهم. وسواء نظرنا للمسألة من زاوية روسيا التي تستعيد روحها، أو الليبرالية الغربية بأخلاقها المتضخمة، فإن ما نشهده هو عداء لكل ما هو اجتماعي وسياسي. ما يجعل هذه الحرب الثقافية علامة على عمق الأزمة التي يعيشها عالمنا المعاصر. فلا اليمين الشعبوي، الذي يعوّل عليه بوتين، ناجحٌ انتخابياً وشعبياً للدرجة التي يدّعيها أنصاره، وقادرٌ على تقديم البدائل. ولا «الليبرالية» تستطيع الخروج من أزماتها والحفاظ على نموذجها. ربما الأجدى البحث عن الحلول خارج حروب الثقافة والهوية، وبعيداً عن المزاودة الأخلاقية.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي