فنون الهامش: الصراع مع الشكل القائم/ عمار المأمون
يُتداول تعبير الهامش دائماً في السياقات السياسية والفنية والثقافيّة، هو حاضر ضمن أيّ محاولة لفهم ديناميكيّة القوى وصراعها، بوصفه تعبيراً عن أشكال من الموجودات التي لا تدخل بشكل كامل ضمن النظام القائم، الذي يسعى للحفاظ على “هامشيتها”، ونفيها مما هو عام ومشترك ومتداول والأهم شرعيّ.
حقيقة، لا يمكن الآن في ظل عوالم ما بعد الحداثة تحديد الهامش والمركز بدقة، فالحدود بينهما مائعة في ظل تعدد المراكز، وتحوّل الهوامش إلى مراكز بشكل مستمر، إلى جانب تطوّر أساليب الاتصال التي جعلت ما هو خفي ومنفي، ظاهراً وعلنياً، إلا أن الشكل القائم في المنطقة العربيّة، ما زال يختزن داخله صراعاً سياسياً وجمالياً، وبالرغم من “حق الظهور” الذي وفّرته وسائل التواصل الاجتماعيّ وثورات الربيع العربيّ التي ساهمت بشهرة الكثيرين، ومازالت السلطات والمؤسسات الرسميّة والثقافيّة إلى جانب التقاليد والأعراف تقف بوجه الكثير من الأشكال الفنيّة، سواء كان ذلك بشكل مباشر عبر غياب تسهيلات الإنتاج والحرمان من الاستقبال في المساحات الرسميّة، أو عبر المواجهة المباشرة التي تتمثل بالمنع أو التهديد بالاعتقال الذي يطال الفنانين.
هذا الصراع والعنف المرتبط به يحيلنا إلى الهامش بوصفه خطراً و تهديداً للشكل القائم الذي يمتلك جماليات تختزن بداخلها الطاعة والتسامح والغفران والدعوة إلى الاستكانة، ولا نقصد فقط الحكايات التي تختزنها الأشكال الفنيّة الرسميّة، بل أيضاً أساليب التعبير والمكونات الداخليّة للعمل الفنيّ، وهنا يبرز الهامش بوصفه ميّالاً دوماً نحو التغيير والتخريب، هو يطرح التساؤلات على ما هو موجود ويشكك بقيمته، كما أنه لا يمهد لبناء جديد أو بديل، لكنه يطرح السؤال عن جدوى القائم، ويكشف علاقات القوة والهيمنة الناتجة عن المنع ومبرراته التي تجعل ما نراه ونستقبله بهذه الصورة، ما يجعل ممارسات الهامش انتهاكاً من نوع ما، ما يجعله خياراً من جهة ونتيجة لقوة خارجيّة من جهة أخرى.
الصراع الفني بين الهامش والمركز يبدأ مع الاعتراف الفنيّ، أو بصورة أدق عمليّة الـ”Artification” التي تتحول إثرها ظاهرة ما أو مُنتج ما إلى “فن”، تحميه المؤسسة وتحافظ على حقوق ملّاكه ومنتجيه وتتبنى جمالياته، وهنا تبرز قدرة السلطة على توظيف سطوتها لنفي شكل ما على حساب آخر، ولا نقصد فقط المؤسسات الوطنيّة والنقابات الفنيّة، بل أيضاً المتاحف وصالات العرض التي تمنح الاعتراف للمنتج الفنّي، أي أن الصراع مرتبط بأحقية الظهور الماديّ، وهذا يمتد لخارج مساحات المتحف، في الساحات العامة والشوارع الخاضعة لقوانين وأعراف دقيقة، ليأتي “الغرافيتي” مثلاً كمخالفة قانونية، كون المنتج النهائيّ يعتبر “تشويها” للفضاء العام ولا بدّ من إزالته، كما أن عملية إنتاجه خطيرة، كون العاملين فيه يتعرضون للملاحقة القضائيّة أو الاعتقال. ذات الشيء ينطبق على فنّ الأداء، الذي يقتحم الحياة اليوميّة، ويهدد أعراف الحركة والانتقال و”أمن الناس″، فالمتشابهون في الشارع يتورّطون في “اللعب”، ويتحولون إما لمشاهدين عفويين أو مشاركين في الأداء الذي قد ينتهي بتخريب الممتلكات العامة أو عرقلة السير، أو تعريض حياة الأفراد للخطر.
تتجلى جماليات الهامش أيضاً بوصفه نَفياً للأشكال القائمة، إما عبر إعادة إنتاجها والسخرية منها أو تقديم جماليات مختلفة، وابتداع علاقات “جديدة” ضمن بنية العمل الفنيّ تخالف تلك الرسميّة والمُشرعنة أو التي يوافق العُرف على ظهورها بشكل ما، هذه الجماليات الجديدة نراها في فنون الشارع التي ترافقت مع ثورات الربيع العربيّ، والتي سخّرت من صور الدكتاتور والطاغية وحولته إلى أضحوكة ونكتة يلقيها المارّة علناً، بعد أن كان ممنوعاً السخريّة منه أو أحياناً النطق باسمه بصوت عال كما في سوريا.
يمكن القول إن الهامش يقدم حكايات كانت مخفية أو مخبأة ويتيح لها الظهور، هو تعبير علني عن الأصوات الخفيّة غير المرئيّة ، تلك التي لا تُكتب، بل تردّد سرّاً، وظهورها في أشكال الهامش الفنيّة أتاح لنا أن نرى المواضع المشطوبة، تلك التي اختفت بسبب السلطة والخوف وأشكال الهيمنة الثقافيّة.
لا يرتبط الهامش بالموضوعات فقط بل بالشكل الفنيّ وأماكن تواجده، وهنا يمكن النظر إلى المُنتج الفني بوصفه حدثاً جمالياً، يَختزن قيماً ثقافيّة وسياسيّة توازيا مع هو جماليّ، ما يجعله ينتمي إلى العالم ومكوناته، وهذا ما ينطبق على أشكال الاحتجاج المختلفة التي شهدتها الساحات في الربيع العربيّ، والتي بالرغم من أنها سياسيّة، إلا أنها تبنت خصائص فنية وجماليّة، مستمدّة من الكرنفال والمسرح وفن الأداء والشعر، هي أحداث علنيّة تواجه السلطة وتحمل جماليات النفي والانتهاك وتقدم خطاباً مغاير للوطني، كما في الأناشيد التي كانت ومازالت تغنّي ضد بشار الأسد، وأشكال الرقص والحركة في سبيل التظاهر أو تفادي خطر قوى الأمن، فنحن أمام أشكال بديلة عن تلك الرسميّة المقننة والخاضعة للمراقبة والتي تضمن تماسك الفضاء العام الرمزيّ وخصائصه الأيديولوجيّة التي تغذيّها السلطة.
أتاحت وسائل التواصل الاجتماعيّ قنوات جديدّة لظهور فنون الهامش وتداولها ومعرفتها، في ذات الوقت أتاحت هذه القنوات ظهور أشكال جديدة غير معترف بها بصورة رسميّة، كفنون الهواة وفنون الأنستغرام، والتي لا تجد مخرجاً لها سوى في مواقع التواصل، فالمتاحف وصالات العرض لا تأخذها على محمل الجدّ لأسباب تتعلق بحقوق الملكيّة كما في فنون الهواة، أو تعريفات بائدة ترتبط بالراقي وعلاقته الفوقية ما يدّعي أنه مبتذل كما في فنون الأنستغرام، والتي ينظر إليها على أنها هاوية ولا قيمة لها بل مجرد لعب طفولي.
يرتبط الهامش أيضاً بالجمهور، والفنون التي لا تلقى رواجاً بسبب موضوعاتها أو شكلها، وذلك لحساسيات دينيّة أو اجتماعيّة، كحالة فن الوشم، الذي يعتبر إشكالياً بوصف أدواته ترتبط بالجلد وبالموضوعة الحيّة، وهنا يقع الصراع بين الفنان من جهة وبين صاحب اللحم من جهة أخرى، إلى جانب الوازع الاجتماعي والديني المرتبط بالجسد الموشوم، والتي أحياناً تجعل الوشم مُحاطاً بالسريّة، أو خفيّاً في أماكن لا يمكن استعراضها، خصوصاً أن بعض الوشوم تتجاوز التقليد المحلي والشعبي.
وتتحول إلى أعمال فنيّة متحركة يحملها جلد الشخص، وتعود ملكيتها للفرد والفنان في ذات الوقت، والأصعب هي عملية عرضها، فهل نعرض التصميم بوصفه لوحة، أم الجسد واللحم الحيّ بوصفه عملا فنيّا؟
ثورية الهامش ليست بالضرورة إيجابيّة، هي تتحرك أحياناً وفق ديناميكيّة السياسة والسلطة كونها القادرة على تغيير الشكل القائم، في حين أن الفني والجمالي يطرح التساؤلات ويهدد العرف ويدعو أحياناً للتغير الثوري باستخدام العنف، وهنا نعود لأمثلة شهيرة تناولتها الدراسات الثقافيّة والتي تتأسف مثلاً على الحركات المستقبليّة التي اتجهت نحو الفاشيّة، وبقيت جمالياتها لاحقاً أسيرة فنون البوستر والإعلان بالرغم من مضمونها الثوري إلا أن ارتباطها الأيديولوجيّ جعلها تهديدًا خطيراً إن تم أخذ دعواتها على محمل الجدّ.
ما إن يتحول الهامش إلى مركز حتى يصبح هدفاً لا بدّ من نفيه، فنحن أمام حراك دائم، لا يتوقف، وخصوصاً في حال كان هناك صراع أنطولوجيّ ضمن الحقل الثقافيّ، أي اختلافات في تعريف وتصنيف ما هو فنيّ/ثقافيّ وما هو طبيعيّ، فهل بيوت العناكب شكلّ فنيّ؟ هل تحنيط الجثث عمليّة فنيّة؟ هذه التساؤلات مازالت غائبة في الثقافة العربيّة، خصوصاً في ظل غياب حريّة التعبير، واعتبار مساحات اللعب والجهد الفنيّ كمساحات سياديّة خاضعة للمراقبة وأهواء السلطة التي حتى إن أباحت شكلاً ما فهي تبيحه لخدمتها فقط، ضامنة أنه لا يشكّل تهديداً.
ينشر بالاتفاق مع مجلة “الجديد” الشهرية الثقافية
كاتب سوري
العرب