كُتب لم يكتبها أحد/ حسن الوزاني
في روايته “ليالي إيزيس كوبيا: ثلاثمئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية”، يحرص واسيني الأعرج، منذ البداية، على توضيح ملابسات رحلته في البحث عن مخطوطة “ليالي العصفورية”، وتبدأ الرحلة، التي استمرت ثلاث سنوات، مع فكرة إنجاز شريط وثائقي عن مي زيادة، كان يُحضر له الراوي، الذي كان يعمل في المكتبة الوطنية الفرنسية-فرانسوا ميتران، رفقة الباحثة روز خليل، المتخصصة في الدراسات النسوية العربية بمنتريال.
وستقتضي الرحلة منهما خوض مسارات عديدة، ومن ذلك زيارة مستشفى العصفورية، حيث قضت مي زيادة أسوء أيامها، وأيضا مستشفى نيقولا رابز، حيث أمضت فترة استراحة بعد خروجها من المستشفى العقلي السابق. كما كان عليهما الالتقاء بعدد من الشخصيات التي ربطتها علاقات بعائلة مي زيادة، وأيضا التنقل بين مدن العالم، بحثا عن أثر ما لمي، ابتداء من بيروت، ومرورا بالقاهرة وروما وبرلين ولندن وفيينا وباريس وانتهاء بمدينة الناصرة.
ولم تكن الرحلة بعيدة عن المخاطر، بل كادت تكون وراء حتفهما، إذ شاء القدر أن يكون الراوي وروز الخليل الوحيدين اللذين استطاعا النجاة بعد سقوط الطائرة المصرية التي كان يفترض أن تقلهما من باريس إلى القاهرة، وذلك بعد أن كانت روز قد أجلت السفر قبيل انطلاق الطائرة. أما الرحلة فستنتهي باكتشاف المخطوط، في نسخته الأصلية، وأيضا في طبعته المصورة من طرف المكتبة الوطنية الفرنسية ومختبر الأبحاث الأنتروبولوجية والأدبية في مونتريال. وهو النص الذي سيحتل كتاب “ليالي إيزيس كوبيا”، مع تحقيق روز خليل والراوي ياسين الأبيض.
واستطاع واسيني الأعرج بذكائه أن يخلق نصا مدهشا قد يشعر القارئ أنه أمام نص حقيقي لمي زيادة، مستثمرا كثيرا من التفاصيل المتخيلة، ومن ذلك شخصية رفيقته في الرحلة روز الخليل، التي لم أعثر شخصيا على أي معلومات عنها على موقع جامعة مونتريال، وإن كنت أعرف مسبقا أنها شخصية مختلقة.
والحقيقة أن لعبة اعتماد المخطوطات المتخيلة في كتابة نصوص روائية ما تغري الكثيرين. وأستحضر هنا، على مستوى السياق الروائي العربي، على سبيل المثال، رواية “تغريبة العبدي” للمغربي عبدالرحيم حبيبي. وكان الراوي قد اقتنى نصا مخطوطا ينتمي إلى أدب الرحلات، بأحد أسواق المتلاشيات والمواد المهربة والمستعملة بمدينة آسفي. وهو المخطوط الذي ألفه، حسب متخيل الراوي، فقيه اسمه العبدي. أما قوة العمل فتكمن في تمكن الروائي عبدالرحيم حبيبي من كتابة نص المخطوطة المتخيلة، بشكل يتماهى مع لغة وطريقة كتابة نص يُفترض أنه كُتب من طرف فقيه، خلال بدايات القرن العشرين.
وخارج النموذجين، يبدو أن اختلاق المخطوطات يشكل ظاهرة مشتركة على المستوى الإنساني. ولا تقف اللعبة هنا، بل تذهب إلى حد اصطناع كتب لا وجود لها إلا في الإشارات داخل النصوص الروائية أو المسرحيات أو الرسوم المتحركة أو غيرها من الأعمال، بشكل يجعلنا أمام مكتبات كبرى متخيلة، لا توجد إلا من خلال عناوينها المختلقة. وتبدو النماذج في هذا الإطار عديدة، ابتداء من فرانسوا روبالي في كتابه “السيدة دي مونبنسييه”، ومرورا ببالزاك في “أوهام ضائعة”، وغيوم أبولينير في “الشاعر القتيل”، وإدوار بودرت في كتابه “صدر حديثا”، وجورج بيريك في “الحياة دليل الاستعمال”، وأمبرتو إيكو في “اسم الوردة” وغيرهم.
أما خورخي لويس بورخيس فلم يكتف بخلق عناوين لكتب ما، بل ذهب، في نصه الشهير “مكتبة بابل”، إلى حد تخيل مكتبة ضخمة، تضم عددا لا ينتهي من الكتب، لها نفس الأحجام وعدد الصفحات وعدد الأسطر، وحيث طول رفوف الكتب يعلو الكون بمرتين.
وستكون مكتبة بورخيس المتخيلة وتأسسها على موضوع اللانهائي وراء عدد هام من الأبحاث المرتبطة بمجال المعلوميات، ومن ذلك كتاب “فكرة داروين الخطيرة” للفيلسوف الأميركي دانييل دنيت. أما الباحث جوناتا باستل فسيعطي حياة جديدة لمكتبة بابل المتخيلة من طرف بورخيس، حيث أطلق مكتبة افتراضية على النيت، تقوم على خوارزمية تمكن من خلق جميع التركيبات الممكنة انطلاقا من حروف اللغة اللاتينية.
قبل عشرين سنة، أقدم الباحث الفرنسي جاك جيوفروي على إصدار كتابه المثير “ألف كتاب وكتاب متخيَل”، والذي يحصر متنا كبيرا لكتاب اختاروا، كل بطريقته، لعبة اختلاق الكتب. ولم يكتف جاك جيوفروي بذلك، بل أطلق مكتبة افتراضية على النيت، يمكن للقارئ أن يتنقل افتراضيا بين طوابقها وأجنحتها، والولوج إلى كتبها.
وسيليه بعد سنوات كتاب آخر للباحث الفرنسي ستيفان ماهيوت، “المكتبة الخفية: فهرس الكتب المتخيَلة”، والذي خصه صاحبه لحصر ما يناهز الألف وخمسمئة كتاب متخيل.
والأكيد أن ظاهرة الكتب المتخيلة والاهتمام بها ليست أمرا جديدا، على الأقل على المستوى الغربي. ولعل أول من انتبه إلى الظاهرة هو عالم البيبليوغرافيا الفرنسي كوستاف بروني، الذي كان قد أصدر دراستين مثيرتين في نهايات القرن التاسع عشر، وهما متاحتان على موقع غاليكا التابع للمكتبة الوطنية الفرنسية والخاص بالكتب المرقمنة. الأولى هي “الخيال البيبليوغرافي”، والثانية هي “دراسة حول المكتبات المتخيلة”. وسنكتشف مع كوستاف بروني كيف كان الفرنسيون والبلجيكيون يصنعون آلاف العناوين من الكتب المتخيلة، من باب التهكم من رجالات السياسة والكتاب المحافظين و“المتحذلقين”.
وفي جميع الأحوال، تلك صورة عن اهتمام الغرب بالتفاصيل الصغيرة والمثيرة، في الوقت الذي يغرقنا النقد العربي بحملاته المتتالية على مستوى تفكيك النصوص، كما لو أننا في حرب.
كاتب مغربي
العرب