حال المسرح العربيّ.. من أين وإلى أين؟/ عماد الدين موسى
لطالما كان المسرح العربي فاعلاً ومتفاعلاً مع جمهوره الذي ازداد منذ بدايات عروضه التي تناولت وطرحت العديد من الأفكار حول الحريات والعدالة الاجتماعية والسياسية والقانونية، إضافةً لتلك العروض المتعلقة بوجهي الحب والكراهية. لكن بعد نكسة حزيران/ يونيو 1967، واعتلاء العسكر والدكتاتوريات للسلطة في كثيرٍ من البلدان العربيّة، زادت تلك العروض التي نستطيع القول بأنها من تأليف النكسة وما بعدها، كما في باقي الفنون الأدبيّة.
اليوم، يبدو المسرح أقلُّ صداماً، بل مضى إلى طرح قضايا حياتية من النوع السديمي، وتحديداً في العروض المسرحيّة المُقدّمة في المهرجانات. ترى ما الذي جرى للعقل المسرحي العربي، والمسرحُ قلبُ كُلِّ نهضةٍ مدنية ضدَّ ضروب القمع والتجهيل والعبودية والممنوعات والانتحار الحضاري؟
في الإجابات التالية لمثقفين مسرحيين عرب، نحاول القبض على سبب المشكلة:
أنور محمد (سورية): مسرحنا عائلي أبوي رخوي!
بقي المسرح العربي، منذ ولادته، مسرحاً صورياً بسبب سيطرة الأيديولوجيا؛ من قبل الدينية، ومن بعد السياسية. أيديولوجيا تمحو، تبيد، تسحق كلَّ فكرة تريد أن تنبت خارجها. وإذا ما غابت، أو مرَّرنا، هرَّبنا فكرةً، ثورةً، في حال نومها فهي تستيقظ وتقول: أنا شفتكم، أنا لست أيديولوجيا.
مسرحنا كما عقلنا: عائلي، أبوي، أمومي، زوجي، أخوي – رخوي. لأنَّه مهما هرب من أيديولوجيا الدين والدولة – الدولة المستبدة، فإنَّها تكسِّره بأسنانها وسواطيرها الصلبة. لذا لا ولادة جديدة تدعو لنهضة قومية، أو هي صعبة كما وُلِدَ المسرح الفرنسي أو الإنكليزي أو الأميركي، وصار له أولاد عندنا. والسبب- ويجب أن لا نلوم من يصنع اللحظة المسرحية العربية من مارون النقاش إلى أبي خليل القباني إلى توفيق الحكيم ونجيب سرور ونعمان عاشور وعصام محفوظ وعبد الكريم برشيد وعز الدين المدني وعبد القادر علولة ومحمد بن قطاف وقاسم محمد ويوسف العاني- هو أنَّ الدولة العربية لا تريد أن ينافسها أحد؛ لا في الفنون ولا في الآداب ولا في العلوم، لأنَّها لا تتخلىَّ عن سيف الأيديولوجيا الذي يحرس مصالحها وسجونها، وينتج ويكرِّس الخوف والقهر والهزائم آخرها هزيمة “صفقة القرن”.
حاتم التليلي محمودي (تونس): لنتوقف عند الخبرة الجماليّة للمسرح
في الحقيقة، يهمني أولاً قبل تسليط الضوء على راهن المسرح العربي، التعريج على نقطتين مهمتين بالنسبة إلى تصدّي هذا الفن ضد الحيف السياسي العربي ومواجهته الدكتاتوريات والانكسارات العربية.
أولاً؛ يجب أن ننتبه إلى أن معظم التجارب المسرحية وإن وضعت في اهتمامها المسألة السياسية والاجتماعية لم تكن جادة فعلاً، فمحركها الرئيس لم يكن نابعاً فقط من قدرة هذا الفن على التغيير واستنبات بذرة الوعي لدى جمهوره. ثمة محرك آخر على ما يبدو، ذلك الذي يعود إلى منزلة المسرحيين أنفسهم في مدنهم، وهنا سننتبه إلى أن سخطهم ضد الأنظمة العربية هدفه في حقيقة الأمر هو ضرب من تحسين شروط إقامتهم وافتكاك مكاسب أكثر لهم، سواء تعلق الأمر بالدعم المسرحي أو بتوفير فضاءات مسرحية أو حتى بعض المناصب في وزارات الثقافة.
ثانياً؛ يجب أن نشكك أيضاً في الخبرة الجماليّة لهذا المسرح (السياسي). لقد قال الفرنسي آرتو: “صحيح أن الحالة الاجتماعية ظالمة، وإذا كان على المسرح أن ينتبه لها، فالمدفع أجدر بذلك”. لقد انتهت الآن إحدى السرديات العظمى التي رافقت أتباع المسرحي بريشت ألا وهي الماركسية، وهنا سيجدر بنا القول ان تلك المرحلة التي مر بها المسرح العربي ما هي إلا ضرب من التراكم في مسيرته وهو يشق طريقه الوعرة من أجل تأصيل وجوده في مدننا العربية.
بعد الثورات العربية والانفجارات الاجتماعية نزلت واقعة عظيمة بهذا المسرح وتشظت إلى مناطق مختلفة:
– منطقة أولى؛ رد الفعل ضد الحدث لا صناعته. لقد أصبح المسرح هو الآخر عاجز عن مقاومة الإرهاب، بل أصبح يستثمره في أعماله حتى ينظر إليه وكأنه الفن الذي يمكن من خلاله التصدي للأصوليات وهذا أمر يبعث على الضحك فهو هنا يتحول إلى وسيلة. ليس من شأن المسرح أن يتحول إلى ما يشبه السلاح، بل من شأنه إعادة تربية العقول وهندسة الأرواح في المجتمعات حتى لا يتسلل إليها هذا الطاعون. إنه في هذه الحالة ينتظر نزول الحدث لا يصنعه، قائم على ردة فعل بافلوفية لا أكثر.
– منطقة ثانية؛ الانتحال والاستنساخ. ثمة أمام الانفجار التكنولوجي المعولم ظاهرة عظيمة تمثلت في استنساخ تجارب عالمية ووضعها في مسرحنا، إن الفرجات موجودة اليوم في العالم الافتراضي بشكل لا حد لرقمه، وهنا يصبح من اليسير جدا نقلها وانتحالها كما نشاهد في العديد من الأعمال المسرحية العربية.
– منطقة ثالثة؛ السوق. ساهمت المهرجانات بتعددها أمام التماشي النيوليبرالي للعديد من الدول العربية في جعل هذا الفن مجرد بضاعة وسلعة، فهي تنتج وفقاً لأغراض مسبقة سلفاً، وهو ما ساهم في تعددها من جهة، كما ساهم من جهة أخرى في إضعاف مستواها المعرفي والجمالي فغدت مجرد “خردة فنية” بعبارة الفيلسوف أدورنو.
– منطقة رابعة؛ الإعلام والنقاد. ثمة تراجع مرعب لدور النقاد، ولقد حل الإعلاميون بدلاً منهم، أولئك الذين لا هم لهم غير الدعاية. على هذا النحو، تحوّل النقاد إلى ما يشبه حراس القوافل المسرحية المهاجرة من مهرجان إلى آخر لا غير. وتحول الجميع إلى ضرب من سراديب القتل.
عباس الحايك (السعودية): نحتاج إلى مسرح يكون نبضاً حقيقياً للمجتمع
نحن نؤمن بأن المسرح افتراضاً هو نبض الشارع، وحين يكون الشارع واعياً سياسياً وقادراً على رفع الصوت بالرفض، فإن المسرح بالضرورة سيكون قادراً أيضاً على ذلك. المسرح العربي في السابق كان ترمومتراً حقيقياً لما يجري في عالمنا العربي، وكانت القضايا التي يطرحها هي ذاتها القضايا التي تحرك الشارع العربي. فلسطين بكل تفاصيل قضيتها كانت حاضرة، الحس القومي كان حاضراً بقوة، وكان الكتاب أكثر وعياً، وأكثر حضوراً ضمن منظومة المثقفين العرب، كانوا كمثلهم من أدباء يستشرفون المستقبل ويتنبؤون بما هو قادم ضمن وعيهم السياسي.
لكن في زمننا هذا، وكل القيم مُيّعت، وباتت القضايا المحورية الكبيرة أقل أهمية، لم تعد فلسطين حاضرة، لأنها ليست حاضرة ضمن يوميات العربي، فقد شغلنا بقوت يومنا، بقضايا تافهة فرضت علينا مثل أثر مواقع التواصل وما يدور فيها من مناوشات بين مشاهير، أغمضنا أعيننا عن ما يدور في الغرف السياسية المغلقة، في الخرائط السياسية الجديدة التي ائتمر الغرب علينا لينفذها ونحن نصفق لهذا المشهور أو تلك المشهورة، ونبحث عن حاجاتنا الاستهلاكية. فأي مسرح قادر على مجاراة كل هذا؟ المسرح خرج عن دائرة الناس، وصار يهيم بعيداً، يتناول قضايا عمومية ليست من انشغالات الناس، ففقد تواصله الحقيقي مع الناس.
حين نصنف المسرح العربي، فإننا لا بد أن نضع مجمل العروض في صنفين؛ الصنف الأول هو المسرح الجماهيري، الذي تغلب عليه الكوميديا، والصنف الآخر يمكن تسميته بمسرح المهرجانات أو المسرح النوعي في أفضل حال. المسرح الجماهيري استطاع أن يتواصل مع الجمهور لأنه استغل حاجة الناس للترفيه والضحك، لكنه قدم الضحك دون قيمة، دون أن يطرح على الخشبة شواغل الناس، قضاياهم، وإن تناولها، فإنه يقترب منها بشكل سطحي دون أي عمق، فهو يهدف بالدرجة الأولى للإضحاك ولو باللجوء للسخرية، ولكن ليست تلك السخرية المحببة التي تخلق مفارقات كوميدية، ولكن سخرية هابطة تجعل من المسرح فعلاً أقرب للتفاهة. والصنف الآخر انشغل بالتجريب، تجريب أدوات مسرحية، واستعراض ممكنات السينوغرافيا، وأداء الممثل، وتجريب كل ما هو بصري، لكنه ابتعد كلياً عن تناول القضايا المهمة، القضايا الساخنة، قضية الإنسان العربي المغلوب، قضايا سياسية ملحة، ليجد الجمهور العربي ذاته في هذه المسرحيات التي لا تشبه الناس.
نحتاج لمسرح بين بين، يأخذ من جماهيرية المسرح الجماهيري، ويأخذ من قيمة مسرح المهرجانات، لكن بالضرورة أن يعود انعكاساً لهموم الناس، ويكون ملامساً لقضاياهم؛ أن يستشرف المستقبل، ويكون نبضاً حقيقياً للمجتمع.
سامر محمد إسماعيل (سورية): القلَّة الكثيرة
يتكلم المنظرون اليوم عن واقع التجربة المسرحية العربية بأنها على مفارق أزماتٍ عديدة، يلخصونها بانحسار الجمهور وضعف التمويل للمسارح الجديدة وندرة النصوص، وهروب الممثلين إلى التلفزيون، وما إلى ذلك، لكنني أعتقد أن أهم تلك الأزمات تنضوي تحت تلك الأزمة التي يروج لها المسرحيون العرب أنفسهم، وهي أزمة تتعلق بأزمة تشخيص- أزمة مسرح، ولعل أكثر ما يقض مسرحيي العالم العربي اليوم هو شبح هذه الأزمة المفتعلة مع جمهور لا يواظب على برامج عروضه في هذا البلد العربي أو ذاك، إلا أن نظرة خاطفة على القلة القليلة من شرائح المهتمين والمتابعين اليوم للحركة المسرحية في البلدان العربية ستثبت عكس ذلك، وهذا ما لاحظته في تجاوب وعدوى غير معلنة بين زمر وشرائح الجمهور الذي يفد إلى صالات العرض، ولذلك صارت هذه القلة القليلة تشكل في حضورها ما يقترب من معنى “القلة الكثيرة” التي تنزع نحو انتخاب ما تود التفرج عليه، أو متابعته، ليس من باب الهوائية الغامضة التي تتحكم بالجمهور وأمزجته، بل من باب الرغبة القوية التي تجتاح فئات متنوعة نحو هذا النوع من الفرجة.
أكثر شيء حملني على الاعتقاد بهذه “القلة الكثيرة” هو اقتناعي الشديد بتشظي النخبة الثقافية العربية وبعثرتها وتراميها على مساحة المشاهدة في بلداننا التي تعصف بها عواصف عدة، أهمها تخلي المؤسسات الرسمية الثقافية عن دورها في رعاية التجارب الشبابية الجديدة، وتسلط طغمة من الآباء المسرحيين العرب على مسارح العاصمة، ورغبة هؤلاء الآباء في الحفاظ على اللغة المسرحية التقليدية، اللغة التي استهلكت حداثتها المسرحية وأمست قديمة في حداثتها- سواء على صعيد الكتابة للمسرح، والتأليف له، أو حتى على صعيد إدارة الممثل الجديد، فإذا كان شكسبير حديثاً بالنسبة لسوفوكليس في نقل مناظره وتعددها، فإن سوفوكليس القديم الذي أضاف الممثل الثالث كان حديثاً بالنسبة لأسخيلوس، وإذا كانت مسرحيات سوفوكليس تتحدث عن الأبطال والآلهة، فإن مسرحيات يوريبيدس تحدثت عن بشر حقيقيين.. وفي هذا تبيان لما أقصده بكلمتي قديم وحديث.
مناهل السهوي (سورية): قديم الأفكار المحظورة
لا نستطيع تجاهل المشكلة التي يعاني منها المسرح، وإن اختلف تقديرنا لها. المشكلة هي ثقافية ومعرفية بالدرجة الأولى وتنحسر لتغدو أكثر خصوصية. المشكلة متشعبة وتؤثر بها عدة عوامل، تبدأ مع العولمة وسهولة الحصول على المعلومات وتلاشي بالتالي الرغبة في البحث والحصول على معارف مباشرة ومؤثرة وذات بعد فني وجمالي، فالسهولة أهم. من جهة أخرى وبعد سنوات من الحروب والأزمات السياسية في المنطقة العربية، فَقَدَ الكاتب والجمهور على حد سواء الإيمان بقدرة المسرح على التغيير فصار التوجه ذاتياً، في محاولة للبحث داخل الإنسان ذاته للتعرف عليه أكثر ولحمايته من كلّ هذه العوامل الغريبة وغير المسيطر عليها، فالفرد وسط هذه الفوضى لن يصدق أي شعور يأتي من الخارج، وسيبدأ بالنبش
والبحث داخله. هذا الأمر هو ردة فعل من جهة ومرحلة معرفية جديدة من جهة أخرى، تخصّ الإنسان العربي الذي كان أكثر شمولية في تفكيره بسبب الأنظمة السياسية والفكرية السائدة.
من ناحية أخرى، وإن تأملنا في أغلب النتاج المسرحي فسنجد أنه ورغم ذاتيته فهو مستند على الأرضية السياسية والاجتماعية والفكرية للمحيط ويتغذى عليها بشكل من الأشكال، رغم كلّ “سديميته” والتي قد يكون أحد أسبابها الخوف والذي خلق في جميع أنواع الكتابة طرقاً مواربة وضبابية لتقديم الأفكار المحظورة.
أحمد ضياء (العراق): المسرح في ظل الأنظمة المربكة
لا بدّ من تحرير المنظومة العقلية والأكاديميّة من وهم كبير جدّاً معنيّ بالبدايات، وبأنَّ العرب سبّاقون في معرفة كافّة التّفاصيل الحياتيّة، ولا بدَّ من تحجيم النّصوص والأقوال المقدّسة وعدم إعطائها طوابع أكثر ممَّا هي عليه، الأمر الّذي يسهم في رفد المشهد بخصوصيّة الأفكار الجّديدة، خارج أي بوابة اتكاليّة على الماضي. مشكلة الخطاب المسرحي دائماً منذ مطلع السّتينيات أو ما سبق وإلى اليوم، هي أنه ينظر إلى المسرح كحالة يجب أن تكون حاضرة في الخطاب العربي السّابق، غير مدركين أنَّ ذلك الأمر ليس من الشّيء الجّيد بشيء، بل الأمر متعلّق بواقعانيّة الحالة، أي أن العرب سابقاً لم يعرفوا هذا النّوع وهذا الطّرق على رؤوسنا ليس بجديد بقدر ما يكون الجّديد معنيّاً في تذهيب المرحّل من ثقافويّة الآخر الفكرويّة، ومحاولة السّعي إلى خلق طرح إبستيمولوجي معني بمشاكلنا وهمومنا، فمثلاً ظلَّ المسرح (الأميركي) منتحلاً للعديد من الأفكار إلى أن جاء (أونيل) حتّى بدأ المسرح بالنّهوض وأخذ باباً إشهاريّاً ووضع بصمته. العرب لا بدَّ أن يتجاوزوا مفهوم الرّيادة، هذه الدودة الّتي تنخر الخطاب وتحاول أن تجعل من الأشياء ضمن حيّز رؤيويّتها، بالوقت الّذي لا تفقه فيه شيئاً، وعليه في هذه اللحظة يجري البدء بنهضة مفاهيميّة/ جماليّة معنيّة في تذويت مفاصل الوجود والسّعي دائماً إلى خلق شموخ فكري ضمن خارطة المسرح بحيث بالإمكان الإشارة إلى المسرح العربي وكأنه المسرح الشّرقي، بجميع مهمولته الأنثربولوجيّة، من أين تبدأ العلّة وإلى أين نبغي الوصول؟
في ظلِّ الأنظمة المرتبكة الّتي نحيا داخلها، ثمَّة جملة أفكار وطروحات تسويفيّة، تعمد إلى متون الآخر والعودة بها إلى التجارب الحياتيّة السّابقة.
الحل – واو ربَّما هذه الكلمة الأكثر انشغالاً ولكن تسطيحاً في العديد من الاستراتيجيّات الموجودة، وهذا يطوّح كل الارتباطات الإنتاجيّة ذات الأثر التّفاعلي الحائز على أنموذج بياني في قلب التّفاصيل- حالما نلجأ إلى دكّ مفاصل حيواتنا بالخطاب المسرحي، ويكون الجّمهور على استعداد لمشاهدة المسرح بشكل جاد لا هذه المسارح التّسويفية المعنية بالمفاتيح التّجاريّة ذات الغايات الرّبحية، وعلى العرض أن يكون له شباك تذاكر وأناس معنيون بتصدر خطابات جديدة تمد الوضع الرّاهن وتحاول أن تفلسف الرؤى ضمن حيز ورؤى مفاهيميّة، تلك هي العلّة الأساس الّتي نسعى في جل الحالة إلى أن نخلق فعلاً مسرحيّاً، فمثلاً ما تفعله الهيئة العربية معنيّ بجلب مكرر من الأسماء بعيداً عن التّجارب الشّبابيّة، بالتّالي هذا الأمر يخفف من وطأة المنتج، والمسرح لا يتعلق بالمال فقط، بل بالإبداع.
ياسر دريباتي (سورية): ولادة مؤجلة
يصعب الحديث عن ولادة ما للمسرح العربي، لأنني أعتقد بأن ما يسمى بالمسرح العربي نشأ لا عن كونه مجموعة من التجارب المسرحية المتناثرة في العالم العربي، تجارب قام بها مسرحيون مبدعون وحالمون آمنوا بدور المسرح التنويري ليس لمقولاته الكبرى فقط على أهمية ذلك وإنما لأنه فن يختلط بحياة الناس؛ يقدم فرجة تنتفي فيها الحدود الطبقية والطائفية والإثنية وربما كان ذلك هو سبب إحراق مسرح أبو خليل القباني، أحد رواد المسرح العربي.
شهدت ستينيات القرن الماضي ولادة المؤسسات المسرحية العربية ونهوضا مسرحيا مع جيل مسرحي نظّر للمسرح واشتغل على كسر الجدار الرابع كتابة وإخراجاً بهدف بناء متفرج عربي ناقد ومشارك؛ سعد الله ونوس، يوسف إدريس، عبد الكريم برشيد، عز الدين المدني، الطيب الصديقي… ومسرحيون آخرون، غير أن هذه الولادة جاءت قيصرية أيضاً لأن الأنظمة العربية الحاكمة والمتعاقبة ترى في المسرح بوقاً إعلانياً وإعلامياً فقط، وتحارب المسرح بوصفه فضاء للبوح وطرح التساؤلات حول الإنسان والعالم.
المسرح العربي في ولاداته المتعددة لم يشكل رافعة لفعل اجتماعي أو سياسي أو ثقافي وبقي على الهامش كما بقي شأناً نخبوياً ولم يسهم في نشر ثقافة التغيير بوصفها سلطة عقلانية جديدة لا تقف عند ثابت معين؛ ثقافة لم تدخل العقل العربي الذي بقي أسير النقل وخارج اللحظة الحاضرة؛ لحظة الفعل المسرحي حيث الزمان والمكان خالدان ودائما الحضور في أثرهما الوجداني والفكري.
شهد مطلع القرن الحالي تراجع واضمحلال الحلم العربي في الحرية والعدالة الاجتماعية وخبا حلم المسرحيين العرب في دور المسرح كمنصة للتمرد ومعاكسة السائد المجتمعي ولم يعد الإبداع المسرحي من سلالة المخيّلة الخارجة على سلطة ثقافة السائد وأصبح المسرحيون تحت سلطة المال؛ سلطة فرّخت وتفرّخ مهرجانات حكومية تروّج لثقافة الحاكم الممول والمنشّط والراعي والمبدع و….
أختم بتساؤلات حول دور المسرح العربي وما آل إليه: كيف للمسرح أن يترك أثراً ولو صغيراً إذا كان مشغلوه هم أنفسهم من ينتجون السلاح والأدوية الرديئة؟
كيف للمسرح أن يكون تطّهراً وبوحاً ومواجهة إذا كان المسرحيون يلهثون وراء لقمة العيش ويتصيدون رضى أصحاب السلطة والمال؟
كيف للمسرح أن يزرع الأسئلة؛ الأسئلة المربكة؛ أسئلة الوجود وهو يجهد لنيل رضى الله والوالدين؟
كيف للمسرح أن يعيش في عالم تكتب فيه القسوة مصائر الناس وفي كل يوم؟
كيف لمسرحنا أن ينشر شمسه وهو يعيش في الأقبية؟
كيف للمسرح العربي أن ينشر القوة/ قوة الحياة إذا كنا نحن أهله لا حول لنا ولا قوة؟
سعاد الخطيب (سورية): مسمار جحا
تراجع دور المسرح في العالم كله، لعدة أسباب أهمها:
1- في العصر الحالي تحوّلت الثقافة إلى قيمة مادية قابلة للتداول والعرض والطلب مثلها مثل أي سلعة أخرى، والمسرح سلعة خاسرة أمام وسائل الميديا والدراما.
2- سمة العصر.
التغيرات الأخيرة التي حصلت في العالم العربي كشفت لنا هشاشة الحالة الثقافية والفكرية، أمام المؤسسة الأمنية التي هيمنت على كل المؤسسات وإداراتها حسب أجندتها.
هل حقاً شكّل المسرح في الستينيات والسبعينيات موجة صدامية مع الديكتاتوريات؟ أم أن الديكتاتوريات كانت تملي على المسرحيين الوجهة التي تريد أن تُدار بها الأمور، وأبقت قضية الاستعمار كمسمار جحا، كلما تأزّمت تشير للشعوب إلى أن هناك من هو أقبح منها وأشد خطراً.
من عَمِلَ في مؤسسات المسرح البيروقراطية كان يتصرف وفقاً لإملاءات السلطة، غياب الديمقراطية في هذه المؤسسات مكّن هؤلاء من محاربة زملائهم واستبعادهم وخاصة الأكاديميين منهم، ومن المفارقات أن موضوع “غياب الديمقراطية” كان موضوعاً مسرحياً بامتياز، ليتم تداوله في عمل مسرحي يتوارى خلف الموروث كي يتجنب الصدام مع السلطة ويحصد المديح والتكريم.
المسرح تطور في رحم الحضارة والمدنية، من أهم الأسباب التي أدت إلى تطور المسرح التغيرات التي حصلت في الحياة الاجتماعية الإغريقية، والتي تكللت بالممارسة الديمقراطية، وكانت التراجيديا أحد التجليات المتميزة للديمقراطية.
وجود مسرح ما يتطلب مقدمات، منها الحالة المدنية والديمقراطية والحريات. المجتمع القبلي والمجتمع الديني يعيقان تطور المسرح، وهذا ما حصل في العالم العربي بالرغم من الكثير من التجارب المسرحية الجادة (نص، عرض، مختبر، تنظير).
قدم ونوس “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” متأثراً بمسرح بريشت، حيث لاقت أفكار بريشت صدى لدى المسرحيين العرب، في فترة المد اليساري آنذاك.
ما هي الهواجس والتطلعات التي تجمع الجمهور العربي، وما هو موقفه من “صفقة القرن” بعد كل هذا الخراب؟
لنفرض أننا سنقدم مسرحية عن “صفقة القرن” الآن، أي أفكار سنستلهم، وأية ثيمة سنقدم للجمهور العربي كي نضمن تفاعله، لا سيما أننا في زمن من أهم سماته أنه زمن التكتلات الاقتصادية، وتفتيت الهوية الثقافية، هناك أفكار سريعة مهيمنة، عابرة للقوميات والأوطان والأيديولوجيات، تستقطب جمهورها من كل أنحاء العالم، عبر الميديا ووسائل الاتصال، في حين أن المسرح له شروطه المكانية والزمانية في استقطاب الجمهور.
بلال المصري (لبنان): حقيقة الحياة الثقافية العربية
من المؤسف القول إن المسرح والمشهد الثقافي العربي برمته أشبه بعرض مسرحي كبير لا يمثل حقيقة الحياة الثقافية العربية، تجد أسماء مكرسة لا قيمة حقيقية لها يمجدها الإعلام وهي بدورها تمجد النظام العربي، الذي يتآكل يوما بعد يوم على نحو يجعل من المشهد الثقافي بشكل أو بآخر أضحوكة للعالم.
أما بخصوص المسرح فهو نشأ في ظل هذا النظام السياسي العربي الدكتاتوري الذي ينظر للمسرح كما للأنواع الأخرى من الفنون كأدوات قد تُسهم في تمكينه من بسط سيطرته وإرادته حيث تم استغلال المسرح بشكل كامل من خلال طرح القضايا الكبرى دون أي مصداقية حقيقية وكان الهدف تنويم الجماهير وجعلها تعيش في الأوهام. ولاحقاً دخلت هذه الدكتاتوريات في صراع دموي مع شعوبها.
واليوم نجد الكثير من المهرجانات المسرحية في العالم العربي وجلها يتلقى دعماً مما تبقى من المنظومة العربية التي تستميت بالدفاع عن وجودها. وطبعاً هذه المهرجانات تختار عروضها طبقا لمعايير تناسب توجهاتها السياسية وهذا ربما ما يجعل معظم المهرجانات تأتي على نسق واحد وتكرر نفسها. لكن دعنا نقول إن ضبابية المشهد العربي من مختلف الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية كان له انعكاس واضح على النص المسرحي العربي الذي ظهر مرتبكاً وربما عاجزاً عن احتواء المشهد الدموي الذي تشكل بفعل ممارسات هذه الأنظمة تجاه شعوبها التوّاقة للحرية، وتم قمعها بشكل فظيع ومؤلم وغير مفهوم على الإطلاق، إذ كيف لأي مثقف أو مسرحي أن يجيب على السؤال التالي: لماذا قتل آلاف الناس ودمرت المدن العربية وهجرت شعوبها؟
ربما نحتاج إلى المزيد من التأمل والتدقيق والبحث، وهذا ما يجعل التعبير عن الواقع على خشبة المسرح صعباً ومعقداً وقاسياً.
عندما ينطلق المسرح من إرادة حرّة لا تقيم للسياسة والأيديولوجيا شأناً في كتابة النص المسرحي على حساب القيم الإنسانية والأخلاقية، ويتحلى الكتاب المسرحيون العرب بالشجاعة ويبادرون لكتابة نص مسرحي لا يتطلع لهزيمة طرف على حساب طرف آخر بل نص يسعى للاكتشاف والكشف في سبيل تنوير الإنسان، ربما عندها يتشكل الوضوح في الرؤيا العامة للمسرح العربي.
ضفة ثالثة