«العدوان المُصغّر» وثقافة التحكّم/ محمد سامي الكيال
نستعمل في هذا المقال تعبير «العدوان المُصغّر» بوصفه ترجمة لمفهوم Microaggression، الذي بات يلعب دوراً أساسياً على مستوى المؤسسات والحياة الثقافية، وجزءاً من الخطاب العام، ووعي بعض الفئات المؤثرة، بدون أن تكون له ترجمة عربية مصطلحٌ عليها.
برز هذا المفهوم للمرة الأولى عام 1970، على يد تشستر بيرس، أستاذ علم النفس في جامعة هارفرد، وتمت إعادة إحيائه في جامعة كولومبيا الأمريكية، في العقد الأول من قرننا الحالي، بفعل دراسات عالم النفس ديرالد وينغ سو، ويشير إلى العبارات والسلوكيات والممارسات الجزئية والصغيرة في التواصل اليومي بين البشر، التي تتضمن إهانةً وتحقيراً واعتداءً معنوياً على أفراد الجماعات الضعيفة أو المهمشة، بدون أن تحوي السمات التقليدية للاعتداء العنصري أو الجندري أو الثقافي الواضح والمباشر. لا يشترط هذا النوع من العدوان النية والقصد من قبل مرتكبيه، فهو أحياناً نتيجة تحيّز غير واع، ويعود تحديده للشعور الذاتي لـ«الضحية» نفسها. وبالتالي يصعب إيجاد معيار موضوعي له، سوى تخطيط عام للمجتمع، يقسّم البشر إلى أصحاب هويات ذات امتياز، وآخرين ينتمون إلى هويات مضطهدة تاريخياً. وبالتالي كل ما يصدر عن ذوي الامتياز المزعومين هو «عدوان مصغّر»، في حال ادعى ذلك أحد المصنفين بوصفهم ضحايا. وبدون اشتراط وجود اتفاق اجتماعي عام، بين أفراد الهوية المهمشة ذاتها، على معنى وحدود العدوان عليهم. إنه مزيج بين التصنيف الهوياتي الجماعي والشعور الذاتي المحض.
لم تحقق هذه الأفكار، في ميدانها المعرفي الأساسي، أي علم النفس، كثيراً من النجاح والقبول، ولاقت انتقادات شديدة، إلا أنها أصبحت الخطاب السائد في كثير من الأكاديميات والمؤسسات ووسائل الإعلام، وباتت تكمن في مركز الصراعات السياسية والحروب الثقافية المعاصرة، خاصة في ما يتعلق بـ«الصواب السياسي» و«سياسات» الهوية و«صناعة الضحية». فما الذي يمكن لـ«العدوان المصغّر» أن يقوله عن الثقافة والسياسة في عالم اليوم؟ وكيف يندرج في تقنيات السلطة المعاصرة؟
علم زائف.. سياسة زائفة
بالنسبة للعديد من علماء النفس يفتقر مفهوم «العدوان المصغّر» إلى أساسيات البحث العلمي، مثل البيانات التجريبية، الدراسات المقارنة بين مجموعات مختلفة، الأسئلة والفرضيات غير المنحازة، إلخ. ما جعل عالم النفس سكوت ليلينفيلد يصف المفهوم بأنه «متخلّف من الناحية النظرية والمفاهيمية، ولا يمكن تطبيقه على أرض الواقع»، أما إلثيا ناغاي، الباحثة في علم النفس والعلوم السياسية، فنعتته صراحةً بـ«العلم الزائف». الأمر الذي دفع وينغ سو، العرّاب المعاصر للمفهوم، إلى الاعتراف بصحة انتقادات ليلينفيلد من الناحية العلمية. ولكن العلم، حسبه، وهو الأكاديمي الذي من المفترض أن يقيّد أبحاثه بالمعايير العلمية، ليس كل شيء، وما يعنيه هو الأهمية السياسية للمفهوم، لأنه يُصعب «التقاط التجارب الحقيقية للفئات المهمشة».
نحن أمام اعتراف صريح بأننا نتعامل مع مفهوم أيديولوجي غير علمي، يُستعمل لنصرة قضايا «العدالة الاجتماعية» (بالفهم الأمريكي الهوياتي للمصطلح). من المعروف أن الأيديولوجيا عموماً تعمل على ميادين مغايرة لميادين العلم، وبمنطق مختلف. لكن من المستغرب إصرار ناشطي «العدوان المصغر» على إسناد دعواهم إلى علم زائف. الاعتماد على معايير لا يمكن سردها بلغة عقلانية عامة، والدعوة إلى تنظيم مؤسساتي واجتماعي قائم على تجارب ذاتية يصعب التقاطها موضوعياً، لا يؤدي فقط إلى تفتيت الحيز العام وإعاقة إمكانية التواصل بين البشر، بل أيضاً إلى الغرق في سياسات زائفة، تركز على ما هو وجداني وجزئي، وهي أمور يمكن بسهولة تزييفها واستغلالها، على حساب ما هو عام ومشترك وملموس. وبدلاً من الحقوق العامة يصير المهم هو «الحساسيات» الفردية.
على المستوى الاجتماعي يمكن أن يؤدي هذا إلى تقليل استقلالية الأفراد، وقدرتهم على التعامل مع قضايا الحياة اليومية، مثل إمكانية التصدي للتصرفات محدودة التأثير، التي يرونها غير مقبولة، أو جعلهم يميلون للمبالغة في قضايا مثل الاعتداء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، التي من المعروف أنها تؤمّن لكل مستخدميها إمكانية متساوية ومضمونة لحظر كل من يزعجهم، وإلغائه تماماً من حياتهم الافتراضية. وهي مبالغة مفهومة في ما يتعلق بالأطفال والمراهقين، ولكن عندما يتم مدّها لتشمل البالغين، تصبح دلالة واضحة على نزعة لطفلنة المجتمع. فيغرق الناس في صراع أخلاقي، بمحصلة صفرية، للتنافس على المكانة، بوصفهم ضحايا أو مدافعين عن الضحايا.
هكذا تتم مساواة ضحايا الممارسات التمييزية والعدوانية الفعلية، التي يمكن تعريفها موضوعياً، مثل الاعتداء العنصري والتحرش والاغتصاب والحرمان من الحقوق، بـ«معاناة» فئات برجوازية ذات امتياز من أطياف الكلمات والايماءات والتصرفات، التي يمكن تأويلها بوصفها عدواناً، بناءً فقط على مزاج «الضحايا» المزعومين، ونسبةً لهويتهم. أما مفاهيم مثل المساواة أمام القانون، وقرينة البراءة، ودرجات الفعل الإجرامي، والتمييز بين الجُنح والجنايات، وتناسب العقوبة مع الجرم، وإمكانية إعادة تأهيل المجرم بعد العقوبة، وإدماجه اجتماعياً من جديد، فكلها، على ما يبدو، يجب أن تسقط أمام هذا النمط من السياسات. نشهد اليوم ما يشبه حملات تطهير اجتماعي شامل، خارج إطار القانون، تقوم به المؤسسات غير المخولة قانونياً بالحكم على البشر، أو الجموع على مواقع التواصل الاجتماعي. في هذه الحملات التهمة بحد ذاتها دليل إدانة، وجزء من العقوبة.
«تقدمية» محافظة
بما إن العدوان المصغّر يتعلق بتصرفات لا يمكن التدليل عليها علمياً أو قانونياً، فهو يعمل أساساً بوصفه بنية ثقافية، تقوم بتصحيح السلوك وأساليب التفكير وأنماط اللغة، بناءً على مبدأ ثواب وعقاب لا يمكن مراجعته أو استئنافه. ما يجعلها أقرب للتقليد قبل الحداثي، السابق للقانون المكتوب المرتبط بالدولة الحديثة. فالتقاليد تفرض على الأفراد مراقبة سلوكهم بما يتسق مع سلوكيات اجتماعية معيّنة، تعتبر المرجعية الأولية للفعل الإنساني. من هنا يبدو وصف أنصار العدوان المصغّر بـ«التقدميين» أمراً غريباً، فهم أقرب لأن يكونوا محافظين، لأن القيم التقدمية والتحررية كانت مرتبطة دائما بالنزعة للاكتشاف والتمرد والاستقلال الذاتي وتجاوز التقليد. واعتبار المدونة القانونية مرجعية أخيرة فقط لحماية المجتمع.
إلا أن هذه البنية الثقافية تختلف عن التقليد ما قبل الحداثي بأمرين، الأول أنها تطيح حتى بأساسيات العدالة التقليدية، فقد كان التقليد قادراً، في كثير من الأحيان، على حماية الأفراد من غضب الجموع، والنظر في اعتراضاتهم على ما يلحق بهم من عقوبات. والثاني، وهو الأهم، أن هذه البنية ليست سائلة جداً كما تبدو، بل هي مرتبطة بمصفوفة متكاملة من المؤسسات الحديثة، مثل الأكاديميات والدورات التدريبة والمنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام ولجان التنوع والاستدامة ومكافحة التمييز، التي تعمل بوصفها أجهزة أيديولوجية، وخطاً لإنتاج الشكوى المصغّرة، ما يجعل التظلّم ودور الضحية جهازاً اجتماعياً، وليس مجرد ميل فردي. يُلاحظ أيضاً أن هذه الجهاز عمّم أساليب إدارة الشركات الخاصة، المستمدة من الأيديولوجيا النيوليبرالية، على كامل المجتمع ونظامه الأخلاقي.
التحكّم المصغّر
الأسلوب الذي تعمل به هذه السلطة الاجتماعية – الثقافية قادرٌ على التغلغل واستنساخ نفسه بشكل مرن، ما يجعل الأفراد يستبطنونه عفوياً في تعاملاتهم، ويؤدي إلى تحكّم مصغّر بدوره، فقد باتت السلطة قادرة على الرقابة الدائمة والتصحيح المستمر لسلوك البشر، بدون أن تطرح نفسها بوصفها مجموعة من المؤسسات الانضباطية، بل محصلةً أخيرة لمجتمع قائم على الاستياء الأخلاقي الجماعي، والرقابة الذاتية، حتى في أدقّ المستويات. سبق لميشيل فوكو الحديث عن «مجتمع التحكم»، ولجيل دولوز الدعوة للهرب من «البارنويا الرأسمالية». ولكن الأمور وصلت في عصرنا إلى مستوى لم يكونا قادرين ربما على تخيله. عوّل دولوز على الجماعات «الفصامية»، مثل المهمشين والمدمنين والمثليين، في مقاومة البارنويا السلطوية، على شرط أن يبقوا هاربين، وألا يشكلوا «آلة حرب» جديدة، أي مشروعاً لجهاز دولة قمعي وأيديولوجي. ما يحدث الآن أن أسوأ كوابيس دولوز تتحقق، فيتحوّل ما كان يراه «مقاومة» إلى سياسات مدمجة في مؤسسات السلطة، لا تسمح بوجود أي هوامش أو خطوط هرب.
في العالم العربي ما يزال العدوان الكبير والمؤسسات الانضباطية هي السائدة، ولكن توجد إلى جانبها فئات بيضاء، تحاول، بكثير من الضجيج، استنساخ بروتوكولات «العدوان المصغّر»، باعتبار هذا علامة على التميّز الاجتماعي والأخلاقي، والارتباط بـ«روح العصر». وبما أن التشكيلات الاجتماعية – الاقتصادية العربية تحوي عناصر متراكبة ومختلطة دائماً، فليـــس من الغريــــب أن نشهد مزيجــاً قمعياً من القيم التقليدية والنزعة المحافظة التقدمية، الرقابة البوليسية ورقابة الصواب السياسي، عدالة الجموع، التي تتفجر على شكل انتهاك وحشي للمختلفين شكلاً أو سلوكاً، وعدالة جموع أخرى على مواقع التواصل، منهمكة بإعطاء أحكام القيمة والصواب، والتشهير بالمخالفين. إنه جمع لأسوأ ما في العالمين، ما يجعل النقد ضرورة محلية، وليس مجرد تعريف بمشاكل الآخرين.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي