ثنائية الإسلام الراديكالي والديكتاتورية العسكرية/ عبدالله حسن
(1):سيد قطب و جمال عبد الناصر
كيف وصلنا إلى هنا؟
من أين جاء كل هذا التطرّف دفعة واحدة؟
لماذا تبدو محاولات تغيير واقع العالم العربي غير مُجدية ويائسة بالنسبة للبعض ربما؟ وهل اعتاد الناس على ما هُم عليه إلى هذا الحد الذي جَعَلهم غير قادرين حتى على تصوّر طريقة مُجرَّبة ومُجدية للعيش؟ ما السر خلف العدائية التي تُظهرها مجتمعاتنا لمفاهيم وتعريفات كـ الديموقراطية، العلمانية، أو حتى «الزواج المدني»؟
هل الإشكال مفاهيمي بالدرجة الأولى؟ هل لدين الأفراد علاقة بما يجري؟ أم الديكتاتور الذي تسبب بوضع اقتصادي وثقافي سيء انعكس على واقع حياتهم بما هو أسوأ؟ كيف ابتُلينا بثنائية الإسلام الراديكالي من جهة والديكتاتورية العسكرية من جهة أخرى؟ …
أسئلة كثيرة، ستحاول هذه السلسلة من المقالات الإجابة عليها، وذلك من خلال الوقوف لدى المقدِّمات المُسبقة لما جرى، وتتبع خيوط تلك المقدِّمات بإشكالياتها الأكثر أهمّية، وتطوراتها مع مرور الوقت، على أن تكون مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية نقطةَ البداية لأسباب عديدة، لعل أبرزها بداية تخلّص شعوب المنطقة من أشكال الانتداب الأجنبي على أراضيها، حين التقَفَتها أيدي أبنائها سياسيين وعسكريين تعهّدوا آنذاك بخلق واقع أفضل.
سيد قطب و جمال عبد الناصر
«صغيرتي .. الجو بارد في الخارج»
في العام 1949 اتجه مفتّشُ مدرسة في أواسط عمره من «مصر» إلى بلدة صغيرة تدعى «غريلي» في ولاية (كولورادو) الأميركية لدراسة نظامها التعليمي، يُدعى «سيد قطب».
كان (مُقدّراً) لهذا الرجل أن يكون أكثر بكثير من مجرّد مفتّش مدرسة، فمن خلال «خبراته» عن أميركا في صيف ذاك العام، وبحثهِ فيها عن هويّة يتصوّرها، سيقوم هذا المفتّش بوضع مجموعة من الأفكار التي كان يَعتقد أنها قادرة على بناء دولة ومجتمع، لا أن تكون مَصدر إلهامٍ مباشر للديكتاتورية وأحد أشكال معارضتها، والملهِم لكل ما سيحدث بعد هذا التاريخ من جهل وتخلف وانغلاق في العالم العربي!.
بعد أن جابَ أنحاء الولايات المتحدة، ازدادت خيبة أمل قطب فيها… ذاتُ الأشياء التي جعلت الولايات المتحدة تبدو مزدهرة وسعيدة، رآها قطب كعلامات فساد وتحلّل داخلي؛ عصرُ الرئيس «ترومان» الذي يَعتبره الأميركيون جزءاً من العصر الذهبي لحضارتهم كان بالنسبة لقطب شيئاً شريراً يَنطقُ بالغِلطة والفساد والسوقيّة؛ الأحاديثُ عن نجوم السينما، إنفاقُ الناس الكثير من الوقت للاعتناء بحديقة المنزل، تهذيبُ الأشجار وقصّ الحشائش…
كانوا بالنسبة له دليلاً على الجانب الأنانيّ والمادي في الحياة الأميركية، إنها -حسبما يصفها قطب- «ذوق أميركا».
في إحدى الليالي الصيفيّة ذهبَ إلى حفلٍ راقص في قاعة كنيسة محلّية، وكتبَ فيما بعد أن ما رآه في تلك الليلة قد «أزال الغشاوة» عن عينيه، حيثُ تحدَّث عن أن راعي الكنيسة أدارَ على الفونوغراف إحدى أشهر الأغاني وقتذاك (Baby It’s Cold Outside) وأنه جعل الإضاءة خافتة ليخلقَ جواً رومنسياً حالماً فـ«تلاقت الصدور بالصدور، والتفّت الأذرع حول الخصور، وامتلأت القاعة بالحب والشهوة»..
الراقصون أمام قطب كانوا أرواحاً مأساوية ضائعة، اعتقدوا بأنهم أحرار، لكنهم كانوا عبيداً لرغباتهم الأنانية الحيوانية النهمة، وهذه الأوصاف كفيلة -حسب اعتقاده- بتدمير الوشائج التي تُبقي على المجتمع متماسكاً. كان كل مايراه قطب يعبّر عن واقعٍ خفيّ وخطير كامنٍ وراء المظهر الخارجيّ للحياة الأميركية، لذلك صمّم الرجل في تلك الليلة على أن يمنع هذه (الحضارة القائمة على الأنانية الفردية حسب تعبيره) من الدخول إلى بلاده.
الجماهير ضالّة وينبغي الأخذ بيَدِها
في العام 1950 غادر سيد قطب الولايات المتحدة عائداً إلى مصر، عاقداً العزم على إيجاد طريقة للتحكم في قوى (الأنانية الفردية) التي سترِد كثيراً في هذا المقال على ما يبدو، فهي (شُغله الشاغل الآن)….
أثناء سفره كان مفتّش المدرسة يتصور نوعاً جديداً من المجتمعات، نوعاً يتمتّع بالمزايا العصرية للعلوم والتكنولوجيا الغربية، على أن يلعب الإسلام بشكل سياسي دوراً محورياً فيه لكبح جماح تلك الفردانية، الأمر الذي سيوفر إطاراً أخلاقياً يمنع رغبات الناس من أن تتغلّب عليهم، على حد اعتقاده.
لكن ما إن وصل «قطب» مِصراً حتى أدرك أن (الثقافة الأميركية) قد بدأت بالفعل انتشارها في بلاده، سينما مستوردة ومحلّية، أغانٍ وحفلات…
كان كل شيء حوله يعمل على الإيقاع بالجماهير في حبائله المضللة، كان قطب على قناعة بأن هذه الثقافة قد أفسدت عقول المسلمين، وحولتهم إلى كائنات أنانية تهدّد بتدمير القيم المشتركة التي تُبقي على تماسك المجتمع المصري، لذلك كان المطلوب في اعتقاده «طليعة من النخبة» بإمكانها أن تُدرك حقيقة (أوهام الحرّية)، ومن ثمّ تقود الجماهير إلى إدراك «الحقيقة الأسمى».
كانت الجماهير بالنسبة لقطب بحاجة لمن يقودها ويُرشدها لأنها «ضالة»، لذلك يجب أن تتولى تلك (الطليعة) مسؤولية إخراج الناس من الظلمات إلى «نور الإسلام»، بدلاً عن أن تظل الجموع مستسلمة لرغباتها المستفحلة؛ ولذلك أراد قطب أن تكون (الطلائع) مختلفة عن باقي الناس، أن تكون من «الأنقياء» المتعاضدين المتّفقين على وضع حد للواقع المصري الفاسد حسب تصوره.
وهكذا أصبح قطب ناشطاً سياسياً، وانضم لجماعة «الإخوان المسلمين» التي كانت تبتغي دوراً أساسياً في إدارة المجتمع المصري، وتصنّف نفسها آنذاك كـ حركة «إصلاحية».
كانت بداية العلاقة بين قطب والإخوان كتابُه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» حين كتب في إهدائه: «الفتية الذين ألمحُهم في خيالي قادمين يَرُدّون هذا الدين جديداً كما بدأ، يقاتِلون في سبيل الله فيَقتُلون ويُقتلون»؛ حينها فهمت الجماعة أن قطب يغازلها، فاهتمّت لأمره واعتبرته صديقاً، إلى أن بات فيما بعد مسؤولاً عن «القسم الدعَوي» فيها.
خلال العام 1952 ساند الإخوان المسلمون الثورة التي قادها المقدّم آنذاك «جمال عبدالناصر»، والتي أطاحت بآخر ما تبقى من الحكم البريطاني، سرعان ما أوضح ناصر أن مصر الجديدة ستكون «مجتمعاً علمانياً يحاكي القيم الغربية»، وشكّل تحالفاً مع الولايات المتحدة؛ ولمواجهة ذلك، قام الإخوان المسلمون بتنظيم أنفسهم ضد ناصر، وفي عام 1954 ألقيَ القبض على قطب وعناصر قيادية أخرى من الجماعة.
ما حدث لقطب بعد ذاك التاريخ (1954) كان له عواقب وخيمة على العالم بأسره…
لقد قام الجلادون في سجون ناصر بإطلاق العنان لفنون من التعذيب ضد أعضاء الجماعة الذين اتُّهموا بالتآمر للإطاحة بالرئيس، وعلى حسب شهادات ناجين فقد قام الجلادون في إحدى مراحل التعذيب بدهن جسد قطب بدهون حيوانية، وحَبْسِه في زنزانة مع كلاب مدرَّبة على مهاجمة البشر، ليُصاب بأزمة قلبية؛ وهنا كان لابدّ من الوقوف مليّاً لدى تعامل ناصر الوحشي مع الإخوان آنذاك.
نجا قطب من الموت، لكن كان للتعذيب في سجون ناصر أثر قوي وراديكالي على أفكاره، كان يعتقد أن أفكار الغرب العلمانية هي التي خلقت الأنانية التي رآها في الولايات المتحدة، لكن التعذيب الذي تعرَّض له داخل السجن دفعه إلى تصوّر فكرة أكثر كارثية مَفادها أن تلك الأنانية التي دخلت مصر أطلقت العنان أيضاً لأكثر الجوانب وحشية وهمجيّة في الإنسان، بمعنى أنه اعتقد بأن تعذيب السجانين له بهذا الشكل هو كذلك جزء من الثقافة العلمانية الغربية وأحد معانيها وتجلّياتها!.
هنا كان لابدّ من الوقوف وقفة أخرى، لكن هذه المرة لدى المغالطة اللغوية والإشكال المفاهيمي الحاصل كـ رد فعل، والذي سيظل قائماً باتّساع منذ ذلك التاريخ (1954) إلى أيامنا هذه وحتى مستقبل غير معلوم، إشكال له علاقة وثيقة بسوء تصوّر مجتمعاتنا الحالية لأبسط المفاهيم والتعريفات، وسوء الفهم هذا الذي (سيكرّسه الديكتاتور ليستغلّه في توطيد حكمه لاحقاً) ستنطوي عليه ردود أفعال خطيرة وكارثية دَفعت وتَدفع وسَتدفع ثمنها أجيال متعاقبة طيلة عقود.
اعتقدَ قطب بعد التعذيب أن الغرب يحمل للعالم أجمع مرضاً يدعى «الجاهلية»، وهي حالة من الجهل المستفحل، وأنّ ما يجعل هذا المرض خبيثاً ومرعباً على حد تصوّره هو أن الناس لم يكونوا مُدرِكين أنهم مُصابون به، إنما كانوا يعتقدون بأنهم أحرار، وبأن ساستهم يسيرون بهم قدُماً إلى عالم جديد، لكنهم في الواقع يرتدّون إلى عصر همجي.
تلك «الجاهلية» حسب قطب هي شديدة الخطورة، ليس لأنها مدعومة فقط من قوى الغرب، إنما لأن المسلمين أنفُسَهم مصابون بها، ما يجعل الإسلامَ مهدّداً من الخارج الغربي، والداخل أيضاً…
إنها حالة طوارئ اجتاحت كل شيء حتى قدرتَنا على التخيّل، حيث بتنا -حسب قطب- لا ندرك أبداً حقيقة أننا مرضى، إننا نؤله المادّية والذات والحقائق الفردانية أكثر من «الحقائق الأصلية»… إن تلك الجاهلية هي صراع وجوديّ مَلحمي مذهل يُهانُ فيه الإسلام على كافة الجبهات، داخلياً، خارجياً، ثقافياً، عسكرياً، اقتصادياً، وسياسياً….
وفي ظل هذه الظروف تصبح أية وسيلة لمحاربة هذا الوضع -حسب قطب- مُبرَّرة ومشروعَة وذات ثقل وجدوى، لأنها تنفّذ مشيئة «الله» في الأرض؛ لقد أحس قطب أن هذه «الجاهلية» قد تغلغلت في عقول المسلمين حتى بات من اللازم وبسرعة إيجاد طريقة فعالة ومؤثرة لـ «تحريرهم».
في مجموعة من الكتب قام بتأليفها سراً داخل السجن حيث تعرّض للتعذيب، أهابَ سيد قطب بـ «الطلائع الثوريّة» للتمرد والإطاحة بالقادة الذين سمحوا (للجاهلية) بأن تتفشى في بلادهم، ما يعني ضمناً بأن قتل هؤلاء القادة له ما يبرّره، لأنهم أصبحوا من الفساد بمكان لم يعودوا فيه مسلمين حتى لو ادّعوا العكس؛ وفي مواجهة هذا قرر ناصر سحق قطب وأفكاره، ليحاكَم بالخيانة عام 1966 ويتم إعدامه في 29 آب/ أغسطس من العام نفسه، إلا أنه وبعد فترة قصيرة على إعدامه قام طالب شاب بالعمل على تأسيس مجموعة سرّية أملاً في أن تصبح يوماً (الطليعة النخبويّة) التي تمنّاها قطب، يُدعى «أيمن الظواهري».
(2): سوريا «البعث» و “الإخوان المسلّحون”
في المقال السابق، بدأت القصة بسيّد قطب، مفتّش المدرسة الذي تصوَّرَ نوعاً مُبتكّراً جديداً من المجتمعات الحديثة، مجتمعات تتمتع بمزايا الدولة العصرية، على أن يلعب الإسلام الدورَ الرياديّ السياسي والاجتماعي فيها، وذلك لـ «كبح جماح الأنانية الفردية» التي جلبها الغرب على حد تصوّره. رأينا كيف أن التعذيب الذي تعرّض له ذاك الرجل من قبل جمال عبد الناصر دفَعَه إلى أن يكون هو نفسه (قطب) أنانياً، لدرجة أنه أفتى بوجوب قتل القادة، مصرّاً على أن يكون للإسلام دورٌ في المجتمع حتى لو بالقوة؛ كما رأينا أن قطب اعتقد بأن الديموقراطية الغربية تعني وحشيّة الإنسان واستبداده وقمع معارضيه.
وقد بدأت القصة بـ قطب ولم تبدأ من مكان آخر لأن مفتّش المدرسة ذاك كان أوّل من سعى في العصر الحديث إلى بلورة فكرة إسلامية تنظيمية الهدف منها إدارة الحياة الاجتماعية والسياسية برمّتها في العالم العربي … شيء يشبه السلطة الكنسيّة في عصور أوروبا ما قبل النهضة والتنوير.
في هذا المقال سنتحدث عن أثر سيد قطب في مكان آخر، وهو سوريا، حيث حزب «البعث» الذي سيدفع فكرة التغيير الإسلامية تلك لتكون تصوّراً راديكالياً وسيلتهُ القوة، تبيح للسلطة كذلك بأن تستخدم القوة.
سوريا «البعث» والإخوان المسلّحون:الاحتجاج المسلّح.. أكثر أشكال الرفض بدائيّة
قبل أن يستولي حزب البعث على السلطة في سوريا عبر انقلاب عام 1963 كانت مجموعة من الأُسَر الإقطاعية في مدينة «حماة» وأُسر أخرى تابعة لها في الريف تشكّل تكتّلاً سياسياً واجتماعياً وانتخابياً في مواجهة الاشتراكيين العرب؛ يَذكر السياسي السوري البارز «أكرم الحوراني» في مذكراته أن «الإخوان المسلمين» كانوا قد انضمّوا إلى ذاك التكتّل، وخاضوا انتخاباتٍ في عهد انفصال سوريا عن مصر، لكن النجاح لم يكن من نصيبهم. وظلت أحداث التوتّر قائمة بين الأطراف حتى 7 نيسان 1964 حين قام الإخوان باحتجاج مسلح في مدينة «حماة» ضد الحزب، ستكون تبِعاتهُ سلسلة من الأحداث الدموية مع مرور الوقت، والتي مِن شأن الوقوف عندها أنْ يضعنا أمام فهم موضوعي لما جرى فعلاً في سوريا خلال الآونة الأخيرة.
كانت الأسباب البعيدة لانتفاضة الإخوان المسلحة في حماة إعلان البعث بشكل استفزازي الاستيلاء على مئات قطع الأرض قال إنها زائدة عن الحد الأعلى للملكية الزراعية بموجب قانون إصلاح زراعي آنذاك، وتأميمه شركات جديدة في حلب واللاذقية….
إليك القصة:
لدينا في البداية مشكلة تكمن في أن حكم البعث لسوريا جاء بانقلاب عسكري؛ هذا الانقلاب العسكري تُعارضه فئات عديدة من الشعب لأنه (انقلاب أصلاً)، تعارضه فئات سياسية، يعارضه المحامون، وتعارضه الجبهة الوطنية الديموقراطية الدستورية (مجموعة من المثقفين، محامون، أطباء، مهندسون، صيادلة) …. هذا الانقلاب يحمل المشروع (الاشتراكي الراديكالي) كنظام حكم، يعارضه التجار والإقطاعيون لأنه اشتراكي (تعلمون كيف تسير الأمور الاقتصادية داخل هذا النوع من الأنظمة)، ويعارضه الإخوان لأنه -حسب اعتبارهم- (ملحد، وقياداته من الأقلّيات) ولأنهم يريدون حيازة السلطة منه أصلاً…. نتجَ عن هذا (الانقلاب) (الإشتراكي) وضع اقتصادي مُزرٍ (يعارضه الجميع)، وتسبّب هذا الوضع الاقتصادي باحتقان لدى السوريين كلهم لا سيما الإخوان في حماة، الذين كان بالنسبةِ لهم ذلك (السببَ البعيد للاحتجاج المسلّح).
أما السبب المباشر فقد كان حادثاً طلابياً تعاملت معه السلطات البعثية بصورة استفزازية، حيث كتب أحد طلاب مدرسة «عثمان الحوراني» على اللوح عبارة «لا حُكم إلا لحزب البعث»، فشتم طالبٌ آخر الحزب وكتب «لا حكم إلا لله»، فاعتقلت السلطات الطالب، وجرت مداخلات كثيرة لإطلاق سراحه لكنها لم تثمر، بل أصدر «شبلي العيسمي» وزير التربية والتعليم آنذاك قراراً بنقل عدد من مدرسي مادة الديانة في المدينة إلى أماكن أخرى، فأضرب طلاب المدارس الرسمية والخاصة احتجاجا على ذلك. وبعد يومين من الحادث خرج المصلون من صلاة الجمعة بمظاهرة احتجاج قمعها الجيش بقسوة، سقط على إثرها قتيل وبعض الجرحى، فأضربت المدينة إضراباً عاماً اشتركت فيه جميع فئاتها، وعندما حاولت السلطات فتح بعض المتاجر بالقوة اصطدمت بمقاومة مسلحة مما أدى إلى دخول الجيش إلى المدينة ولا سيما أحياءها القديمة، وعزَلَها عن الخارج تماماً.
سِن المراهقة
لم تخجل جماعة الإخوان المسلمين ولا مرة في التعبير عن موقفها الساذج من البعث، إذ تعبِّر في أدبيّاتها عن موقفها منه بكونِه، «استولى على السلطة فاتحاً بذلك الباب أمام الأقليّات الطائفية لتمسك بمفاصل القوّة والسّلطة في سورية، لأن معظم أعضاء اللجنة العسكرية البعثية المشرفة على نشاطات التنظيم العسكري كانوا من الأقليّات؛ وتكوّنت اللجنة العسكرية في البدء من خمسة ضباط، من بينهم ثلاثة علويين وهم: محمد عمران، وصلاح جديد، وحافظ الأسد، وإسماعيليّان هما: عبد الكريم الجندي، وأحمد المير؛ وبعد انقلاب الثامن من آذار وسِّعت اللجنة، وبقيت العناصر الفعّالة فيها من النصيريين (العلويين)، ولذلك سُميت هذه اللجنة بلجنة الضّباط العلويين؛ ومن المعروف أن حزب البعث العربي الاشتراكي ليس حزباً علمانياً بالمفهوم الغربي للعلمانيّة فحسب، بل هو حزب مُعادٍ للإسلام في منطلقاته ومنهاجه».
وهذا الموقف هو لبّ الكارثة برمّتها لأنه:
أولاً: ينم عن فِكر قاصر لأبسط مفاهيم (الدولة)، (الأرض)، (الشراكة)، (العلمانية)، (الديموقراطية)، و(الدستور)… فالدولة عندهم ينبغي أن تكون دينية، بمعنى أنهم يميّزون مواطني تلك الدولة على حسب عقائدهم وانتماءاتهم الدينية بشكل شمولي أخرق، ويبتغون تعميم عقيدة معينة لتكون قانوناً على الجميع؛ والأرض بالنسبة لهم هي العالم كله، بمعنى أن مشروعهم لا يقتصر فقط على حدود الدولة، إنما يؤمنون بمبدأ الثورة العابرة للقارات (لينين)، وهذه نظرة شمولية أخرى للعالم والتاريخ؛ والشراكة بالنسبة لهم هي مشاركة المسلمين في بناء الدولة بشكل أساسي، وهذا فهم مغلوط للديموقراطية نفسها أيضاً، والتي هي بالنسبة لهم (وسيلة وليست غاية) وتعني «الشورى/ أي شورى المسلمين خصوصاً». كما تَعني بالنسبة لهم حُكم الأكثرية (عوضاً عن حكم الشعب) لأن هذه الأكثرية هي الشعب!، وهذا أيضاً إخلال في العقد الاجتماعي الذي تُسَن بموجبه قوانين الدولة. لو أن أحداً فقط نبّه الجماعة إلى أن التعريف الذي تحمله للديموقراطية ساذج وقبيح ويعكس مدى هزليّة ما يبتغون الوصول إليه، حيث يجب أن تكون الأخيرة ضامناً لعدم تعدّي محصّلة الأصوات الكثيرة على القليلة، وأنها ليست كما يُقال في الأوساط الشعبية «9 ذئاب وخروف يُجرون تصويتاً لتحديد من سيتناولون على طعام العشاء»، إنما هي تضمن في بُنيتها عدم المساس بحقّ المساواة التام بين قيمة الأصوات مؤيّدة كانت أم معارضة، وأن الخروف يجب ألا يكون مشمولاً ضمن قائمة الطعام؛ أما العلمانية فتعني بالنسبة لهم «الإلحاد» في إشارة إلى أن الحكم الديني عادل بالضرورة، والحكم غير الديني ظالم قطعاً!
(الحاكم المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك/ ابن تيمية)، كما يعتبرون حزب البعث (علمانياً غربيّاً ملحداً معادياً للإسلام)، عوضاً عن اعتباره (انقلابياً، قومياً، ديكتاتورياً، معادياً للإنسان كله)؛ أما الدستور بالنسبة للإخوان فهو كتاب المسلمين المقدّس، وليس كتاب فئة دينية أخرى!، يا للسخرية!، ألا يوجد كتاب آخَر يستطيع التوفيق بين الفئات جميعها دون تحيّز وبغض النظر عن أديانهم وأشكالهم وألوانهم وأعراقهم وأجناسهم ويتيح للجميع المشاركة في بناء الدولة؟.
ثانيا: موقف الإخوان المنغلق والفقير هذا (موقف حزب ديني من نظام عسكري ديكتاتوري) يضع حداً لمحاولات أخذه على محمل الجد، ويقف عائقاً أمام إقامة علاقات دولية معتَبَرة خارج إطار المجتمع الدولي الإسلامي بشكل خاص؛ مَن سيساند حزباً دينياً لإقامة مشروعه كـ بديل عن ديكتاتورية «البعث» التي تجد أصلاً مَن يساندها في ديكتاتوريات أخرى شبيهة تُعادي العالم كلّه مثل كوريا الشمالية والصين وروسيا؟.
ثالثاً والأهم: هو أن موقف جماعة الإخوان المُبيَّن أعلاه يَتّخِذ (في منهجيّتها القرآنية) من الطرح المسلّح إحدى الوسائل لتطبيق مشروعها (مثل اعتبارها الديموقراطية وسيلةً أيضاً، ما يعكس جهلَها بها وبالسياسة على حد سواء)؛ حتى وإن أصرّت الجماعة على العمل السياسي السلمي في بداية نشأتها إلا أن احتماليّة لجوئها إلى العنف المُفرط واردة بنسبة عالية جداً، وهذا ما سنراه لاحقاً، كما سنرى أن الأطروحات الإخوانية المسلّحة التي تعمل وفق مبدأ «ردّ الصائِل/ الباغي» وتستند إلى القرآن هي في الوقت نفسه مَجال واسع للأخذ والرد، وتحمل في طيّاتها بذور التطرف بنسبة عالية وغير محدودة ولا قابلة للضبط؛ باختصار: إننا أمام حزب يميني، ذي مرجعية دينية (إقصائية حتماً) يُغالط في المفاهيم السياسية والتعريفات الأوّلية للدولة والنُظُم، يؤمن بأن الناس الذين يدينون بدينه هم وقود لتحقيق مشروع عقائدي، يؤمن بالكفاح المسلّح، وتعجز منهجيّته عن ضبط وتنظيم أشكال ذاك الكفاح… إننا ببساطة أمام قنبلة موقوتة سيكون الديكتاتور سعيداً بها للغاية.. تعلمون أن الديكتاتورية تخطو خطوتها الأولى بتحديد الأعداء، إبرازهم، ثم تعاقب الجميع مؤيدين ومعارضين.
سِن «الرُّشد» !
في ذلك الوقت (لانزال في العام 1964) كان شابٌ متشدد من جماعة الإخوان المسلمين يُدعى «مروان حديد» قد تأثّر بأفكار (سيد قطب) ويرغب بتطبيقها في سوريا، كان حديد مقتنعاً بأنّ «الجهاد» هو (الطريق الوحيد) للتخلص من «بلاء كحزب البعث الملحد» ولهذا كان يبشّر بذاك الجهاد للإطاحة به والتنظيمِ ضده في حماة، انطلاقاً من جامع «البحصة» ثم جامع «السلطان» الذي يتوسّط المدينة، ليحتلَّ مكان الشيخ «محمد الحامد» الذي كان يديره، ويجعل من ذاك المسجد مُنطلَقاً للدعوة إلى «الثورة» المسلحة ضد حزب البعث، ولما دخَل الجيش «حماة» وعزلَها عن الخارج تماماً اعتصم (حديد) وأنصاره داخله، ظناً منه أنه يستطيع استخدام المسجد كورقة يؤلّب فيها الرأي العام السوري (المسلم بشكل خاص) على البعث أكثر؛ لم يكن يعلم أن مزيداً من العناد واستخدام الرموز الدينية للحشد البدائي ضد سلطة عسكرية مستبدّة سيدفع البعث (المستعدّ) من جانبه إلى استخدام المزيد من العنف لضبط فوضى السلاح تلك في المدينة.
حاصرت الدبابات (حديد) وأنصاره داخل مسجد «السلطان» وقصفته بالمدفعية، وقتلت الأشخاص الذين نزلوا إلى الشوارع احتجاجاً، إلى أن توقّف إطلاق النار في 16 نيسان بعد وساطةٍ من بعض رجالات المدينة، وذلك بعد أن حوّل نظام البعث المحافَظة المتمردة إلى نموذج يشير فيه إلى المدى الذي هو على استعداد للذهاب إليه لترويض/ الإستفادة من هذا الاحتجاج.
في اليوم الذي يليه (17 نيسان 1964) كانت السلطة تحتفل بعيد «الجلاء»، حينها ألقى اللواء «أمين الحافظ» كلمة حافلة بالتهديد وردَ فيها: «نحن نقول للمتآمرين ومن خلفهم، ما هي إلا أيام قليلة حتى نسحقهم ومن معهم ومن خلفهم، وسيعلم المتآمرون أي منقلب ينقلبون»؛ وعندما ذهب إلى حماة واجتمع بلجنة المدينة تابع تهديداته قائلا :«سنحكم بالموت على من يستحق الموت، ونعاقب بالسجن المشاغبين، وسنسوقهم إلى (سجن تدمر) مشياً على الأقدام، حيث يبقون حتى يتحولوا إلى أناس طيبين، ولسوف نمشط المدينة لمصادرة السلاح، ولن نترك فيها غير سكاكين المطبخ….. إن ما جُمع من السلاح غير كاف، ولهذا لن تنسحب القوات من المدينة، ولن يُرفع حظر التجول عنها حتى يقدّم ممثلوها كمّيات أخرى من السلاح نعتقد أنها موجودة ومخبأة».
الاستبداد يُهدِّد بالعنف مستفزّاً … ويثير المخاوف طَمَعاً واستِمَالة
ما إن بدأت أخبار قصف حماة وسفك الدماء فيها تتوارد إلى المدن السورية الأخرى حتى بدأت في 24 نيسان مدن (حمص، دمشق، حلب، واللاذقية) إضراباً واحتجاجاً على سلطة البعث (الانقلابية اللاشرعية)، بادر المحامون في العاصمة إضراباً من جانبهم حتى حين إطلاق الحريات العامة وعودة الحياة الدستورية، وقد جاء في بيان لهم آنذاك: «إن المحامين الذين حَملوا في مختلف العهود عبء الدفاع عن حقوق الشعب وحرياته الأساسية، يرون لِزاماً عليهم في هذا الظرف العصيب الذي تمر به البلاد أن يعلنوا:
إن هذا الشعب في مختلف العهود أثبت أنه لا يمكن أن يُحكم إلا بالأسلوب الديمقراطي الصحيح، الحُكم فيه فعلاً من الشعب، وأن المجلس الوطني لقيادة الثورة كان أعلن في الثامن من آذار عام 1962 حين أكد في سلسلة من بياناته أنه إنما جاء ليعيد حكم الشعب للشعب وبالشعب، إيماناً منه ومن كل مواطن في هذا البلد أن كل حكم خارج عن هذا البند مصيره الزوال.
لقد مرت بالبلاد منذ ذلك الحين مآسٍ كثيرة ودخلت في تجارب عديدة باعدت بين الشعب والحاكمين، وإذ كنا لا نريد أن نسهب في تعداد صور التباعد وأسباب المآسي الكثيرة، فإن في الأحداث الأخيرة التي وقعت في بعض المدن السورية كحماة، وما أعقبها من إعلان للإضراب الشامل تعبيراً عن استياء الشعب لدليل واضح على فقدان الثقة بين الحكم والشعب، وانعدام التجاوب بينهما، خصوصاً وأن المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان كما أقرتها الشرعية الدولية قد انتهكت وهُدرت بشكل مفضوح، فلقد اعتُقل عدد من المحامين ورجال القانون، إلى جانب مئات المواطنين، وعذبوا وأُهينوا بصورة هُدرت فيها كرامة الإنسان على وجهٍ أدى إلى عزل الحكم عن الشعب، وإلى تعريض أمن البلاد الداخلي والخارجي للخطر». مطالِبين بـ «إطلاق الحريات العامة، إلغاء حالة الطوارئ، وإعادة الحياة الديموقراطية للبلاد فوراً دون إبطاء، وتشكيل حكومة انتقالية محايدة تُشرف على انتخابات حرة نزيهة».
وفي اليوم ذاته الذي صدر فيه بيان المحامين (24 نيسان)، وفي هذا الجو المشحون بالغضب الشعبي، عقد اللواء «أمين الحافظ» من جانبه مؤتمراً صحفياً ألقى فيه بياناً مكتوباً ثم أجاب بعد ذلك على أسئلة الصحفيين، ما يهمّنا هنا إجابته عن أحد الأسئلة بالقول: «إن الأهداف الأساسية للاستعمار تفرقة أبناء الوطن الواحد إلى كتل وشيع، وإثارة كتلة على كتلة، ومذهب على مذهب، ودين على دين، هذا هدف رئيسي من أهداف الاستعمار، ولكن لا يخلو الأمر أيضا من وجود عناصر بريئة طيبة قصيرة النظر لا تقدّر الأمور حق قدرها يمكن أن تنساق بمثل هذا التيار المخرب، وإن العصبية العنصرية والطائفية قد استغلها الأتراك والفرنسيون أوسخ استغلال… فنحن كلنا خمسة ملايين، ونعمل لتحقيق جمع تسعين مليون عربي، فإذا بدأنا نفكر أن الطائفة الفلانية غير صالحة، والطائفة الفلانية أصلح، ومدينة حلب أحسن من الشام، وحماة أحسن من حمص، والعايش في المدينة أحسن من العايش في الريف، والبدوي أحسن من الحضري فهذا لا يجوز، وإذا كان الأمر كذلك فلا يتطلب غير تنكة بنزين نحرق هؤلاء ونأتِ بشعب جديد».
كان الحافظ يلتفّ على مشكلة اقتصادية ووضع مأساوي تمر به سوريا نتيجة سياسة البعث الإشتراكية الراديكالية عبر الحديث عن الاستعمار وأدواته، النسيج السوري، الطائفية، يستغل وجود معارضة دينية لانقلاب البعث، و (يهدّد بالحرق مستفزّاً، ويُثير المخاوف طَمَعاً واستِمَالةً)…
سيُثبت التاريخ القادم أن هذه الاستراتيجية ناجحة وفعّالة للغاية في كسب المناصرين، وحشد العداوات للاستفادة منها في حلّ مشاكل أكبر؛ لقد كانت إدارة البعث تتعمّد استخدام هذا الأسلوب الاستفزازي لتفجير النقمة الشعبية واستدراجها إلى نقطة ما قبل النضج، لإجهاضها قبل استعدادها التام، في الوقت الذي تكون فيه السلطة مستعدة تماماً لمواجهة أي انفجار شعبي محتمل.
«النُخبة» البعثيّة والإسلامية
ظلّ الاحتقان الشعبي حاضراً زمن أمين الحافظ، وفي تلك الأثناء كانت تتعالى فعلاً في أوساط جماعة الإخوان المسلمين طروحات المواجهة العنيفة مع النظام أكثر فأكثر مع مرور الوقت، لكن على الرغم من أجواء الجماعة الحانقة بشدة أكثر من غيرها على البعث، إلا أن قرارها كان عدم الانجرار إلى مواجهة عسكرية (مفتوحة) معه، كانت الجماعة تفضّل (في ذلك الوقت – منتصف الستينيّات) طريق العمل السلمي للوصول إلى السلطة على الرغم من الاحتجاج المسلح 64، الأمر الذي لم يَرُق عدداً من أتباعِها الذين سلكوا خطّاً آخر، ليكوّنوا نواة ما سمّيَ لاحقاً (1968 / بعد عامين على إعدام قطب) بـ «الطليعة المقاتلة».
كان تنظيم «الطليعة المقاتلة» أول تجربة جهادية في سوريا تتخذ من العنف سبيلاً وحيداً للتغيير، إذ أدّت مساعي «مروان حديد» طوال سنوات الستينيات وأوائل السبعينيات إلى نمو شبكة من المتشدّدين الذين كانوا يرغبون في دفع جماعة الإخوان إلى خوض المواجهة المفتوحة مع النظام.
تأثّر حديد بأفكار قطب مثلما أسلَفنا، وحاول إقناع التنظيم العام للإخوان المسلمين بالإعداد للمواجهة مع السلطة، وتشكيل ذراع عسكرية للجماعة، ولما لم ينجح في ذلك، توجَّه مع تلاميذه للإعداد للقتال، وذلك من خلال العمل المسلح (في معسكرات الشيوخ/ أسسها ياسر عرفات) مع حركة «فتح» الفلسطينية في غور الأردن بين العامي (1968 – 1970)، وهناك تمكّن من إعداد «النخبة» الأولى لتنظيمه الجهادي (تنظيم الطليعة المقاتلة).
تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه السلسلة ستتورّع عن التطرق إلى «معسكرات الشيوخ» التي أسسها عرفات بإيعاز من الشيخ «أمين الحسيني»، لأن الغرض منها كان يقتصر على (الجهاد) ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، لا العمل على الإطاحة بالأنظمة في المنطقة العربية ولا اتخاذ دور الريادة في إدارة مجتمعاتها سياسياً، علماً أن معسكرات الشيوخ تلك كانت نقطة التلاقي للعديد من الجهاديين في بلاد الشام أمثال (مروان حديد، عبد الستار الزعيم، وعبدالله عزام، وقادة من جماعة الإخوان المسلمين… إلخ).
انتهى الحديث عن سوريا هنا بانقلاب حافظ الأسد وتسلّمه منصب رئاسة الجمهورية في العام 1971 لتبدأ قصة جديدة.
(3): مصر «السادات» وحركة «الجهاد» الإسلامي
في المقال السابق كان الإخوان المسلمون في سوريا قد احتجّوا على سلطة حزب البعث (باعتباره علمانياً!) وسياساته القمعيّة والاشتراكية الراديكالية بالسلاح في مدينة حماة عام (1964)، وبدأت مع ذاك الاحتجاج بذور التطرف الإسلامي بالنمو على يد (مروان حديد) الذي تأثر بأفكار سيّد قطب وأراد تطبيقها في سوريا… الأمر الذي دفع الحزب الحاكم إلى الرد بقوّة، دافعاً الجماعة للاحتشاد أكثر بغية إبرازها وتصفيتها فيما بعد، ومشيراً إلى الحد الذي بإمكانه الذهاب إليه في مواجهة الخصوم.
في هذا المقال سنعود إلى مصر مجدداً، حيث الرئيس المصري أنور السادات، سياسة الانفتاح التي انتهجها، وما رافقها من انتشار لأفكار سيد قطب التي أخذت شكلاً متطرفاً بالفعل… ثم اتفاقية السلام مع إسرائيل التي دفع ثمنها غالياً، حيث نختتم المرحلة الأولى (البداية) ونمهّد للمرحلة الثانية (حيّز التطبيق) التي تترافق فيها ثنائية الإسلام المتطرف مع الديكتاتورية العسكرية بشكل منسجم للغاية، حيث كل واحد منهما يعمل على إثبات نفسه عن طريق نعت الطرف الآخر بأوصاف يريدها، عوضاً عن أن يعرّف كل طرف عن نفسه بطريقة مفهومة.
مصر «السادات» و حركة «الجهاد» الإسلامي
خلال العقد الأول من سبعينيات القرن المنصرم، كانت مصر قد تغيرت؛ ظاهرياً كانت تبدو كدولة حديثة ذات سَمْتٍ متقدّم، بانفراج على مستوى السياسة والحريات العامة، وبطبقة متوسطة ميسورة الحال، تستفيد من تدفّق رأس المال الغربي المستثمر فيها.
كان «أيمن الظواهري» حينها طبيباً شاباً في بداية حياته العملية، رجلاً أرستقراطياً يَعتقد أنه يحمل فكراً ورؤية للمستقبل، وهو من عائلة سعودية مصرية كبيرة وشهيرة، كان والده طبيباً وأستاذاً في الجامعة، جده لوالده كان شيخاً في الأزهر، جده لوالدته كان أديباً، وأخو جده كان أول أمين عام للجامعة العربية (عبد الرحمن عزام)، وخاله أمين المجلس الإسلامي الأوروبي، وخاله الآخر نائب رئيس حزب «العمل» المصري… حاز الظواهري فيما بعد على الماجستير في الجراحة من جامعة القاهرة، ثم الدكتوراه، وقد كان من النوع الذي يعمل وفقاً للقواعد، وشخصاً منضبطاً جداً، ما أهّله ليكون قائداً لخلية إسلامية سرية أنشأها حين كان طالباً، استلهَم أفكارها من سيد قطب.
كانت أفكار قطب خلال تلك الفترة تنتشر في مصر بحرّية، خصوصاً بين الطلاب، لأن نبوءته بـ «الفساد القادم من الغرب» بدت لأولئك الطلبة كما لو أنها تحقّقت… كانت حكومة السادات تحت سيطرة مجموعة صغيرة من أصحاب رؤوس الأموال الضخمة المدعومين من البنوك الغربية التي تعمل حسبما أسماه الأخير آنذاك «سياسة الانفتاح».
كان السادات ينكر للإعلام الغربي أيّ وجود للفساد في بلاده، فيما كان المصريون يعلمون آنذاك بأنها مجرد كذبة؛ خلال مقابلة معه عام 1977 يقول: «مَن استفادَ من سياسة الانفتاح؟ سائقو الأجرة استفادوا… الليبراليون جميعهم استفادوا، ليس صحيحاً ما يقولون أن لدينا مليونيرات هنا، هذه دعاية سوداء من جانب الاتحاد السوفييتي وعملائه في هذا البلد». (كانت الولايات المتحدة تصوّر في ذاك الوقت الاتحاد السوفييتي على أنه الشر المُطلق في العالم).
في ذلك الوقت كان الظواهري على قناعة بأن الوقت قد حان لتحقيق رؤية سيد قطب، وأنّ علىى «الطليعة» التي أسسها أن تنهض وتطيح بالنظام الفاسد؛ أما الرجل الذي سيتيح للإسلاميين هذه الفرصة فقد كان وزير الخارجية الأمريكية آنذاك «هنري كيسنجر».
كجزء من محاولته خلق عالم مستقر ومتوازن، أقنع كيسنجر السادات ببدء مفاوضات السلام مع إسرائيل؛ بالنسبة له كـ براغماتي صارم لم تكن للانقسامات أو الأحقاد الدينية أية أهمية، كان كل ما يهم لدى كيسنجر هو خلق عالم أكثر أمناً، وامتثالاً لمطلبه سافر السادات في العام 1977 إلى القدس لبدء عملية السلام … بالنسبة للغرب كان عملاً بطولياً، وبالنسبة للإسلاميين كان خيانة عظمى أكّدت أن الغرب قد أفسد عقل السادات حتى سيطروا عليه تماماً، ووفقاً لنظريات سيد قطب كان هذا يعني أنه لم يعد مسلماً، وبذا يتوجّب قتله.
الثورة الإسلامية في إيران
بعدها بعامين (العام 1979) أثبتَ «آية الله الخميني» بالنسبة للظواهري أن حُلمه في إنشاء دولة إسلامية قابل للتحقيق؛ كان الخميني مصدر إلهام للثورة ضد شاه إيران الذي -حسب الخميني- هو أحد القادة الذين سمحوا للبنوك الغربية بإفساد بلاده.
كان الخميني قد دفع بفكرة الدولة الدينية المشابهة لأفكار قطب بشكل ملحوظ، وإقراراً بفضله قام بوضع وجه قطب على أحد طوابع بريد الجمهورية الإسلامية الجديدة آنذاك !.
في أول خطبة له وجّه الخميني حديثهُ للغرب قائلاً: «نعم، نحن رجعيّون، وأنتم مثقّفون مستنيرون، أنتم يا من تريدون الحرية في كل شيء، الحرية التي ستفسد بلادنا وشبابنا، والحرية التي ستمهّد الطريق للطاغية، الحرية التي ستهوي ببلادنا إلى الحضيض».
حركة «الجهاد الإسلامي»
في مقابل ما جرى في إيران، عبّر السادات إبان ذلك عبر لقاء صحفي عن استياءه الشديد قائلاً: «إن ما يسمونه بالثورة الإسلامية في إيران هي محض جريمة، جريمة ضد الإسلام في المقام الأول»، مُبدياً استعداده لإحضار الشاه المخلوع بطائرته إلى مصر.
في نهاية العام 1980 كان أيمن الظواهري وعدد من أتباع قطب الذين كانوا قد كوّنوا عدداً من الخلايا قد تضامنوا معاً، وقاموا بتأسيس حركة أسموها «الجهاد الإسلامي» تحت قيادة «محمد عبد السلاح فرج» الذي دعا إلى قتل السادات بطريقة لافتة تثير صدمة الجماهير، وتجعلهم يرون حقيقة الفساد الذي يحيط بهم، ليثوروا ويُطيحوا بالنظام.
كان جيل الظواهري مختلفاً عن الجيل الذي تربى في المرحلة الليبرالية.. جيلاً أكثر تعبيراً عن الحالة الجهادية منه عن الحالة الوسطية أو حالة التهادن مع ما يجري، ولجيل الظواهري طبيعة فيها جانب من الاستعلاء على الواقع الذي يتوجب تغييره بغض النظر عن الوسائل، كـ لينين أيضاً «الثورة في بلد واحد، أو الثورة في جميع أنحاء العالم».
الإسلام الصحيح
اغتيل السادات في العام 1981، ومن قاموا بعملية اغتياله هم مجموعة من ضباط الجيش من أعضاء حركة «الجهاد الإسلامي»، وقد تم اعتقالهم على الفور، وشن النظام حملة واسعة لمطاردة الضالعين في المؤامرة؛ لكن تأثير الاغتيال على الشعب المصري لم يكن كما يتمنى الظواهري، ففي تلك الليلة ظلت القاهرة هادئة، تقاعست -حسب الظواهري- الجماهير عن «الثورة».
بعدها بأسابيع قليلة (23 أكتوبر/ تشرين الأول 1981) أُلقيَ القبض على الظواهري ومتآمرين كثيرين معه، وحُوكم القتلة على الفور بالإعدام، وتم تقديم ما يقارب 300 شخص من الإسلاميين بمن فيهم الظواهري للمحاكمة في أحد أجنحة حديقة «معرض القاهرة الصناعي»، واتفق المعتقلون على أن يكون الدكتور الظواهري آنذاك هو المتحدث باسمهم.
خلف القضبان -كما يوضّح ذلك مقطع فيديو- ألقى الظواهري كلمة باللغة الإنكليزية قال فيها: «الآن… نريد أن نتحدث إلى العالم بأسره عن هويّتنا… لماذا جاؤوا بنا إلى هنا… وماذا يريدون منا أن نقول… في الحقيقة نحن مسلمون، نحن مسلمون يؤمنون بدينهم بمعناه الواسع فِكراً وممارسة… ومن ثّمّ فقد بذلنا جهدنا لأن نؤسس هذه الدولة الإسلامية وهذا المجتمع الإسلامي».
تذكر قناة الجزيرة على موقعها أنه أُلقيَ القبض على الظواهري لحيازته سلاحاً غير مرخّص، علماً أن شهادته في الفيديو تؤكد عكس ذلك، كما أنه اعترف بقيادته آنذاك لمجموعة سريّة عام (1968)، وأنه كان مُشرفاً على التوجيه الفكري لأعضائها، والمستمَد من كتاب (في ظلال القرآن) لـ سيد قطب؛ كما تصفه القناة على استحياء بأنه ينتمي إلى «ذاك التيار الإسلامي الذي يوصف في وسائل الإعلام بالمتطرف»!!!.
حُكم على الظواهري بالسجن 3 أعوام مع العديد من أعضاء منظمة الجهاد الإسلامي، واقتيد إلى زنزانات خلف «متحف الشرطة القومي» الذي تعرّض فيه قطب للتعذيب وخرجت منه فتوى «إحلال دم القادة» لأنهم منحلون وفاسدون، وهو ما أسلفنا الحديث عنه.
تحت وطأة التعذيب داخل متحف الشرطة، بدأ الظواهري في تفسير نظريات قطب بشكل أكثر تطرّفاً ستكون تبِعاته الأشد دموية فيما بعد؛ كانت المعضلة بالنسبة له آنذاك: «لماذا لم يتمكن الشعب المصري من رؤية الحقيقة والثورة ضد السلطة؟، لابد وأن عدوى (الأنانية الفردية) قد تغلغلت في عقول الناس حتى أصبحوا فاسدين مثل قادتهم»، واتّضح للظواهري ماكان مبهماً في أراء قطب، وهو أن القادة من أمثال (السادات) ليسوا غير مسلمين فحسب، إنما الناس أنفسهم كذلك؛ كان الظواهري على ثقة بأن هذا يعني جواز قتلهم هم أيضاً للهدف «النبيل»، لأن ما سيثيره العنف في عقول المسلمين العاديين من خوف ورهبة سيُصيبهم بصدمة تُريهم الواقع بشكل مختلف، وتكشف لهم «حقيقة الديموقراطية» التي شجّعت الحكّام على اعتبار أنفسهم مصدر كل السلطات، وبذلك أنكروا السلطة العليا للقرآن، وهذا يعني ضمناً أنهم لم يعودوا مسلمين، ما يعني أيضاً أنه يجوز قتلهم وقتل من يُساعدهم، والمؤيدين لهم حتى لو على سبيل الصمت. وأن كل من يشارك في أي برلمان أو حزب سياسي، أو يذهب إلى الانتخاب، أو يدعو الناس إلى ذلك، أو أي من هذه النشاطات هو منكر تماماً للقرآن، يتوجب قتله.
توصّل الظواهري إلى ما مَفَاده أنك ما دمت تعتقد بهدفٍ سامٍ، فلتكن الوسائل من أقبح ما يمكن أن تكون… لك أن تقتل من الناس ما تشاء لأن الهدف النهائي «نبيل»؛ كانت حجّته مع جماعته: «نحن الطلائع، إننا نتبع الإسلام الصحيح، والآخرون جميعم على خطأ، ليسوا فقط على خطأ، بل إنهم ليسوا مسلمين أيضاً، والوسيلة الوحيدة المتوفّرة لدينا اليوم هي أن نشقّ طريقنا بالقتل نحو الكمال».
(4): سوريا الأسد الأب و«الطليعة المقاتِلة»
في المقال السابق، انتهت مرحلة البداية التي استعرضنا فيها نشأة فكرة التغيير الإسلامي لواقع المجتمعات العربية، ثم الطريقة التي اتخذتها تلك الفكرة للتعبير عن أطروحاتها بمنحًى متطرف حين تعرّض أتباعها للقمع والتعذيب… بدأت القصة مع «سيّد قطب» في مصر (قبل السجن، وبعده)، ثم «مروان حديد» في سوريا (قبل احتجاج 64 وبعده) وموقفه إلى جانب الإخوان من حزب البعث، ثم أيمن الظواهري (قبل السجن، وبعده).
في هذا المقال ستبدأ المرحلة الثانية (حيّز التطبيق) والتي سنرى خلالها كيف ستعمل بشكل منسجم ثنائية الإسلام الراديكالي الدموي مع الديكتاتورية العسكرية، حيث كل منهما يقدّم نفسه كبديل حتمي للخلاص لابد منه ولا ثانيَ له، لأن: الآخرين هم الجحيم، بدليل كذا وكذا …
سوريا الأسد الأب و «الطليعة المقاتِلة»
هيمن الأسد الأب على سوريا مدعوماً بالجيش عام 1971، ونال استحسان الجماهير التي كان قد أرهقها «البعث» قبله، حيث قام ببعض الإصلاحات الاقتصادية (لم يكن يملك رؤية اقتصادية خاصة، إنما تابع مشاريعاً كان قد بدأها قبله صلاح جديد)، بنى الجيش السوري المدمّر عبر مساعدات خليجية كان الغرض منها إنقاذ الاقتصاد السوري عقب خسارة 67، اشترى بها أسلحة سوفييتية، ليحقق نصراً في حرب أكتوبر 1973 حتى باتت البلاد تعجّ بصورهِ وتماثيله التي تمجّده في كل مكان من أرجائها، علماً أنها كانت قريبة جداً من الوقوع في مجاعة مدوّية آنذاك.
كان الأسد وحشياً لا يرحم منذ البداية، يقتل ويسجن كل من يشتبه في كونه يمثّل تهديداً، حتى أنه وفي العام 1964 إبان الاحتجاجات المسلحة للإخوان في حماة (أحداث جامع السلطان) قال: «سنصفّي خصومنا جسدياً»، كما أنه اعتقل «صلاح جديد» ولم يُفرج عنه رافضاً كل الوساطات العربية والسوفييتية لإخراجه ليموت في السجن عام 1993؛ لكنه في الوقت نفسه كان يؤمن بأن هذا العنف هو لغرض «نبيل»، إذ كان يسعى آنذاك لإيجاد طريقة توحّد العرب، واستغلال قوة الوحدة في الوقوف بوجه الغرب؛ بمعنى آخر، كان الأسد في بداية تسلّمه يضع نصب عينيه السياسة الخارجية كأولوية، مديراً ظهره للحِكمة في التعامل مع ما يجري في الداخل السوري على كافة المستويات، كان رجلاً ديكتاتورياً عنيداً بليداً بعقليّة ضابط، لا أكثر من ذلك.
حافظ الأسد وهنري كيسنجر
في المقابل، لم يكن وزير الخارجية الأمريكية «هنري كيسنجر» يقل قسوة ووحشية عن حافظ الأسد، كان قد بزغ نجمه في الخمسينيات كأحد خبراء نظرية الاستراتيجية النووية، التي كانت تسمى آنذاك «توازن الرعب الدقيق» وتُدَار بموجبها الحرب الباردة، فمن خلالها كان الطرفان (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي) يُدركان أن هجوم أحدهِما على الآخر سيترتب عليه في التو هجومٌ نووي مضاد وإبادة لهما؛ كان كيسنجر بمثابة تجسيد حي لشخصية الدكتور «سترانجلوف» في فيلم المخرج «ستانلي كوبريك».
يرى كيسنجر نفسه واقعياً حد النخاع، ولا يملك الوقت لإضاعته على فوضى آيديولوجيات السياسة الانفعالية، كان مؤمناً بأن التاريخ طالما كان ساحة للصراع على السلطة ما بين الأمم والمجموعات المختلفة، وما استفاده كيسنجر من تجربة الحرب الباردة هو رؤيته للعالم باعتباره نظاماً مترابطاً، وأن مهمّته الحفاظ على توازن هذا النظام وحمايته من السقوط في الفوضى، يقول في مقابلة معه: «أؤمن أنه يُصاحب كل التغيرات التي نشهدها الآن فرصة استثنائية لتكوين -للمرة الأولى في التاريخ- مجتمعٍ عالمي قائم على مبدأ الاعتماد المتبادل، وأننا إذا تصرفنا بحكمة وبصيرة أعتقد أنه سيأتي اليوم الذي ننظر فيه لكل تلك الفوضى باعتبارها آلام المخاض لنظام جديد أفضل وأكثر إبداعية، وأننا إذا فوّتنا تلك الفرصة فسنسقط في الفوضى لا محالة».
شرع كيسنجر في فرض رؤيته هذه على السياسة الشرق أوسطية الفوضوية، مدركاً أنه في سبيل ضمان تطبيقها عليه الالتفاف على الرئيس السوري.
كان الأسد مقتنعاً بأن السبيل الوحيد لسلام دائم وحقيقي بين العرب وإسرائيل لن يكون إلا بالسماح لمئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في سوريا ولبنان والأردن بالعودة إلى وطنهم، وكأنه لم يكن يفكّر سوى بردّ الاعتبار لنفسه، وتقديمها كشخصية بطوليّة في العالم العربي؛ لكن كيسنجر من جانبه كان يرى أن خطوة كهذه ستعزز قوة العرب، وستخلخل توازن القوى في العالم، لذلك لم يكن يلقي لها بالاً؛ ليبدأ كيسنجر لعبة مزدوجة أسماها «الغموض البنّاء».
بعد سلسلة من الاجتماعات، أقنع كيسنجر السادات مثلما أسلفنا بتوقيع اتفاقية منفردة مع إسرائيل، وفي الوقت ذاته استدرجَ الأسد ليصدّق بأنه كان يعمل أيضاً على اتفاقية سلام أشمل تتضمّن عودة الفلسطينيين، لكنه في الواقع كان قد تجاهل الفلسطينيين كلياً، حيث كانوا بالنسبة له لا يمثلون أية أهمية في بنية توازن النظام العالمي، ضارباً بالأسد ومراهقته السياسية والفلسطينيين عرضَ الحائط…. ستعتبر المجتمعات العربية لاحقاً أن تلك عداوة للإسلام والقدس، عوضاً عن اعتبارها عداوةً للإنسان بالدرجة الأولى!
تتميز رؤية كيسنجر فيما يخص السياسة العالمية بالسمة البنيويّة، كل شيء في ذهنه مترابط في وحدة متكاملة، لكن أفكاره الرئيسية دائماً ما تكون في إطار بنية التوازن العالمي للقوى، بمعنى أنه حين كان يتعامل مع مسائل كالكرامة والبقاء والحرية تأتي إلى ذهنه هذه القضايا كمسائل جانبية تتمخّض عن لعبة صراع الأمم على السلطة.
عندما اكتشف الأسد أن كيسنجر هَمَّشهُ ولم يلقِ له بالاً، كان قد فات الأوان؛ وقد عبّر عن غضبه العارم خلال سلسلة من اللقاءات معه في دمشق، وأخبره أن ما اقترفه سيفتح أبواب الجحيم في العالم العربي؛ وصف كيسنجر تلك اللقاءات قائلاً: «بدا غضب الأسد المكظوم مثيراً للإعجاب، لأنه بالرغم من غضبه الشديد إلا أنه تكلّف على هيئة باردة وهادئة غاية في الغرابة».
اضطر الأسد للتراجع أمام مخطّطات كيسنجر، وشرع في بناء قصره العملاق المطلّ على دمشق كـ خطوة دفاعية، وبدا إيمانه بإمكانية تغيير وجه العالم العربي يذوي مع الوقت؛ وقد كتب أحد الصحفيين البريطانيين الذين كانوا على صلة به آنذاك: «لقد توارى الأسد المتفائل الواثق بالمستقبل، وحلّ محلّه أسد وحشي، حاقد، لا يفكر بشيء سوى الانتقام».
الطليعة المقاتلة
كان تنظيم «الطليعة المقاتلة» أول تجربة جهادية في سوريا تَتخذ من العنف سبيلاً وحيداً للتغيير، إذ أدّت مساعي «مروان حديد» طوال سنوات الستينيات إلى نمو شبكة من المتشدّدين الذين كانوا يرغبون في دفع جماعة الإخوان إلى خوض المواجهة المفتوحة مع النظام بعد تشكيل ذراع عسكرية للجماعة، حيث كان (حديد) دائم الدعوة إلى تنفيذ الجملتين الأخيرتين من شعارها «الله غايتنا، والرسول زعيمنا، والقرآن دستورنا، والجهادُ سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا»، ولما لم ينجح في ذلك توجَّه مع تلاميذه للإعداد للقتال من خلال العمل المسلح مع حركة «فتح» الفلسطينية في غور الأردن بين العامي (1968 – 1970) داخل معسكرات/ قواعد «الشيوخ»، وهناك تمكّن من إعداد «النخبة» الأولى لتنظيمه الجهادي (تنظيم الطليعة المقاتلة).
في عام 1973 أصدرَ الأسد دستوراً مؤقتاً للبلاد، وطرحه للاستفتاء، وبدت عليه -حسب أدبيات الإخوان- معالم «العلمانية» إذ كان يخلو آنذاك من تحديد دين رئيس الدولة (ما علاقة دين رئيس الدولة؟)، ولهذا لعب «مروان حديد» و المنظّر الحموي لجماعة الإخوان المسلمين آنذاك «سعيد حوى» دورَ الاعتراض عليه، حيث كتب الأخير فتوى برفضه، جامعاً عليها تواقيع معظم مشايخ دمشق، حلب، حماة، وحمص، الأمر الذي أدى لاعتقاله. أما (حديد) فقد ألقى خطبة كفّر فيها حافظ الأسد ودستوره، وأفتى بوجوب الجهاد ضده، ليتوراى بعدها عن الأنظار، متفرّغاً لإعداد طليعته.
في ذلك الوقت، كان حافظ الأسد ومنذ بداية حكمه قد مدّ يده السخيّة إلى علماء الدين، ولم يفوّت فرصة لتكريمهم والعناية بهم؛ في عام 1973 قدّم تبرعات شخصية كبيرة للمدارس الشرعية والمؤسسات الخيرية في محافظتي حماة وحمص، وفي العام الذي يليه (1974) رفعَ تعويضات أئمة سوريا الـ 1138 ومدّرسي العلوم الشرعية الـ 252 وخطباء المساجد الـ 610 والمؤذّنين الـ 1038 وقرّاء القرآن الـ 280، ثم زاد تعويضاتهم عام 1976 ومرة أخرى عام 1980، وخصص عام 1976 مبلغ 5.4 ملايين ليرة سورية لبناء مساجد جديدة بتوجيهات مباشرة منه، وكان في كل عام يتناول الإفطار في يوم معين من شهر رمضان مع أهم «العلماء»؛ سيصرّح الأسد الابن بدوره في خطابه عام 2013 خلال ذكرى الجلاء الفرنسي بأن سوريا منذ عام 1970 بنت 18 ألف مسجد، و220 مدرسة شرعية. ألم يسأل أحدٌ نفسه (لماذا؟).
ردّاً على الاعتراض على دستور الدولة، أدخل الأسد تعديلاً يقول إن «دين رئيس الجمهورية هو الإسلام» مصرّاً على رفض «كل تفسير متخلف للإسلام يكشف عن تزمت بغيض، وتعصب مقيت، فالإسلام هو دين المحبة والتقدم والعدالة الاجتماعية، وهو دين المساواة بين الناس»، ولمواجهة التهم التي كان يلقيها بوجهه المتعصبون من الطليعة والإخوان بانتمائه إلى طائفة «من أصحاب البدع/ طائفة أخطر من اليهود (حسب ابن تيمية)» أمَر الأسد 80 من رجال الدين العلويين آنذاك بإصدار بيان رسمي يؤكدون فيه أن كتابهم المقدس هو القرآن، وأنهم مسلمون شيعة من الاثني عشرية، وقد صادق على بيانهم المفتي الجعفري الممتاز في لبنان «عبد الأمير قبلان»، وأكد الإمام «موسى الصدر» رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان من جانبه على «الوحدة المذهبية» للعلويين مع الشيعة، واشْتغلَ أئمة المساجد وعلماء الدين جنباً إلى جنب في التأكيد على وحدة المسلمين تحت لواء القائد المفدّى حافظ الأسد.
كان الأسد يدرك أن الطريق إلى قلوب السوريين يبدأ من العقيدة الدينية، وينتهي عندها، شعوب أيّدت الاحتلال العثماني وارتضت به وبخوازيقه لأنه جزء من (الخلافة الإسلامية)، ورفضت الانتداب الفرنسي ليس لأنه انتداب بل لأنه لا يمثل الإسلام؛ كان الأسد يعلم مثلما يعلم ديكتاتوريون عدة على مر التاريخ أن شعوباً لا ترى الخير والشر إلا من منظور ديني سيَجعل منها لقمة سائغة لكل من يبني المساجد ويحفظ الآيات والأحاديث ويُجيد التلاعب بها.
في العام 1975 كان (حديد) قد وضع خطة للعمل من أربع مراحل تتضمّن (التعريف الفكري، الاستيعاب التنظيمي، الإعداد والتدريب، الصدام مع النظام) قبل أن يتم كشف مخبئه وإلقاء القبض عليه ليموت داخل السجن في حزيران 1976، ويتسلّم «عبد الستار الزعيم» (أحد روّاد معسكر الشيوخ) قيادة الطليعة الحموية (حماة)، وفي عهد هذا الأخير ستأخذ الطليعة شكل التنظيم السري الصارم، وستتبنى استراتيجية حرب عصابات المدن طويلة الأمد، وتبدأ عملياتها بشكل طائفي يستهدف العلويين تحديداً، وسيصدر الزعيم بيانه الأول باسم «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين».
يحاول كثيرون من الكتاب والباحثين المناصرين لجماعة الإخوان القول بأن هذا الاسم الذي اختاره عبد الستار الزعيم «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين» هو لتحديد (المرجعية الفكرية) للطليعة دون ارتباط تنظيمي. وهذا عذر أقبح من ذنب، إنه اعتراف بأن الطليعة تنتمي للإخوان فكرياً؛ والحقيقة أن جماعة الإخوان مسؤولة عما فعلته الطليعة، وهي كذلك لم تتخذ موقفاً حاسماً منها ولا من مراون حديد، إنما اكتفت طوال تلك السنوات بنفي علاقتها بكل عملية دموية تقوم بها، عوضاً عن التبرّؤ من حديد نفسه وأتباعه؛ لكن كيف لها أن تتبرأ من حديد أو غيره في الوقت الذي يَربطهم ويجمعهم دستور وشعار واحد؟ «الجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا»…. إن كان الموت أسمى الأماني، فأي مستقبل ينتظر دولة يقودها الإخوان سوى الموت؟.
في العام 1976 بدأ تنظيم الطليعة بتنفيذ عمليات الاغتيال في حماة، واستهدف من استطاع الوصول إليه من مسؤولي نظام الأسد، العلويين بشكل خاص، إذ كانت ترى الطليعة أن الشخصيات التي هي من أسرة «سنّية» «غير ثابتة في السلطة، وهي عُرضة في أي لحظة للتغيير والتبديل»، والحق هو أن الجماعة كانت عاجزة آنذاك عن تكفير «السنة» في نظام البعث، إذ لم تكن تفسيرات الظواهري لفتاوى قطب قد بلغت في سوريا هذا الحد، وإن كانت سوريا السبّاقة في الدعوة إلى انتهاج هذا الفكر الدموي طريقاً.
شدد النظام السوري عملياته الأمنية في حماة إثر الاغتيالات المتكررة التي كانت تنفّذها الطليعة، ما اضطر أكثر العناصر الفاعلة فيها إلى الانتقال لدمشق حيث كان فرع التنظيم يتوسع ببطء، وهناك افتَتحت الجماعة نشاطاتها باغتيال رئيس جامعة دمشق الدكتور «محمد الفاضل» مستشار حافظ الأسد للشؤون القانونية، وأحد «العقول المدبرة في الطائفة النصيرية» حسبما تقول أدبيات الإخوان…. وهكذا استمر التنظيم في تنفيذ استراتيجية «إضرب واهرب»، بالاغتيالات والعبوات المحدودة، محاذراً الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة في ظل الاختلال الكبير في ميزان القوى، وذلك حتى صيف 1979 حين كانت ظروف الملاحقة والاعتماد على المراسلين الشخصيين وصعوبة اللقاءات بين أعضاء التنظيم قد دفعت (عبد الستار الزعيم) إلى إعطاء الفروع صلاحية واسعة في اختيار الأهداف والتنفيذ، فكان من قيادة الطليعة في حلب أن نفّذت «مجزرة مدرسة المدفعية» التي ستظل واحدة من أسوأ الجرائم التي ارتكبها التنظيم في سوريا على الإطلاق، علاوةً على جريمة أنه موجود أصلاً.
في 16 حزيران 1979 شنت الطليعة هجومها على «مدرسة المدفعية» في حلب عبر النقيب «إبراهيم يوسف» الذي كان ضابطاً مناوباً آنذاك، حيث دعا هذا الأخير إلى عقد اجتماع للطلاب، وعندما هرعوا من مهاجعهم تنفيذاً لأمره وأصبحوا داخل القاعة الطلابية، منح الأمر لأعوانه أعضاء الطليعة ممن أدخلهم من خارج المدرسة بفتح النار بالرشاشات والقنابل على الطلبة في القاعة المغلقة، ليُقتل 32 طالباً ويسقط 54 جريحاً معظمهم من الطائفة العلوية؛ أما جماعة الإخوان فقد قالت في بيان لها أنها «فوجئت باتهام السلطات لها بالخيانة»، وأنه «لا عِلم لها بالضالعين خلف الاغتيالات التي تجري في سوريا».
بهذا كانت جماعة الإخوان قد وصمت نفسها بالعار المُطلق (الطائفية)، وأثبتت أنها غير قادرة على ضبط الشذوذ الناجم عن قصور مرجعيّتها الفكرية، وباتت مستعدة لتكون وسيلة بيد البعث الذي سيستغلّ نقاط ضعفها الأيديولوجية والأخلاقية والنزعات المتشددة فيها والتوجهات الطائفية لدى أتباعها، ليفتك بها وبالمعارضين السياسيين على حد سواء، ويؤكّد للمسلمين الذين يعمل علماء الدين على تربيتهم ليل نهار داخل الدولة أن الأسد أكثر ضماناً لحياة (مستقرة).. لن نقول (كريمة) لأن الحفاظ على النفس أقدس من كل ما يأتي بعدها.
سوريا الأسد
في الحقيقة، تبدأ هذه الحقبة التي يمكن أن نسمّيها (سوريا الأسد) عقب العام 1980، حيث كان الأسد آنذاك يرتّب أوراقه الداخلية بسرعة للتفرّغ لأحقاده الخارجية، وإثبات نفسه على الساحتين العربية والدوليّة؛ رداً على ما فعلته الطليعة، أطلق النظام حملة «تمشيط» واسعة في مدينة حماة عام 1980 فعزلها كلياً عن العالم، وفتش بيوتها بيتاً بيتاً على مدى أسبوع، بحثاً عن السلاح وعن أسماء أعضاء من الطليعة المقاتلة، لكن ذلك لم يقضِ على التنظيم، إذ كان مقاتلوه يخرجون من بيوتهم إلى بيوت الناس الآخرين للاختباء فيها، ولهذا فقد لجأت السلطات بعد ذلك إلى عقوبات جماعية للناس في حماة وحلب، ارتكبت خلالها مذابح اضطرت الأهالي إلى الابتعاد عن عناصر الطليعة، قبل أن يفتك بها «البعث».
في المقابل، أرسل رئيس المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة «عبد العزيز بن باز» رسالة إلى حافظ الأسد قال فيها: «لقد هال المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية المنعقد بالمدينة المنورة، والذي يحضره ممثلون من علماء المسلمين وقادة الفكر في العالم الإسلامي ما جرى ويجري في سورية المسلمة؛ من إعدام وتعذيب وتنكيل بالمسلمين الذين يطالبون بتحكيم شريعة الله في المجتمع.. وذلك تحت ستار حادثة حلب، التي نقلت وكالات الأنباء والصحف العربية والعالمية أنها تمّت بين أجنحة الحزب الداخلية، بسبب ما تشعر به أكثرية المواطنين من عنت وإرهاق وإهدار للقيم في كل الميادين.. على صعيد الممارسات اليومية، ونتيجة الاختلاف في نوع الانتماء والولاء الطائفي.
والمفروض أن يُقضى على الأسباب الجذرية للفتنة.. لا أن يسار في تعميق تلك الأسباب.. كما أن الواجب أن يشجع الشباب المخلصون لدينهم ولأمتهم، ويوقف ما يتخذ ضدهم وضد أسرهم من إجراءات منكرة.. تفويتاً لفرصة الكيد اليهودي، وضماناً لوحدة الصف، والإفادة من كل الطاقات الخيرة في معركة المصير مع العدو المتربص، وحرصاً على أن تؤدي سورية المسلمة المعروفة بأصالتها دورها كاملاً غير منقوص في جهاد أعداء الإسلام.. وقد بات هذا الأمر آكد وآكد بعد ما ارتكبته العصابات اليهودية الحاقدة وأعوانها صباح مساء في جنوب لبنان، لأغراض معروفة.
إن المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية يأسف أشد الأسف لما يجري في هذا البلد الغالي من سفك دماء الذين ينشدون ما هو واجب على كل حكومة تؤمن بالله ورسوله، من تحكيم شرع الله -تعالى-، والعودة إلى ما كانت به عزيزة قوية مرهوبة الجانب.. حين قامت للدنيا أسمى حضارة عرفها الإنسان.. ويستغرب المجلس الأعلى أشد الاستغراب أن تكون هذه الدعوة في بلد إسلامي عريق جرماً يستوجب أهله الاعتقال والإيذاء والقتل.. دون أن يسمح للمتهم بأدنى قدر من الحرية لجلاء الحقيقة.
وإننا لنهيب بكم، وبكل المسؤولين في كل البلاد العربية والإسلامية أن يجمعوا الصفوف على كلمة الله، وتطبيق شريعته، ويعدوا العدة، ويوحدوا القوى.. في ظلال العقيدة الإسلامية، وحب الجهاد والاستشهاد.. فذلك طريق النصر والفلاح. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».
في مطلع عام 1982 اكتشف النظام وجود تنظيم عسكري للإخوان داخل الجيش، فوُجهت إليه ضربة قاضية، حيث أعدم خلالها العشرات من الضباط، واعتقل المئات منهم؛ وفي الثاني من شباط عام 1982حدثت مجزرة حماة الشهيرة، التي اشتركت فيها سرايا الدفاع، والجيش، والقوات الخاصة، والمخابرات، وفصائل حزبية مسلحة، حيث أعمَل هؤلاء بالمدينة قصفاً وهدماً وحرقاً وإبادة جماعية، فقُتل آلاف السوريين، وهدمت أحياء بكاملها على رؤوس أصحابها.
لم يتعامل النظام مع الطليعة المقاتلة على أنها جسم منفصل عن الإخوان المسلمين، فحجته كانت أن الكثير من الإخوان يتعاطفون مع الطليعة ويدعمونها، حتى إذا نجحت تلك الطليعة في عملها المسلح تبنّته القيادة السياسية، وقد كان محقّاً في ذلك.
لقد منحت الطليعة حافظ الأسد حجّة استخدام العنف والإفراط فيه بلا هوادة على طبق من ذهب، مثلما منحته مبرر قمع الإخوان بشقها السياسي، والمعارضة العلمانية ككل.. لقد ثبّت حافظ الأسد حكمه عبر استغلال طائفية الطليعة وإجرامها ليتابع إقصاءه أشكال المعارضة كلها، ويستمر في تقديم نفسه كبديل أمثَل سيحافظ على النسيج السوري ويضمن بقاءه موحَّداً، وبذلك أيضاً ضمن الأسد وقوف الأقليات كلها إلى جانبه (مرعباً إياهم من احتماليات بطش الأكثرية بهم داخلياً، وبطش أعداء سوريا بهم من الخارج)، كما ضمن مساندة «السنة» المسالمين والمستفيدين له على حد سواء، فشرع أكثر بالاعتناء بهم دينياً كي لا يفكروا مستقبلاً بالتمرد عليه، ويبدأ حافظ الأسد بعدها هندسته المجتمعَ السوري (بالدين، والبروباغندا، وإثارة المخاوف، وبالقمع الديكتاتوري لكل الخصوم) ليتفرّغ لاحقاً لما كان يشغله.
على الصعيد الخارجي، لم يكن الأسد قادراً على نسيان ما فعله كيسنجر به؛ كانت إسرائيل في ذلك الوقت قد عزمت على تدمير قوة الفلسطينيين داخل لبنان بالكامل، بعثت في العام 1982 بجيش عرمرم لتطويق مخيماتهم، واكتفت بعدها تلك القوات المحتشدة بمشاهدة الفصائل اللبنانية المسيحية وهي ترتكب مجزرة «صبرا» تحت عينها وبموافقتها، الأمر الذي روّع العالم بأسره، ليجد الرئيس الأمريكي ريغان نفسه مضطراً للتدخل لمواجهة ذلك الرعب والفوضى المتنامية، الأمر الذي سيضعه في استراتيجية متضاربة مع كيسنجر الرامي إلى خلق عالم أكثر أمناً واستقراراً على حد تصوّره.
أعلن ريغان عن إرسال قوات مارينز إلى بيروت لقيادة قوات حفظ السلام هناك، مشدّداً على حيادية تلك القوات، لكن الأسد كان مقتنعاً بأن ثمة نوايا خفية وراء ذلك، حيث كان يرى أن تلك القوات هي جزء من مؤامرة (أمريكية-إسرائيلية) هدفها تحويل الشرق الأوسط إلى فرق متناحرة، ليعقد عزمه على إخراج الأمريكيين من البلاد العربية والانتقام من كيسنجر، وللقيام بذلك عقدَ حلفاً مع «آية الله الخميني»، الذي قدّم للأسد -من بين ما قدّمه- سلاحاً فريداً وجديداً كان قد ابتكره للتو، أطلق عليه اسم «قنبلة الفقراء الذرّية».
كان الخميني قد اعتلى السلطة قبل عامين كقائد للثورة الإيرانية، لكن في ظل سلطته المحفوفة بالمخاطر، طوّر هذا الرجل فكرة جديدة تمكّنه من محاربة أعدائه والذّود عن الثورة الإسلامية في بلاده، إذ أجاز لأتباعه قتل أنفسهم لحمايتها، شرط أن يقتلوا معهم أكبر قدر ممكن من الأعداء.
كانت هذه فكرة جديدة تماماً على العالم الإسلامي، خاصة مع تحريم القرآن الواضح للانتحار، لكن الخميني حوّر هذا المفهوم بالعودة إلى شعيرة محورية في الإسلام الشيعي…. ففي كل عام يخرج «الشيعة» في مسيرات حاشدة ينتحبون ندماً على خذلانهم (للحسين) الذي ضحّى بحياته من أجلهم، إلا أن الخميني صرّح آنذاك أن «إبداء الندم الحقيقي لا ينحصر في جلد الظهور، لكن عبر التضحية بالنفس»، شرط أن يتم ذلك في سبيل الخير الأسمى للثورة، وقد قام فعلاً باستخدام تلك القوة خلال الغزو العراقي لإيران، حيث اصطحب (الثوريون) الإيرانيون الآلاف من طلبة المدارس صغار السن في حافلات إلى الجبهة العراقية للخوض داخل حقول الألغام، مفجرين أنفسهم بشكل متعمّد لفتح ثغرات لمرور الجيش الإيراني عبرها. وقد كان ذلك بمثابة عملية انتحار جماعية منظمة على نطاق واسع، سيقتبسها الأسد من الخميني ليُقحمها في صراعاته الخارجية.
في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1983 فجّر انتحاريان يقودان شاحنتين نفسيهما داخل ثكنات قوات المارينز الأمريكية في بيروت، لتتسبب الانفجارات بمقتل 241 جندي أمريكي، وقد كان الانتحاريان عضوين في مجموعة مسلّحة جديدة لم يسبق لأحد أن سمع بها آنذاك، أطلقوا على أنفسهم اسم «حزب الله»، وقد كان الكثير من أعضائها إيرانيين، يتبعون بشكل مباشر للمخابرات السورية، وقد كان الأسد يستخدمهم في مجابهة الولايات المتحدة بالوكالة… كانت زعزعة الاستقرار هي استراتيجية الأسد الشرق أوسطية لتذكير العالم أنه لا يصح إقصاؤه عن أي خطط تتضمن مستقبل المنطقة… كان الرجل يفكّر كضابط قد تعرّض للإهانة. لا أكثر.
سحب ريغان القوات الأمريكية من لبنان، واعتبر الأسد هذا الأمر نصراً وإنجازاً للتاريخ، إنه في نظر نفسه الزعيم العربي الوحيد الذي هزم الولايات المتحدة وأجبرها على الرحيل من الشرق الأوسط… سينعكس هذا (النصر المزعوم) إيجاباً وبشكل تدريجي على علاقة السوريين مسلمين وغيرهم بالسلطة، وعلاقة السوريين مسلمين وغيرهم بحزب الله، وسلباً على علاقة سوريا بالعالم، إذ ستتحول فيما بعد لدولة مقيتة، حقيرة، معزولة، مكروهة، متوحشة، تصنع الإرهاب، وتعتبره مجداً للعرب والأمة.
بعدها بعامين (ديسمبر/ كانون الأول عام 1985) هاجم إرهابيون مطارات (فيينا وروما) بشكل متزامن، متسببين بمقتل 19 شخصاً من بينهم أمريكيون، أعلن ريغان أن «القذافي» وراء العملية دون أدلّة (سيتبنّى القذافي ذلك لجلب الأنظار نحوه)، إلا أن أجهزة الأمن الأوروبية أكدت من خلال التحقيق مع الإرهابيين الناجين ضلوع المخابرات السورية فيها بشكل مباشر دون أن يتم اتهامها، لعدم رغبة الولايات المتحدة بالتصعيد مع سوريا التي يقودها ضابط أحمق، والمدعومة من إيران.
وفي العام 1988 انفجرت قنبلة في إحدى طائرات شركة «بان أمريكان» في اسكتلندا، وتم اتهام سوريا الأسد، التي انتقمت رداً على إسقاط طائرة ركاب إيرانية في الخليج قبلها ببضعة أشهر، واتفق العالم على هذه الحقيقة طيلة 18 شهراً، إلى أن غيّرت الولايات المتحدة وبريطانيا الاتهام إلى ليبيا، حيث كانتا تسعيان لكسب الأسد حليفاً لهما في حرب الخليج القادمة ضد صدام حسين.
كانت تلك الأعوام وما سيأتي بعدها شاهدة على تحوّل سوريا إلى مصنع للإرهاب، وحضانتها ورعايتها للكثير من الجماعات الإرهابية في الداخل والخارج… الدولة التي تغذّي دين الأفراد بآلاف المساجد والخطباء ليلتفّوا حول سُلطتها…. والدولة التي تكتظ سجونها بالإسلاميين المتطرفين الذين يمتلكون تفسيرات دينية مختلفة عن (دين الدولة) والذين ستستخدمهم في حروب قادمة وفي زعزعة الاستقرار العالمي للدول…. الدولة التي تربّي (السنة) الخانعين وتتحالف مع مشايخها، وتربّي (السنة) المتمرّدين في سجونها، وتدعم وتتحالف مع (الشيعة) في الخارج… الدولة التي لا تنتمي لأحد، وترتبط بالجميع… الدولة التي ما إن اعتبرها أحد الأطراف عدوّاً حتى يقع في حرب طائفية مع البقيّة… الدولة التي يتم سجن المعارضين العلمانيين فيها داخل سجون الإسلاميين وفي زنزانة واحدة، وتتيح لهم الاطلاع على كتب التطرف الإسلامي، وتمنع عنهم كتب ليو تولستوي… الدولة التي تكتظّ سجونها بكل مَنْ يمكن تحويله -عبر التعذيب وبالآيديولوجيا- إلى أداة تستفيد منها السلطة مستقبلاً، أقصى اليمين كان أم أقصى اليسار… سنرى لاحقاً كيف سيؤيّد (مثقفون) ممن خرجوا من سجون النظام الأطروحات المسلحة والعنيفة وحتى التحالف مع الإسلاميين الراديكاليين والتبرير لهم عقب أحداث العام 2011 التي غلب على طابعها (رد الفعل العكسي غير المنضبط ولا المنظَّم والفاقد لأي تصوّر واضح نحو المستقبل الممكن).
(5): سياسات الرّعب والخوف
في المقال السابق هيّمن حافظ الأسد على السلطة في سوريا عقب انقلابه عام 1971، وشرع عملياً بالاعتناء بأكثريّتها المسلمة، بنى آلاف المساجد وشيّد دور علم شرعي ووظف الخطباء ووحّد خطابهم ضمن مكنته الدعائية، في الوقت الذي كانت جماعة الإخوان والطليعة تقع في دوامة من العنف وهي تحاول تقديم نفسها حين فشلت مجتمعيّاً وسياسياً وعسكرياً، ما مكّن حافظ الأسد من السلطة أكثر بقمعها وقمع المعارضين على مختلف أطيافهم وأشكالهم، ليتفرّغ لخصومه الخارجيين محوّلاً سوريا لمصنع للإرهاب.
في هذا المقال سنستعرض القسم الثاني المندرج تحت عنوان (حيّز التطبيق) حيث إسلام أشد تطرّفاً أخذَ هذه المرة منحىً عالمياً، في مقابل ديكتاتورية عسكرية لا تقل خبثاً ومكراً عن طريقة استفراد حافظ الأسد الفريدة بالسلطة، وحيداً بلا معارضة على الإطلاق.
الانتصار الوهميّ في أفغانستان
في العام 1982 قام الرئيس الأمريكي رونالد ريغان بإهداء عملية إطلاق المكوك الفضائي «كولومبيا» لأعمال المقاومة في أفغانستان، يقول: «مثلما يمثّل مكوك كولومبيا في اعتقادنا أسمى طموحات الإنسان في مجال العلم والتكنولوجيا، كذلك يمثّل صراع الشعب الأفغاني أسمى طموحات الإنسان إلى الحرية… أُهدي نيابة عن الشعب الأمريكي عملية إطلاق المكوك كولومبيا في 22 مارس إلى شعب أفغانستان».
منذ العام 1979 (قبل اغتيال السادات وسجن الظواهري بعامين) و«المجاهدون» الأفغان يخوضون حرباً ضارية في أفغانستان ضد الغزو السوفييتي، وفي ذلك الوقت كانت مجموعة صغيرة في البيت الأبيض ترى في أولئك المقاتلين وسيلة لتحقيق رؤيتهم في تغيير العالم ضد «إمبراطورية الشر/ الاتحاد السوفييتي»، لم يكونوا بالنسبة لهم وطنيين فحسب، إنما مقاتلين من أجل الحرّية، وأن بإمكانهم هزيمة السوفييت، وتعزيز انتشار الديموقراطية في العالم.
كانت الولايات المتحدة بالفعل ترسل كميات محدودة من المساعدات للمقاتلين الأفغان، إلى أن قرر رئيس المخابرات الأمريكية آنذاك «ويليام كيسي» إرسال مندوب إلى أفغانستان وتشكيل تحالف مع «مقاتلي الحرية»، وإعطائهم كل ما يريدون من المال، إضافة إلى الأسلحة الأكثر تطوراً لإيقاع الهزيمة بالقوات العسكرية السوفييتية.
بدأت الأموال والأسلحة الأمريكية تتدفق عبر الحدود الباكستانية إلى أفغانستان، وقد قام عملاء المخابرات الأمريكية بتدريب المقاتلين على أساليب الاغتيال وتفجير السيارات، ووفّروا لهم صوراً بالأقمار الصناعية لأماكن تواجد القوات السوفييتية.
في الوقت ذاته، بدأت مجموعة جديدة بالتوافد إلى أفغانستان للقتال في صفوف (المجاهدين)، وقد كانوا عرباً من مختلف أنحاء الشرق الأوسط، أخبرهم قادتهم الدينيّون بأن واجبهم يقتضي الذهاب لتحرير الأراضي الإسلامية من الغزاة السوفييت.
في تصريح له يقول القائد العام للعرب الأفغان آنذاك «عبدالله أنس» إنه رأى الفتوى التي تقول بأنه «من الواجب على كل مسلم أن يساعد الأفغان على تحرير أرضهم… لكن لم تكن لدي أدنى فكرة عن موقع أفغانستان على الخريطة ولا كيفية الذهاب إلى هناك، ولا حتى الطريقة التي أستطيع بها الحصول على الفيزا…. إلى أن قابلت (عبدالله عزام)».
كان عبدالله عزام (فلسطيني الجنسية/ أحد روّاد معسكرات الشيوخ أيضاً) قائداً دينياً ذي كاريزما قد بدأ في تنظيم المتطوعين العرب في أفغانستان، قام بتأسيس ما أسماه مكتب الخدمات في «بيشاور» على الحدود الأفغانية، والذي أصبح فيما بعد مقر القيادة لكتيبة دولية من المقاتلين العرب، سرعان ما أصبح عزام أحد أقوى الشخصيات في المعركة ضد السوفييت، لُقّب بـ «أمير المجاهدين العرب»، وقد سُمح له بزيارة أمريكا في مناسبات عديدة لجمع الأموال وتجنيد متطوعين (للجهاد)، وقد كان مدعوماً من الأمريكيين والسعوديين والباكستانيين وغيرهم، ممن كانوا يريدون إذلال السوفييت (أو التخلّص من متطرّفيها المحليين، مثلما تفعل السعودية عادةً)، كانت القضية الأفغانية هي القضية التي كان الجميع سعداء بمساندتها، وقد أدّى هذا إلى انخراط أعداد هائلة من العرب ومن بيئات وثقافات مختلفة.
لم تكن الولايات المتحدة آنذاك تضع في حسبانها معنى أن يُسمى قتال السوفييت (جهاداً) ولا المدى الذي يمكن أن يتطور فيه هذا المفهوم «الجهاد» ليأخذ أبعاداً أُخرى قد تنقلب عليها في أي وقت، كان كل ما يهمّها إيقاع الهزيمة بالسوفييت؛ لكن عبد الله عزام كان يرى الصراع ضد السوفييت مجرّد خطوة أولى في ثورة أشمل وأعمّ، كان عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، وكان يعتقد أن بإمكان العرب في أفغانستان أن يشكّلوا نواةً لقوة سياسية جديدة بأن يعود المجاهدون إلى بلادهم ويحثّون الناس على رفض النظم الاستبدادية الفاسدة التي تسيطر على الشرق الأوسط، لكنه في الوقت نفسه كان يصرّ على أنه يجب الإطاحة بهذه الأنظمة عبر الوسائل السياسية.
في العام 1985 وصل «أسامة بن لادن» إلى أفغانستان وبجعبتهِ أموال طائلة، كان عبد الله عزام فقيهاً قادراً على توحيد العرب هناك لكنه لم يكن يملك المال، لذا عندما وصل أسامة قام بسد الفجوة، واقتصرت مهمته في ذلك الوقت على إنفاق الأموال فقط.
في العام نفسه، بدأت قوة جديدة تصل إلى أفغانستان، لتتحدّى أسلوب عزام في الإدارة، وقد تمثّلت بالإسلاميين المتطرفين الذين طُردوا من السجون في كافة أنحاء العالم العربي؛ كانت معظم حكومات الشرق الأوسط -بهدوء شديد- تعمل على إفراغ سجونها من (الأشرار) وترسلهم للجهاد على أمل أن يُقتلوا هناك، وقد كانت الفئة الأكبر منهم هي من المصريين الذين لم يُعدموا عقب اغتيال السادات، وقد كان «الظواهري» أحد أقوى الوافدين الجدد آنذاك.
قلنا في مقال سابق أن الظواهري كان على قناعة بأنه وجماعته (الجهاد الإسلامي) هم الإسلاميون الحقيقيون «نحنا هنا، الجبهة الإسلامية الحقيقية، والمعارضة الإسلامية الحقيقية ضد الصهاينة، والشيوعية، والإمبريالية» هكذا قال في السجن بالإنكليزية؛ وقلنا كذلك أنه كان أحد أتباع (سيد قطب) الذي يرى بأن الليبرالية أفسدت عقول المسلمين وأطلقت العنان لأكثر الجوانب الوحشية والأنانية في الإنسان على حد تعبيره، وأن الظواهري قام بتفسير تلك النظريات على أنها تعني أن هذا الفساد يشمل أيضاً النظام الديموقراطي الغربي، فالديموقراطية حسب الظواهري قد شجّعت الساسة على اعتبار أنفسهم مصدر كل السلطات، وبذلك أنكروا القرآن، وبذلك أيضاً لم يعودوا مسلمين، ولهذا يجوز شرعاً قتلهم ومن يساندهم، لأن ما سينجم عن هذا من خوف سيثير صدمة الجماهير لتدرك الحقيقة.
استقر الظواهري وجماعته في (بيشاور)، وبدؤوا بنشر أفكارهم بين المقاتلين في أن كل من يُشارك في أي برلمان، أو حزب سياسي، أو يذهب للانتخاب، أو يدعو الناس إليه هو مُنكر تماماً للقرآن، ويتوجب قتله حسب النص «ومن لم يحكم بما أنزلَ الله فؤلائك هم الكافرون / سورة المائدة»، جاعلين الحركة الإسلامية أكثر تطرّفاً؛ ولم يكن ما فعله الظواهري تحدياً لعبدالله عزام فحسب، لكنه تضمّن أيضاً رفضاً متشدداً لكل النفوذ الأمريكي على المقاتلين، لأن أمريكا (مَصدر كل هذا الفساد) على حد اعتقاده.
في العام 1987 قرر الرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف سحب القوات الروسية من أفغانستان، حيث كان مقتنعاً بأن النظام السوفييتي برمّته يواجه الانهيار، مصمماً على محاولة إنقاذه من خلال الإصلاح السياسي، متخلّياً عن سياسات سابقيه، بما فيها احتلال أفغانستان، وقد طلب غورباتشوف من القيادة الأمريكية آنذاك أن تضمن للقوات الروسية خروجاً لائقاً عن طريق تفاوض مع «مقاتلي الحرّية/ المجاهدين» ولما رفضت القيادة الأمريكية ذلك أرسلَ غورباتشوف رسالة إلى ريغان يخبره فيها أن السماح لأولئك المقاتلين بتحديد مستقبل أفغانستان لن يحقق الديموقراطية التي تعتقدها الولايات المتحدة، إنما العكس، إذ ستنهض أكثر أشكال الإسلام تطرفاً، وستنتصر على كل من دعمتهم الولايات المتحدة. إلا أن الإدارة الأمريكية لم تلقِ لغورباتشوف بالاً.
مع جلاء القوات السوفييتية أفغانستان، اعتقد الأمريكيون والإسلاميون على حد سواء بأنهم لم يكسبوا المعركة فحسب، بل أسسوا أيضاً لانهيار الاتحاد السوفييتي كله، لكن في واقع الأمر كان انتصارهم وهماً على عدوّ وهميّ، فالنظام السوفييتي كان أصلاً متهالكاً يتآكل من الداخل؛ كما اعتقد الإسلاميون العرب وبالأخص (جماعة الجهاد) أن هذا (النصر العظيم) سيشعل ثورة تجتاح العالم العربي وتطيح بالقادة الفاسدين… لقد كان انهيار الاتحاد السوفييتي بالنسبة للجهاديين قوة محرّكة للإسلاميين في جميع أنحاء العالم في بداية التسعينيات.
في ذلك الوقت، كان انقسام عميق بين المقاتلين الإسلاميين في «بيشاور»، المعتدلون بقيادة عبدالله عزام الذين اعتقدوا بإمكانية تحقيق هذه «الثورة» بالوسائل السياسية، والمتطرفون مثل (أيمن الظواهري) الذين رؤوا أن الثورة العنيفة هي السبيل الوحيد، وقد بدأ الأخير عملياً ببسط نفوذه على الحركة وإضعاف مكانة عزام عن طريق استدراج أسامة بن لادن وأمواله بعيداً عنه، وتعهّد لـ بن لادن أن يكون الأمير على جماعة الظواهري المتطرفة (الجهاد الإسلامي).
رفضَ أيمن الظواهري ومجموعة من المصريين من أتباعه الصلاةَ خلف عبدالله عزام في بيشاور، وقد كانوا يُطلقون الشائعات ضده، يقول «عبدالله أنس» إن «ما أغضَبَنا من أسامة هو أنه وثّق صلتهُ بأولئك الناس»… بالتأكيد، استدرجه الظواهري ليكون أميراً فوافق…. ثم في نهاية العام 1989 تم اغتيال عبدالله عزام في انفجار هائل بسيارة مفخخة في بيشاور.
تجارب التسعينيات في البلاد العربية ونتائجها
قُتل عبدالله عزام، وبالرغم من ذلك بدا وكأن رؤيته للثورة السياسية قد يكون لها الغَلَبَة، ففي أوائل التسعينيات وفي جميع بلدان العالم العربي تقريباً بدأت الأحزاب الإسلامية في استقطاب دعم الجماهير؛ في «الجزائر» حققت «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» فوزاً ساحقاً في الانتخابات المحلية، وبدت واثقة من الفوز في الانتخابات العامة، لا تزال مقاطع فيديو موجودة على الإنترنت تُظهر كيف ينادي فيها الآلاف من المتظاهرين بإقامة دولة إسلامية؛ وفي الوقت نفسه بدأ الإخوان المسلمون في مصر بكسب دعم الجماهير والحصول على مزيد من المقاعد في مجلس الشعب… كِلا الحزبين كان يشقّ طريقه إلى السلطة مستنداً إلى رؤية مثالية للواقع والحياة، إذ يأملان في استخدام الإسلام بطريقة سياسية لخلق نمط جديد للمجتمع الحديث بشكل سلميّ.
في تصريح له آنذاك يقول «سيف البنا» وهو ابن (حسن البنا/ مؤسس جماعة الإخوان): «نحن نستطيع أن نغير الشعب بالتربية، والتوعية، والاقتناع، وببناء قاعدة شعبية تؤمن بالمبادئ التي ندعو إليها، وهذا هو الطريق الصحيح الناجح والسليم، نحن لا نريد ثورة، ولا نريد انقلاب عسكري، ولا نريد العنف، نحن نريد حقنا الطبيعي في أن ندعو الناس إلى ما نؤمن به، فإن آمن الناس فقد اتخذونا حكومةً بناءاً على رغبتهم».
لكن سرعان ما واجهت الحكومتان في مصر والجزائر معضلةً ومأزقاً خطيراً، وهي أنه في جوهر الرؤية الإسلامية تَكمن فكرة أن «القرآن» يجب أن يكون المرجعيّة السياسة للمجتمع والدولة بشكل حصري عبرَ مجموعة ثابتة من القوانين والنُظم غير القابلة للجدل (قد يكون الجدل فيها دموياً)، والتي ينبغي على كل الساسة اتّباعها، ما يعني ضمناً أنه لن يكون هناك ضرورة للأحزاب السياسية فيما بعد.
كان الناس على وشك التصويت لأطراف قد تستخدم شعبيّتها لإنهاء العملية الانتخابية والديموقراطية برمّتها، صوتٌ واحد، لرجل واحد، ولمرة واحدة فقط… ولا خيارات لاتّخاذها إلا:
أن يتدخل الجيش ليعطّل العملية الانتخابية
أن تستمر العملية الانتخابية فتستولي على السلطة جماعة ستضع بدورها حداً لتلك العملية وتستفرد بها، جماعة تعتبر الديموقراطية كفراً… وتستخدمها كوسيلة.
خياران أحلاهما مر، الديكتاتور العسكري، أو الديكتاتور الديني، وفي الحالتين: لا ديموقراطية.
سنرى لاحقاً أن هذا الثنائي الفانتازي العجيب (الديكتاتور العسكري – الديكتاتور الديني) ينسجمان مع بعضهما البعض بشكل مثالي جداً، إذ سيُثبت كل منهما عن طريق الآخر أنه على حق، سيعطّل الديكتاتور العسكري الانتخابات ليُقصي كل أشكال المعارضة بحجّة الإخوان، وستظل جماعة الإخوان تعتبر (العلمانية) هي (الجيش)، وتنادي بالمظلوميّات، وتتهم العالم بأسره بالتآمر على الإسلام، عوضاً أن تتهم الديكتاتور بالتآمر على الشعب والدولة…. يا للحمقى!
بالفعل، أمام هذا المأزق الكبير، قرر الجيش في الجزائر أن يتدخّل، وفي حزيران 1991 دبّر انقلاباً عسكرياً، وألغى الانتخابات على الفور، وتم قمع احتجاجات الجماعات الإسلامية بشكل عنيف، واعتقال قادتها…. وفي مصر كذلك قامت الحكومة أيضاً بفرض سيطرتها، اعتَقَلت المئات من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، ومُنعت الجماعة من ممارسة أي نشاط سياسي، وتم إيقاف الانتخابات الحرة في كافة مؤسسات الدولة. وهكذا فُتحت أبواب الجحيم.
ردود أفعال
عززت تلك الأحداث في مصر والجزائر بشكل صارخ قناعة أيمن الظواهري بأن الديموقراطية ماهي إلا خدعة فاسدة… وبالتالي كانت مجموعات من الإسلاميين المتشددين الذين طوّروا نظريات الظواهري إلى أشكال أكثر تطرفاً قد شَرَعُوا عملياً في محاولة إشعال ثورات عنيفة في الجزائر ومصر، ستكون «بدايةً للجهاد الذي سيحرر العالم الإسلامي» من الفساد على حد زعمهم.
بدأ بن لادن والآخرون منذ تلك اللحظة في ممارسة الجهاد بطريقتهم الخاصة: لا تنازلات، لا محاولة للتفاهم مع الجماعات المعتدلة التي ترتضي بالديموقراطية، إنما اعتبار الطلائع المسلّحة هي الضمانة الوحيدة لتحكيم الشريعة الإسلامية.. كانوا على قناعة بأن بإمكانهم استنساخ «النصر» الذي حققوه في أفغانستان، وتأسيس دولة إسلامية في الجزائر ومصر وغيرها… اعتقدوا أنهم بهذا سيأسرون قلوب وعقول الجماهير المسلمة، وأن الناس ستدرك أن النصر إنما يأتي به المجاهدون حصراً.
في أوائل التسعينيات، الجزائر، مصر، السعودية، ودول عربية أخرى عانت معاناة شديدة من موجة مروّعة من الإرهاب الإسلامي، كان المجاهدون العائدون من أفغانستان يحاولون قلب أنظمة الحكم في بلادهم، وقد كان محور استراتيجيّتهم فكرةً لقّنهم إياها (أيمن الظواهري) وآخرون أن «من يعملون في السياسة يحلّ قتلهم شرعاً»، لم تكن تلك فكرةً بعيدة الاحتمال، إنما حقيقةً وفعلاً، الكثير من الحكّام والعلماء والمثقّفين والساسة في العالم العربي تم قتلهم بسبب هذه الفكرة فقط: لأنهم نبذوا القرآن عبر المشاركة في الانتخابات.
وعلى الرغم من ذلك، ظلّت الأنظمة العربية الديكتاتورية في الحكم، ليقوم الإسلاميون المتطرفون بتوسيع عملياتهم الإرهابية، ويُصبح مَنطِقهم أكثر وحشيّة، إذ لم تقتصر عند تلك المرحلة عملياتُهم على العاملين في السياسة، إنما الناس العاديون الذين يساندونهم، حيثُ رَفْضُهم للتمرّد أثبتَ أيضاً أنهم فاسدون مثل حكّامهم، وبذا حَكَموا على أنفسهم بالموت؛ وهكذا كانت الديموقراطية بالنسبة للإسلاميين خدعة، باعتبار حكام المنطقة «علمانيين ديموقراطيين» لا ديكتاتوريين، والمسلمين المعتدلين المنصاعين إلى الوسائل الانتخابية هم كفرة: نهاجم القادة، من يرتبطون بهم، وفي النهاية نهاجم أولئك الذين ارتضوا وجود مثل هذا القائد المستبد حتى لو على طريق دعمه سلبياً عبر الصمت، ثم نبدأ فنهاجم المؤسسات الاقتصادية، والسياح لأن أموالهم ستصب في جيوب القادة الفاسدين..إنها عملية لا حصر لها ولا نهاية.
لقد سقط الإسلاميون في دوامة مخيفة من العنف والإرهاب وهم يحاولون إقناع الناس باتّباعهم، ولقد حكَمت الشعوب العربية (الأكثرية تحديداً) على نفسها بالموت لجهلها بأحكام دينها الداعي أصلاً إلى القتل والعنف… حَكَمت على نفسها بالموت على يد الإسلاميين المتطرفين، وعلى يد الديكتاتور أيضاً في الوقت نفسه.
في مصر (شهر حزيران 1997) هاجم إسلاميون متطرفون سائحين غربيين عند آثار «الأقصر» وقتلوا 58 منهم خلال 3 ساعات، ليصاب المصريون بصدمة مروّعة، وفي الجزائر بات منطق الإسلاميين خارج السيطرة تماماً، فقد قامت الجماعات الإسلامية الثورية بقتل الآلاف من المدنيين، نعم، الآلاف منهم، ليقوم الجنرالات الذي يحكمون البلاد باختراق تلك الجماعات، وطلبوا من عملائهم داخلها بالدفع أكثر تجاه منطق العنف هذا، وحثّهم على التطرف أكثر وقتْل المزيد، إذ من شأن ذلك أن يَخلق من الرعب في قلوب الناس ما يُفقد الجماعات الإسلامية ما تبقّى لها من دعم، ويتيح للجنرالات أن يستغلّوا الخوف والكراهية في إحكام قبضتهم على السلطة.. تذرّعوا بالإرهاب والعنف، لإيقاف الحركة السياسية والاقتصادية في المجتمع، وزَعموا أمام العالم بأنهم يواجهون الإرهاب؛ إنها استراتيجية ناجحة للغاية -يقول الحاضر العربي والتاريخ- وهكذا كانت الديكتاتورية مصيراً حتميّاً طالما أن الإسلاميين يحاولون الوصول إلى السلطة.
ظلت الجزائر على هذا المنوال حتى العام 1997 حيث تداعت فيها الحركة الإسلامية، إذ عمّت مظاهرات حاشدة ضدها في عموم البلاد، واقتتل الإسلاميون فيما بينهم مستخدمين نفس المنطق الذي دفع بثورتهم إلى نهايتها القصوى (النص القرآني العقيم والمثير للجدل الدموي).
حين ترى مجموعة إسلامية أن على المسلم أن يكون نقياً 100% فلن ترى ذاك النقاء إلا في نفسها، وسيصبح كل من يختلف معها عدوّاً خارج الإسلام يتوجب قتله.
وقَعَت الجماعة الإسلامية الرئيسية في الجزائر تحت قيادة «عنتر زوابري»، وقد كان مربياً للدواجن يَقتل كل من يختلف معه، أصدرَ بياناً ختامياً أعلن فيه أن المجتمع الجزائري بأكملهِ يجب أن يُقتل، باستثناء العدد الصغير المتبقّي من زمرته الإسلامية، فهُم الوحيدون الذين فهموا الحقيقة. !
استراتيجية جديدة !
في العام 1997 عاد الظواهري وبن لادن إلى أفغانستان مجدداً بعد أن كانوا يديرون العمليات الإرهابية في الدول العربية من داخل مزرعة في السودان، ودعا الرجلان لعقد مؤتمر صحفي أعلنا فيه جهاداً جديداً، انتهى بإعلان الحرب على الولايات المتحدة الأمريكية، واليهود، والمسيحيين، وأنه لا مشكلة لديهما في التعاون مع كل من يحارب هؤلاء.
كانت جماعة الظواهري قد فقدت ثقتها بمقدرة الجماهير على التحرك تلقائياً، فقررت تغيير استراتيجيتها تماماً، من ضرب العدو القريب (الحكام العرب والمجتمعات الكافرة) إلى حرب العدو البعيد (أمريكا والغرب) لأن ذلك «سيثير إعجاب الجماهير ويدفعها إلى التحرك».
بدأ الظواهري وبن لادن في تنفيذ هذه الاستراتيجية الجديدة في آب عام 1998حيث تفجيران انتحاريان بالقرب من السفارتين الأمريكيتين في (كينيا، وتنزانيا) خلفا أكثر من 200 قتيل، واستمرت تلك العمليات إلى أن جاءت أكبرها (أحداث 11 سبتمبر).
لم يكن الظواهري يشكّ في رؤيته، إنما ألقى باللائمة على الجماهير التي غرّتها القيم الليبرالية حتى باتت فاسدة مثل حكامها على حد تصوّره…. طوال عقدي الثمانينيات والتسعينيات كان الظواهري يحاول إقناع الجماهير بإسقاط الحكام الذين سمحوا لهذا الفساد بأن يلوث بلادهم واستبدالهم بحكم إسلامي، إلا أن الجماهير رفضته لما رأته من صدمة جراء العنف، ولكونه (لا يمثل الإسلام) الذي يعرفونه. حتى الآن على أقل تقدير.
هنا كان الإسلام بالنسبة للعالم دينَ الرعب، دين الفقراء الجائعين الغاضبين الدمويين الذين يحاولون تغيير واقع الأمر في بلادهم عبر استنساخ التاريخ من جهة، ويحاولون تغيير العالم بأسره من جهة أخرى.
(6): الأكثرية السنّية بوجهيها الخائف والمُخيف
في المقال السابق، رأينا كيف دخلت الفكرة الدينية للتغيير حيّز التطبيق السياسي في مصر والجزائر، الأمر الذي أفضى إلى حكم الديكتاتورية العسكرية، ورأينا كيف أن التيار الإسلامي التابع للظواهري كان قد تأكّد له من خلال (انهيار الاتحاد السوفييتي، وجلاء قواته عن أفغانستان) أنه يمكن إقامة دولة إسلامية بالقوة، وأن استحواذ الديكتاتورية العسكرية على السلطة في العالم العربي وقمعها للإسلاميين السياسيين كانا بالنسبة له دليلاً على «كذبة الديموقراطية»، ما دفع أتباعه إلى العنف المفرط بحق (المسلمين أنفسهم) بحجة أنهم يدعمون الديكتاتور ويتعاملون معه، الأمر الذي ثبّت بدوره حُكم الأخير أكثر (باعتباره ضحيّة ذاك العنف)، على الأخص سوريا، مصر، الجزائر، والسعودية حتى، التي واجهت «جهيمان» في السبعينيات، وواجهت تنظيم القاعدة في التسعينيات.
في هذا المقال نعود إلى سوريا، حيث حافظ الأسد يجني ثمار كرهه لـ كيسنجر ونظريّته لخلق عالم متوازن، والتي استبعدَت –مثلما أسلفنا– الأسدَ آنذاك منها؛ حصارٌ اقتصادي خانق تقاسيه سوريا جراء سياسته الخارجية الرامية إلى إثارة الفوضى ونشر الإرهاب وعناد كيسنجر قبل كل شيء، وفقرٌ وفساد داخلي تسببت به سياساته الاقتصادية (نصف الاشتراكية ونصف الرأسمالية)، علاوةً على ما باتت تتمتع به بلاده من سمعة سيئة على الصعيد الدولي…
كان الأسد نموذجاً لعنجهيّة القائد ذي المرجعيّة العسكرية، ومثال الحماقة على المستويين الداخلي والخارجي.
قوة غير قابلة للضبط أطلقَها الأسد وباركتها الشريعة الإسلامية
خارجيّاً لم يكن حافظ الأسد يرغب بالاستقرار أبداً، إنما كان يسعى للانتقام وردّ الاعتبار إلى نفسه، واستخدام ذلك كورقة يبرّرُ بها حُكمَه وفَقرَ شعبه، لكنه في الواقع لم يكن ممسكاً بزمام الأمور… لقد أطلقَ الرجل قوىً لن يتمكن أحدٌ من كبح جماحها، تلك القوة التي كان قد جَلَبها قبل عشرة أعوام من إيران لمهاجمة الغرب والمتمثّلة بـ «قنبلة الفقراء الذرية» كانت في ذلك الوقت (مطلع التسعينيات) بصدد أن تنتقل عَدواها بشدة من الإسلام الشيعي إلى الإسلام السني.
في ديسمبر 1992 اختطفت جماعة «حماس» الفلسطينية المسلّحة حارس حدود إسرائيلي وقتلته طعناً، ليأتيَ الردُّ الإسرائيليُّ كاسحاً، حيث اعتَقَلت القوات الإسرائيلية 415 عضواً من حماس، واصطَحَبتهم في حافلات إلى قمم أحد الجبال الضخمة في جنوب لبنان، وتركَتهم هناك في منطقة تتبع لـ «حزب الله»، رافضةً عبور أية مساعدات إنسانية إليهم.
أمضى أعضاء حركة حماس قرب قرية «مرج الزهور» جنوب لبنان ستة أشهر، تعلّموا خلالها من حزب الله مدى القوى التدميرية الهائلة للتفجيرات الانتحارية، وقد أخبرهم الحزب كيف أنه كان قد استغلّ تلك القوة في إقصاء الإسرائيليين حتى الحدود.
كانت أولى الدلائل على (تشبّع) حماس بالفكرة هي عندما قامت مجموعة من مُرَحَّليهم بمسيرات احتجاج نحو الحدود الإسرائيلية، يحملون المصاحف، ومرتدين الثياب البيضاء (كناية عن زي الشهداء)، سرعان ما تحوّل الأمر آنذاك إلى أكثر من مجرد استعراض، حيث بدأت في الوقت نفسه حماس بشن سلسلة من الهجمات الانتحارية داخل تل أبيب.
أرسلت حماس الانتحاريين إلى قلب إسرائيل لتفجير أنفسهم وقتل أكبر عدد ممكن، ومن خلال تطبيقها تلك الطريقة ذهبت إلى أبعد مما ذهب إليه (حزب الله) بكثير، حيث استهدفت الجماعة -وللمرة الأولى- المدنيين أنفُسَهم داخل تل أبيب، وهو ما لم يكن يجرؤ عليه حزب الله، وقد أصاب هذا عالَم الإسلام السنّي بالصدمة، إذ كان هذا الأسلوب دخيلاً على تاريخهم، ليس فقط لأن القرآن حرّم الانتحار إنما لأن الإسلام السني يخلو تماماً من أي شعائر تدعو للتضحية بالنفس، على خلاف الشيعة.
شدّدَ أكبر مرجعية دينية في السعودية على تحريم ما فعلته حماس، لكن «القرضاوي» في مصر كان قد اقتنص الفرصة ليُصدرَ فتوىً تُبرز جواز الهجمات الإنتحارية، وأنه مامن مشكلة في أن يُقتل مدنيون، لأن في إسرائيل الجميع بما في ذلك النساء هم جنود احتياط على حد تعبيره وتصوّره، يقول في مقابلة تلفزيونية قديمة: «إنها ليست تهلكة، إنما شهادة في سبيل الله، وقد ناقش علماء وفقهاء الإسلام هذه المسألة…. نساء إسرائيل لسنَ كنسائنا في مجتمعنا الإسلامي، وذلك لأن الإسرائيليات يتم تجنيدهن… كما أنني أعدّ هذه العمليات الاستشهادية من دلائل العدل الإلهي، إن الله سبحانه وتعالى وبحكمته اللامتناهية أعطى الضعفاء سلاحاً لا يملكه الأقوياء، وهو قدرتهم على تحويل أجسادهم لقنابل».
واصلت حماس إرسال الانتحاريين إلى إسرائيل، وفي بعض الأحيان كان الأمر يتمّ بشكل يوميّ، ليسيطر الهلع على المجتمع الإسرائيلي كله، ما دمّر تماماً قدرة السياسة على حل الأزمة الفلسطينية حتى لو نظريّاً، إذ حلّ في مقابل أعمال العنف تلك «بنيامين نتنياهو» (عن حزب يميني) في منصب رئيس الوزراء خلال انتخابات 1996 وانقلبَ على عملية السلام مع الفلسطينيين بتأييد شعبي إسرائيلي أرْعَبَته استراتيجية (حماس)، الأمر الذي كانت تريده الأخيرة بملء إرادتها وبفارغ صبرها وبكل حماقة.
بالتأكيد، ستظل أحزاب اليمين في العالم تنال استحسان الجماهير طالما أحسّت تلك الجماهير بالخوف والتهديد وانعدام القدرة على تصوّر شكل واضح للمستقبل…. على أية حال، منذ تلك الفترة دخل الطرفان في دورات مُريعة لا تنتهي من العنف المتبادل، وثبّتَ كل منهما حُكمه واكتسبَ قاعدتَه الشعبية بفضل عدوّه… لعلّ الشرق الأوسط كله محكوم بهذه الطريقة: البحث عن الأعداء، أو حتى صناعتهم إن اقتضت الحاجة، والبقاء في السلطة كـ ملاذ آمن ووحيد.
لقد دمّرت «القنبلة البشرية» المسعى الأساسي الذي كان يريده حافظ الأسد في البداية، والمتمثّل آنذاك بحلّ سياسي «حقيقي» للمسألة الفلسطينية، وفي المقابل أشاع الرجل الفوضى إسلامياً، عربياً، وعالمياً بالمحصّلة… لقد كانت تفجيرات 11 سبتمبر 2001 من نوعية التفجيرات الانتحارية ذات النطاق الواسع، وهي دليل واضح على مدى القوة المرعبة لهذا السلاح الذي جلبه حافظ الأسد من إيران والذي وقع بيد المسلمين السنة في نهاية المطاف، ودليلاً على مدى قدرته على اختراق جميع الدفاعات، إذ أفضى عن مقتل الآلاف من الأمريكيين في عقر دارهم، وانعكس ذلك سلباً على العالم بأسره، والعربي المسلم بوجه خاص.
قبلها بعشرين عاماً كان الرئيس ريغان يواجه أولى التفجيرات الانتحارية التي كان حافظ الأسد قد أطلق عنانها لإجبار الأمريكيين على مغادرة لبنان والشرق الأوسط، لكن بدلاً من مواجهتها لتعقيدات المسألة السورية والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، تنحت الولايات المتحدة جانباً تاركةً قائد سوريا الضابط المُهان وأتباعَه والتفجيرات الانتحارية تتخذ أشكالاً جديدة، ووجّهت أنظارها إلى القذافي بوصفه الإرهابي العالمي الأكثر شراً والأضعف نفوذاً آنذاك (يدّعي الكثير من الإسلاميين والمسلمين بأن أمريكا والغرب هم من ثبّتوا حكم الأسد لسوريا، والحق أن أحداً لم يرتضِ الخوض مع الأسد في مستنقعه الآسِن المليء بالتعقيدات).
داخليّاً كانت سوريا في ذلك الوقت مثلما أسلفنا مصنعاً للإرهاب، تحتضن آلاف الإسلاميين المتطرفين في سجونها وتربّيهم بعناية لتستخدمهم فيما بعد، سجن «صيدنايا» الشهير مثلاً كان يُعرف بكونه (أكاديمية إسلامية) أكثر منه معتقلاً، آلاف القابعين داخله كانوا من جماعة الإخوان المسلمين بشقّيها السياسي والعسكري (الطليعة المقاتلة)، إضافة إلى السلفيين الجهاديين، ومعتقلي الرأي، يجمعهم مكان واحد، وفي كثير من الأحيان زنزانة واحدة.
خارجَ السجن كانت الدولة تغذّي دين الأفراد بآلاف المساجد والخطباء والمئات من دُور العلم الشرعي ضمن مكنة دعائية واحدة تدعو «الله» بالتوفيق لقائد البلاد والعباد إلى ما يحبّه ويرضاه، وتحذّر من تآمر الآخرين على سوريا قلب العروبة النابض… كبار مشايخ سوريا كانت السلطة تغدق عليهم من «خيراتها» وتمنحهم مناصب قيادية في المجتمع، حتى أن بعضهم كانوا أعضاء شبه دائمين في مجلس الشعب (البرلمان).
في كل أسبوع كان «محمد رمضان البوطي» يطلّ على السوريين عبر شاشة التلفزيون ليحدّثهم عن القرآن وعلومه، وعن الصبر والرضى والقبول بقضاء «الله» وتقديراته، ويحذّرهم من الحسد والغيبة والنميمة؛ وفي برنامج آخر أسبوعي كذلك بعنوان «الشرطة في خدمة الشعب» يقدّمه أحد الضباط كان السوريون في عموم البلاد يشاهدون استجوابات لبضعة لصوص وغيرهم من الفُقراء يُبدون الندم على تفريطهم بمستقبلهم المجهول ويذرفون الدموع على شاشة الكاميرا… كان البعث يُزاوج بين الخطاب الديني والأمني القومي والعسكري بأكثر الأشكال انسجاماً، باثّاً الرعب في قلوب حوالي 22 مليون سوري آنذاك، وَداعياً إياهم للخنوع والتشبّث باللحظة القائمة والخوف والتضرّع لله والقائد، لأن المستقبل غير مضمون أبداً.
لا عجب أن يتحول المجتمع السوري كـ نتيجة إلى مجتمع حالم غير واقعي يؤمن بالحسد ويخشى نظرات الآخرين إليه، يؤمن بالأسحار والشعوذة وطلاسم الحروف وأسرار الكلمات وبقدرات خارقة لبشر خارقين قادرين على شفاء الأمراض التي تعجز عن علاجها مشافي الدولة الفاسدة…. ولا عجب أن يكون (الخوف) هو العنوان الأكثر تعبيراً عن المجتمع السوري خلال التسعينيات إبان حصار إقتصادي ناتج عن سياسة الأسد الداخلية والخارجية؛ ولا عجب كذلك أن يتجلى ذاك الخوف في أبسط تعاملات الأفراد فيما بينهم، وضمن أضغر دوائر علاقتهم ببعض: الخوف على الصحة، على النفس، على المال، الخوف على الزوجة، ومنها، وعلى الأبناء، ومن تخلّيهم عن أهلهم إذ يكبرون، والخوف على البنات الإناث، والخوف من أن يَجتلبن العار، الخوف من الغرباء، ومن أفكارهم ومعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم، الخوف من المستقبل ومن كل ما هو مجهول، الجميع خائف ضمن داوئره الصغيرة من جهة، وضمن الدولة من بطش الآخرين المتآمرين الذين تتحدث عنهم السلطة بأجهزتها ليل نهار من جهة أخرى…. والأسد باقٍ في السلطة كـ محصلّة، وكـ ضرورة لا بد منها أيضاً.
كان لانعدام الثقة هذا الذي زرعه حافظ الأسد في قلب المجتمع السوري نتائج لايمكن حصرها بسهولة، جميعها يمكن التعبير عنها بكونها سايكولوجيات لأُناس تم قهرهم على مدى عقود… ما يهمنا من نتائج ذاك القهر هو ما خلّفه من إشكال على المستوى المفاهيمي والفكري، ففي ظل غياب أشكال المجتمع المدني ونشاطاته، ونتيجة لتجاهل السلطة المتعمَّد له، إلى جانب الهجوم المباشر عليه أحياناً بحجّة أنه لا يتناسب مع تركيبة المجتمع السوري (المتنوّع – المنغلِق – المحافِظ) كان الأخير يعاني تراكمات طويلة الأمد ستعيق حركته في المستقبل مثلما سنرى، وهو ما يفسّر على بعض النحو تحوّل سوريا فيما بعد إلى ساحة حرب أهلية دينية طائفية وعرقية أيضاً، بانقسامات على مستوى الولاء والتبعيّة، بلا حوامل مشتركة.
بصورة أوضح: مفهوم «الدولة» لربما كان يعني (الجيش) على وجه التحديد، و «الشعب» (السوريون العرب ممَن ارتضوا بالأسد أباً قائداً ومؤسِساً)، تجدر الإشارة هنا إلى أن السلطة ومعارَضتها المسلّحة بعد الـ 2011 اختلفوا اختلافاً دموياً في تعريفهم للشعب مثل اختلافهم على الكثير من المفاهيم الأخرى إن لم يكن جميعها، ففي حين سَلبت الأولى الجنسية عن كل من عارض النظام وكانت قبل ذلك (إبان عهد الأسد الأب) قد منعتها عن معظم الأكراد، حكمت الثانية على الموظفين ممن لايزالون يعملون أو يتقاضون معاشاتهم من مؤسساته بأنهم «أعوانٌ له» أو حتى «جواسيس»، وحكمت على الأكراد بأنهم أعداء، لا يمثّلون الشعب بالمُطلق، وأطلق المتشددون عليهم لقب «الأكراد الملاحدة».
كذلك كلمة «الرئيس» تعني (حافظ الأسد تحديداً، مالك الأرض وخيراتها وراعي نهضتها، المسلم بالنسبة للمسلمين، والأقلّوي بالنسبة للأقليات، العلماني الملحد بالنسبة للمتشددين، والعلماني الضامن لعدم بطش الأكثرية بالأقلية بالنسبة لغيرهم، والمقاوم بالنسبة للمقاومين .. الذي إن غادر سيأكل الناس بعضهم، وستأكل إسرائيل وأمريكا العرب جميعم والسوريين أولاً وستغتصب نساءَهم وبناتهم).
إضافة إلى ذلك، كلمة «الحقوق» لربما تعني (البقاء على قيد الحياة) حتى أن التعليم المجاني نفسه كان يعتبر حتى وقت قريب مِنحة من الحكومة، و «الواجبات» (السمع والطاعة المُطلقة)، و «العدالة» (قوى الأمن والعلاقة الوطيدة بها، أو الحكم الإسلامي بالنسبة للإسلاميين، أو لربّما النقود)، و «المساواة» (للذكر مثل حظ الأنثيين).
أما كلمة «العلمانية» فتعني (الإلحاد من جهة، وكلمةً مجهولة من جهة أخرى)، و«المواطنة» (كلمة جديدة)، الطائفية (الطوائف، بدل التوجه الطائفي)، العرقية (…)، القومية (العربية أو الإسلامية)، ناهيك عن «الحرية» التي كان من المفترض أن تكون المسَلَّمة الأكثر تعقيداً من بين هذه المصطلحات، إلا أنها استُخدمت في بداية الحراك السوري لاحقاً عام 2011 كمطلب بديهي حامل ورئيس ومعلوم لدى الجميع بشكل لا لبس فيه!. ولا أعتقد أنها كانت تعني خلال التسعينات وحتى فترة متأخّرة شيئاً غير (الانفلات) بصورة أو بأخرى، الانفلات عن عباءة الوالد ضمن الأسرة الواحدة على أقل تقدير، ناهيك عن العائلة الكبرى، أو أي شكل من أشكال التمرّد على ما تمّ التعارف عليه كـ ضرورة…. لك أن تتخيل تبِعات إعادة صياغة هذه المفاهيم والتعريفات بصورة أخرى! إنك أمام صياغة قاموس جديد يتواصل به الناس فيما بينهم!
توفّي حافظ الأسد في العام 2000 تاركاً خلفه شعباً متآكِلاً من الداخل، مُتواكِلاً، حالماً، مُتهالكاً، بدائياً في أبسط سُبل تحصيله للمَعارف والتأثّر بها، خائفاً من أقرب الناس إليه، عُقوبة سَفرهِ إلى العراق الجار على أقل تقدير قد تعني الخيانة والموت، جاهلاً عما يدور حوله، جائعاً يشعر بأن العالم بأسره يتآمر على لقمة خبزه وزوجته وبناته، مُرهَقاً على كافة الأصعدة. تَواصُله الوحيد فيما بينه لا يتخطى قدرة الهاتف الأرضي وحدود شاشة التلفاز بقناتيه الرسميتين الأولى والثانية، ولا يَعرف من الحضارة والتقنيّة والتواصل مع الخارج إلا طبق الساتالايت وجهاز الاستقبال بتكلفة تبلغ حتى 250 دولاراً (راتب موظّف حكومي من الدرجة الأولى آنذاك) ببضعة محطات عربية تبثّ الأغاني والمسلسلات والبرامج الدينية على مدار الساعة، وكأنها قد أَرسلت للتو مسباراً لاستكشاف الحياة على المريخ، وهاهيَ ذي الآن.. تَحتفل!.. تشكر الله والقائد على «النهضة»، وتمجّد الأبطال الرجال أينما حلّوا! وتقدّم بالمحصّلة نفسَها وواقعَها (المزري) قُرباناً رخيصاً على مذبح السعادة المُبهمة والمزعومة! .. سعادة أن تظل تكافح للبقاء على قيد الحياة! ألا يكفي هذا؟! ما الذي تريده أكثر من ذلك؟! يُخاطبك الديكتاتور.
(7): سوريا الأسد الابن والصناعة العلنيّة للإرهاب
لطالما كانت الديكتاتورية العسكرية والإسلام الراديكالي في السابق يستخدمان بعضهما البعض بشكل تناظري، بمعنى أن الديكتاتور كان دائماً ما يحتاج إلى (البعبع الإسلامي) لإقصاء جميع معارضيه، وأن الإسلام السياسي من جهته كان بحاجة للديكتاتور كي يلصق بكل أشكال الحكم غير الإسلامي صفة (الظلم، والإباحيّة) ويُفسّر من خلال ذاك الحكم (غير الإسلامي) كل ما يقاسيه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من فقر وفساد.. إلخ.
في هذا المقال سنرى كيف أن الديكتاتور (وللمرة الأولى) قد اشتغل مع الإسلام الراديكالي بشكل تعاوني بعد أن قام بصناعته علناً أمام الجميع (لا تحت الطاولة)، ليستخدمه كـ بعبع في إسكات المعارضة الدولية لنظام حكمه.
توفيَ حافظ الأسد في العام 2000 تاركاً خلفه شعباً متآكِلاً من الداخل، مُتواكِلاً، حالماً، مُتهالكاً، بدائياً في أبسط سُبل تحصيله للمَعارف والتأثّر بها، وأشاع الفوضى إسلامياً، عربياً، وعالمياً في المحصّلة، وأساء لسمعة سوريا واصماً إياها بكونها مصنعاً للإرهاب، وشيد نظام حكمٍ لا يقارعه في السوء إلا نظام كوريا الشمالية، نظامٌ ما إن اتّخذهُ أحد مكونات الشعب السوري عدوّاً حتى يقع في حرب طائفية مع البقية.. مات حافظ الأسد، وهاهو ذا الآن خليفتهُ ووليُّ عهده (بشار) رئيساً لم يستطع أن يتخلّص من منطق العناد الذي بدأهُ والدُه.
قبلها بعشرين عاماً، كان الأسد الأب قد أرسل انتحاريين شيعة لاستهداف الأمريكيين في لبنان، إلا أن الأسد الابن هذا كان قد قرّر على ما يبدو، ومنذ توليه الرئاسة، السير على خطى أبيه، لكنْ ما كانَ بِصددِ إطلاق جماحِه سيمزّق العالم العربي إرباً، ثم سيعود ليدمّره شخصياً، قبل أن يساعدهُ في تثبيت حكمه آخر الأمر!
لم يكن بشار يعتقد يوماً بأنه سيكون رئيساً، كانت كل المؤشرات تتجه إلى أخيه (باسل) خلفاً لأبيه، لكنَّ وفاةَ هذا الأخير إثر حادث سير -حسبما قيل- خلّت الطريق أمامه ليستولي على القصر العملاق المطلّ على دمشق، والذي شيّده والده آنذاك إبان بداية عناده لوزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر.
حين تولّى سدّة الحكم، لم يكن بشار مهتماً بالسياسة، وعلى الأرجح كان جاهلاً بها كلياً، كان هذا الأخير مفتوناً بعالم الحاسوب، وقد دشّن مجتمع الحاسوب السوري، وأدخل الإنترنت إلى البلاد؛ وقد كانت أوركيسترا «إليكتريك لايت/ The Electric Light Orchestra» فرقتَه الموسيقيةَ المفضلة، وهو الآن رئيس سوريا الوارث عن أبيه من بين ما ورِث، عداءَه للولايات المتحدة الأمريكية، وتجسيدَه جوهرَ وروح المقاومة والممانعة ضد الإمبريالية العالمية، وقلبَ العروبة النابض… إلخ.
محمود قول أغاسي
لم تمضِ سوى بضعة أشهر على تولّي بشار الأسد سدّة الحكم في دمشق، حتى انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية… ومن غير الممكن مثلما هو معلوم أن يمرّ هذا الحدث مرور الكرام دون أن يستثمره الديكتاتور كعادته في المنطقة.
حينها، وبشكل لافت ومثير للكثير من إشارات التعجب، ظهرَ رجل ما في مدينة حلب يدعى «محمود قول أغاسي» ينادي بالجهاد من على أحد منابرها، ممثِّلاً السلفيّة الجهادية بأدقّ ملامحها تحت أنظار الحكومة في دولة الحزب الواحد… لم يكن يجرؤ على هذا أحد سواه. سيلعب أغاسي دور البطولة في مسلسل صناعة الإرهاب السوري خلال الست سنوات الأولى التي استهلَّ بها بشار الأسد حكمه.
وُلد أغاسي، أو كما أطلق على نفسه لقب (أبو القعقاع) في قرية «الغوز» في ريف حلب عام 1973، وهو من أسرة تركمانية، يحمل الجنسية الباكستانية، حصل على الدكتوراه عام 2001 من جامعة كراتشي/ باكستان في مجال الدعوة، وكان في فترة ما مديراً للثانوية الشرعية في حلب.
بداياته
بدأ أبو القعقاع مشواره بشكل سرّي، متنقّلاً، مستقطباً الشبان من هنا وهناك للالتحاق به، إلى أن بدأت الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 عقب دخول القوات الإسرائيلية حرم المسجد الأقصى آنذاك، التي رأى من خلالها هو الآخر فرصة مثالية لتجنيد الشبان إلى جانبه علانيّةً… انهالت عليه أموال مثيرة للريبة وبشكل مفاجئ، وهو المولود لأسرة فقيرة، بنى مسجداً في حي «الصاخور» وهو حي شعبي في حلب القديمة على نفقته الخاصة يُدعى «مسجد العلاء الحضرمي»، وأخذ يدعو الناس من على منبره للانضمام إليه.
اتّخذ أبو القعقاع من منبر «مسجد العلاء الحضرمي» في الحيّ الفقير منطلقاً لنشر أفكاره الجهادية بدعوى الدفاع عن أرض المسلمين تزامناً مع انطلاق انتفاضة فلسطين، ومكاناً حتى لتدريب أتباعه من آلاف الشبان الذين انضموا له على فنون القتال، مقاطع فيديو كثيرة توثّق تدريباتهم بالزي العسكري داخل المسجد، كما كان يدعو أتباعه إلى استمالة السلفيّة في حلب للعمل سويةً !.. ليؤسس فيما بعد جماعته الشهيرة «غرباء الشام»، كل ذلك على مرأى ومسمع من الحكومة السورية!
ولَكَم ظهرَ أغاسي يخاطب الجموع: «مَن منكم مستعد ليكون من أولئك الأشاوس الذين يحملون صواريخ القسّام في مواجهة أعداء الله اليهود؟»، أو كما يقول في موضع آخر: «إن سوريا صلاح الدين، وسوريا أرض النبوّة، وسوريا أرض الملاحم، وسوريا منطلق النصر القادم، ستبقى هي الدرع الذي يتصدّى لكل المؤامرة، وستخرّج طلائع جيل الملحمة بإذن الله» (….) «إليكم المسلمات فاحفظوها وافهموها، لن نوقّع أبداً على شهادة وفاة قضية فلسطين، لن نوقع لو دفنونا أحياء، لن نوقع لو جاؤونا بكل قوة، ولو شحذوا كل سلاح، لن نوقع لو عَلَت أصواتهم، لن نوقع لو حلّقت طائراتهم، لو هدّموا الديار، لو قتّلوا الصغار، لو ذبّحوا الكبار، علِّموها للأجيال، فليكن الأقصى على لسانكم موجودا» وذلك في انسجام كامل مع طرح (المقاومة والممانعة) المزعوم السوري الإيراني الرسمي، ضاغطا على نقطة ضعف الشارع السوري والعربي، المتمثلة بقضيّة فلسطين.
علاقته بالمخابرات السورية
كان أبو القعقاع يدّعي أن وجود الأمن السوري إلى جانبه هو أفضل للدعوة التي بدأها، لذلك كانت خطبه دائماً ما يتم تصويرها وطباعتها على أشرطة فيديو و CDليبرّر أمام أتباعه ذلك بأنهم «لا يعملون خارج الأضواء»، لا بل كانت أسواق المدن السورية في تلك الفترة غارقة بالاسطوانات التي تحتوي على خطبه «الناريّة الجريئة» وبشكل علني.
عن علاقته بالسلطة ثمة طرحان، يدّعي الأول أن جهادياً كهذا الرجل يحمل مشروعاً «خاصاً به» رأى أنه من غير الممكن العمل في سوريا البعث دون الالتفاف إلى السلطة والتعاون معها، منتقداً سياسة الإخوان (العنيفة) ضد السلطة، ويرى الرأي الآخر أنه كان منذ بدايته مرتبطاً بأجهزة الأمن السورية ومزوّداً إياها بكل أسماء وصور من انضموا إليه، بمعنى أنه كان «نقطة تجميع» من خلالها يمكن معرفة كل الإسلاميين الأصوليين في سوريا، والحقيقة أن الرأي الثاني تؤكده الكثير من الأدلة.
كان أبو القعقاع يدعو إلى المزاوجة والتوحيد بين ما أسماهما (الجهازين الأمني والإيماني) يقصد أمن الدولة ودين الأفراد، وكان يفسر ذلك على أن «كل إنسان مؤمن، عليه أن يرى الأمن (المؤسسة الأمنية السورية) فعلاً إيجابياً طالما كان هدف دين المؤمن الحض على رفع الأذى عن الإنسان، والأمن يفعل ذلك».
في كتيّب مؤلف من عشر صفحات، وهو من النوع الذي يسهل حمله في الجيب يحمل عنوان «حقوق ولي الأمر -الحاكم» يهدي أبو القعقاع كتيبه هذا إلى «أبناء أمتي حكاما ومحكومين، مسؤولين ورعايا، حَمَلَة رتب وأصحاب لحى، دعاة دينٍ وفرسانَ سياسية، عناصر أمن وجند إيمان»، في هذا الكتيب ثمة إصرار منه يتضح في العنوان ومن خلال التفاصيل على أن الرجل كان على علاقة طيبة مع «الأمن السوري»، وقد كان هذا جديداً ومختلفاً عما هو معهود عن «الجهاديين» بشكل عام، والسوريين على وجه الخصوص.
في الصفحة الثانية التي أتت بعنوان «بيعتنا» يقول: «نبايع الله على ألا ننازع الحُكمَ أهلَه، والنصحَ لولاة الأمور، والسعي إلى وحدة صفوف الأمة حكاما ومحكومين على أساس العلاقة التعاونية التناسقية في مواجهة كل صور الفتن الداخلية والمؤامرات الخارجية ضد بلادنا، ونكون لوطننا أدوات بناء لا هدم، وطاقات تعمير لا تخريب، حتى وإن ظُلمنا وأصابنا الأذى». الصورة تتضح أكثر في مكان آخر حين يقول «إنْ حاول أحد أن يقلل من هيبة العلماء وهيبة ولاة الأمر ضاع الشرع والأمن».. حاضّاً كـ غيره من الدعاة السوريين على السمع والطاعة.
وفي وثائقي نشرته قناة الجزيرة عام 2015 تناول سيرة محمود أغاسي حمل عنوان «الصندوق الأسود – أبو القعقاع السوري» يقول العقيد المتقاعد من الاستخبارات العسكرية المقيم في تركيا «إبراهيم البيطار»: «بالنسبة لأبو القعقاع، من عام 2000 أو 2001 ظهر نشاط كتير لهذا الرجل في منطقة الصاخور، وكان عندو مريدين، كل جمعة كان يزيد عدد مريديه…. كان أبو القعقاع يتقرّب من كل الناس اللي كانت تجي على المسجد ويتعرف عليها، وباعتبار هو مرتبط كان يقدّم الأسماء للمخابرات».
ويضيف: «كان أبو القعقاع مرتبط بدايةً برئيس شعبة المخابرات اللواء حسن خليل، ومن ثم -نتيجة تطور ظروف أبو القعقاع واستلامو لمسجد في حلب- أُوكلت مهمة التواصل معو للواء ديب زيتون، اللي هو حالياً مدير إدارة أمن الدولة». وهذا ما يبتّ في المسألة في أن الرجل كان أداة الأسد الابن لصناعة الإرهاب الداخلي وإبرازه علانيةً لتطويعه في خدمة نظام الديكتاتور على أصعدة شتى.
الحرب على الإرهاب / الجهاد العالمي
في الحادي عشر من أيلول سبتمبر عام 2001 هوجم برجا التجارة العالمية في الولايات المتحدة، وأعلنت الإدراة الأمريكية ما أسمته «الحرب على الإرهاب»، و بدأت حربها ضد أفغانستان، في ذاك الوقت انتقل محمود أغاسي من الحشد الديني باسم القضية الفلسطينية كـ محور رئيس، إلى مرحلة تبني الجهاد العالمي، فسعى إلى تكوين علاقات خارجية بدأت بزيارته إلى أفغانستان.
غادر أغاسي سوريا متوجهاً إلى أفغانستان لمقابلة «أسامة بن لادن» وكان يريد أن يكوّن له جيوباً في سوريا حسبما يذكر البعض من أتباعه، إلا أنه لم يستطع ذلك، لعل أسامة بن لادن والظواهري كانا قد استشعرا الخطر من طبيعة عمل هذا الرجل في بلاد يحكمها البعث وتبنّيه الجهاد داخلها، لكنْ، ألا يمكن القول بأن الحكومة السورية هي من أرادت لأبي القعقاع العمل على إنشاء علاقات مع القاعدة هناك؟ ألا يمكن أن تكون الحكومة السورية هي من أرسلته إلى أفغانستان؟ أو بالأحرى كيف سمحت الحكومة السورية لأبي القعقاع بالعودة ومتابعة نشاطاته فيها عقب زيارة كـ هذه؟ لاشك بأن نظاماً قد سمح له أصلاً بالعمل داخل سوريا والحض على الجهاد فيها، ليس بعيداً عنه أن يسعى إلى (عولمة) تحدّيه للولايات المتحدة.
بعد فشل مهمة أغاسي في أفغانستان، وعودته إلى حلب، سمحت قوات الأمن السورية في المدينة لأبي القعقاع بأن يُطلق المهرجانات الدعوية في الساحات العامة !!، ليُري الناس مشروعه العالمي آنف الذكر.. في ذاك الوقت كانت وفود شتى من السعودية، قطر، الأردن، فلسطين، تتوافد لزيارته، يظهر الكثير منهم في «المهرجانات» المصوَّرة التي كان يقيمها هنا وهناك.
بعدها بعام (2002)، توجه أغاسي إلى العراق لمدة شهر لإقامة علاقات خارجية هناك… بين العامين 2001 و 2002 كانت قد تجاوزت أسطوانات الـCD التي تحتوي على خُطبه في العراق المليون نسخة لنشر فكره في تلك المنطقة… كان أغاسي يريد ماهو أكبر من تجنيد الأتباع.. مؤسسةً أمنيّة-جهاديّة، تنظيماً سنّياً مسلّحاً يعمل جنباً إلى جنب مع الحكومة السورية… شيء أشبه بحزب الله في لبنان، وكلاهما في النهاية هندسة سوريّة، البلد المصدّر الأول للإرهاب عالمياً.
بعد عدة أعوام سيصبح أبو القعقاع هذا ظاهرةً حقيقية، وسيكون وجوده في سوريا (التي تدّعي العلمانية) البعثيّة المحكومة من نظام يعمل وفق كل آليات المكر المخابراتي نافراً وغريباً، ففي ذلك الوقت كان بإمكانك أن تجد في مدينة حلب، وفي ملعبها البلدي الذي أُطلق عليه اسم ملعب «الباسل» (ابن حافظ الأسد) مجموعةً من المقاتلين المنتمين له، يتلقّون التدريبات، عاصبي الرؤوس بقطع قماش خضراء وسوداء، كتب عليها عبارات استشهادية جهادية، برعاية تامة من أجهزة الدولة!!
حرب العراق
مع بدايات الحرب على العراق في شهر آذار/ مارس 2003 كان بشار الأسد مقتنعاً بأن ذلك لم يكن سوى خطوة في مخطط أكبر هدفُه استيلاء القوى الغربية على الشرق الأوسط (أفكار والده المُفعمة بحسّ المؤامرة إبّان إرسال الولايات المتحدة قوات مارينز آنذاك إلى بيروت)، كما كان يرى أن هذا الغزو قد أثار غضب العديد من الإسلاميين الأصوليين في سوريا الذين ربّاهم والدُه بعناية داخل السجون وخارجها، واشتغل هو على إنعاش وضعهم مجدداً -هذا إن لم نقل إنه تبنّى مشروع الجهاديين بدعمهم- وأن هؤلاء كانوا يرغبون بشدّة في الذهاب إلى العراق وقتال الأمريكيين هناك، الأمر الذي حدا به إلى إعطاء تعليماته للاستخبارات السورية بتسهيل مهمة انتقالهم.
من جهته بدا أن محمود أغاسي قد دخل مرحلة جديدة بعد فلسطين والجهاد العالمي، ففي الـ 23 من الشهر ذاته (مارس 2003) عاد من رحلة له في المملكة العربية السعودية، ظهرَ وسط أتباعه في جامع العلاء، جلس الجميع ينتظر إشارة منه لإعلان الجهاد في العراق… صعدَ إلى المنبر ليقول: «إنني أعدكم وعداً صادقاً مخلصاً بأنني سأسعى إلى مَن بيده القرار (يقصد رأس النظام السوري) وبكل ما أستطيع من قوة وإقناع ووثائق وبراهين أن نصل إلى مستوى أن نعلن جهادنا ضمن خطة وراية واضحة».
بعد ذلك بعدة أسابيع ظهرَ مجدداً ليقول: «كيف نعمل في ساحة العراق لِجعل الأمريكان واليهود يدفعون الثمن الأكبر؟ يجب توزيع القوى الغاضبة الثائرة من أمثالكم (يشير إلى أتباعه في المسجد) في جماعات، ساعتها تكون كل مجموعة منا عبارة عن جيش كامل تُدمِّر ولا تُدمَّر، وتَقتل ولا تُقتل»، ليتضّح فيما بعد أنه كان يرسل بالجهاديين من أتباعه إلى فصيل معيّن تابع للمخابرات السورية داخل العراق، وهو ما أكّدته قوات الأمن العراقية فيما بعد لدى استجوابها بعض مَن تم القبض عليهم آنذاك، والذين اعترفوا بتلقّيهم تدريبات لدى أبي القعقاع نفسه.
دشنت السلطات السورية بتوجيهات بشار الأسد ما يشبه خط إمداد بدأ بِضَخّ آلاف المقاتلين سوريين وغيرهم عبر الحدود إلى قلب العراق «الشقيق» بالتعاون مع البعث العراقي المخلوع عنوةً، كانت سوريا وقتها تؤوي الآلاف من الإرهابيين وتوفّر لهم مقراً وملاذاً، علاوةً على تدريبهم عسكرياً في معسكرات تتبع للمخابرات السورية والجيش، منهم من كانت قد صدرت بحقّهم مذكرات اعتقال للإنتربول الدولي أمثال (محمد يونس الأحمد، وسطام فرحان) وفي العام الأول دخل تقريباً جميع المقاتلين الأجانب إلى العراق عبر سوريا، مصطَحِبين معهم أولئك المستعدّين لتفجير أنفسِهم بعدما أصابت عدوى قتل النفس المجتمع السنّي في مقتل مثلما أسلفنا، وشَرْعَنها كبار مشايخهم… وقد قدّرت الولايات المتحدة نسبة التفجيرات الانتحارية التي نفّذها مقاتلون أجانب (غير عراقيين) بحوالي 90% من إجمالي عدد التفجيرات آنذاك.
يؤكد العقيد المتقاعد من الاستخبارات العسكرية السورية «إبراهيم البيطار» في وثائقي الجزيرة أنه «في يوم واحد من حلب، على حسب معرفتي، طلع 20 باص.. 20 باص مملوئين بالمجاهدين الذاهبين إلى العراق، وكانت كل أسمائهم لدى الأجهزة الأمنية عن طريق أبو القعقاع وغيرو».
في تلك الفترة كانت تتدفق على محمود أغاسي التبرعات من العالم الإسلامي في سبيل دعم «المقاومة المسلحة في العراق»، وكان اللواءان في المخابرات السورية (ديب زيتون، ومحمد منصورة) يرتّبان مع غيرهما الطريق الممهّد لوصول تلك المساعدات، وكانت مشاهدة شوالات الربطات النقدية بالعملات المختلفة أمراً عاديا في بيت محمود قول أغاسي والبيوت التابعة له (حسبما يذكر صحفي مقرّب منه)، وكان مال الدم يمرّ أمام أعين البعثيين ذاهباً لتفجير الأوضاع في الجار «الشقيق».
في مقال له يقول الكاتب العراقي «كاميران قره داغي» أن نظام البعث السوري بدعمهِ الإرهاب في العراق وتسهيل تدريب الإرهابيين المنتمين للقاعدة تحديداً بتنسيق مع البعث العراقي كان «يسعى إلى هدف محدد أوضحَه بـشار الأسد نفسه آنذاك لوفد عراقي رسمي زار دمــشق، الوفد نقل عن الأسـد قوله (إن على الحكم العراقي أن يفهم أن البعث السـوري لا يمكن أن يتخلى عن البعث العراقي، فهما في النهاية بعث واحد، ونظـامه لـن يـهدأ حتى يعود إلى السلطة في بغداد) كلام صريح وواضـح. ومهما جهد أهل الحكم العراقي لمنع التدخل الســوري آنذاك كانت جهودهم تذهب سـدى على رغم الوجود العسكري الأميـركي الداعم والمسيطر، وحضور الـلاعب الإيـراني الداعم بـقوة أكبر لحلفائه الشيعة المهيـمنـين علـى الـحكم في بـغداد، ونفوذه في دمـشق. بل يــجـوز القـول إن هذا اللاعب الخطير كان يشارك عملياً في اللعبة السورية لكن لمصلحته الخاصة».
على مدى أيام وأسابيع كان التلفزيون الرسمي ووسائل الإعلام العراقية آنذاك تبثّ اعترافات لإرهابيين تم القبض عليهم، منهم سوريون وغير سوريين، تم تجنيدهم من قبل نظام بشار الأسد، تحدّثوا عن كيفية دخولهم للعراق، والهدف من ذاك الدخول، ومصادر التمويل؛ و كانت وسائل الإعلام العراقية توضح حينها أن ما يُبث ليس سوى (نقطة في بحر) من الأدلة لدى الحكومة على إجرام بشار الأسد الذي كانت توجه له الاتهامات مباشرة، وتُبين بالتفاصيل دور المخابرات السورية في صناعة المجموعات الإرهابية و تزويدها بالوسائل اللازمة لعملها، و تصديرها عبر الحدود، كما تم الكشف وقتذاك عن شاحنات مُحمّلة بالأحزمة الناسفة على الحدود العراقية مع سوريا، شاحنات تم تحميلها من داخل سوريا بأحزمة ناسفة ليتبيّن أنه تمّ تصنيعها في المصانع و المعسكرات السورية الحكومية.
مع ازدياد عدد الجهاديين والتفجيرات الانتحارية، خرجت الأمور عن السيطرة تماماً، وتحوّل معظم الجهاديين للعمل مع «تنظيم القاعدة» بفروعها المتعدّدة (دولة العراق الإسلامية، مجلس شورى المجاهدين، وغيرها ..)، وباتوا يستهدفون الشيعة، مجسّدين بذلك الطائفيّة بأوضح صورها، ومؤججين حرباً أهلية سيكون لها بالغ الأثر على المنطقة عموماً والعملية السياسية المستقبلية في العراق خصوصاً (نظام محاصصة طائفية)، لتنقلب بالمحصّلة فكرة التضحية بالنفس (قنبلة الفقراء الذرية) التي ابتكرها الشيعة على الشيعة أنفسهم!
من وجهة نظر (الجهاديين السنة) كان استهداف الشيعة يتم بذريعة أنهم «عملاء» للولايات المتحدة الأمريكية، هذا ما كانت تبثّه إصداراتهم المصوّرة، لكن في العمق، ومع العلم بأن المخابرات السورية وإيران يتغلغلان داخل هذه الجماعات، لا يمكن إلا القول بأنهما الرابح الأكبر من عمليات تأجيج الحرب الطائفية باستهداف مزارات الشيعة، الأمر الذي سيفضي بلا شك إلى حشد هذا المكوّن ليس فقط ضد أعداء صدام حسين (الديكتاتور البعثي/ السنّي) لا بل جعل هذا المكوّن في نهاية الأمر أداة بيد اللاعب الإيراني حتى الرمق الأخير، بوصفه «المخلّص» الوحيد الذي تجمعهم به مرجعيّة دينية غير قابلة للنقاش… الأطراف المتحاربة تستفيد من أعدائها لحشد الأنصار وتَعبئتهم كوقود لاستمرارية الحرب والحكم (العسكر المصري والإخوان – الجيش السوري والطليعة المقاتلة – حركة حماس واليمين الإسرائيلي… إلخ).
على أية حال، حين عاد الجهاديون السوريون إلى بلادهم من العراق، التَقفتهُم أيدي المخابرات وزجّت بهم في السجون مرة أخرى لاستخدامهم في مراحل قادمة… سنرى لاحقاً كيف سيكون بعضهم قادة الحراك المسلّح ضد الأسد الابن بعد العام 2012 وكيف سيمنح هؤلاء قُبلة الحياة والبقاء للنظام الحاكم.
سوريا الجديدة
في 1 أيار 2003، أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش من على ظهر بارجة حربية أن «المهمة قد أُنجزت في العراق»، قام في اليوم التالي وزير الخارجية الأمريكي «كولن باول» بزيارة خاطفة إلى دمشق، التقى خلالها بشار الأسد، وأوضح أن «ما قلته للرئيس الأسد هو أنك تستطيع أن تكون جزءاً من مستقبل إيجابي، أو أن تبقى في الماضي مع السياسات التي تتبعها… الخيار لك».
وقتها كان الأسد يستعمل حاجة الولايات المتحدة لمساعدته في ضبط الأمور في العراق كـ ورقة ضغط ضد واشنطن نفسها، مدعوماً بالعقل الإيراني (حليفه الكبير الذي أراد أن يرث الأرض وما عليها في عراق ما بعد صدام حسين)، استغلّ الأسد هلع الأمريكان من تنظيم القاعدة، وكان يريد خلق الظروف المناسبة للأمريكيين كي يعدّوه أحد أهم محاربي الإرهاب في المنطقة، فلم يكن من الأسد إلا أن يتغلغل في التنظيم ذاته، ويقدم له الدعم اللوجستي والاستخباراتي، والعدة والعتاد، والرجال الذين عبروا الحدود السورية العراقية بالآلاف.. كان الأمريكيون يطلبون منه ضبط الحدود مع العراق، ويرد محاججاً بأنهم عاجزون عن ضبط حدودهم مع المكسيك!.
ظل بشار الأسد في العمق يتغلغل داخل التنظيمات الإرهابية، لوجستياً واستخباراتياً، حتى أن زعيم «تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش) أبو بكر البغدادي كان مقيماً إبان ذلك الوقت في العاصمة دمشق والتقى أبا القعقاع هناك… في حين كانت سياسته الخارجية (بشار الأسد) فيما يخص التعاون مع الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب تبدو وكأنها امتثال لدعوة كولن باول… حلقَ أبو القعقاع شعر لحيته، وبات يرتدي الستر الرسمية، وربطة العنق، وتخلّى عن الزيّ الأفغاني الذي اعتاد الناس عليه، وظل في دمشق حتى عاد بعد العام 2006 إلى حلب، وصار يخطب في مسجد «الإيمان» في «حلب الجديدة» وسط الطبقة الغنية من أهالي المدينة، وغيّر خطّه الديني، فانتقل من الحديث عن الجهاد في فلسطين وأفغانستان والعراق إلى مسائل تتعلّق بغلاء الأسعار والفساد، وبدا حينها أن دوره قد شارف على النهاية.
الضربة الأولى التي تلقاها أبو القعقاع كانت بالانتحار الغامض لوزير الداخلية السوري اللواء غازي كنعان في 12 أكتوبر تشرين الأول من العام 2005، وهو المتورّط كليا في الملف اللبناني عقب اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري؛ كنعان كان من أهمّ رعاة الشيخ المجاهد، كنتَ إذا أردت لقاء محمود قول أغاسي في دمشق ستضطر إلى الذهاب إلى نادي الشرطة في العاصمة في حي «مساكن برزة»، حيث كان اللواء غازي كنعان يعطي تعليماته للنادي والفندق التابع له بحجز طابق كامل لأبي القعقاع ومرافقيه، حفاظا على أمنه! -حسبما يذكر صحفي مقرّب منه- وبدأ محمود قول أغاسي يستشعر أخطارا قادمة، بدأت بالتتالي الواحدة تلو الأخرى.
بعدها بعام (صيف العام 2006) كان النظام السوري قد بدأ من جهته في إظهار أنه هو أيضاً يتعرض للهجمات الإرهابية، حيث بثت نشرات الأخبار السورية والصحف والمواقع الإلكترونية صوراً من حقائب لمجموعة جهادية قالت إنها حاولت احتلال مبنى الإذاعة والتلفزيون في العاصمة، تم قتلهم أثناء إحباط محاولتهم احتلال المبنى الأهم في ساحة الأمويين بجانب رئاسة الأركان السورية، وكانت صور حقائبهم تظهر وجه أبي القعقاع على أغلفة الأشرطة المسموعة والمرئية التي كان يخطّط الإرهابيون لعرضها على الشاشة السورية حسبما قالت.. فكان ذلك بالنسبة لأبي القعقاع بمثابة ضربة أخرى بات يستشعر معها دنو أجله.
لم تمضِ أشهر قليلة على ما جرى قرب مبنى الإذاعة والتلفزيون في دمشق، حتى شكّل مجموعة من الفلسطينيين المتشددين دينياً مجموعةً مسلحة أطلقوا عليها اسم «صقور أبي القعقاع» في مخيّم «نهر البارد»، اضطر معها أغاسي للسفر إلى لبنان لـ «تهدئة النفوس»، قبل أن يظهر تنظيم «فتح الإسلام» الذي سحقه الجيش اللبناني ودمّر المخيّم على رؤوس ساكنيه بدعم عسكري أمريكي وتنسيق أمني سوري.. كل ذلك أثار الرعب في نفس الرجل، وكأن ثمة من كان يتعمّد الزج باسمه في كل شأن يتعلّق بالإرهاب والتطرف الإسلامي.
النهاية
استخدم نظام الأسد الابن محمود قول أغاسي حتى آخر رمق… حشد من خلاله المتطرفين السنة بجوار بعضهم، وأغرق أسواق المدن السورية والعراقية بأشرطته وخطبه وتدريباته العسكرية الجهادية لأتباعه، وزج بالإرهابيين من أتباعه لإشعال الأوضاع في الجار الشقيق، واستقبل من خلاله ملايين الدولارات من الدول الداعمة للإرهاب (مصر والسعودية وقطر وغيرها) تحت مسمى المقاومة أو الجهاد، وسلّم عن طريق الملفّات التي كان أبو القعقاع يزوده بها مئات الأشخاص للولايات المتحدة الأمريكية، كانت أميركا تصر على محاربة القاعدة، ولكي تُظهر المخابرات السورية امتثالها، باتت تشن حملات اعتقال واسعة ضد المتشددين عموماً، أصحاب الذقون الطويلة والأثواب القصيرة حتى غير المرتبطين بالقاعدة أصلاً… لا شك بأن المرتبطين بالقاعدة هم أثمن من أن تسلّمهم المخابرات السورية التي كانت تشعل بهم المنطقة برمّتها.
في الثامن والعشرين من شهر أيلول سبتمبر 2007 خرجَ أغاسي إمام جامع «الإيمان» في حلب من مسجده بعد صلاة الجمعة، وبعد أن غيّر خطابه للحديث عن الفساد وغلاء الأسعار بدل حشد المريدين للجهاد، تقدّم منه أحد مريديه، وأطلق عليه النار من مسدس كاتم للصوت، ليموت بعد ساعات… أُلقيَ القبض على القاتل، واختفى داخل غياهب السجون السورية -حسبما قيل-.
ختاماً
لم تكن سوريا الأسد الابن تشهد أي انفراج ملموس على مستوى الحريات العامة والحقوق، ظلت تلك الدولة الديكتاتورية المارقة الفاسدة التي تحكمها قوانين الطوارئ، وتتغلغل في أرجائها الرشوة وحكم المقرّبين من الأسد وزمرته؛ لم يختلف الأسد الابن عن والده، خلافاً لما كان يأمله ويتطلّع إليه كثيرون سوريون وغير سوريين في أن بشار سيقود البلاد نحو مستقبل حر وديمقراطي، إذ سرعان ما سُحقت تلك الآمال، وظلّت القيود على حرية التعبير مثلما هي عليه.
خلاصة القول هي أن حافظ الأسد كان قد استخدم انتحاريين شيعة ضد الأمريكيين في لبنان، وكدّس الآلاف من الجهاديين وأتباع الإخوان المسلمين في السجون، وأن خليفته بشار أخرجهم من السجون وعزز دور المتطرفين داخلياً ليستخدمهم (في المحصّلة) كـ انتحاريين سنة ضد الأمريكيين في العراق… وأن الأب وابنه أجادا استغلال المكوّنَين الدينييَن الرئيسيين في المنطقة كـ وقود مثالي لضمان استمرار حكمهما الديكتاتوري العتيد، مُعبّرَين عن نفسيهما بِوصفِهِما النموذج الأكثر انضباطاً وملائمةً مع طبيعة شعوب المنطقة، واكتسبا الصيت المقاوم والممانع على الصعيد العربي، وصَنَعَا الإرهاب على المستوى العالمي والدولي.
انتهى -عند هذا الجزء- الحديثُ عن المرحلة الثانية (حيز التطبيق)، التي رأينا فيها كيف انسجمت ثنائية الإسلام الراديكالي والديكتاتورية العسكرية حيث كل منهما قد استخدم الآخر ليُشرعن ضرورة وجوده وبقائه الحتميّة، لتبدأ بعد ذلك انتفاضات «الربيع العربي»، وهو ما سنصنّفه ضمن المرحلة الثالثة والأخيرة من هذه السلسلة (الخاتمة) والتي سنرى فيها كيف أن الديكتاتور العسكري هذه المرة لن يكلّف جهداً يُذكَر للتخطيط ولا للتدبير، ما يعني أن مَن اعتلوا السلطة عقب الثورات أو ظلّوا على سدة الحكم خلالها وبعدها قد انتهجوا استراتيجيات قديمة أُدير بموجبها الشرق الأوسط على مدى الأربع عقود الماضية على أقل تقدير، وهو ما أسلفنا الحديث عنه في المقالات السابقة.
(8):الإرهاب على ضفتي الثورة..
استُهلَّ العقد الحالي باحتجاجات مفاجئة لما سُمّي اصطلاحاً «الربيع العربي»، فلم تكن تشتعل شرارتها في تونس حتى انتقلت إلى مصر. احتشد الآلاف من أبناء تلك البلاد التي كانت لها حظوتها في عمليات تغيير شكل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا… احتشدوا في 25 كانون الثاني/ يناير، خرجوا في جموع حاشدة في القاهرة باتجاه «ميدان التحرير» ضد نظام «حسني مبارك»، بدت تلك الأحداث كما لو أنها انتفاضة عفوية، لكن في الواقع لعِب الإنترنت دوراً محورياً في تنظيم جموعها… لولاه، ربما بقيت تلك الشعوب معزولة تتخبط بثوراتها، فيما العالم مغمض العينين.
كان أحد أهم الناشطين في ثورة 25 يناير مهندس الكمبيوتر المصري وائل غنيم، وهو يعمل في شركة “غوغل” في مصر، وقد أنشأ صفحة “فيسبوك” لعبت دوراً محورياً في تنظيم طلائع المتظاهرين.
في الوقت الذي كان مئات الآلاف يحتشدون في ميدان التحرير، كان غنيم يجري حواراً على التلفزيون المصري: «إنتو مش مصدقين يعني إيه (شوية شباب على الفيسبوك – عيال الفيسبوك) مش مصدقين إن الشباب دول نزلوا بعشرات الآلاف على الشارع؟… أرجوكم يا جماعة، مافيش أبطال. الأبطال هم الناس اللي في الشارع، الأبطال هم كل واحد فينا. مافيش واحد راكب ع الحصان يدير الناس. أوعى حد يضحك عليكو ويقوللكو كدة، دي ثورة شباب الإنترنت اللي بقت بعد كده ثورة شباب مصر».
كثيرون من الليبراليين الغربيين كان ذلك بالنسبة إليهم بمثابة برهان على القوة الثورية للإنترنت، وبدا وكأنه بالإمكان القيام بثورة بلا قادة في الزمن الحديث، ثورة تبلغ من القوة ما يمكّنها من الإطاحة بطاغية كان تسلّم مقاليد الحكم في أم الدنيا لثلاثين عاماً، حسني مبارك.
لم يكن الثوريون الراديكاليون أمثال حركة “احتلوا وول ستريت” وحدهم من رأى الأحلام «تتحقق» عبر ثورات الإنترنت، إنما السياسيون الغربيون أيضاً إذ دعموا الثورات العربية بحماسة، حين بدا أنها تتوافق مع رؤيتهم الساذجة لتغيير العالم هكذا ببساطة عبر التخلص من القادة الديكتاتوريين فقط… حين اندلعت انتفاضة ليبيا دعمتها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، إلا أنه وبدلاً من أن تتحول ليبيا إلى الديموقراطية بعد التخلّص من «القذافي»، بدأت سقوطها المدوّي في الفوضى.
اعتَقدَ الثوريّون الراديكاليون أنه بإيجاد وسيلة جديدة لتنظيم الأفراد فإن أحلام الثورة تحقّقت، وأنه سيتمخّض عن ذلك مجتمع جديد، لكنهم افتقدوا تماماً أيّ تصورٍ عن الطبيعة المحتملة لهذا المجتمع الجديد، افتقدوا التصوّر الواضح للمستقبل… الحقيقة أن ثورتهم لم تكن في سبيل تنفيذ رؤية متكاملة، إنما هي عبارة عن إحدى وسائل حشد الجموع وإدارتها، لا أكثر.
الحقيقة المرّة
أولئك الذين أشعلوا الثورة في مصر، آل بهم المصير إلى مواجهة الحقيقة المرّة ذاتها التي ظلّت جاثمة طيلة 60 عاماً (إما الديكتاتور العسكري أو الديني)… صحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي نجحت في حشد المتظاهرين، لكن بمجرد أن احتشدوا تَرَكَهُم الإنترنت تائهين بلا أي دليل على شكل ذاك المجتمع الذي يمكنهم بناؤه. لذا انقضّت جماعة «الإخوان المسلمين» لتملأ الفراغ برؤيتها التاريخيّة لدولة متكاملة، كما تتصوّرها.
حاز الإخوان المسلمون السلطة في الانتخابات، وصار محمد مرسي رئيساً، ما أصاب الليبراليين واليساريين بصدمة، فما كان منهم إلا أن اتجهوا شيئاً فشيئاً إلى أحضان الجيش، مطالبين إياه بالتدخل لحماية الثورة من الإسلاميين، كحالِ المستجير من الرّمضاءِ بالنارِ! وعام 2013 تدخّل الجيش مثلما حدث في الجزائر إبان التسعينات، اعتَقَل الرئيس، قَتَل مئات المحتجّين من أنصاره، واستولى على الحكم.
الجيش مُرَحَّباً به هذه المرة
آلاف النشطاء الليبراليين الذين احتشدوا قبلها بعامين عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليشعلوا الثورة، احتشدوا هذه المرة بتأثير “فيسبوك” أيضاً، ليرحّبوا بعودة الجيش من ميدان التحرير نفسه، ملوّحين بأقلام الليزر الخضراء لطائرات الهيلكوبتر المحلّقة فوقهم، قبل أن يهيمن على كرسيّ الحكم في النهاية عبد الفتاح السيسي.
لم يستخدم ديكتاتور مصر الإسلاميين بإرادته ليستولي على السلطة مثل حافظ الأسد، إنما عوّل هذه المرة على الشعب نفسه، الشعب الذي نالت جماعة الإخوان استحسانَ غالبيته، والشعب الذي لجأ إلى الجيش بإرادته ليمهّد الطريق أمام السيسي كي يجد مبرّراته المعتادة لإقصاء الجميع (بالبعبع الإسلامي)، والشعب الذي يبدو مُعجباً بهذا القائد حتى أجل غير معلوم، والذي يبدو أنه أحسنَ حِفْظ دروس الديكتاتوريين السابقين ممن كانوا يشدّدون ليل نهار على أن حكم منظومتهم العسكرية بكل قبحها، أجمل وأعدل وأرحم وأكرم وألطف وأعْطَف من حُكم رديفتها الدينيّة.
لم يُعطَ رئيس مصر المخلوع مُرسي فرصةً حتى انتهاء ولايته، لربّما كان بالإمكان كأحد أدنى أن يحافظ الشعب المصري على الحالة الديموقراطية كأرضيّة يمكن البناء عليها مستقبلاً. في أي حال، فشلت المحاولة المصرية لإحقاق قوانين العدالة والمساواة وتشارُك السلطة فشلاً مدويّاً وذريعاً. انتحرت المحاولة المصريّة، وتم تكريس الديكتاتورية إلى أجل غير مسمّى… أكثر من 98 مليون إنسان يحكمهم رجل واحد، بدعم ورضا شعبي أولاً، وبأموال اللاعبين الدوليين ثانياً: السعودية والإمارات دعمتا الجيش، في مقابل دعم قطري تاريخي لجماعة الإخوان المسلمين…
بأين المفرّ من هذه الثنائية الفانتازية الوضيعة وداعميها ومؤيّدِيها والقائمين على تطبيقها في الرخاء والشدّة؟
سوريا الحرب الأهليّة
في سوريا، تلك الجغرافيا التي كان لها مع مصر الأثر الأكبر في تكريس القطبين، الديكتاتور/ أمير المؤمنين، في تلك الجغرافيا التي كنتُ شاهداً على ما حصل فيها بحكم الانتماء الميلادي التاريخي. هنا حكايةٌ أخرى، درسٌ قاسٍ، حربٌ أهليّة، ودعوة عنيفة لاختبار معايير الصح والخطأ، كالعادة.
اندلعت احتجاجاتها السلميّة في مارس/ آذار 2011، قيل إن (الشعب) بمختلف أطيافه خرج يحمل الورود طالباً الحرية والكرامة التي سَلبتها منه عائلة الأسد منذ عقود، وكأن شيئاً ما كان يُوحي بأن سوريا تَرفض حتى أشكال الحكم الملكي في قريناتها من الدول، وأنها تبتغي الأشكال الحديثة للحكم وقوانين إحقاق العدالة… لكن ذاك الشعب، أبناء جلدتي، اختلفت أطيافه منذ البداية على معنى الحرية، والدولة، وتعريفات أخرى تشمل الشعب نفسه. وبان ذلك في الشعارات المبكرة من قبيل: “قائدنا للأبد سيدنا محمد”، “اللي ما بيشارك بالتظاهرات أمّو علويّة”. كانت كذبة واحديّة الشعب السوري الضحيّة المثيرة للشفقة، واضحة وجليّة.
مع أول اختبار جدّي، حين استخدم الأسد السلاح ضد مناوئيه، واتهمَ ما سماها إعلامه الرسمي وأبواقه على الشاشات، «جماعات إرهابية مسلّحة ضد النظام تقتل معارضيه». اندفعَ مناوِئُوه نحو التسلّح، وما لبثت تلك الاحتجاجات أن تحوّلت إلى صراعٍ دمويّ مميت بين بشار الأسد وخصومه، وتأججت في قلب ذاك الصراع القوى التي كان والده حافظ صدّرها إلى الغرب بادئ ذي بدء (التفجيرات الانتحارية).
منذ البداية، كرّر ديكتاتور سوريا أكثر من مرة: «إن ثمن المقاومة أكثر بكثير من ثمن الاستسلام»، لذا، وعند تلك المرحلة من التاريخ الذي عايشناه، أطلق الأسد سراح آلاف الإرهابيين الإسلاميين الذين كان يعتني بهم في سجونه، إبان عودتهم من العراق، خرَجوا مع جملة من اليساريين وغيرهم. ويُروى أن بعض المعارضين السياسيين وأولئك الإسلاميين كانوا يتشاركون الزنزانة نفسها. خرجوا وتغلغلوا داخل المعارضة، وتصدّروا المشهد المُبهَم فيها، بولاءات على مستوى الانتماء والتبعيّة في كل ما هو عدا سوريا الدولة.
كان الأسد عام 2011 على وشك أن يدفع ثمن هَوَسِه بالحاسوب والإنترنت غالياً حين احتشد الناس ضده، ورأوا عبر الإنترنت العالمَ الكبير الذي يتخطى حدود بلادهم القصيّة البعيدة من عصري النهضة والتنوير. تماماً كما دفع والده ثَمَن هَوسه بِطرد الأميركيين من العالم العربي غالياً أيضاً حين تجاهل الجميع، وحوصر اقتصادياً ليدمّر البلاد معه ويُفقرها ويَجعل من السوريين وحوشاً يصارعون لأجل البقاء.
إلا أن الاثنين أجادا الاستفادة من حماقتهما كديكتاتوريين. استخدم الأب حصارَ العالم له دليلاً على صحة ما يصبو إليه، والثاني صدع الرؤوس بأن الإرهاب يضرب بلاده، وظلَّ يعمل من تحت الطاولة على إخراج كل من هو قادر على تصدّر شيء من المشهد القاتم المقبل، ومنهم قادة المعارضة، دعاة السلاح، دعاة الأسلمة، المثقفون العاطفيّون. جميعهم أخرجهم الأسد الابن من السجن بعد سنوات من الهندسة السيكولوجية القائمة على قهر النفوس وإذلالها.
قيل إن ردَّ الفعل المتوحش للثورة كان لا بد منه تجاه الوحوش أمثال الأسد وغيره، والحقيقة أن رد الفعل المتوحش ذاك غاية في الهمجية، وموغل حتى حَلْقه في الغوغائية، وينمّ عن إحباط أزلي، عدمي، لا يهدف إلى شيء، سوى مجرّد التعبير بطريقة ما عن الألم، جراء اجتراع الذل والجهل والقمع والقهر والاستبداد والاضطهاد. لم يكن السوريون يعرفون حتى المطالبة بحقوقهم، ولا وسائل نيلها، كان شعارهم كوصيّة والدتي (اللي يضربك… اضربه). هذا منطق التجار الخاسرين أمام الجميع، والفائزين أمام زوجاتهم وأمّهاتهم فقط. العاطفة المشوبة، والأحاسيس المتّقدة التي كنا نرى نموذجها على وجوه معارضي الأسد المسلّحين وغيرهم، ظهرت جليّاً أنها لم تكن شيئاً في سبيل تحقيق الانتصار.
تبلور الإرهاب بصورته التي رأيناها وبرّر وجودَه السوريون أولاً، شعبيّاً في التظاهرات المنقسمة بين رايات سوريا ما قبل البعث، والرايات الدينية السود، وسياسياً على مستويي الإخوان بُملحقاتها السلفيّة الجهاديّة، والرديف المثقف العاطفي المسكين… في الوقت الذي كانت فيه الجماعات الإسلامية بأطيافها تمتلك ما تعتقد أنه أدلة قرآنية وليست ألغازاً على مشروعيّة عملها وصحّته المُطلقة، خَلص المثقفون روّاد وحُكماء الثورة بنتيجة يُعتقد بأن لها صلة بعلم الاجتماع تقول: شعب مسلم، كيف له أن يحمل السلاح من دون أن يفكّر بالحوريات والجنة؟. هذا كله بمباركة ودعم قطريين.
راح سياسيو المعارضة ممن كانوا في السجن يبرّرون خارجه التعاون مع الإسلاميين شركائهم المنبوذين من قبل السلطة، والتعاون حتى مع “القرود الزرق” لإسقاط النظام كمطلب جوهري لا حِياد عنه، إلا أن الجميع في نهاية المطاف سقط في الفوضى.
في ظل وجود مجتمع مدني يعاني من الهشاشة، لم يكن غريباً أن يحدث ما حدث، وأن يدخل مواطنو الأنظمة الفاسدة وتلك التي سقطت أو كانت آيلة إلى السقوط، لم يكن غريباً أن تدخل في فترات طويلة من الاختلاج والتضخّم والانقباض الفوضوي. للأسف لم تكن تدور تلك الحالة الفوضوية في فلك بناء دولة جديدة، إنما تكوين ثقافات ومفاهيم وتعاريف سياسية واجتماعية جديدة.
حُيِّد الأكراد، حُيّدت الأقليّات الدينية، ما الخيارات التي كانت متاحة أمام معارض للنظام ينتمي لدين غير الإسلام؟ ألم يكن ظاهراً أن أي حلّ مسلّح هو بالنسبة إليه خطوة انتحارية؟ هل كان فيديو بُث من سوريا لاشتباك مسلّح يخلو من تقديم الأولويّة الدينية؟ دفعت الأقليات باتجاه الأسد خوفاً من التعريف الهويّاتي الضيّق، مفاضِلَةً بين شكلين من أشكال الخوف. كان الأول طمأنة الأكثرية قبل أن تفقد صوابها وتبطش بنفسها وبمن حولها. في أي حال تم احتكار الحراك ضد النظام السوري لمصلحة المكوّن العربي السنّي خصوصاً، واستفادت الجماعات الإسلامية من ذلك حتى الرمق الأخير. كان بشار الأسد وغيره من الديكتاتوريين يمثلون بالنسبة إلى الإسلاميين فشل القوانين الوضعية برمّتها، لذلك كان الحل الإسلامي، ولطالما سمعْت: “جرّبنا العلمانية (يقصدون بشار الأسد) نريد خلافة على منهاج النبوة”!
من انضمّوا إلى بشار الأسد قالوا إنهم لا يريدون ديناً (متشدداً) كما في السعودية، واعتبروا أن بلادهم علمانية تفصل الدين عن الدولة. ومن عارضوه بالسلاح أرادوا ما هو أسوأ من النظامين الإيراني والسعودي.
ألغت الجماعات الإسلامية الطابع العفويّ لثورة المسلمين الفقراء الذين أرادوا دولة تحميهم وتحترمهم وتعطيهم حقوقهم، وجيّرتهم لمصلحة حكم إسلامي مُختَرع بدائي قَبَلي تقتصر قوانينه الاقتصادية على الجباية والغزو.
هبطوا إلى الشعارات الطائفية، فبرّروا للجميع مشروعيّة العودة بالزمان إلى الوراء، أعمق فأعمق، والانغلاق داخل الدائرة الضيقة. صار الجميع طائفياً يحاول الدفاع عن نفسه ضد ابن الطائفة الأخرى، ثم يلوم وسائل الإعلام التابعة لأنها لم تُجِدْ تقديم صورة الإسلام الصحيح، أي إسلام صحيح هذا؟
تسأل هذه الأسئلة فتأتي الإجابة بحديث محمّدي: من آذى ذمّياً (صاحب ديانة أخرى) فقد آذاني، و«من آذى ذمياً فقد آذنته بالحرب»، يقولون إننا لا نؤذي المخالفين لنا دينياً لأننا بذلك نؤذي النبي… لا وقائع ملموسة على الأرض السورية اليوم إلا البؤس، وغياب صورة الإسلام “الصحيح”، الذي لا يعرفُ أحدٌ ما في العالم شكله.
إلى ذلك، حصروا التمويل، احتَكَروا العمل العسكري، عَقدوا صفقات مع “حزب الله” والنظام وإيران لإجراء تغييرات ديموغرافية في سوريا على أساس طائفي. كان “حزب الله” يريد كفريا والفوعة والزبداني ونبل والزهراء، وكانت تركيا تريد السوريين التركمان الموجودين شمال حمص، والمعارضة سنّة حي الوعر في حمص. حوّلوا المشروع الوطني إلى إمارة، «إمارة في إدلب ثم نذهب لنحرر العالم». حَصروا نفسهم في مكان ليحاربوا العالم، فجاءَ العالمُ إليهم ليحاربهم، ثم قالوا: أعداء الدين لا يحبّون عقيدتنا!
لم يكن هذا المشروع قادراً على خلق حالة سياسية، ولن يكون أبداً. لا حالة سياسية من دون شراكة، لكن، أين الشراكة في معاداة العلوية، الشيعة، الأكراد، العلمانيين، الملحدين؟ خاطَبوا الجميع أن “لا مكان لكم في سوريا، اذهبوا إلى بلاد على شاكلتكم”. هَددوا بالقتل، وقدّموا أنفسهم بطريقة مثالية جداً من منظور النص القرآني المتضارب والمتناقض وغير المجدي.
كانت الوطنيّة بالنسبة إلى الإسلاميين تعني ضرب الحدود الجغرافية إلى ما قبل سايكس بيكو نظرياً، إلى ما بعد سايكس بيكو عملياً، كالثورة الإسلامية في إيران، الثورة العابرة للحدود، كسيد قطب، كبقيّة القوميين الدينيين وغيرهم.
في النهاية، قالوا إن بشار الأسد باعَ البلاد لإيران وروسيا، ولا يملك من الأمر شيئاً، أي أنهم من يملك. ارتهنوا لمشاريع قطر والسعودية وتركيا، انتصرَ الجميع بمن فيه بشار الأسد، وخسروا هم… لدرجة أن أحداً منهم لم يجرؤ على القول: قدّرَ الله وما شاء فعَل! وكأنهم يثقون تماماً بأن «الله» هو شيء أشبه بالحظ، وأن النشرة الجويّة أصدق من وعوده.
لقد أجاد الديكتاتور السوري استخدام أعدائه وحلفائه في العمق، أشعلَ الحرب الأهليّة، أعانته على شنّها الديكتاتورية الثالثة، بعد العسكرية الشمولية، والدينية الكهنوتيّة، ديكتاتورية الشعب بأعرافه وعقيدته الجمعيّة، وبفزعاته الغوغائية، الشعب الذي يَسْهل شحنه وتعبئته وقت اللزوم بين المساجد ومراكز التجنيد الإجباري.
أصابت الحرب السورية السياسيين الغربيين بالحيرة، شددوا في البداية على أن الأسد شرير، لكن اتضح لهم في ما بعد أن أعداءه أكثر شراً منه وأكثر فظاظة، وهكذا سمعنا كاميرون وهو يقول: «المسألة المعروضة أمام المجلس اليوم هي كيفية حماية الشعب البريطاني من تهديد جماعة داعش… مسألة محاربة الإرهاب محسومة، لكن القضية هي: ما هي أفضل الطرائق لذلك؟». وهكذا قررت أميركا وبريطانيا وفرنسا استهداف التهديد الإرهابي لأرضها وشعوبها، وتَرْك الأسدِ وشأنَه.
انتصرَ الأسد، على رغم الدموع، والآلام، وصرخات الاستغاثة والنداء، والصلوات، والسجدات، والرمضانات، وليالي القدر، وأدعية آناء الليل وأطراف النهار… لعلّ «الله إذا أحبَّ عبداً ابتلاه» ببشار الأسد، بالسيسي، بسيد قطب، جمال عبد الناصر، بالسادات، بالظواهري، ببن لادن، بـ”حزب البعث”، بحافظ الأسد، بالطليعة المقاتلة، بالإخوان، بحركة “حماس”، بـ”حزب الله”، بالطائفيين، بالإقصائيين، بقطر، بالسعودية، بإيران، بالإمارات، بتركيا، بداعمي الأسلمة وداعمي العسكر، وبالحمقى الذين لم يعتادوا الحياة ولم يألفوها.
درج