الإسلاميون والعلمانية والعسكر/ عمار ديوب
فتحت عدة أحداث ومستجدّات، في العالم العربي والمنطقة، النقاش العربي مجدّداً بشأن الإسلام السياسي والعلمانية والعسكر؛ فقد تم منع الرعاية الطبية عن الرئيس المنتخب محمد مرسي، ما أدّى إلى موته التراجيدي في المحكمة، وأمام القضاء غير العادل، وأعيدت الانتخابات في إسطنبول، ووقفت التيارات المتشدّدة من الإسلاميين السودانيين مع المجلس العسكري وضد الثورة “العلمانية”، كل ذلك حرّك الخلافات المستحكمة بين الأطراف الثلاثة، وتحديداً بين العلمانيين والإسلاميين، حيث هناك ما يشبه الاتفاق على أن العسكر، أيَّ عسكر، يجب أن يعودوا إلى ثكناتهم، بمن فيهم عسكر الجزائر، وألّا يكون لهم أي دورٍ سياسيٍّ مباشر في تاريخ المنطقة بعد الآن. وتتناقض ملاحظتنا السابقة مع التوجهين، الأميركي والروسي، في تأييد الأنظمة العسكرية، ومنها نظاما عبد الفتاح السيسي في مصر وخليفة حفتر في ليبيا، وبدرجة ما المجلس العسكري السوداني؛ وعكس ذلك هناك إجماعٌ سياسيٌّ عربي، ورغبة شعبية عارمة في إقامة حاجز بحجم “سور الصين العظيم” بين العسكر والسياسة، وتحديد وظيفة العسكر في حماية المجتمع والدولة والنظام الديمقراطي، كما هو الحال في الدول الأوروبية تحديدا.
إذا رغبنا في وضع القضية في سياقها التاريخي، فإن سؤال العلاقة بين الإسلاميين وعلاقتهم بالديمقراطية بدأ يتعمق منذ الثورة الإيرانية، وطُرحَ بقوةٍ بعد فشل التنمية في الستينيات من القرن المنصرم، وتشكيل الدولة الأمنية العربية (مصر، سورية، الجزائر، ليبيا، العراق). وضمن ذلك يمكن إضافة السعودية، بأيديولوجيتها الوهابية والسلفية، والردّة الأصوليّة بعد نكسة حزيران، وبسبب تلك الدولة الأمنية. تتالي الانهيارات العربية، وتعملق الدولة المُشار إليها، وتقدم الإسلاميين، جعل السؤال السابق بشأن علاقة الإسلاميين بالديمقراطية أحد أسئلة السياسة العربية والعالمية. إذاً، هناك انبعاث للصراع على الأساس الديني، وهذا يتعلق بإخفاق كل من الطبقات البرجوازية والعمالية (وضمن ذلك القوى الاشتراكية) وسواهما في تقديم بديلٍ حقيقيٍّ أمام الشعوب، وبالتالي أدارت الطبقات البرجوازية أزمتها، عبر إعادة تسييس الدين والهويات، وتلاقى ذلك مع وجود قوى سياسية ومثقفين دينيين، ساعين إلى دخول صراعٍ كهذا. هنا لا يمكن تجاهل خطورة التوظيف الأميركي للإسلاميين في المعارك ضد السوفييت “الملحدين” في أفغانستان في ثمانينيات القرن السابق، وتشكيل إسرائيل مشروعا صهيونيا يستند إلى الديانة اليهودية. ومنذ بداية ظهور الصهيونية ومشروعها في العالم العربي مع بداية القرن العشرين، لتبدو الصراعات المجتمعية في منطقتنا كأنها دينية بين اليهود والمسلمين والمسيحيين، إذاً هناك أكثر من حدثٍ مفصليٍّ جديدٍ وقديم سياسي، يدفع نحو ذلك التساؤل.
عزّز ذلك السؤال ما جرى بعد ثورات 2011، وبروز دور للإسلاميين فيها في كل من تونس ومصر، وكذلك في ليبيا وسورية، ومع تتالي السنوات، اتضحت خطورة دور إيران “الشيعية”، السابق والجديد، في العراق واليمن وسورية ولبنان وسواها. إذاً هناك قضية تسييس الأديان، وإظهار الصراعات في المنطقة، وهي ثوراتٌ متعدّدة الأسباب، وشعبية بالدرجة الأولى ضد أنظمة مستبدة بصيغة صراعات طائفية أو صراعات سلفيين وجهاديين ضد الأنظمة. وهذا ساعد على تحوّل الصراع إلى حرب أهلية وطائفية وتدميرية للمجتمعات، وكبّل التحول الديمقراطي بألف عقدةٍ وعقدة، ولنلاحظ وضع العراق ولبنان واليمن وسورية مثلاً. وشكّل اشتراك الإسلاميين في تونس وفي مصر، وسهولة سقوط الأنظمة صدمة للمجتمع، فكيف سيتم التعامل مع الإسلاميين من ناحية، وكيف ستتم مواجهة النظام القديم، الذي لم يتغير إلّا رأسه (حسني مبارك وزين العابدين بن علي). فوجئ الجميع بهذه القضية، ومنهم الإسلاميون أنفسهم؛ حيث قوة الإسلاميين ورغبة الليبراليين والعلمانيين في الانتقال الديمقراطي. وعلى الرغم من تخوف كل الأطراف من بعضها، فقد اتّجهوا في “التجريب الديمقراطي”، وتلاقى هذا مع رغبةٍ أميركية وأوروبية نحو إشراك الإسلام “المعتدل” في السياسة، ولاحقاً غيّروا هذا الدور، وأيّدوا العسكر مجدّداً، وربما هي لعبة سياسية، فرضتها قوة الثورات، وإجبار الدول العظمى في الاعتراف بالواقع الجديد، ريثما يتم مسك الأوضاع ومنعها من التطور الثوري.
في هذه النقطة “انتصار الثورات وسقوط الرؤساء”، تبيّن أنه ليس لدى تونس ومصر مرجعيات ثابتة للانطلاق منها، أو لنقل إن الدساتير السابقة كانت قاصرة وتتناسب مع أنظمة الدولة الأمنية السابقة والرؤساء الخالدين؛ وطُرحَ موضوع الدستور، والعلاقة بين مختلف القوى السياسية، وكيفية إدارة العملية الديمقراطية، وهو ما لم يستطع الإخوان المسلمون في مصر إدارته بشكلٍ يؤدي إلى تعميق الديمقراطية، واستيعاب كل أطراف العملية السياسية الثورية، وساعد ذلك كله النظام القديم ممثلاً بالجيش، لينقلب على العملية ويُنهي الديمقراطية. تونس لم يتقدّم بها هذا الخيار، ولكن النظام القديم استطاع العودة، وهو يتقاسم الحكم مع الإسلاميين بالتحديد، وكذلك تشترك قوى أخرى في العملية السياسية، وإنْ بتمثيلٍ أقل، ويتعلق الأمر بضعفها هي! والسؤال هل استطاع الإسلاميون أن يكونوا ديمقراطيين؟ وقبالة ذلك، هل استطاعت بقية القوى السياسية استيعاب الآخرين، وإنجاح العملية الديمقراطية؟ يقول واقع الحال إن هناك خلافات كبيرة بين هذه الأطراف، وبسببها استطاع العسكر وقوى النظام القديم العودة وبقوّةٍ في الدولتين. وعدا هذا، يشير إلى غياب الرؤية الوطنية الثورية للمشكلات التي سببت الثورات وللعلاقة مع الآخر، وبالتالي يظل السؤال مطروحاً: كيف يمكن للإسلاميين والعلمانيين تقبّل الآخر، وكيف يمكن منع الجيش من الاستيلاء على النظام كما تمَّ في أكثر من دولة عربية؟
هناك عنصر يغيب عادة في النقاش، وهو رداءة الليبرالية العربية، حيث أيّدت نظام السيسي، وتصالحت مع بقايا نظام زين العابدين حينما عاد إلى الحكم، وبالتالي لم تظهر قوّةً طبقيةً وسياسيةً ديمقراطيةً، وغاب عن رؤيتها أي مشروع تاريخي يتعلق بكيفية النهوض بالدولة الحديثة؛ لقد اصطفت بكل بساطة وراء العسكر، بسبب رداءتها وضعفها وتأميناً لمصالحها ولإعادة التبعية للخارج. وبالطبع، بسبب سياسات الإسلام السياسي والخوف من تهميشهم مستقبلاً. إذاً هنا تعقيد في بنية القوى العلمانية والديمقراطية والإسلامية، باعتبارها قوىً سياسية من ناحية، وتمثل شرائح اجتماعية واقتصادية من ناحية أخرى، والتعقيد ينطلق من عدم فهم الأزمات المركبة لبلداننا، وغياب رؤية وطنية أو قومية أو حداثية للانتقال الديمقراطي العلماني. هل نحن بذلك نُحمّل الثورات ما لا تحتمله، ربما؛ فالثورات شعبية، وهي بسبب تراكم المظالم الاقتصادية والاجتماعية أولاً، وثانياً لم تستطع القوى السياسية المعارضة تمثيل تلك المظالم سياسياً، وتحقيق الانتقال الديمقراطي، وإنهاء المظالم الاجتماعية والاقتصادية للعاطلين من العمل.
لم تتعرض السطور السابقة لموضوع تركيا، وهو إحدى قضايا النقاش العربي قبل الثورات، وفي أثنائها. وبعد التطورات الأخيرة في هذا البلد، وتحديداً منذ محاولة “الانقلاب” العسكري في العام 2016، ضد حزب العدالة والتنمية، حيث راح الرئيس أردوغان بالتحديد، وجناحه في هذا الحزب، يتشدّدون سياسيّاً، وقُمعت الحريات، ومنها الصحافية، وتمَّ توسيع سلطات الرئيس، أي أردوغان ذاته، وهو ما لاقى رفضاً كبيراً من كل القوى السياسية، ومن أجنحة في حزب العدالة، ومن زعامات تاريخية له، وخرجت منه، وتوّج التشدّد بإعادة الانتخابات البلدية في مدينة إسطنبول بضغط من أردوغان نفسه، ولكنه فشل مجدّداً في السيطرة على هذه المدينة. أي إن كل ممارسات أردوغان وحزبه دفعت إلى القول عن خلافة إسلامية قادمة، وعن السلطان العثماني، وموت الديمقراطية وسواه، وأن ذلك كله تبيّن أنّ تضخيمه غير سليم، وتعتوره المبالغات الكبيرة. الحقيقة أن أردوغان لم يستطع تمرير تعديلاته الدستورية والسياسية بسلاسة وسهولة، وقلنا إن أجنحة من تنظيمه خرجت منه، وبالتالي شكّلَ تجذّر العلمانية والديمقراطية في هذا البلد فسحةً لكل القوى السياسية للتصارع على الحدود القصوى للتغيير؛ فلم يستطع أردوغان تغيير بنية الدولة، والأخيرة والقوى السياسية العلمانية انتصرت عليه في معركة الديمقراطية والعلمانية. ولن أخوض في أن ذلك سيشكل بداية النهاية لأردوغان وحزبه، فهذا في علم الغيب والتنجيم. وإنما قصدت أن لا خيار آخر في الوقت الحالي غير الدولة العلمانية الديمقراطية، وبشكلٍ لا يُعادي الدين، ويمنع كل توظيف سياسي له، ويسمح له بالوقت ذاته المشاركة في العملية السياسية. إذاً السؤال التالي ناقصٌ: هل يمكن للإسلام السياسي أن يكون ديمقراطياً؟ الأدق هو: لماذا لم تتشكل الدولة الحديثة، والتي تستوعب كل القوى السياسية، وضمن ذلك الإسلاميون؟
لنعِد قراءة الفكرة جيداً، لم تسمح الدولة العثمانية مع أتاتورك، ومنذ بداية القرن العشرين، للإسلام السياسي بالتمثيل، بل ألغت الخلافة وعادت الدين، واضطهدت الإسلاميين بدرجة كبيرة؛ والأمر ذاته في إيران، ولاحقاً ظلَّ الأمر نفسه في الدول العربية مع كل القوى الإسلامية. في هذه النقطة، هناك آراء كثيرة، أهمها التي تنطلق من كيفية حدوث التحول التاريخي حينها، أي لماذا لم يُسمح بالإسلام السياسي في حينه؟ ربما حدوث ذلك ليس خاطئاً، كما أرى، بينما الخطأ يكمن في ضعف رؤية “برجوازية” ذلك القرن في صياغة مشروع تاريخي للنهوض المجتمعي والتقدّم التاريخي. حسمت هذه القضية (فصل الدين عن الدولة) في أوروبا، وأخفقت في بلداننا، ومن هنا كان السؤال الأساسي في عصر النهضة: لماذا تقدّم الغرب وتأخر الشرق؟ وما زال هذا السؤال مطروحاً، ولكنّه تعدّل جزئياً بسبب تعقد الأزمات، وما تتالى من تطوراتٍ كارثية وقرن كامل.
إذاً، هناك مشكلة تتجاوز الإسلاميين، وتتعلق بطبيعة الطبقة المسيطرة وضعف مشروعها التاريخي وسبب ذلك، وهذا أدى إلى غياب البعد الديمقراطي في كل القوى السياسية العربية والتركية والإيرانية؛ التاريخ انتقم لنفسه في إيران، وكانت الكارثة مع الثورة الإسلامية والتضحية بالديمقراطية وسحق القوى السياسية الأخرى، وما حدث بعد انتخابات 2009، من قمع وتضييق على الحريات، وكذلك بقمع تظاهرات 2018، وتكرّر الأمر في السودان مع عمر البشير وحسن الترابي في 1989 حيث الانقلاب على الديمقراطية، ولكن أيضاً لم تستطع القوى الليبرالية والماركسية والقومية تخطي ذلك، والانحياز الكامل للتحول الديمقراطي. وبالتالي، لا يصح الحديث عن فشلٍ يتعلق بالإسلاميين فقط، بل هناك فشل لكل القوى الطبقية والسياسية في الانتقال الديمقراطي، والحمد لله.
هناك حديث يقول برفض الإسلاميين الآخر، ولكل مستوى للدولة الحديثة، فهم ماضويون، وينطلقون من فهمهم الخاص للدين، وتوظيفه وبعثه ضمن منظورٍ يُعادي الآخر، ويبني دولةً إسلامية ما؛ ما ذكرته أعلاه، وعدم قدرة أردوغان على الانتصار يوضح قضية الضرورة في أن يكون دستور الدولة الحديثة علمانياً، وفي ضرورة الاعتراف بالآخر الإسلامي وغير الإسلامي. وضمن ذلك، يكون النقد شاملاً لكل رؤيةٍ تناقض الدولة العلمانية، أو تمنع حق الإسلاميين والدينيين في السياسة. ولكن أليست هذه الرؤية طوباوية ومثالية، وتتناقض مع محاولة الإسلاميين الاستيلاء على الحكم في ايران والسودان ومصر (وإن كان بعد عملية انتخابية وديمقراطية)، نقول نعم، ولكن أيضاَ، جرّبت هذه القوى كلّها العملية الديمقراطية، واشتركت فيها. وبغض النظر عما يقال إنها تريد الديمقراطية الانتخابية، أو لمرة واحدة، فإن كل تجارب ما بعد 2011 توضح أن تغييب هذه القوى غير ممكن، كما أن تغييب غير الإسلاميين غير ممكن، والأمر نفسه في تركيا وإيران، وفي الأخيرة هناك رفض شعبي وسياسي كبير لكل ما يخص ولاية الفقيه والحرس الثوري والأسلمة.
يقود التحليل أعلاه إلى بعض الاستنتاجات: أولاً، يجب الإقرار، ومن كل القوى السياسية بأن الديمقراطية والتعددية والمواطنة، وفصل الدين عن الدولة، قضايا لا يمكن اللعب فيها، وبالتالي ضرورة الإقرار بالديمقراطية شكلا للحكم، وتتمثل فيها كل القوى السياسية المؤمنة بما ذكر أعلاه. ثانياً، إقرار وثائق ذات طبيعية دستورية، تؤكد الفصل بين المؤسستين، العسكرية والسياسية، ورفض كل نص دستور أو قانون يناقض ذلك، أو يسمح بذلك، وأن يتحدّد دور الجيش في حماية الدولة من التعدّيات الخارجية والعملية الديمقراطية، ويكون ذلك عبر السلطة المدنية، وما ترتئيه من مواقف وخيارات. ثالثاً، أن يكون النظام السياسي برلمانياً وليس رئاسياً، بحيث يمنع حصول الرؤساء، وكائنا من كانوا حيازة سلطاتٍ واسعة، فالسلطة للقضاء ولمجلس الوزراء وللبرلمان وللصحافة. ورابعاً، ضرورة رفض كل مشاريع الأسلمة وسواها من خارج البلاد، وهو ما فعلته الدول الإقليمية في بلداننا، وكان تدخّلهم كارثياً بكل المقاييس. وفي الوقت نفسه، أن يكون الإسلام السياسي وكل قوة سياسيّة وطنيةً بامتياز.
فكرة أخيرة، كل النقاشات التي تجري بخصوص الأطراف الثلاثة أعلاه، وتتجاهل دور الطبقات الاجتماعية ومواقفها وممكناتها ومشاريعها ومصالحها، تخفق في فهم كيفية الخروج من الصراع بينها، وفي تمثيل مصالح تلك الطبقات، وتدفع الأخيرة إلى الثورات الشعبية مجدّداً. حالة الانهيار الاقتصادي في الدول المناقشة أعلاه، والمتعلقة بانهيار اقتصادي عالمي، سببتها العولمة والسياسات الليبرالية الجديدة، هي أصل النقاش والثورات، وهي ما تُعطي لكل طرف من الأطراف الثلاثة قوة مجتمعية صلبة، فهل تتمكّن هذه الأطراف من استيعاب ضرورة التحوّل الديمقراطي، وتتخلص من العقلية الأحادية والاحتكارية، وتضمن مصالحها؟ أخفق العسكر، وأخفق الإسلاميون، وأخفق العلمانيون، إذا لا خيار خارج ما ذُكر أعلاه.
العربي الجديد