ضد الأبد… موت الإله، موت القائد، موت الأب/ عمار المأمون
احتكرت المفاهيم الثلاثة السابقة “الإله، القائد، الأب” الأبدية، هي القادرة على التحرّك فوق الزمن، ونفي الآن وهنا، على حساب الماضي، الكامل، الوحيد الذي ترك أثراً على العالم بوصفه ثورياً، والنقطة التي تكوّن فيها “المثال”، وكل ما بعده انهيار ومحاولة لمطابقة المتخيل. موت الثلاثة السابقين يعني الانعتاق من عقم الأبد، وانتهاء الحرب ضد المستقبل، المتغير، الذكور الثلاثة هم محرّكو الحروب، الذين يفترضون ضمناً تفوّق جماعةٍ على أخرى، يتجلى ما سبق في شخص دراكولا، القائد العسكري، الأب العقيم الذي لا ينجب، والإله الخالد الذي لا انعكاس له على المرآة، هو الرعب الحاضر دوماً الذي يهدّد الآن، والساعي دوماً لاستعادة مجدٍ قديم، أبديةٍ يتربع عليها شاباً لا يشيخ.
هذه الأفاتارات التي تجتمع في شخص دراكولا المتخيل تحولت إلى سلطاتٍ ومؤسسات، ليست ذات أثر ثقافي ومادي ملموس فقط، بل وتمارس هيمنة على شكل العالم وعلى الأخلاق التي يحملها الناس وينتجونها، جماعات بشرية عقيمة تمارس دور الشرطة على “الجديد” و”المختلف” و”المغاير” انتصاراً للأبدي المتخيّل، تمنع وتحرم وتعتقل وتقتل، توظف الرعب والإفناء انتصاراً لسكون الأبدية، حيث لا حركة ولا تغيير، مجرد تمجيد سرمدي للثلاثة السابقين.
ما سبق تأويل رومانسي، مشابه لتلك للعبارات التي أطلقها فريدريك نيتشة، وفيودو ديستويفسكي وألبير كامو، وقائمة كبيرة من الأسماء التي بالإمكان تعدادها، لكن لابد من الإشارة لهيمنة “الأبد” وأداته” الرعب” بمواجهة “حرية الموت” و “الحياة الآن”، ولا نقصد هنا الكتابة عن الأعمال الأدبية، بل تلك الجهود السياسية والثقافية التي تُبذل للحفاظ على سطوة الأبد وهيمنته، تلك التي لا تسمح بزحزحة الماضي كونه مثالياً، مكتملاً، مرعباً، وفي ذات الوقت، وبالاستعارة من العقيدة الإسلامية، “قديماً”.
المشكلة في التعامل مع الكتابة عن الأبد هي اللغة نفسها، التي تنزاح نحو شعريةٍ لامتناهية، محاولات التوصيف والتحليل تبدو هشة أمام اللانهائي، لتبدو المحاولات التي تسعى لترتيب الأفكار “منطقياً” أو بصورةٍ مقنعةٍ مبتذلةً أو مجرد ترديدٍ لعباراتٍ سابقة وألعاب لغوية، لأن هذا التسلسل أو المنطق ينهار أمام “الأبد” كمفهومٍ مفتوحٍ على التصنيف لا يمكن ضبطه، قائمة لا متناهية تلك التي تحاول الإحاطة بالأبد، قائمة لا نهائية، وتبدو دوماً هشّة وغير مقنعة لأن الأبد فوق التصنيف، وفي ذات الوقت واحد من قرائنه، هذه المشكلة اللغوية يشير لها دانيل هيلر روزن في كتابه “طريق لا أحد: مقالة في التسمية اللامتناهية” حين يتحدث عن مفهوم “لا أحد”، المتكرّر إلى ما لا نهاية، الأبدي الذي قد يودي بالهلاك إذا حاول أحد البحث عنه ،كحالة السايكلوبس الذي جنّ لأن “لا أحد” فقأ عينه، ولا أحد هنا، كانت خدعة أوديسيوس الذي انتقى هذا الوسم لذاته ليوقع أصحاب السايكلوبس في حيرة، فالأبد كاللا أحد ، سلاح يفقد البصر إن تبناه صاحبه.
موت الإله: تلك الأخلاق المثيرة للشفقة
نحن بحاجة للموت، هو محرك للذّة المجهول، فالإله الذي لا يموت، إله عقيم لا يتلذذ، أنهى بناء العالم و”استوى”، ونحن دوماً مذنبون أمامه، لأن مملكته مستحيلة التحقيق، وهو المسؤول شخصياً عن بنائها إن أراد، هو يحرّك العالم ويحضر فيه دون نهاية.
سرمدية الإله تعني لا نهائية أخلاقه وحياته فينا، هو حاكم سياسي لا يجوز المساس بأبديّته، رؤيته تتسلل إلى أي نظام حكم وترسّخ اللامساواة، لأنه بالأصل صاحب ادّعاء أحسن تقويم، لكن، هناك سايبورغ نيل هاربيسون، الذي وضع حسّاساً متصلاً بدماغه ليرى الألوان عبر الموسيقا، هناك استنساخ، أبسط من ذلك، بنسلين، أخلاق الإله تتناقض مع شكل العصر، سواء نتحدث عن خرابه أو ازدهاره، والأهم أن سرمدية الإله تنفي تهديد الحوادث الكبرى العلمية، كالقنبلة النووية والتلوث البيئي، هي تعمي الضحايا عن حقيقة أن هذه “الحوادث” إن وقعت، فهي ليست كطوفانات الإله وخسف للأرض، لا حياة من بعدها، مجرد موت مستمر.
أولئك الذين يتجاهلون ما يحصل، الأخلاقيون جداً، المؤمنون جداً، اللامبالون بـ”الآن” على حساب ذاك المستقبل المتخيل، المستكينون، المثيرون للشفقة، المتواضعون، الذين يؤمنون بحرمة الخروج على الحاكم، وفي لحظة الانهيار، يعضّون على جذع شجرة، أولئك الداعون للعيش المؤجل، الذين يتمرنون يومياً لنيل المستقبل المستحيل، أولئك بدقة هم الأساس الذي تقوم عليه السلطة، تلك التي لا تطرح سؤالاً عن المستقبل/ الغيب، وتنتج ما هو قائم نظاماً وأخلاقاً.
موت القائد: لا فداء لأحد
أغلبنا في المنطقة العربية يعيش تحت سطوة قادة أبديين، لا يموتون، الروائي الجزائري أمين الزاوي كتب رسالة للرئيس الجزائري المخلوع عبد العزيز بوتفليقة جاء فيها: “الرئيس ليس نبياً، وليس خالداً حتى وإن تم التستر على موته لمدة عهدة كاملة، مهما كان شكل الموت هذا، من حق الرئيس أن يموت براحة، ومن حق الأجيال الجديدة أن تقود وأن تقول كلمتها في تسيير شأن بلدها”
من حق الرئيس الموت جسداً، ومن حقنا أن يموت شخصه، حياة القائد السرمدية سببها أن السيادة تتمثل في جسده وصورته، كلماته هي الأدائية التي تترك أثراً في العالم، لكن في الكثير من الأحيان، هي مجرد “شعر” لا جدية، هزائم متتالية كحالة عبد الناصر الذي تحول إلى أضحوكة، من حقنا قتله، والمطالبة بحق التأثير في العالم الذي يحتكره.
نحن لا نتساوى مع القائد الأبدي، لأنه صمم الدولة والقانون ليكون فوقهما، يشترك مع الوحش والإنسان الذئب بأنه فوق النظام وضمنه، هو من يعطّله وينتجه في ذات الوقت، ينفي المستقبل لأنه عقيم ، أبدي، سوريا ستنهار بدون بشار الأسد، السيسي مخلص مصر، والبعض من المؤمنين بأبديّتهم ضباط للنظام العام، ورحيل واحد منهم يعني الخراب. لن نتحول إلى وحوش في ظل غياب القائد، بل بشر يريدون متابعة حياتهم.
أبدية القائد ترتبط بالرعب الذي يبثه، اسمه يُحيي سطوة العنف المستمرة في الزمن، المجازر والقبور الجماعية حاضرة دوماً، علامات محفورة في المكان، علنية كالدمار في سوريا، وأخرى خفية بانتظار أن تكشف، كالمقبرة الجماعية التي اكتشفت مؤخراً لمجزرة ارتكبها صدام حسين، هنا بالضبط تظهر الأبدية، هو يعلق حيوات الكثيرين دون جواب، لا موت ولا حياة، مجرد أبد سرمدي اختطف حتى أسماء من في القبور.
الطرقات التي شُقّت باسم القائد، التماثيل، الكتل البشرية التي أعيد توزيعها جغرافياً باسم القائد لتمارس العنف، هي كلها علامات على الأبد، أشبه بالاستعمار، أو عضّة دراكولا التي لا فكاك منها.
موت الأب: لا للأسرة النووية
يحرك الأب بصورته التقليدية الجهاز النفسي والاقتصادي للأسرة، وما زال التقليد الذي يرسّخ أبديته قائم، لابد من موت الأب، تقليدا وفكرة، لنفي تكرار دوره، لأن خلوده يعني ترسيخ تقسيم العالم، المشابه لتقسيم أسرته، ذاك البناء الثقافي المهيمن، إذ يوظف الأب تهديدات الحياة لضبط أسرته، المال والطعام، في ذات الوقت الرعب من غضبه، لابد من تفكيك الأسرة النووية وتقسيمات الأدوار ضمنها، والتحرّر من أخلاق الأب.
رصيف 22