رحلة شيوعي صغير/ راتب شعبو
حين دخل المثقف الماركسي ميدان النضال السياسي عاش توتراً وغربة بسبب انتمائه إلى طبقة ينبذها الفكر الذي يحمله، ويسميها البرجوازية الصغيرة، ويصفها بأنها ضيّقة الأفق وقلقة ومتذبذبة ولديها استعداد أصيل للخيانة، ويعتبرها مصدراً للأمراض السياسية.
التنافر بين موقعه الطبقي المستحكم الذي لا يستطيع، أو لا يريد، الخروج منه، وبين صورة هذا الموقع الطبقي في الفكر الذي يؤمن به، كان يولّد فيه اغتراباً وشعوراً بالنقص لا يمكن تجاوزه. إنه ينتمي إلى طبقة محتقرة في فكر طبقة أخرى لا ينتمي إليها ولكنه يراها نبيلة ومخلصة وصانعة للخيرات وسوف تحرّر البشرية ما إن تحقق ثورتها.
الثورية، والحال هذه، تتناسب مع مدى ابتعاد الشيوعي الصغير عن ذاته، ومع مقدار “خيانته” مصالح طبقته واقترابه أكثر من مصالح الطبقة العاملة، “الطبقة الثورية إلى النهاية”. يسهب هذا الشيوعي في كشف الشرور السياسية للبرجوازية الصغيرة، ويجد نفسه مخلصاً لفكره الثوري أكثر، كلّما تنصّل من انتمائه الطبقي أكثر. نجاحه في التماهي مع مشروعه السياسي الثوري الذي يكرس نفسه له، يتحقق أكثر كلما كان شديداً أكثر ضد نفسه التي تعكس كل تناقضات وقصورات الموقع الطبقي البرجوازي الصغير الذي هو فيه. غير أن هذا التوتر المقلق وجد حلّه النفسي حين اكتشف الشيوعي الصغير أن دوره الثوري يكمن في احتلال موقع الموجّه السياسي والفكري، في احتلال موقع القيادة، حيث تتحول الطبقة العاملة إلى جيش تقوده جنرالات برجوازية صغيرة مؤمنة بالطبقة العاملة.
في هذا المخرج النفسي، تغلّب الشيوعي الصغير على عيبه الطبقي، وصنع لذاته تفوقاً قيادياً، ووجد نفسه تقريباً في موقع الوعي من المادة. “أنا لست من الطبقة العاملة، ولا يمكنني أن أكون، أنا لست إذن جزءاً عضوياً من جسد الثورة البروليتارية القادمة ولست من قوتها الأصلية التي لا تقف عند حد، لكنني أملك الفكر الذي يحتاجه هذا الجسد لكي يثور ويتحرّر ويحرّر المجتمع. أملك القدرة على زرع الوعي الثوري وتحريض هذا الجسد الراكد. وأملك القدرة على قيادته”.
في معظم الحالات، كان الجنرال البرجوازي الصغير يقود ويرسم الخطط لجيوش مفترضة، جيوش ثورية تصغي له وتقدّر دوره، ويعلو هتافها المؤيد في هدير لا يسمعه إلا الجنرال نفسه الذي أنكر ذاته الطبقية لكي ينتصر لذات طبقية أخرى سوف تحرّر المجتمع. لا مثال لنكران الذات يتفوق على مثال البرجوازي الصغير الذي يكرّس نفسه في خدمة السيطرة التامة لطبقة أخرى، ديكتاتورية البروليتاريا.
بعد حين، خابت ديكتاتورية البروليتاريا ثم خبت، وخسر الشيوعي الصغير، معارك خاضها بنفسه دون جيشه الموعود، ووجد نفسه، في نهاية المطاف، معزولاً حتى عن جيوشه المفترضة.
تغير العالم، ليس كما كان يشتهي. سقطت جدران وارتفعت جدران. من فرح لسقوط جدار هنا، راح يبني جداراً آخر هناك. وحين كانت الجدران تبدل أماكنها، كان هو يحاول أن يوسع من فرجار رؤيته كي يجد لنفسه موقعاً ملائماً في العالم الجديد. اندلعت في وعيه ثورة ديكارتية، أسقطت كل المستبقات والأحكام والمواقف النفسية. أسقط من نفسه عداوات قديمة كانت راسخة رسوخ موقعه الطبقي ذاته، وصار قريباً من أعدائه التاريخيين حين رآهم “أداة التاريخ في تنفيذ غايته”، كما يقول.
فجأة وجد الشيوعي الصغير نفسه أمام ثورة في بلاده تشبه ما كان يحلم به، إلى حد ما، لكنها لم تسر على المسارات التي كان يتخيلها. قال في نفسه مرة، “للثورة أن تكون كما تشاء” وانتمى إلى الثورة. وقال في نفسه مرة أخرى، “إنها تشبه ثورة مضادة”، وانكفأ عنها ثم عاداها. وبدلاً من موقع الجنرال الذي كانه بالأمس، والذي كان يقيسه بمسطرة طبقية حساسة، ابتكر لنفسه، وقد تحرر من المعايير الطبقية، موقعاً شبيهاً بموقع القاضي الذي يحكم في الأشخاص والأفعال والسياسات وفي كل ما يجري في الواقع، فيبارك أو يلعن، يحتقر أو يستحسن، ويدافع بكل ما يستطيع عن أحكامه التي لا يختلف مفعولها عن مفعول خططه التي كان يرسمها في الأمس لجيوش موعودة.
* كاتب سوري
العربي الجديد