سورية أم سوريا.. جدل بين موضوعية المنهج وسياسية الغاية/ رسلان عامر
يتناول هذا المقال مسألة تسمية “سورية” أو “سوريا”، وصحة هذه الصيغة أو تلك، والغاية الرئيسة من الخوض في هذه المسألة هنا ليست معرفية مجردة، ولا تندرج في إطار الرمزية أو العاطفية الوطنيتين اللتين تتطلبان، أو تدفعان إلى، السعي لإدراك كل ما يتعلق بالوطن، فالاهتمام بهذه المسألة يأتي هنا من أهميتها السياسية، حيث ترتبط كل من صيغتي الاسم بموقف سياسي محدد، يرتبط بدوره بهوية سورية، كهوية عربية، أو هوية سورية بالمعنى القومي التقليدي، وهذا أمرٌ مهم اليوم، ليس من أجل اختيار هذه القومية أو تلك، بل من أجل مراجعة كل الثوابت الهشة التي تم تلقيننا إياها على مدى عقود كحقائق مقدسة، وتصحيح مكامن الخطل والخطر فيها، ومن أهمها “الهوية”، فالفهم الصحيح لقضية الهوية هو أحد أكثر المسائل حساسية وأهمية، للخروج من دائرة البؤس الشامل التي نغرق فيها، نحو مستقبل إنساني عصري حقيقي.
بهذا المعنى، يصبح لاسم الدولة أهمية معنوية أو رمزية، بذلك القدر من الأهمية الذي تأخذه مسائل مثل دين رئيس الدولة أو قوميتها أو المصدر الأساس للتشريع فيها، فرمزية هذه الأمور لا تنفصل عن واقعيتها، لأنها تعبّر عن طبيعة الدولة والنهج الذي ستسير عليه من حيث المبدأ، وتقوننهما.
يعود أقدم ذكر لاسم “سوريا” إلى القرن الثامن قبل الميلاد، في نقش ثنائي اللغة، يجمع الهيروغليفية اللوفية (Hieroglyphic Luwian) والفينيقية (Phoenician)، وقد ترجمت في هذا النقش كلمة “Sura/i” اللوفية إلى “آشوريا” (Assyria) بالفينيقية.
وبالنسبة إلى هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد، امتدت سوريا إلى نهر هاليس (قيزيل إرماك في تركيا حاليًا) شمالًا وجنوبًا حتى شبه الجزيرة العربية ومصر. أما هوميروس شاعر اليونان، فقد سمى سكان هذه المنطقة بالآراميين.
وتسمية “سوريا” هي صيغة عربية لتسمية “Syria” اللاتينية، المقابلة بدورها لتسمية “Συρία” (Suría) اليونانية القديمة، التي استخدمها هيرودوت بشكل فضفاض، للإشارة إلى كابادوكيا (Cappadocia).
في الاستخدام اليوناني، تم استخدام “Suría” (سوريا) و”Assuría” (آشوريا) بشكل مترادف تقريبًا، وكان اليونانيون يطلقون تسمية “السوريين” (Syrioi) من دون تمييز، على مختلف شعوب الشرق الأدنى الذين كانوا يعيشون تحت الحكم الآشوري، وفي الإمبراطورية الرومانية، أصبحت “سوريا” و”آشوريا” تستخدمان كمصطلحين جغرافيين متمايزين، فـ “سوريا” في مرحلة الإمبراطورية الرومانية صارت تشير إلى منطقة بلاد الشام الغربية، أي المنطقة الواقعة بين آسيا الصغرى ومصر، فيما كان إقليم أشورشتان (Asōristān) أو (Ašuristan) الذي يمتد من مدينة الموصل إلى حدياب، جزءًا من الإمبراطورية الساسانية، وخضع مدة وجيزة جدًا للسيطرة الرومانية بين عامي 116-118م، في ذروة التوسع الروماني.
من ناحية الاشتقاق، ترتبط تسمية “سوريا” بتسمية “آشوريا” التي تعود بدورها إلى الجذر الأكادي “آشور” (Aššur)، وقد كان المستشرق الألماني الكبير ثيودور نولدكه في عام 1881 أوّل من قدم الدعم اللغوي العلمي لفرضية أن سوريا وآشوريا هما من أصل واحد، وهذا ما كان قد اقترحه جون سيلدن عام 1617. وهذا الرأي هو المفضل في الأوساط العلمية اليوم.
تسمية “سوريا أو سوريَة” الحديثة للدولة السورية الراهنة موروثة من تسمية “Vilâyet-i Suriye” (ولاية سوريا) العثمانية، وكانت هذه الولاية قد أسست عام 1865، وربما يعكس اختيار الاسم اللاتيني القديم للمقاطعة العثمانية الوعي التاريخي المتزايد بين المثقفين المحليين في ذلك الوقت.
أما عربيًا، فقد وردت تسمية “سُورِيَة” بتخفيف الياء في (معجم البلدان) لياقوت الحموي و(معجم ما استعجم) للبكريّ الأندلسي، ويقول ياقوت: “سُورِيَة -بكسر الراء وياء مفتوحة غير مشدَّدة- موضع بالشام، بين خُنَاصرة وسَلَمْيَة، والعامة يسمّونه سوريّة بتشديد الياء. والذي في أخبار الفتوح يدلّ على أن سورية اسم للشام كله”.
ويقول البكري: “(سورية) بضمّ أوله، وكسر الراء المهملة، وتخفيف الياء أخت الواو وفتحها، اسمٌ للشام. قال القتبي: حدثني محمد بن عبيد، عن معاوية بن عمرو، عن ابن أبي إسحاق، عن صفوان، عن كعب أنه قال: إنَّ الله بارَكَ لدَوابِّ المُجاهدين في صِلِّيان أَرض الرُّوم، كما بارك لها في شعير سُوريَة؛ معناه أي يقومُ لخيلِهم مقامَ الشعير، وسُورية هي بالشام. قال معاوية بن عمرو: سورية: الشام. قال القتبي: وأنا أحسب أن هذا الاسم بالرومية”.
والحديث المروي عن كعب وارد أيضًا في (لسان العرب) لابن منظور. لكن الاسم العربي الأكثر استخدامًا للمنطقة هو “بلاد الشام” أو “الشام”، وقد سميت بذلك طيلة أيام الخلافة، وهذه التسمية تعني “أرض الشمال”، ذلك أن كلمة “شام” هي باللغة العربية الفصحى تخفيف لكلمة “شأم” التي تعني “الشمال”، و”الشؤمى” هي مؤنث “أشأم” في الاشتقاق، وضد “يمنى” في المعنى، ولذلك تسمى اليد اليسرى بـ “اليد الشؤمى”، وكانت الأرض الواقعة شمال غرب شبه جزيرة العرب تسمى بالشام، لوقوعها في جهة اليسار، بالنسبة إلى الحجاز، فيما سمّي اليمن بهذا الاسم، لوقوعه في الجهة اليمنى من الحجاز.
وبالمقابل، كان “بعل شامين” (Baalshamin)، الذي يعني اسمه “إله السماء” بالآرامية، يعبد عند الفينيقيين والكنعانيين وقدماء التدمريين، ما يعني أن “شام” في هذا الاسم تدل على “السماء”.
وتذكر روايات أخرى أن تسمية “شام” مأخوذة من الشخصية التوراتية سام بن نوح، الذي يلفظ اسمه بالسريانية (شام)، حيث تذكر بعض الأساطير أن سام بن نوح هو باني مدينة دمشق، التي تعرف أيضًا باسم “الشام” بين سكان بلاد الشام، وبناء على هذه الرواية؛ تأخذ تسمية “شام” معنى “أرض أبناء سام بن نوح”.
فيما يذهب البعض إلى أن تسمية “سوريا” هي يونانية الأصل، ولكنها تعود إلى مدينة “صور” الواقعة على سواحل المتوسط، والتي كان لقدماء الأغارقة علاقات تجارية مزدهرة معها.
وتذهب رواية ثالثة إلى أن التسمية تأتي من كلمة “سر” السريانية، التي تعني “سيّد” ومؤنثه “سارا” أي “سيدة”، وهكذا يصبح معني “سوريا” هو “الأرض السيدة أو أرض الأسياد أو الأشراف”، وقد حل هذا الاسم مكان تسمية “آرام” بعد انتشار المسيحية، حيث سعى المسيحيون السوريون إلى تمييز أنفسهم عن الوثنيين، فأطلقوا على أنفسهم تسمية “السريان” (أو السوريين) أي “الأشراف”، فيما بقيت تسمية “آراميين” مرتبطة بالوثنيين.
هذه الاختلافات حول أصل التسمية، لها أيضًا ما يماثلها على مستوى المدلول، حيث نجد اختلافات عديدة في حدود الأراضي التي كانت تشملها تسمية “سوريا”، سواء من الناحية الجغرافية أو السياسية.
وإضافة إلى ما ذُكر عن مدلول هذه التسمية الجغرافية، عند هيرودوت وقدماء الإغريق والرومان، نجد أن تسمية “سوريا” لم تظهر إلا في وقت متأخر من تاريخ السلطنة العثمانية، ففي بداية عهدهم، أبقى العثمانيون المنطقة التي كانت تمتد من شرق المتوسط إلى غرب الفرات، ومن شمال الصحراء العربية إلى جنوبي جبال طوروس، ضمن تقسيم إداري واحد، حمل اسم “إيالة دمشق” (Damascus Eyalet) التي أصبحت تعتبر محافظة في السلطنة العثمانية، لكنهم عام 1534 فصلوا حلب، وشكلوا فيها “إيالة حلب”، وفي عام 1579 تم فصل طرابلس عن دمشق وأحدثت فيها إيالة، ثم فصلت أضنة عن حلب أيضًا وأحدثت فيها إيالة، وفي عام 1660 تم إنشاء إيالة صفد التي سميت بعد مدة وجيزة بإيالة صيدا، وفي عام 1667، مُنحت إمارة جبل لبنان وضعًا خاصًا مستقلًا داخل محافظة (إيالة) صيدا، لكنها ألغيت في عام 1841 وأعيد تشكيلها في عام 1861 لتصبح “متصرفية جبل لبنان” ذات الحكم الذاتي، وفي عام 1864 صدر “قانون الولاية” (Vilayet Law) وتم تطبيقه في دمشق في عام 1865، وسميت المحافظة التي تم إصلاحها باسم “ولاية سوريا” (بالتركية العثمانية: ولايت سوريه، Vilâyet-i Suriye)، وفي عام 1872 فُصلت القدس عن ولاية سوريا وتم تحويلها إلى إدارة (سنجق) مستقلة ذات وضع خاص، وفي عام 1872 تم إنشاء منطقة إدارية جديدة مركزها في معان، ولكنها أغلقت في العام التالي، بسبب التكاليف الإدارية التي فاقت الإيرادات، وتلا ذلك تشكيل ولاية بيروت بعد فصلها عن ولاية سوريا في عام 1888، ثم أعيد في عام 1892 تشكيل متصرفية في معان، لينقل مركزها بعدها إلى الكرك عام 1895 في جنوب ولاية سوريا، واعتبارًا من عام 1897، تم تقسيم ولاية سوريا إلى أربع سناجق، هي: دمشق، حماة، حوران، والكرك، وبقيت دمشق عاصمة الولاية، وهذا يعني أن تسمية “سوريا” كانت محصورة بهذه “السناجق” الأربعة.
بعد الثورة العربية الكبرى عام 1916، تم تشكيل المملكة العربية السورية، بحدود نظرية ضمت تقريبًا كل الأراضي التي كانت تتبع ولاية دمشق في بداية الحكم العثماني، لكن اتفاقية سايكس بيكو قضت على هذه المملكة، وجزأتها، وقسمتها بين بريطانيا وفرنسا، وفي اتفاقية أنقرة عام 1921 أعطت فرنسا لتركيا كيليكيا والجزيرة الفراتية العليا، مقابل اعترافها بالانتداب الفرنسي على سوريا، ثم أعطتها لواء إسكندرون عام 1939 مقابل عدم دخولها في الحرب العلمية الثانية إلى جانب ألمانيا، أما بريطانيا فأصدرت وعد بلفور للصهاينة عام 1917، ومكنتهم من احتلال فلسطين وإنشاء الكيان الإسرائيلي، فيما تم تقسيم باقي سوريا إلى ثلاث دول هي سوريا الراهنة ولبنان والأردن.
أما في منظور “الحزب السوري القومي الاجتماعي” الذي أسسه أنطون سعادة عام 1932، فسوريا هي دولة “الأمة السورية” التي تشمل منطقة الهلال الخصيب، بما في ذلك الكويت، ويضاف إلى ذلك قبرص وشبه جزيرة سيناء وجنوب شرق تركيا، وذلك بناء على ما يقوله مؤسس الحزب بأن هذه المناطق لديها تاريخ مشترك.
تلك الاختلافات المذكورة لا تنحصر فيها كل أشكال أو نقاط الاختلاف، فثمة أيضًا اختلافات حول كتابة الاسم بين من يكتبه بالتاء المربوطة “سورية” ومن يكتبه بالألف الممدودة “سوريا”.
قد لا تبدو هذه الاختلافات ذات أهمية أو شأن، لكنها فعليًا ليست كذلك، وبخاصة إذا نظرنا إليها من منطلق لغوي أو تأريخي، فهذا يعطي هذه الاختلافات قيمة علمية ومعرفية.
الأهم من ذلك هو الخلفيات السياسية المرتبطة بكلتا الكتابتين، التي تنقل هاتين الكتابتين من ميدان الاختلاف إلى ميدان الخلاف، وتعطيهما أهمية كبيرة، لأنهما هنا ترتبطان بمسألة الهوية السورية، فالكتابة بالتاء المربوطة تعطي التسمية صيغة عربية، ومدلولًا عربيًا يرتبط مع الهوية العربية المفترضة لسورية، وهذا ما يركز عليه العروبيون، وبهذه الصيغة تمت كتابة اسم “سورية” في دستور 1950، وما تلاه من دساتير، وبلغ الأمر من الأهمية -عند القوميين العرب- درجةً جعلت حافظ الأسد يصدر مرسومًا رئاسيًا يقضي بكتابة الاسم بالتاء المربوطة: سورية.
أما كتابة التسمية بالألف الممدودة “سوريا”، فإنّها -على الرغم من عدم مخالفتها لقواعد الكتابة العربية التي توجب رسم آخر الأسماء الأعجمية، وكذلك الأسماء فوق الثلاثية التي تسبق ألفها ياءٌ، بألف ممدودة- تعجّم الاسم، وتجعله مناسبًا لـ “هوية أخرى”، هوية غير عربية، وهذا ما يريده مثلًا دعاة القومية السورية، الذين يرفضون عروبة هوية سوريا.
يأتي الإصرار العروبي على تعريب الاسم، كجزء من الإصرار على تعريب الهوية، الذي أدى إلى إسقاط العروبيين أيديولوجيتهم القومية العربية على كل تاريخ سوريا والهلال الخصيب القديم، واعتباره عربيًا، وبذلك وقعوا في التخبط في مفهومهم للقومية العربية التي تحوّلت -بهذا المسعى المفتعل- إلى “قومية عرقية موسعة”، وهذا ما يتناقض مع طرح القومية العربية، كقومية ذات محتوى اجتماعي يمكّنها من أن تضم مثلًا ابن الجزيرة العربية مع ابن القرن الإفريقي أو السودان، اللذين لديها أصولهما العرقية الإفريقية الخاصة، ولا يجمعهما جامع عرقي مع العربي العدناني أو القحطاني.
هذا التخبط في القومنة في عديد من الأحوال ينتج أطروحات عجائبية، منها -على سبيل المثال- ما قاله عامر رشيد مبيض (مؤرخ وعالم آثار) على موقع (عالم نوح)، في مقال بعنوان “سورية تكتب بالتاء المربوطة، معناها السيدة، وسوري السيد”، منشور في 5 كانون الأول/ ديسمبر 2014:
(لم يسبقني أحد في كتابة بحث معنى سورية السيدة وسوري السيد. الأم السورية: هي السيدة الأولى في التاريخ والعالم. وأقدم صنم في التاريخ للأم عشتار اكتُشف عام 2006م، في محافظة حلب يعود إلى 8700 قبل الميلاد، لهذا استحقت سورية لقب أم الدنيا وأبوها. سورية: تُكتب بالتاء المربوطة، لأنها كلمة عربية أمورية، وردت في نصوص أوغاريت، وليست مشتقة لا من آشور، ولا من سريان، وليست أعجمية مثل فرنسا. معنى “سورية” السيدة، من صفات الأم السورية عشتار، وهو مدلول ديني. ومعنى “سوري” السيد، وكلمة “السيري Syri” انتقلت إلى الإنكليزية من العربية الأمورية الآرامية السورية).
وفي هذا الكلام نجد العديد من العيوب الكبيرة:
فضلًا عمّا في ذلك القول من غلو في العاطفية والإعجاب بالنفس، فإن القول بأن التسمية يجب أن تكتب بالتاء المربوطة، لأنها “كلمة عربية أمورية وردت في نصوص أوغاريت”، وإعطائها صيغة مؤنثة بمعنى “سيدة” كصفة لعشتار، يجعلنا نتساءل بدهشة كبيرة عن العلاقة التي يريد أن يوحي بها الكاتب (المختص) بين عربيتنا، العربية العدنانية، والأمورية، التي يعطيها هوية عربية؟!! فهل تطابقت اللغتان بتصور الكاتب؟!
مثل هذا الطرح الأعجوبي لا يمكن أن يذهب إليه عامل مؤهل في مجال التاريخ، إذًا هل يقصد الكاتب القول إن صيغة ما من اسم “سورية” وردت بالأمورية كصفة لعشتار بمعنى “السيدة”، ولذا يجب أن تكتب التسمية كصيغة صِفوية بالعربية الراهنة قياسًا على ذلك، فتصبح “سوريّة” مع تشديد الياء؟
ما هو مبرر ذلك؟
مبرر ذلك -وفقًا لما يمكن أن نفترض أن الكاتب يذهب إليه- هو أن الأمورية هي عربية، والعربية الراهنة هي عربية، والعربية يجب ألا تخالف العربية، ولذلك يجب أن يصبح الاسم مؤنثًا بالعربية الراهنة!
هذا يجعلنا نتساءل عن الأساس العلمي الذي قامت عليه أطروحة عروبة الأمورية، واعتبارها “لهجة عربية” كما يفعل الكاتب، ومحتوى وحدود هذا الطرح، فهل يكفي مثلًا وجود بعض القربى بين العرب والأموريين لجعل الأموريين عربًا، ولغتهم عربية؟ أو جعلهم آراميين؟ وهل يعني وجود مثل هذه القربى بين الإنكليز والألمان -مثلًا- أن الألمان إنكليز أو الإنكليز ألمان، ولديهم لغة واحدة تصبح الإنكليزية والألمانية لهجتين فيها؟!
إضافة إلى ذلك، هل يُعد ورود صيغة أمورية من “سورية”، على شكل صفة بمعنى “سيدة” لعشتار، دليلًا على أن التسمية الجيوسياسية جاءت من هذه الصفة؟! فهذه الصفة هي بلا شك واحدة من صفات عديدة لعشتار أو غيرها من الشخصيات الإلهية الكبرى، وتشابهها مع تسمية محددة لا يعني حكمًا أنها أساس هذه التسمية.
وعلاوة على ما تقدّم، فكتابة “سوريّة” مشددة الياء لا تتفق مع الصيغة القديمة التي جاءت فيها، عند ابن منظور وياقوت الحموي والبكري الأندلسي، بياء مرققة “سوريَة”.
هذا فضلًا عن الإشكالية الحرجة التي سيواجهها هذا الطرح، عند مواجهته بالمعطيات التاريخية الموضوعية، المتمثلة بأن تسمية “Syria” في اليونانية واللاتينية كانت قد استخدمت مدة طويلة من التاريخ جغرافيًا وسياسيًا من قبل اليونان والرومان، الذين لم يأخذوها بكل تأكيد من أي مصدر عربي عدناني، وهذه الصيغة المقابل الأنسب لها عربيًا هو “سوريا” التي تكاد تطابق الصيغة اليونانية القديمة “Συρία” (Suría) التي انتشر الاسم عن طريقها.
هذه الصيغة هي التي عربها أسلافنا العرب على شكل “سورية” من دون تضعيف للياء، كما فعلوا في تعريب “صقلية” مثلًا، وهذا مذهب في التعريب، مقبول كما هو مقبول أيضًا مثل مذهب استخدام الألف الممدودة في نهاية الأسماء الأعجمية المنتهية بالألف.
إذًا، الواضح أن كلام السيد مبيض هو كلام غلبت فيه الأدلجة العروبية بشكل جد راجح، على الحذر العلمي!
من الناحية اللغوية المحض، ليس هناك مشكلة قواعدية، سواء أكتبت التسمية السورية بالألف الممدودة أم التاء المربوطة، وفي هذا الشأن، يقول مجمع اللغة العربية في فتواه رقم (73) في 9 شباط/ فبراير 2015، في جواب لسائل عن الشكل الأصح لكتابة الاسم:
“الوجهان جائزان: سوريا بالألف الممدودة، وسورية بالتاء المربوطة، ولعلك تعلم أن كثيرًا من المناقشات حصلت حول هذه اللفظة، تراها في بعض مواقع الشبكة العالمية، مخلوطة بالطابع السياسي، لأن اللفظة أصلها سرياني، والسوريون السريان يحاولون رد كل شيء إلى الأصل السرياني مع الحفاظ عليه، والأنظمة التي توالت على سورية، منذ استقلالها الشكلي، زعمت أنها حامية للعرب والعربية، لتعلن انحلالها الكلي عن أي رباط إسلامي، فاهتمت بالعربية كثيرًا، وهذا الاهتمام أفاد منه المخلصون حقًا للعرب وللمسلمين معًا، فظهرت حركة عربية لغوية في سورية توّجت بتعريب الطب، وبروز كل ما يقوي من شأن العربية.
فمن كتب سوريا بالألف الممدودة، راعى ما عليه جماهير الكتّاب، إذ قرروا أن الألف إذا تطرفت في اسم أعجمي كُتبت ألفًا مطلقًا، كما قال الغلاييني، ثلاثيًا كان أم فوق الثلاثي، ولا فرق بين أن يكون من أسماء الناس أو البلاد أو غيرهما. أما من كتب سورية بتشديد الياء مع تاء التأنيث، فعلى اعتبار أنها قد عرّبت وعوملت معاملة الاسم المنسوب المؤنث”. وقال الشيخ حسين والي، في هامش الصفحة (76): “إذا كانت -أي أسماء البلدان والبقاع والعيون ونحوها وأسماء الأناسي- أعجمية وعرّبتها العرب، فإنها تعطى حكم كلام العرب في الرسم”.
وكما أسلفنا، إن الغاية الأساسية من طرح هذا الموضوع هي سياسية، وهي مرتبطة بموضوع الهوية، فهذا الموضوع ما يزال يطرح إلى اليوم، وهذا ما نلمسه على مواقع النشر الإلكتروني والتواصل الاجتماعي، من قبل كثيرين، بطريقة عروبية مؤدلجة، وبأسلوب الخطاب الشعبوي أو الرومانسي السابق، والبعض يعطي لموضوع العروبة أهمية مصيرية، وكأنها بلا بديل لمستقبل سوريا، الذي إما أن يكون عربيًا أو أنه لن يكون مستقبلًا بتاتًا!
هذا كلام شعبوي، والدول الحديثة تجاوزت “مرحلة الدولة القومية” إلى مستوى إنساني عالمي أعلى، وهذا ما يجب أن نركز عليه من أجل مستقبل عصري حقيقي لـ “سوريا” أو لـ “سورية”، التي لا تحتاج إلى هوية عربية أو هوية سورية أو آرامية أو غير ذلك، بقدر حاجتها إلى هوية وطنية إنسانية عصرية، تغنيها عن هذه وتلك وسواهما، كدولة، أما على المستويين الحقوقي والثقافي، فهي لا تلغي أيًا من ذلك، وتترك، بل تضمن، فيهما للإنسان حرية الخيار والتعبير السلميين، بصفته مواطنًا، وعليها كدولة، بالنسبة إليه، مثل هذا الالتزام، وبالمقابل تطلب منه السعي للعمل البنّاء في بناء المجتمع المتقدم الحديث، الذي يستطيع فيه تحقيق وتطوير إنسانيته، والعيش الحقيقي كإنسان حقيقي.
بناء على ما تقدم؛ يمكننا الوصول إلى خلاصة: إذا أردنا الاعتماد على مقاربة علمية موضوعية مع الاسم؛ فسنجد مبررات موضوعية لكلتا التسميتين، فصيغة الألف الممدودة لها مثلًا مبرراتها التاريخية والإيتمولوجية القديمة في المرحلة ما قبل العربية من التاريخ السوري، أما صيغة التاء المسبوقة بياء مرققة، فهي بدورها قابلة للدعم على أساس لغوي وتاريخي عربي، فهي بهذه الشكل لا تخالف قواعد اللغة العربية، كما أنها وردت في أكثر من مصدر عربي قديم، وإذا تعاملنا مع هذا الأمر كمعطى ثقافي تاريخي، بعيدًا من الحساسيات السياسية، فلا مشكلة فيه، كون اللغة العربية هي اللغة السائدة في المجتمع السوري.
مشكلة شكل الكتابة بحد ذاتها، مشكلة بسيطة سهلة الحلّ، لكن ما وراء هذه الكتابة هو مكمن الإشكال الأساسي، الذي تكمن فيه عصبيات الانتماء غير البناءة أو المؤذية، وهو ما يجب اعتباره الداء الذي يجب علاجه بالعقلنة والدمقرطة والعصرنة.
جيرون