محاولة في التأسيس للمستقبل/ عمار ديوب
يناقش هذا المقال مسألة سورية المستقبلية، ويستند في ذلك إلى رفض الوقائع التي أصبحت تشكل الواقع الحالي، الذي تتحكم فيه مجموعة احتلالات، أقواها روسيا. الواقع السوري تتعمق فيه مختلف أشكال الصراعات الأفقية والعمودية، وتبرز فيه جماعات محلية تابعة للاحتلالات “النظام، والبايادي وقوات (قسد)، وجبهة النصرة، والجيش الوطني، وبقية الفصائل التابعة لتركيا، والميليشيات التابعة لإيران”، وتستند تلك الجماعات بدورها إلى التعصب الديني والقومي والمذهبي والعشائري والمحلي؛ إذًا من الوهم بمكان تعميم القول: إن سورية ستعود إلى ما كانت عليه قبل 2011.
أصبح الانطلاق من قضايا محددة أساسَ تشكيل هوية وطنية جديدة، تنتج عنها سورية الجديدة هذه، وهذا متعذّر دون المشاركة السياسية للشعب، في سلطات الدولة كافة، عبر الانتخاب والترشح والنظام الديمقراطي بعامة.
أولًا، لا بدّ من الاعتراف بضرورة النظام الديمقراطي، وألا يكون رئاسيًا، بحال من الأحوال، وفصل السلطات واستقلالها، والمساواة بين الجنسين، وفصل الدين عن الدولة.
ثانيًا، ضرورة أن يظل للدولة دورٌ اقتصاديٌ أساسيٌ، وأن تنطلق من رؤية اقتصادية، تتضمن دراسات عن نتائج الفساد والنهب، والجدوى الحقيقية من قطاعات معينة من القطاع العام، وكيفية النهوض بالاقتصاد بما يلبّي حاجات المواطنين. التركيز على هذه الفكرة ضروري، لما تتناوله الكثير من المقالات والدارسات عن ضرورة اقتصاد السوق واللبرلة، متجاهلين الكوارث العالمية التي سببتها الليبرالية، وهذه قضايا تتجاوز ليبراليتنا التي تخصّصت بالنهب، كما حدث في سورية ومصر وسواهما، وأن هذه النتائج تخص البلدان الشمولية. لا لا، القضية عالمية بامتياز، ونتائج الليبرالية ما زالت تُغرِق دولًا كثيرة بأزمات مركبة، ومنها اليونان وإيطاليا، فضلًا عن دورها في صعود اليمين الشعبوي العرقي في أوروبا وعالميًا، وهناك ربط معرفيٌّ محكم بين الليبرالية واليمين الشعبوي عالميًا.
ثالثًا، المطالبة بالعدالة الانتقالية، حيث إن الجرائم التي تمّت في سورية، يتحمّلها القادة أولًا، ولا تُحمل لطوائفٍ وأديان وقوميات وعشائر وأسرٍ، وينبغي رفض كل محاولة لنقل القضية هذه من دائرة القضاء، إلى دائرة المجتمع، وإنزال عقوبات مشدّدة بحق كل من يحاول استعادة مصالحه وحقوقه بقوّته: “ماله، عصابة مأجورة، قوته البدنية والعشائرية، تدخل أمني، وسواه”.
رابعًا، رفض كل شكل لتسييس الدين، حيث لعب الأخير دورًا سياسيًا كارثيًا في السنوات الثمانية المنضوية، إمّا انحيازًا إلى النظام أو الدول الخارجية، أو تفكيكًا للحراك الثوري ولمدنية وسلمية الثورة، وكذلك ساهم مساهمة كبيرة في تشويه الصراع المجتمعي، وحرفه نحو صراعٍ ديني وطائفي ومذهبي وقومي ضيّق؛ والأسوأ أن قادة هذه التوجهات لم يلتمسوا بعدُ خطورة دورهم وما فعلوه في السنوات المنصرمة.
خامسًا، توسيع صلاحيات الإدارات المحلية، وإبقاء أشكال من التداخل في العلاقة بين الأقاليم والعاصمة، وبما لا يوصل إلى الفدرالية، ولا إلى المركزية السابقة، وهناك من يتبنى اللامركزية الإدارية مثلًا. الديمقراطية تساهم في الوصول إلى رؤية أكثر عمقًا لهذه القضية، ولكن كبلد “على الأرض” لا يمكن تجاهل ضرورة السياسات المركزية فيه، وذلك للنهوض به.
سادسًا، كتابة مناهج تعليمية، تقرن بين النظري والمشكلات العملية، وأن يكون هناك جوانب تطبيقية كثيرة ومتعددة، من ضمن ذلك تأمين المستلزمات المطلوبة لإنتاج علماء ومبدعين، ودعم الموجودين منهم، بما يلبي احتياجات الواقع وملكة الإبداع.
سابعًا، الإقرار الدستوري بالمساواة بين الجنسين، وإلغاء القوانين التمييزية، سواء أكان مصدرها دينيًا أم وضعيًا، “يمكن إبقاء الزواج كمسألة اختيارية”، وهذا يشمل قوانين الأحوال الشخصية والإرث والقوامة وسواها كثير، واعتبار كل جريمة بقصد الدفاع عن الدين أو الذكورة والعائلة “الشرف” وسواه، جريمةً عن سابق قصدٍ وتصميم، ويستحق صاحبها سجنًا طويلًا، كما كل جريمة قتل أخرى.
ثامنًا، ويمكن أن يكون أولًا أو أخيرًا، رفض كل أشكال الاحتلال وما أفضى إليه، وتحميله المسؤوليات ورفع قضايا دولية عليه، لما فعله في سورية وبالسوريين، ومنذ اليوم الأول لدعم النظام أو المعارضة أو الفصائل لاحقًا، وكشف كافة الاتفاقات السرية بين هذه الجماعات وبين دول الاحتلال، والمبالغ المالية ومن أثرى من قادتها، وبهدف معرفة كيف أخذ الوضع السوري منحًى كارثيًا: “العسكرة، الأسلمة، الحرب الطائفية”، يفتقد أي مبادرات سياسية أو اجتماعية جادة أو قادرة على إيقاف الحرب والقتل والدمار والنهب والتعفيش والنهوض بالبلاد. ضمن ذلك تعدُّ “إسرائيل” دولة محتلة لأجزاء من سورية، ولا يجوز بحال من الأحوال التطبيع معها، أو عقد اتفاقية سلام، دون استرجاع الأرض، وهذه قضية سيظل للدبلوماسية دورٌ كبيرٌ فيها، ولا سيما التنسيق مع لبنان أو فلسطين أو الأردن، بما يعيد الأرض لأصحابها أو الوصول إلى تسوية ما، لا تتجاهل حقوق العرب في أراضيهم، وتعويضهم من سنوات الاحتلال كذلك.
تاسعًا، قضية العلاقة بين أفراد الشعب السوري، ومهما تعاظمت الخلافات، ومهما كان شكل الوعي وشكل القتل والعنف والدمار والتشبيح والتعفيش، يجب أن تخضع للقضاء والعدالة الانتقالية؛ وأفردت لها بندًا خاصًا، نظرًا للنقاشات الكثيرة التي يخوضها السوريون إعلاميًا، أو على صفحات النت و(فيسبوك) وهي، على أهميتها، تذهب نحو تسييس المجتمع الأهلي بكل مكوناته القديمة، بما يعيد المجتمع السوري ليس إلى ما قبل 2011 بل إلى ما قبل العصر الحديث بأكمله.
قصدت من ذلك تحديد قضايا النقاش والواقع، والتمييز بينها جيدًا، وبما يُغلق ملف الحرب الطويلة وآثارها، وبما يرتقي بالمجتمع نحو الحداثة والتنوير والديمقراطية والعلمانية والاقتصاد الصناعي. وبالتالي لا نريد إغلاق أعيننا عن الكوارث، ولا نريد تشويه الواقع، ولا تضخيم جوانب أو تهميش جوانب، ونتقصد رؤية لا تدير الظهر للماضي وتدخل المستقبل بأقدام صلبة، وبما يشكل هوية وطنية مواطنية جديدة، تليق بكل ما قدّمه السوريون في السنوات السابقة، وكذلك بتاريخهم.
أردت التأسيس لنقاشٍ سوري حاليًا ولجهة المستقبل، وبما لا يجزئ المسائل، ولا يخلط بينها، أو يمنع أي نقاش موضوعي فيها، وبما يخفف من روح الانهزام والإحباط والتعاسة، التي تتغلغل بأرواح السوريين، وتمنعهم من التطهر من الثأر والغلو والتشفي والرغبة في اجتثاث الآخر، وتسهّل إدامة الاحتلالات وغياب الاستقرار والحقوق والحريات، وضياع سورية كما لبنان والعراق.
جيرون