متى سيطلقون ألسنتهم من عقالها؟/ بدر الدين عرودكي
يعلن البعض أن الثورة السورية لا تزال قائمة، في حين يعلن البعض الآخر انتهاءها، ويلجأ بعض ثالث إلى سوابق تاريخية كي يَطمَئِنَّ ويُطَمْئِن بأنها لن تختلف عن سواها من الثورات في بلاد أخرى عبر التاريخ، عرفت مراحل متتالية من التألق والخمود ثم الانطلاق مجدَّدًا، وبأن ثورة يطلقها شعبٌ بأكمله ليست انقلابًا عسكريًا سُمِّيَ ثورة، كما اعتاد بعض السوريين على هذه التسمية منذ عام 1963، ينجح أو يفشل.. بل هي عملية معقدة، متعددة الأبعاد على كل صعيد من صُعُدِ التاريخ والاجتماع والسياسة، ومن ثمَّ فإن الثورة السورية، التي انطلقت في آذار 2011، لم تمُت، ولن تموت، ما دامت قد حققت هدفها الحاسم الأول: تحطيم جدران الخوف والصمت، ورفض الاستبداد بكل تمثيلاته العائلية والفردية والسياسية التي طغت في سورية خلال نيِّفٍ ونصف قرن. لكن أحدًا من هؤلاء وأولئك لا ينكر على كل حال أن مرحلة أساسًا في هذه الثورة قد اختتمت، وأن ختامها قد بات واضحًا للعيان منذ نهاية عام 2012، أي بعد ما يقارب سنتين من انطلاقها.
مرحلة أساس، لأن كل ما جرى فيها كان مقدمة ونذيرًا بما سيجري من بعدها. وهي، لهذا على وجه التدقيق، تحتاج اليوم إلى استعادة سردية وتحليلية لوقائعها جملة وتفصيلًا، سواء على الصعيد المحلي داخل سورية، أو على الصعيد الإقليمي، أي البلدان العربية والقوى الإقليمية، وتحديدًا إيران وتركيا، أو على الصعيد الدولي، روسيا والصين من جهة، وأوروبا والولايات المتحدة من جهة أخرى.
كُتِبَ الكثير من المقالات والدراسات والأبحاث في تحليل هذه الوقائع، خلال السنوات الثماني الماضية. كما صدر عدد من الكتب المهمّة بأقلام عدد من كبار الباحثين السوريين والعرب في الفكر السياسي/ الاجتماعي، نذكر من أهمها، على سبيل المثال لا الحصر، كتاب سلامة كيلة، الثورة السورية، واقعها وصيرورتها وآفاقها (2013)، وكتاب عزمي بشارة، سورية، درب الآلام نحو الحرية (2013)، وكتاب زياد ماجد الثورة اليتيمة (1015)، وكتاب ياسين الحاج صالح الثورة المستحيلة (2017)، وكتاب حازم صاغية، قصّة مكان – قصّة إنسان: بدايات الثورة السوريّة 2011- 2015. لكن هذه الكتب، على أهميتها البالغة، لا تغني عن كتب وشهادة من انخرطوا في قيادات العمل السياسي، عبر مؤسسات أُنشئت بهدف تمثيل المعارضة والثورة خلال هذه المرحلة الرئيسة في تاريخ سورية، وكان الكتاب الوحيد، حتى اليوم، الذي قدّم سردية متكاملة لوقائعها، بوصف مؤلفه مسؤولًا وشاهدًا وفاعلًا، هو كتاب برهان غليون، عطب الذات، وقائع ثورة لم تكتمل، سورية 2011 – 2012 الذي صدر قبل نيف وستة أشهر.
ثمة جملة في عنوان هذا الكتاب، “ثورة لم تكتمل، سورية 2011 – 2012″، توضّح ببساطة أن ما حدث في السنوات التالية على 2012 لم يكن امتدادًا أو استمرارًا لهذه الثورة، بقدر ما كان حصيلة ومآلات ممارسات وخيارات وضروب من السلوك والفعل شديدة التباين على الصُّعُد الفردية والجماعية، الشخصية منها والمؤسساتية. لقد أمكن لنا خلال السنوات الماضية، وبوجه خاص خلال السنتيْن المشار إليهما، أن نقرأ الكثير من ضروب النقد الموجه لمن تصدوا لقيادات مؤسسات المعارضة سلوكًا وممارسة وخيارات، ولا سيما منها المجلس الوطني السوري، وهيئة التنسيق الوطنية، ثم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، ثم، من بعد، الهيئة العليا للمفاوضات، من دون نسيان ما أطلق عليه “منصّات المعارضة” على اختلافها من القاهرة إلى موسكو. لكن أحدًا ممن كان يتناولها بالنقد لم يكن في موقع المسؤولية ضمن واحدة من هذه المؤسسات، بحيث يستطيع تقديم رؤيته أو سرديته للحدث السوري من الموقع الذي كان يشغله. والوحيد الذي فعل ذلك بصورة شمولية، كان برهان غليون في كتابه المشار إليه. فما الذي لا يزال يحول بين هؤلاء القادة الذين احتلوا طوال سنتيْ الثورة المذكورتين، وتابع العديد منهم في احتلال شاشات الفضائيات، ومقاعد التمثيل في مختلف الهيئات والمنصات التي عرفناها بوصفها “ممثلة للمعارضة أو للثورة”، وبين أن يتقدموا إلى الشعب السوري المنكوب بسرديتهم، وبتشخيصهم لما جرى، وتثبيت أو نقض أو إغناء السردية الوحيدة الموجودة الآن بين يدي السوريين، والتي يمثل الكثير من مضامينها والآراء المبثوثة فيها تحديًّا كبيرًا لهم في أن يفعلوا؟
كان الذين تصدوا للحديث باسم الثورة أو لتمثيلها يعلنون هدفًا واحدًا: إسقاط النظام الأسدي؛ ومع أنهم كانوا، هم أنفسهم، يعلنون يومئذ أنهم ضد التدخل الخارجي، وضد حمل السلاح، وضد الطائفية، فإنهم لم ينجحوا في أن يتجاوزوا خلافاتهم التي لم نكن ندري عن طبيعتها أو عن تفاصيلها الحقيقية شيئًا. والآن، بعد أن باتت سورية دولة محتلة من قبل أربع قوى، إقليمية ودولية، تُقرر مصيرها وترسم مستقبلها وفقًا لمصالحها المتناقضة على كل حال، ألا يرى من باتت مشاهد فشلهم اليومية على الصعد كلها تفقأ العيون أنّ الأوان قد آن لكي يطلقوا ألسنتهم، فيسردوا لنا رؤيتهم وفهمهم وأسباب عجزهم عن تحقيق الحدِّ الأدنى مما كانت تستدعيه حركة لم يكن أحدٌ منهم وراء انطلاقها ولا استمرارها أشهرًا تواجه عنف النظام الأسدي وجبروته وتصميمه على القضاء عليها بأي ثمن؟
أليس من الطبيعي أن نفهم منهم مثلًا السبب الاستراتيجي أو السياسي الذي دفع إحدى القوى المؤسسة إلى الحيلولة دون دعم أول هيئة أمكنها أن تحظى بتأييدٍ عبَّرَ عنه من كانوا قوام المظاهرات التي كانت تعمّ المدن السورية، فاشترطت أن تكون مثلًا مدة ولاية رئيسها شهرًا، ثم تنازلت لتجعل منها ثلاثة أشهر قابلة للتمديد مرة واحدة، وما الذي دفعها إلى التنازل وإلغاء هذا الشرط، ما إن فقد المجلس الوطني موقعه الذي كان يحتله في مقدمة المشهد السياسي بعد تأسيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة؟
أو ما الذي حمل بعض من تصدّوا للقيادة وهم يتطلعون إلى احتلال المقعد الأول (نظرًا إلى ما يعتبرونه حقهم المكتسب بفعل سنوات السجن التي قضوها بسبب نضالهم ومعارضته للنظام الأسدي)، إلى تقديم مطامحهم الشخصية على ضرورات تحقيق وحدة الصف والهدف بين مختلف القوى، كشرط أولي في اكتساب مصداقية أمام من يزعمون تمثيلهم من السوريين، وأمام القوى الإقليمية والدولية التي كانوا يحاورونها من أجل دعمهم في حصار النظام الأسدي؟
أو، أيضًا، ما طبيعة الدور الذي لعبه الإخوان المسلمون في هذا المجلس الوطني، سواء من خلال ممثلي تنظيمهم مباشرة، أو ممثلي الجماعات المنشقة عنه لكنها لا تزال تدور في فلكه وتتبنى مواقفه داخل المجلس؟ وما طبيعة العلاقة التي كانت تربطهم بتركيا التي أرادوا منذ أول اجتماع للأمانة العامة للمجلس الوطني أن يحضر ممثل عن وزير خارجيتها هذا الاجتماع، لا سيما أن من نقل هذا الطلب إلى رئيس المجلس كان المراقب العام لتنظيمهم، كما روى برهان غليون ذلك في كتابه، مثلما روى رفضه لذلك تحت طائلة نقل مقر المجلس إلى القاهرة بدلًا من إسطنبول؟
ثم، كيف أمكن لخيار السلاح وفوضى العسكرة أن يفرضا نفسيهما، وكيف أفلتت إدارة السلاح وتوجيهه من قبل هؤلاء القادة الذين كانوا يهيئون أنفسهم لاستلام السلطة بعد أشهر من انطلاق الثورة، فبات المقاتلون في واد والسياسيون في واد آخر، وصارت فصائل الطرف العسكري، وهيئات أو منصات الطرف المدني، تسير على هدي أجندات خارجية فرضتها الدول الممولة هنا وهناك؟
وكذلك، ما السرّ في عجز القوى العلمانية المدنيّة، والعسكرية منها على قلتها، عن أداء دور أساس ومحوري بدا أن شباب الثورة قد أناطوه بها منذ البداية؟
تلك جملة من أسئلة بين أخرى كثيرة، لم يعمل على الإجابة عنها بجرأة حتى الآن إلا برهان غليون. لكنها مع ذلك ما تزال تنتظر من كل واحدٍ، ممن تصدوا بجرأة منقطعة النظير لقيادة المؤسسات التي كان يفترض بها أن تمثل الثوار في الداخل، أن يقدم إجاباته هو الآخر عنها.
فهل سيطلقون جميعًا ألسنتهم من عقالها احترامًا، على الأقل، لكل من قُتلوا واعتُقلوا وهُجِّروا؟!