إدوارد سعيد السارد/ صبحي حديدي
في «مدخل كامبريدج إلى إدوارد سعيد»، يكرّس كونور مكارثي صفحات قليلة لـ«خارج المكان»، 1998، العمل الوحيد الذي خصصه الراحل لمذكرات شخصية تغطي بعض عقود طفولته ويفاعته وشبابه (نقله الصديق فواز طرابلسي إلى العربية، ونشرته دار الآداب في سنة 2000). والسبب في هذا أنّ المدخل يُفرد غالبية الفصول الأربعة (والصفحات الـ436) لمسائل أكثر تركيزاً على المؤثرات في فكر سعيد (الفينومينولوجيا، الفيلولوجيا، الماركسية، ما بعد البنيوية)؛ وعلى أعمال رئيسية مثل «بدايات: القصد والمنهج»، 1975؛ «الاستشراق»، 1978؛ «قضية فلسطين»، 1979؛ «العالم، النصّ، والناقد»، 1983؛ «الثقافة والإمبريالية»، 1993.
يساجل مكارثي أنّ سعيد (1935 ـ 2003)، الذي مرّت ذكرى رحيله يوم 25 أيلول (سبتمبر) الجاري، سعى من وراء حكاية شبابه بلوغ ثلاثة مستويات: 1) الشخصي، أي وصف الطفولة في القدس والقاهرة ولبنان والولايات المتحدة؛ و2) التاريخي، عبر إعادة تشييد، أو استعادة، «سجلّ عالم مفقود أو منسيّ»، يمكن أن يُبعث أو يُمنح صوتاً؛ و3) المستوى السياسي ــ التاريخي، حيث تتقاطع حياة سعيد مع تاريخ الشرق الأوسط المضطرم، مثلما تُصوّره. وبين أبرز العناصر، والتي يراها مكارثي في عداد الأهمّ، أنّ «خارج المكان» سردية لا تقتصر على نشأة سعيد في القدس وضهور الشوير والقاهرة؛ بل تشمل أيضاُ وأساساً انتقاله إلى الغرب، وإلى الولايات المتحدة على وجه التحديد. فالفصول تُختتم وسعيد طالب دراسات عليا في هارفارد، على وشك الانتقال إلى نيويورك واستلام وظيفة أولى في جامعة كولومبيا؛ حيث سيدشن ما اعتبره المؤرّخ السكوتلندي توم نيرن حكاية نجاح لامع حققها، في الغرب المتروبوليتاني، سليلُ «نخبة عالمثالثية».
وقبل أن يصدر «خارج المكان»، كان سعيد قد أرسل إلى محمود درويش فصلاً من مذكراته كي يُترجم إلى العربية ويُنشر في فصلية «الكرمل»؛ وقد تشرّفت، يومذاك، بإنجاز الترجمة التي ظهرت في العدد الخاص 55/56، ربيع/صيف 1998، تحت عنوان «فلسطين 1948: شذرات اقتلاع معلن». كنت أزعم، لنفسي أوّلاً، قسطاً معقولاً من معرفة سعيد، الناقد ذي الإبصار الثاقب، والمنظّر الأدبي الاختراقي، والمساجٍل اللامع حول القضية الفلسطينية؛ ولكني ذُهلت إزاء تلك البراعة في استعادة تفاصيل، عالية الأثر وجبارة التأثير، على نحو منبسط طليق متخفف من أية تقنية سردية قصدية، خصوصاً وقائع الأشهر الأخيرة من العام 1947 في القدس، قبيل رحيل الأسرة إلى القاهرة في كانون الأول (ديسمبر) من العام ذاته. وسعيد يروي، على نحو جارح لأنه حقيقي عفوي، كيف كانت فلسطينية فلسطين تلك الأيام، وفي مستوى الأرض والبشر والتاريخ والجغرافيا، بمثابة معطى طبيعي يومي.
وفي تغطية تلك الحقبة غير العادية، حاول سعيد استرجاع منظور الفتى الذي كانه آنذاك: يافع في الثانية عشرة من العمر، لا يدرك تماماً أسباب علائم الانكسار والحزن التي كانت تخيّم على وجوه أهله وأقربائه وأصدقائه كلما احتفلوا بعيد ميلاده. ولسوف يمرّ زمن غير قصير قبل أن يدرك سعيد أنّ الأوّل من تشرين الثاني (نوفمبر)، عيد ميلاده، كان يصادف أيضاً عشية ذكرى أخرى لا يليق بها أيّ فرح، هي وعد اللورد بلفور بإقامة دولة لليهود في فلسطين! ومن المأساوي أنّ ذلك الفتى، الذي سيصبح بعد عقود قليلة الصوت الفلسطيني الأبرز والأرفع قامة في الغرب، كان «ممنوعاً» بمعنى ما من التفكير في القضية الفلسطينية، وكان مطالَباً بالإنصراف إلى دروسه وحدها. وهو يروي أنّ أباه ظلّ حريصاً على إبعاده عن «السياسة»، حتى أن كلماته الأخيرة وهو على فراش الاحتضار كانت هذه: «أنت أستاذ أدب، فالتزمْ بحدودك هذه. يقلقني ما سيفعله الصهاينة بك. فكنْ حذراً».
مؤثّرة أيضاً حكاية سعيد مع خليل بيدس (1875- 1949)، الأديب واللغوي والمربي الفلسطيني الكبير الذي ينسى الكثيرون أنه واحد من الروّاد المؤسسين للرواية العربية الحديثة. والمأساوي أنّ سعيد، الذي سوف يحتلّ موقعاً رفيعاً في ميدان التنظير النقدي والفلسفي والجمالي والتطبيقي لفنّ الرواية بالذات، لم يكتشف حقيقة شخصية بيدس إلا بعد مرور سنوات طويلة… طويلة! وهو يروي انطباعات غائمة عن رجل «اكتنف تلك السنوات المبكرة في القدس، وسحرتني شخصيته الملوّنة»، وكان شريك أبيه في لعبة طاولة الزهر، وأستاذ لغة عربية يرتدي الطربوش، طاعناً في السنّ، كثّ الشاربين، مفرطاً في التدخين، جذلاً ومرحاً وطريفاً.
بعد أربعة عقود سوف يعرف سعيد أن بيدس كان شخصية ثقافية محورية في الحياة الفلسطينية آنذاك. لقد تعلّم أوّلاً في مدرسة الجالية الروسية في القدس («المسكوبية» كما كانت تسمّى، وليس من المفارقة أنها اليوم مركز إسرائيلي لاستجواب واحتجاز الفلسطينيين!). ثم درس في روسيا، وعاد إلى فلسطين في مطلع القرن، فانضم إلى «الندوة» الأدبية التي كانت تُعقد في الناصرة؛ مفعماً بالفلسفات الروسية في القرن التاسع عشر، وبأفكار شتّى مستمدة من أمثال تولستوي ودستويفسكي وبرداييف. وسرعان ما انخرط في الجهد الثقافي والوطني الفلسطيني، وهيمن على أعوام العشرينيات والثلاثينيات كواحد من أبرز المساهمين في بناء الهوية الوطنية الفلسطينية.
و«خارج المكان» يحتوي على الكثير من هذه البورتريهات المصغرة المدهشة، التي رسمها سعيد لحيوّات عشرات الفلسطينيات والفلسطينيين، وأعادت كتابة سردية بلاد كانت تسمى فلسطين، وهكذا صارت وتبقى…
القدس العربي
بدأت من ثورة ظفار ولم تنته عند “الأسلوب المتأخر”: في صداقة إدوارد سعيد/ فواز طرابلسي
تعرفت إلى إدوارد سعيد في ظروف لا تشكو من الغرابة.
في تشرين الأول/أكتوبر من العام 1971 تسلّمت رسالة من شخص يدعى إدوارد و. سعيد، Edward W. Said عضو مجلس “رابطة الخريجين الجامعيين العرب الأمريكيين” يدعوني فيها إلى حضور مؤتمر الجمعية في بوسطن وتقديم مداخلة عن ثورة ظفار. كنت عائدا للتو من زيارة للمقاطعة الجنوبية من سلطنة عمان حيث تدور رحى ثورة مسلحة ضد السلطان سعيد بن تيمور المدعوم من عناصر من “الخدمات الجوية الخاصة” وهي قوات بريطانية متخصصة في مواجهة الحرب الغوارية.
كنت في تلك الفترة أدرس لنيل شهادة دكتوراه في “كلية الدراسات الآسيوية والأفريقية” بجامعة لندن، وقد نظمت ومجموعة من الأصدقاء، منهم فرد هاليداي وهيلين لاكنر وكِن ويتنغهام، “لجنة الخليج” للتضامن مع حركات التحرر الوطني في اليمن والخليج. بعد ذلك، عقدت أنا وفرد اتفاقا مع دار نشر “پنغوين” لتأليف كتاب عن تلك الحركات واستخدمنا الدفعة الأولى للسفر إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والمناطق المحررة من ظفار. في ظفار، كان همّنا الرئيس تحصيل معلومات ووثائق وصور تؤكد تورط قوات بريطانية في الحرب إلى جانب السلطان لدعم الحملة التي أطلقتها “لجنة الخليج” تحت عنوان “ظفار هي فيتنام بريطانيا”. عدنا ومعنا صورا لحطام طائرة بريطانية وشيفرات للاتصالات ومقابلات مع مقاتلات ومقاتلين ومشاهد لجوانب من الحياة في المناطق المحررة.
كتبنا مقالات حول مشاهداتنا واستضافتنا إذاعة “بي بي سي” لندوة حول الموضوع وعرضنا على تلفزيون الهيئة ذاتها بضعة دقائق من المشاهد التي صورتُها بواسطة كاميرا بوليكس التي أودعها بعهدتي فريق التصوير التابع لوزارة الإعلام اليمنية وقد رفضوا مواصلة الرحلة خوفا مما سمعوا عن مخاطرها.
أخذتُ دعوة “جمعية الخريجين العرب الأمريكيين” إلى السفارة الأمريكية وحصلت على تأشيرة. في اليوم التالي جاء موظف من السفارة إلى منزلنا وطلب من والدتي جواز سفري بحجة أنه وقع خطأ فيه مطلوب تصحيحه وأبلغ أنه سوف يعيد الجواز بأسرع وقت. فعلا، أعيد الجواز بسرعة ولكن كانت التأشيرة عليه مشطوبة بعلامة X بواسطة بيكار. أبلغتُ مراسلي في نيويورك بالحادثة فقيل لي: لا تهتم لقد كلفنا محامي الجمعية عابدين جبارة وهو سوف يتولى الأمر. بالفعل بعد أقلّ من أسبوع وردني اتصال من القنصل الأمريكي دعاني الى المجيء لتسلّم تأشيرة سفر إلى الولايات المتحدة. حصلت على إذن بدخول الولايات المتحدة لأربعة أيام فقط، وقد أكّد لي موظف السفارة أن ذلك تمّ بتدخّل مباشر من وزير العدل الأمريكي.
في بوسطن، شاركت في ندوة ضمت أريك رولو وعبد الله الأشطل عن الثورة في ظفار واليمن وتعرفت بسرعة إلى مضيفي إدوارد. ثم قابلته لمدة أطول عند زيارته لبنان في صيف ذلك العام بمعية زوجته مريم قرطاس، زميلة الدراسة الثانوية والجامعية.
بعد تلك الزيارة المقتضبة إلى بوسطن مُنِعت من دخول الولايات المتحدة لعشرين سنة. قابلت إدوارد خلال تلك الفترة مرتين أو ثلاث مرات خلال فعاليات تتعلق بقضية فلسطين ودعم العمل الفدائي في بيروت. دعيت العام 1991 إلى الاحتفال بالذكرى العشرين لتأسيس “ميدل إيست ريبوتس” وهي من أنشط وأرصن المجلات التقدمية الأكاديمية عن المنطقة وكنت قد شاركت في الكتابة فيها من أول الأعداد. فوجئت لما منحتني القنصل في قنصلية الولايات المتحدة في باريس تأشيرة دخول لخمس سنوات دفعة واحدة. سألتها عما عدا مما بدا وأنا كنت ممنوعاً خلال عشرين سنة من دخول بلادكم؟ أجابت أني كنت ممنوعا على القائمة “ب” وقد ألغيناها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. فهمت من هم المعنيون بالمنع على تلك القائمة من جراء جوابها على سؤالي عمن تحتوي القائمة “أ”: الإرهابيين.
كان أول ما قمت به عند وصولي إلى نيويورك هو زيارة إدوارد في منزله. كان ذلك في خريف 1991 وإدوارد لا يزال يعاني من صدمة الاكتشاف بأنه مصاب بالسرطان.
لاحقاً، جاءنا إدوارد إلى بيروت في غير مناسبة. في أحداها كان مدعواً إلى ندوة تكريمية في الجامعة الأمريكية، وأطلعني على عدد من الصفحات اختارها من سيرته الذاتية ليلقيها في المناسبة، وقد ترجمها له أحد الأصدقاء. أجريتُ بعض التعديلات على الترجمة. قبل أن يغادر، سألني: هل أنت مستعدّ لترجمة السيرة الذاتية عندما تصدر؟ أبديت الاستعداد لذلك واشترطت: “لغتك عويصة وحصيفة: سوف أفككها وأبسّطها وأعيد تركيبها باللغة العربية”. وأردفت: “أريد ان أجعلك تتكلم العربية”. قال: “انا موافق”. وهكذا صار.
خلال العمل على ترجمة “خارج المكان” تبادلت وإدوارد مراسلات إلكترونية عن طريق الإنترنت (اذار/مارس 2000 إلى آب/أغسطس 2002) وقد كنا في بداية اكتشافنا لوسيلة الاتصال الجديدة. دارت معظم المراسلات على أسئلة واستفسارات من طرفي عن مفردات أو عبارات في النص. من جهته، روى بتفصل عن بعض الأشخاص الذين كان لهم تأثير كبير على حياته المبكرة، خصوصا ابن خاله الشيوعي المصري فريد حداد، الذي قضى في السجن. وقد اكتشفنا شغفنا المشترك بتحية كاريوكا وقد كتب عنها إدوارد مقالاً ثم رثاء. وجرّنا الحديث عن تحية إلى غرامنا بالراقصة والممثلة الأمريكية سيد تشاريس. أبلغني إدوارد انه التقاها وقد بلغت السبعين (توفيت العام 2008) فوجدها “لا تزال مدوّخة بالمطلق في فتنتها”. وعكساً، تبادلنا الأحاديث والتعليقات عن بعض خصوم إدوارد، وهم حينها صادق جلال العظم وكنعان مكية وبسام طيبي وآخرون.
في 15 أيار/مايو من العام ذاته، انسحب الجيش الإسرائيلي من الأراضي المحتلة في الجنوب اللبناني وكنت على الإيميل مع إدوارد وأنا أتابع زحف أهالي الجنوب لاستعادة أراضيهم والاحتفالات تعمّ البلدات والقرى فكتب لي إدوارد يحيي “الانتصار المذهل” الذي أحرزه من اسماهم “شباب حزب الله”.
بعد صدور الترجمة العربية من “خارج المكان”، كتب لي إدوارد عن المدائح التي تلقاها لـ”ترجمتك الرائعة”. وكان يبلغني عن وضعه الصحيّ بين وقت وآخر. يدخل المستشفى ويعود إليه بعد حين، حيث تجرّب عليه عقارات وعلاجات جديدة. لكنه لم يتذمّر مرة: “المعنويات عالية”، يقول، “رغم أن جسمي ليس كذلك”.
في تموز/يوليو من ذلك العام زار إدوارد لبنان مع عائلته وأراد زيارة الجنوب. الحادثة التي وقعت خلال تلك الزيارة تستحق وقفة لما أحاط بها من تأويلات والتباسات.
نظمتُ لإدوارد الزيارة بالتعاون مع الصديق الأستاذ حبيب صادق. توقفنا في مركز “المجلس الثقافي للبنان الجنوبي” في النبطية ومعتقل الخيام. أصرّ إدوارد في بداية الزيارة على أنه لا يريد أن يدلي بأي تصريح للصحافيين والإعلاميين. تصرّفت أنا والأستاذ حبيب على هذا الأساس وأبلغنا الصحافيين بمشيئة الزائر. لكن بعد أن خرجنا من المعتقل إذا بإدوارد يتوسط حلقة من الصحافيات والصحافيين تحت شمس حارقة وأنا والأستاذ حبيب وأسرته في انتظاره تحت فيء الشجر. بعد زيارة للأستاذ حبيب صادق في منزله في الخيام، توجهنا نحو “بوابة فاطمة” بناء على رغبة إدوارد في زيارتها. رافقنا في الجولة فريق تلفزيوني من “المنار” وكامل جابر، مراسل جريدة “السفير” في النبطية.
عند الشريط الشائك كان مسلحون من حزب الله بالثياب المدنية جالسين إلى مقعد في مقابل برج حديدي مشاد من الجهة الإسرائيلية للحدود، يطلّ منه جندي إسرائيلي بين الفينة والأخرى. دعانا المسلحون إلى تناول الحجارة من كومة جاثية أمامهم لرجم الجندي المحصّن، على ما اعتاده زوار الحدود، بعد التحرير، للتعبير عن سخطهم على الاحتلال وعلى استمراره على أرض فلسطين. تحدّت نجلا أباها أن يرمي حجرا. وانضم اليها أخوها وديع. قلت لإدوارد: “سأنضم إليك إن شئت أن تفعل”. هكذا حصل. يُرى إدوارد في الصورة يرمي حجره بيني وبين الرفيق مروان، المقاوم في منظمة العمل الشيوعي الذي كان يرافقنا. لا داع للقول إن الأحجار الثلاثة وما تلاها لم تمسّ البرج أصلا. لكن المشهد سجّلته كاميرا قناة “المنار” التلفزيونية وآلة التصوير الفوتوغرافي خاصة كامل جابر.
في ظهر اليوم التالي كنا على الغداء في منزل الياس خوري، المجاور لمنزلي الصيفي في بلدة عيناب، عندما اتصلت شقيقة زوجة الياس، جاكي جريصاتي، الصحافية في وكالة الصحافة الفرنسية، تطالبه بصور إدوارد يرمي الحجر على الحدود وقد علمت بالأمر من الشريط الذي عرضه تلفزيون “المنار” في المساء ومن الصور التي التقطها كامل جابر وترك نسخا عنها لإدوارد في فندقه ببيروت. أبلغ الياس جاكي، بناء على موافقة إدوارد، أن تمرّ على فندق إدوارد وتأخذ الصور. وهكذا كان.
انتشرت الصور وبدأت معها حملة شرسة على إدوارد في الولايات المتحدة، نظمتها هيئات صهيونية وأنصار إسرائيل، وهو الموصوم أصلا بتهمة “فيلسوف الإرهاب”. تصاعدت الحملة حتى بلغت الضغط على إدارة جامعة كولمبيا لطرد إدوارد من السلك التعليمي. علمت لاحقا أن إدوارد تألم كثيرا من تلك الحملة.
لما سمعت بالحملة، اتصلت بإدوارد متضامنا فبادرني: “كان يمكنني أن أخدمك أنت ورفاقك اليساريين بطريقة أخرى غير تلك الطريقة”. بدا كأنه يحمّلني المسؤولية عن توريطه في الزيارة التي سببّت له الحملة التي يتعرّض لها، مع أن زيارة الجنوب تمت بناء على طلبه، وأن دوري فيها لم يتعدّ التنظيم والاستقبال، وعلماً أن زيارة بوابة فاطمة كانت استجابة لرغبة إدوارد، وأنه يدري، حين قرر رمي الحجر، أن فريقا تلفزيونيا من “المنار” ومراسل جريدة “السفير” موجودان إلى جانبنا على البوابة قد رافقانا، والأهم من ذلك كله، أنه هو الذي سلّم الصور إلى وكالة الأنباء الفرنسية في فندقه.
اعقبت تلك الحادثة فترة من الصمت دامت أسابيع ثم عادت العلاقة إلى جاري عادتها. وأحجم كلانا عن العودة إلى الحديث عن حجر “بوابة فاطمة”.
بعد “خارج المكان”، ترجمت لإدوارد كتابين صدرا بعد الوفاة: مجموعة محاضرات بعنوان “الأنسنية والنقد الديمقراطي” (2005) تتوّج نظرته الإنسانية العلمانية فيما أسميه المرحلة الثالثة من تطوره الفكري، على اعتبار أن الأولى هي مرحلة نقد الاستشراق، والثانية مرحلة الثقافة والامبريالية. عنوان الكتاب الآخر “عن الأسلوب المتأخر. أدب وموسيقى عكس التيار” (2015) وهو مجموعة أبحاث عن شعراء وروائيين ومؤلفين موسيقيين وعازفين زادهم العمر تمردّا ومشاكسة.
ليست تنتهي القصة هنا. بل تعود إلى بدء.
يعمل أحد طلابي، نِايت جورج، على وثائق الخارجية الأمريكية عن لبنان لنيل الدكتوراه مؤخراً. كتب لي أنه عثر على ما اسماه “ظهورك الوحيد في وثائق وزارة الخارجية الأمريكية” الذي تبيّن انه رسالة تتعلق بالزيارة العتيدة إلى مؤتمر “جمعية الخريجين العرب الأمريكيين” في بوسطن.
المذكرة مرسلة من السيد ا. ف. غيلمور إلى السيد دايل في 20 تشرين الأول/أكتوبر 1971 يطلب فيها غيلمور من دايل أن يستخدم نفوذه لرفع تطبيق المادة 212د3 من “مرسوم الهجرة والجنسية” على “السيد طرابلسي”، على اعتبار ان القضية قد رفعت إليه من السيد جون فولكمار من مكتب جمعية الكويكرز البروتسطانتية في الأمم المتحدة، ويقول السيد فولكمار أنه يعرف “السيد طرابلسي شخصياً” و”يضمنه بما هو أكاديمي مرموق نال الدكتوراه في كلية الاقتصاد بجامعة لندن”. (طبعاً، غادرت “كلية الدراسات الشرقية والافريقية” في جامعة لندن بعد “أيلول الأسود” 1970 على أمل أن أنهي كتابة أطروحة الدكتوراه في لبنان ولم أفعل). المهم أن فولكمار ختم رسالته بأن القضية قد لفت نظره إليها البروفسور إدوارد سعيد من جامعة كولمبيا “الذي بدا أنه متأسف لأن طرابلسي قد منعت عنه التأشيرة”.
في النهاية، لست أدري ما الذي مكّنني من رفع تطبيق المادة 212د3 من “مرسوم الهجرة والجنسية” عليّ مؤقتاً ومنحي تأشيرة الأيام الأربعة إلى بوسطن، أهي وساطة إدوارد من طريق جمعية الكويكرز أم وساطة المحامي عابدين جبارة من طريق وزير العدل.؟
أدري أن صداقة إدوارد سعيد فتحت أمامي آفاقا من متعة الموهبة والدماثة والصداقة.
القدس العربي