لكل كاتب مأزق خاص/ حميد سعيد
في صباح مشمس حيث كنت أجلس فيه منفردا بنفسي في أحد مقاهي وسط البلد بعمان، بانتظار صديق قادم من بغداد في رحلة علاجية، ولتزجية الوقت كنت أقرأ ما وصلني من رسائل إلكترونية وكانت البداية مع مقولة العملاق الإغريقي كازنتزاكي “سوف أموت وكتب كثيرة، مازالت في داخلي”.
وفي الوقت ذاته وصلتني رسالة من مثقفة عراقية، فقدت بيتها وعملها الجامعي ببغداد، كما فقدت بعض أفراد أسرتها في ظل الخراب الذي عصف بوطننا، وتقيم الآن وتعمل في أستراليا، وتقول في رسالتها الإلكترونية “أتابع بعض ما يكتبه الأصدقاء بإحساس يجمع بين الفرح والألم، إذ تتيح لهم ظروفهم الاستمرار في الكتابة، أما أنا فعملي المرهق وما أعيش من غربة ووحدة، لم يبعداني عن الكتابة فحسب، بل أبعداني عن التفكير في الكتابة، وذلك ما أعده الخسارة التي تسبب لي الوجع، أكثر من كل الخسارات التي منيت بها”.
إن قراءة مقولة كازنتزاكي، وما كتبته إليّ هذه المثقفة العراقية المهاجرة، في آن واحد، وهما في موضوع واحد، هو الكتابة، أو الأقل على وجه أدق، علاقة الكاتب بالكتابة، ومن خلال هذه القراءة، كان عنوان مقالتي “مأزق الكتابة” ولكل كاتب مدخله إلى هذا المأزق، وكيفية التعبير عنه، ولا أنسى على هذا الصعيد ما استمعت إليه يوما من الجواهري الكبير، وقد سبق لي أن ذكرته في إحدى مقالاتي، إذ كان يحب قراءة النصوص المسرحية، وكنت بين وقت وآخر أوفر له مجموعة من المسرحيات المترجمة من تلك الإصدارات المتميزة التي تصدر في القاهرة والكويت، وفي أحد الأيام وهو يعيد لي ما انتهى من قراءته منها، يقول “هكذا تكون الكتابة، بمعنى، هذه الكتابة وليس ما نكتبه”، فقلت له “يا أبا فرات، أأنت من يقول هذا، فماذا يقول شخص مثلي؟”، فعلق قائلا بما معناه “إنه يقول الحقيقة”.
فإذا كان الجواهري يعيش مثل هذا الإحساس، وهو الذي له من المعجبين والمتابعين والقراء ما لم يكن لأحد سواه في زمنه، وقد ظل يواصل الكتابة على امتداد ما يقرب من قرن، فهل في قولنا بمأزق الكتابة، أي تجاوز للحقيقة؟
وإذا كان لكازنتزاكي من الأفكار ومشاريع الكتابة ما يخشى ألا يستوعبها عمره، وإذا كانت المثقفة العراقية المهاجرة تعيش أزمة عدم قدرتها على مواصلة الكتابة، وإذا كان الكاتب الذي يتسم إنتاجه بالكثرة يواجه بتهمة الاستسهال والتكرار والسطحية، فإذا كان قليل الكتابة أو ممن يتوقف عنها بين وقت وآخر، يواجه بتهمة الكسل وقلة الإنتاج وضعف الطاقة الإبداعية.
ولو توقف الأمر في ما وصفناه بمأزق الكتابة عند الحالات التي أشرنا إليها، لهان الأمر، غير أنه يلاحق الكاتب دائما، فالكاتب المجدد الذي يتجاوز الشائع والسائد ويبحث عن إضافات مهمة ويشتغل في جغرافية الاختلاف، يتهم بالتنكر لماضي أمته ومعاداة تراثها، حتى لو كان قد خرج من صلب هذا التراث، تمثلا لا تقليدا.
ومن يحاول أن يفيد من جوهر التراث وليس من مجرد الوقوف على أطلاله، يتهم بالجمود والتقليد ونقص الإدراك وخراب الوعي، ويتكرر هذا الحال في علاقة الكاتب باللغة وما يختار منها على صعيدي البنى والمعجم، كما يتكرر في طبيعة علاقته بالأدب العالمي، قبولا أو رفضا، تمثلا أو نقلا، ولو ارتضينا جدلا، كل الذي ذكرناه على أنه مأزق الكتابة، ولست ممن يرتضيه، فإن الأكثر إزعاجا، هو في ما يتعلق بالخيارات الجمالية للكاتب، حيث يرى بعض من يضعون أنفسهم موضع الحَكَم الذي لا يخطئ في حكمه، أن كل من يتجاوز خياره الجمالي أو ذائقته، لا يدخل مدخل الكتابة، وينبغي أن يطرد من عالمها، كما طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته.
وما ذهبت إليه لا يتعلق بالكاتب العربي فقط، وبهذه المرحلة الزمنية دون غيرها، إذ يكاد هذا المأزق يلاحق الكاتب في جميع ثقافات الأرض وفي جميع المراحل التاريخية، وليس من سبيل للكاتب، إلا أن يكتب كما يشاء، بعيدا عن كل حالات التنظير وما تفترضه من، يجوز ولا يجوز، أو هذا حلال وهذا حرام.
لذا يكون الاختلاف بيّنا في عمل النقد أو الناقد، وفي علاقته بالنص الإبداعي، فالنقد بكل مدارسه واتجاهاته، ليس تشريعا ينبغي الالتزام بكل ما جاء فيه، والناقد ليس شيخ طريقة يفرض على تابعيه ما يرى ويدفعهم بعيدا عما لا يتطابق مع ما يرى، إنما النقد قراءة تكتشف وتشير إلى اكتشافها، والناقد قارئ يتوفر على قدرات اكتشاف ما في النص الذي يقرأه من فكر ومن جمال، قد لا يتوفر عليها قارئ آخر.
وما ذهبت إليه يؤكد تعدد القراءات النقدية أو تعدد المدارس النقدية وتعدد مناهجها في القراءة، وسواء نظرنا إلى هذا الأمر، من منظور توالي القراءات النقدية أو من منظور تعددها، لوجدنا أن أي قراءة نقدية جديدة هي إضافة إلى جميع القراءات التي سبقتها، وليست إلغاء لها ومحوا لمنجزها، فلا يجوز لنا أن نرى في النقد أصولية، بل هو كذلك فعلا، خارج فرضية يجوز أو لا يجوز، ولو كان النقد أصولية، كما يتصوره بعض المشتغلين في رحابه الواسعة، حيث يحاولون تضييقها ومحاصرتها في ما يرون، لا في ما هو عليه جوهر العمل النقدي، حيث تعدد القراءات وتوسيع فضاء الاكتشافات في النص الذي يُقرأ.
وهذا التصور يناقض تاريخ الإبداع في متغيراته وإضافاته من جهة، ويناقض دور النقد في تأشير المتغير والجديد والمضاف من جهة ثانية، لذا كانت محاولات بعض النقاد أو بعض المدارس النقدية، إلغاء قيم جمالية سبقتها أو سبقتهم، مجرد أوهام، فما كان حاضرا من إبداع، ظلّ حاضرا رغم المتغيرات.
وهنا أستشهد بما قاله الصديق الشاعر الفلسطيني الكبير عزالدين المناصرة الذي أفتقده وأفتقد صوته: أفهم ظاهرة الميل والرغبة لدى الشعراء الشباب لتحطيم من سبقوهم، كما نحن ذلك في الستينات حين أردنا تدمير السياب، خليل حاوي، صلاح عبدالصبور وأدونيس، إلخ، لكن الأقوياء، دائما، هم الباقون، فلم تستطع مجلة شعر وضجيجها الدعائي أن تقنع القراء والنقاد والشعراء بأن يوسف الخال، مثلا، شاعر كبير.
كاتب عراقي
العرب