الفصل الروسي من “الليل السوري الطويل”/ وضاح شرارة
“توّج” الإحجام الأميركي والغربي عن الرد على تجاوز بشار الأسد حظر استعمال السلاح الكيماوي، وقصفه غوطة دمشق الشرقية في صيف 2013، الفصلَ الأول من “الحروب” السورية الأهلية والاقليمية المتمادية (مقال الكاتب في المدن، الليل السوري الطويل… في رواية سياسية متماسكة، تعليقاً على كتاب سفير فرنسا في دمشق الليل السوري الطويل). وترتب على الإحجام والتجاوز انعطاف المواجهات العسكرية، على طول الأراضي السورية وعرضها، نحو نزاع أهلي ومذهبي تخطى الحدود السورية إلى لبنان (استيلاء “حزب الله” على القصير والقلمون) والعراق (استيلاء تنظيم “الدولة الاسلامية” على الموصل بعد الرقة وإعلانه “دولته”)، وإلى الأردن وتركيا على وجوه متفرقة. وبين أوائل 2014 وأيلول/سبتمبر 2015، تاريخ انخراط روسيا بوتين في حماية “دولة” بشار الأسد وبداية الفصل الروسي من الحروب الدائرة، تعاقبت حوادث متفاوتة الخطورة أدى بعضها إلى تعقيد المسألة السورية فوق تعقيدها السابق.
فحين زحفت قوات “داعش” على كوباني الكردية، على الحدود بين سوريا وتركيا، وصدتها قوات “حماية الشعب” الكردية، وتولى طيران الدول الغربية المتحالفة ترجيح كفة المدافعين وهزيمة المهاجمين، المنتصرين إلى يومها، نفخ الانتصار في نفوس الكرد المحليين، وكرد البلدان الأربعة الاقليمية التي تتقاسمهم، الأمل في إنشاء كيان قومي خاص على صورة من الصور الحقوقية والسياسية المتاحة. فأثارت الواقعة- وهي توجت الروافد الكردية مجتمعة، من العراق القريب ومن الجوار التركي، إلى سوريا وإيران، بأكاليل الشجاعة والصمود والمناعة- حفيظة تركيا وخوفها من الشقاق الكردي والمسلح الداخلي. وظهرت على السياسة التركية الداخلية والإقليمية، علامات تصلب حملتها على تيسير دخول الداعشيين، المتقاطرين من أوروبا والمغرب وآسيا الوسطى والقوقاز الروسي، الأراضي السورية من بوابة تركيا.
ولم يحُل ذلك، في مرحلة أولى، دون تماسك الجيش السوري الحر، وإعلانه الحرب على “الدولة”. وأسعفه اعلان الحرب ووحده وشد أواصره المتراخية، وأمكنه من انتزاع إدلب وحلب من الاسلاميين الغلاة. ويلاحظ دوكلو، آسفاً، أن هذا الانجاز لم يدعُ من يسميهم “الغربيين” إلى تقدير الجيش الحر حق قدره، ومساواته بالمقاتلين الكرد. وأتاحت الصواريخ المضادة للدروع، من طراز تاو، التي تفضلت بها قوى إقليمية على الجيش الحر، ولم يعارض الأميركيون تسليمها، اعتراض تقدم قوات النظام، ودخول إدلب، وإنشاء “جبهة الجنوب” برعاية أردنية. ولم يدم التموين الأميركي البخيل وقتاً طويلاً. ويعزوه بعضهم إلى تحفظ شطر من إدارة أوباما على سياسته السورية. فجف تدريجاً، واشترط أصحابه على السوريين قصر قتالهم على “الدولة” وترك قتال أنصار “دولة” بشار الأسد.
وتعود عولمة الحرب في سوريا إلى هذا الفصل. وعواملها ستة:
1) بروز تهديد “جهادي” عالمي (من ثمراته المباشرة العمليات الارهابية التي طاولت فرنسا وبلداناً أخرى في أوائل 2015).
2) إقدام الولايات المتحدة وبعض حلفائها على قصف وادي الفرات قصفاً متصلاً.
3) فتح جبهة حرب “تركيا على الكرد”.
4) إرسال الحرس الثوري الإيراني آلاف “المتطوعين”، بعد انخراط جماعات عراقية شيعية في القتال منذ 2012، واشتراك “حزب الله” اللبناني وبعض الهزارة الأفغان في 2013.
5) توزيع أطراف غربية وتركية وعربية مساعدات عسكرية وغير عسكرية على منظمات مقاتلة متفرقة.
6) إتمام التدخل العسكري الروسي الضخم، في أواخر صيف 2015، التوجه إلى عولمة “الحروب السورية”.
ويعلل “أصدقاء” السفير الفرنسي السابق “الروس” (يكتب: “أصدقائي الروس”، ص 122)، انخراط بوتين في الحرب الدائرة منذ 4 سنوات ونصف السنة بأسباب، متضافرة يلخصها على النحو التالي: إنقاذ بشار الأسد المتهاوي، واستباق الفوضى العارمة (“سيناريو كابول”، في 1992) التي يتوقع أن تعقب سقوط دمشق وأن ينجم عنها حرية تنقل “الجهاديين” الناطقين بالروسية بين القوقاز وآسيا الوسطى والمشرق، واختبار القوات المسلحة الروسية قدراتها الميدانية بعد تحديثها منذ الحرب على جورجيا (في آب/أغسطس 2008)، وأخيراً رد الاعتبار إلى مكانة موسكو الديبلوماسية التي امتحنها ضم القرم في 2014، ونفخ في عُظامها، وعزلها بعض الشيء معاً. ولعل بوتين لم يتوقع الحصاد الكبير الذي جناه من انخراطه، غير أنه راهن من غير شك على ربح أكيد يترتب على “عودة” روسية طرفاً في أزمة إقليمية ودولية متفاقمة.
وأدرك بوتين أن ضعف إدارة أوباما واستحواذ همّ قتال “الجهاديين” على الغربيين، فرصة في مستطاعه انتهازها من غير مخاطرة. وكان الرد الغربي الأول على التدخل الروسي هو السعي في عقد اتفاق يقضي بتجنب الصدام بين قوات الطرفين. وبسط الروس سريعاً سيطرتهم على المجال الجوي السوري، واضطر الغربيون إلى رهن طلعاتهم ومهماتهم بموافقة الروس وشروطهم. وهذه حال بالغة الغرابة إذا احتسب المراقب الخلل الكبير في ميزان القوتين: فقوة الغربيين تفوق بما لا يقاس القوة الروسية، محلياً، في الشرق الاوسط، ودولياً.
والحرب في سوريا حرب قذرة، على نحو من العسير تصوره في القرن الواحد والعشرين. فـ”دولة” بشار الأسد تتوسل بالتعذيب على نطاق قلّ نظيره، وتجوّع السوريين وتضرب الحصار على المدن على ما كان الفاتحون يصنعون في قرون ماضية، وتطهر البلاد التي تستردها تطهيراً سياسياً وإتنياً لا هوادة فيه. وسمع السفير الفرنسي السابق، على ما يروي، شخصيات بارزة تعلن أسفاً بالغاً على سكوت أقطاب عرب ومسلمين عن فظائع حرب اختصرها هؤلاء في تورط إيران وتوريطها. ولاحظ آخرون أن الإيرانيين رموا في أتون الحرب آلاف المساكين الشيعة، من باكستانيين وعراقيين وهزارة أفغان ولبنانيين، لقاء مرتب شهري يعين أسرهم على البقاء. وعلى المثال الشيشاني السابق، تكيف الروس مع حرب متوحشة، فقصفوا الأبنية المدنية والعسكرية قصفاً مدمراً، واستهدفوا أولاً الجيش السوري الحر وتشكيلاته، والمستشفيات والمدارس. وأدى القصف إلى نزوح السكان المقيمين في مناطق المعارضة. ووسع قوات الأسد، والميليشيات الشيعية المناصرة، الاستيلاء على آخر أحياء حمص في كانون الأول (ديسمبر)، وعلى داريا في آب 2016، ومعظم “سوريا المفيدة” (محور دمشق-حمص-حلب إلى الساحل المتوسطي)، تحت العباءة العسكرية الروسية.
وغاب عن الغربيين، في الأثناء، خروج السوريين على الطاغية. وعلق بأذهانهم وعقول أصحاب القرار منهم اقتصار الحرب على “داعش” وصدارة هذه الحرب. واضطرت الجماعات التي تؤيدها الولايات المتحدة وبعض الدول الاقليمية إلى كف حربها على “الدولة” ونظامها، وتحولت “حرس حدود” لبعض دول المنطقة، على قول مقاتلين من هذه الجماعات. وسيطرت كتائب الجيش الحر وجبهة النصرة (جبهة تحرير الشام) على محافظة إدلب وتحالف الفريقان نهاراً واقتتلا ليلاً.
وجمع بوتين في الحرب الهجينة التي يخوضها القوات النظامية إلى القوات غير النظامية، والعمليات العسكرية إلى العمليات الاعلامية، والقوة الخشنة إلى القوة الناعمة. وشن هجوماً ديبلوماسياً في نيويورك في موازاة هجمات طيرانه على المدن والسكان وبعض جماعات المسلحين. ونقل المفاوضات واللقاءات من جنيف إلى فيينا. وأسهم نشاط جون كيري، الأميركي، في تشبيه عمل سياسي دولي. ولاحق وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، وألح في كتابة القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن في 8/12/2015. وكان كوفي أنان، ممثل الأمم المتحدة والجامعة العربية الخاص يومها، استصدر في حزيران/ يونيو 2012 قراراً يلزم الحكم بمرحلة “انتقالية”، مؤداها الفعلي رحيل بشار الاسد. وعلى خلاف قرار 2012، خلا قرار 2015 من الاشارة الى “انتقال” السلطة وإجلاء الطاغية عنها.
ومذ ذاك، اقتصرت القرارات التالية على دعوات إلى وقف النار. وتوالت الاتفاقات في هذا الشأن، وتوالت انتهاكاتها بعد أسابيع قليلة وأحياناً بعد أيام. وانتهت مفاوضات عسيرة بين الاميركيين والروس، في النصف الثاني من 2016، إلى رسم إطار عريض يرعى هدنة متدرجة. وارتكب سلاح الجو الأميركي خطأ قضى جراءه عشرات من جنود النظام، ورد الروس بقصف قافلة إغاثة. فتخفف الفريقان من الاتفاق، ومهد التخلي عنه الطريق إلى الهجوم النظامي- الروسي – الايراني على حلب، وسقوطها في الشهر الأخير من 2016.
وأعقب الانخراطُ التركي الانخراط الروسي. وشهدت علاقات الدولتين بين تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، تاريخ إسقاط سلاح الجو التركي طائرة عسكرية روسية، وبين منتصف تموز/يوليو 2016، تاريخ محاولة الانقلاب على أردوغان، تجاذباً حاداً وعقوبات روسية كادت تؤدي إلى القطيعة على رغم حجم المصالح المشتركة الكبير. واستعجل بوتين إظهار انحيازه إلى أردوغان آن تلكأ الغربيون. والتقى الرئيسان في آب. وفي أواخر الشهر دخلت القوات التركية أراضي سورية، وبلغت عفرين، وحالت بين الكرد وبين توسيع إقليمهم، وسقطت حلب في الأثناء، وانضمت الفصائل السورية المرابطة هناك إلى الحملة التركية، وقصد بعض المحاصرين في حلب إدلب ومحافظتها.
وغداة حلب، لم يبق شاغل للغربيين غير الحرب على “دولة” الإسلاميين. وافتقروا إلى أضعف مقومات استراتيجية في المسألة السورية والحرب الأهلية الدائرة على الأرض وفي بعض الجوار. ومضى بوتين على جمع المعالجة السياسية إلى المعالجة العسكرية. فساند الأسد في بسط سيطرته على الأراضي التي ينتزعها من المعارضة. وشق مسار آستانا، ونسق بين سياسات إيران وتركيا وروسيا، وأخرج الغربيين من مناقشة المسألة السورية. وتولى ثلاثي آستانا “ضمان” خفض التصعيد في دمشق ودرعا والرستن (أيار/مايو 2017)، ورعى “مصالحات” أنكرها النظام، ووَسِع “الضامنين” التنصل منها حال وصف فريق من مقاتلي المعارضة بـ”التكفير” أو “الإرهاب”.
ونجاح موسكو العسكري لم يوازه ولا كافأه نجاح سياسي (والقرينة اليتيمة على خطوة سياسية هي الانتهاء، قبل أسبوع واحد من نشر المدن هذه العجالة، من تشكيل اللجنة الدستورية المنتظرة منذ أوائل 2018، تاريخ انعقاد مؤتمر سوتشي، ولكن الفراغ من الإجراء لا يضمن أداء اللجنة وظيفتها الحائرة: تعديل الدستور “المعدل” في 2012 أم كتابة دستور جديد). ومع سقوط الغوطة ودرعا، في ربيع 2018، أنجز الروس وضع يد “دولة” الأسد على “سوريا المفيدة”. ونظير هذا، حرر الائتلاف المناهض لـ”داعش” الرقة في تشرين الأول 2017. ويعتصم الكرد بوطن روجافا. ومنذ أوائل 2018 تَصلي أطراف آستانا بعضهم بعضاً مباشرة أو بالواسطة، معارك فرعية تخوضها قوات النظام والميليشيات الكثيرة المؤتمرة بأمر الأقطاب. وفي الأثناء، يشن سلاح الجو الاسرائيلي هجمات متصلة على مواقع إيرانية منتشرة على الاراضي السورية، ومنذ وقت وجيز على الأراضي العراقية واللبنانية المتاخمة. وعلى هذا بلغت عولمة “الحرب” السورية مدى لا تحصره قوة واحدة، ولا ائتلاف قوى. وبلغت حداً من التعقيد يفيض عن الخطوط الاستراتيجية المتماسكة والمقدرة.
*****
ولعل مصائر “الحروب” السورية في الأعوام الثمانية- التسعة المنصرمة تمثيل على مآلات النزاعات في عالم متعدد الأقطاب، خَلَف عالم “القوة القصوى” الذي تربعت الولايات المتحدة في سدته طوال العقد ونصف العقد تقريباً. ولا يخفى أن دعاة تعدد الأقطاب- ويتصدرهم دعاة روس فيهم ألكسندر دوغين، أحد “مرشدي” بوتين الاوراسي، والمحاضر في بيروت تلبية لدعوة جهة أو جهات قريبة من “حزب الله”- يحملون التعدد الذي يتصدرون الدعوة إليه على علاج الظلم الفادح الناجم عن السيطرة الغربية. ولكنهم يسكتون عن أن “الأقطاب” الخارجين على الامبراطورية (الأميركية) هم امبراطوريات شرهة وساحقة. ويترتب على “تحررهم” من الغرب، على المثال الإيراني الضعيف وقبله المثال الروسي القوي الجلف، سحق جوارهم القريب، واحتلاله واستنزافه، وتصديع مقومات اجتماعه السياسي ومجتمعه أولاً.
المدن