الاقتصادي الدكتور أسامة القاضي بالأرقام والتفاصيل… موازين القوى الاقتصادية للقوى المنخرطة في الصراع السوري
يرى الخبير الاقتصادي الدكتور أسامة القاضي أنه في ظل التدويل الكبير في القضية السورية وخروج السوريين من المعادلة السياسية، فإن أياً من اللاعبين الدوليين الفاعلين في القضية السورية غير مستعجل للخروج منها، والكل يسعى لضمان تعويض خسارته الناجمة عن التدخل في القضية السورية، وفي الوقت نفسه فإن تلك الدول لن تضحي بعلاقتها مع أي دولة، وربما يكون الشريك الوحيد المهدد بالخروج من اللعبة، هو إيران حيث أن إبعادها أقل تكلفة من إبعاد أي طرف دولي فاعل آخر، فعلاقاتها مع الأطراف الروسية والتركية ضعيفة نسبياً، وتعلن عداءها للطرف الإسرائيلي بوصفه لاعباً أساسياً مدعوماً أمريكياً وروسياً.
وفي حوار مع “بروكار برس” يشرح القاضي المصالح الاقتصادية لأهم خمسة لاعبين على الأرض في المعادلة السورية جاليا، وما هي كلغة تدخلهم على الأرض، وكيف يمكن أن يعوضوا انفاقهم العسكري في سوريا على حساب الصفقات المستقبلية وتفاهمات فيما بين الأطراف ذاتها.
وإليكم نص الحوار الغني بالأرقام والتفاصيل.
ما هي موازين القوى الاقتصادية للقوى المنخرطة في الصراع السوري (الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل)، وكيف يمكن أن يكون لهذه الموازيين أثرها في واقع تدخلاتها السياسية في سوريا؟
ـ إن موازين القوى الاقتصادية بين روسيا والولايات المتحدة ترجح لمصلحة الأخيرة من دون أدنى شك، حتى أن ناتج الدخل المحلي لولاية كاليفورنيا وحدها يعادل 2.7 تريليون دولار أكثر منه في روسيا بتريليون دولار، فقد وصل ناتج الدخل القومي لروسيا بحسب أرقام البنك الدولي 1.6 تريليون دولار، أما الولايات المتحدة الأمريكية فناتج دخلها يعادل 20 ضعفاً ناتج الدخل القومي الروسي إذ وصلت عام 2018 إلى 20.4 تريليون دولار.
بلغ ناتج الدخل القومي الإيراني -بملايينها الثمانين- 454 مليار دولار، بينما إسرائيل -التي تقصف المواقع الإيرانية العسكرية في سوريا- بملاينها الثمانية وأقل بعشر أضعاف من عدد سكانها، وصل دخلها القومي إلى 353 مليار دولار، وبتعبير أدق حصة الفرد في إيران هي 5470 دولار بينما في إسرائيل 40850 دولار أي أكثر بسبعة أضعاف.
كذلك الميزان العسكري للولايات المتحدة يرجح روسيا، فقد ذكر تقرير معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام عام 2019 أن ما تنفقه الولايات المتحدة على التسليح وصل 670 مليار دولار، بينما تنفق روسيا 61.4 مليار دولار، بمعنى أن الولايات المتحدة وروسيا كليهما ينفق 3 في المئة من ناتج دخله القومي باتجاه التسلح، ولكن الولايات المتحدة تنفق عشرة أضعاف ما تنفقه روسيا فضلاً عن الفارق التكنولوجي الهائل بين البلدين.
إن موازين القوى الاقتصادية والعسكرية ترجح لمصلحة الولايات المتحدة وحلفائها، لكن هذا لا يفسر فاعلية الروس في العملية العسكرية والسياسية السورية، وإنما يفسر بتخلي الولايات المتحدة عن دورها القيادي في إدارة الملف السوري بوصفه ورقة من أجل إنجاح المحادثات مع إيران من أجل الاتفاقية لوقف التسلح النووي الإيراني في زمن الرئيس أوباما.
هذا يتضح من حجم التدخل الأمريكي الرمزي في الشأن السوري فقد أشار تقرير معهد واتسون الدولي والعلاقات العامة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 أن إجمالي الاعتمادات التراكمية لوزارة الدفاع ووزارة الخارجية / الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وصلت ما بين عامي 2001و2009 إلى 54 مليار دولار (6 مليارات دولار سنوياً)، بينما هي في العراق 822 مليار دولار ما بين عامي 2003 و 2009 (137 مليار سنويا)، وفي أفغانستان 975 مليار دولار ما بين عامي 2001 و 2009 (108 مليار سنوياً)، فالإنفاق العسكري الأمريكي في سوريا هو 22 مرة أقل منه في العراق و أقل بـ 18 مرة عنه في أفغانستان.
إن التكاليف العسكرية الأمريكية في سوريا في معظمها تنفق على بناء القواعد العسكرية والمطارات الأمريكية في سوريا، من مثل تحويل مطار الطبقة إلى قاعدة لطائرات الهليكوبتر، إضافة إلى عشر قواعد عسكرية أمريكية، وكذلك تجهيز أكثر من 2000 جندي أمريكي، فضلاً عن قاعدة التنف التي أُنشِئت عام 2014 بهدف مواجهة ما عرف بـ “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)، وهي تقع على بعد 24 كم من الغرب من معبر التنف ( الوليد ) عند المثلث الحدودي السوري العراقي الأردني، في محافظة حمص.
في المقلب الآخر؛ لا توجد أرقام رسمية دقيقة عن التكاليف العسكرية للتدخل الروسي، ولكن تُقدر تكلفة الغارات الجوية الروسية في سوريا بما يصل إلى 4 ملايين دولار يوميًا، وفقًا لما أوردته بيانات جمعتها صحيفة “ذا موسكو تايمز” من قبل مركز للدفاع، وأن تكاليف غارات القصف وتشغيل الإمدادات والبنية التحتية والأفراد في الشهر الأول (لغاية أكتوبر/ تشرين الأول 2015) كلفت روسيا ما بين 80 و 115 مليون دولار.
البيانات الدقيقة شحيحة، لكن تقارير وسائل الإعلام تقول إن خدمة القوات الجوية وحمايتها تراوح بين 5000 و 6000 فرد على الأرض ، يجري توفيرها عن طريق النقل البحري والجوي عبر البحر الأسود والمجال الجوي الإيراني والعراقي.
ثم إن كل طائرة حربية روسية بحسب معهد هلسنكي تكلف 12000 دولار في الساعة للطيران، وكل طائرة هليكوبتر تكلّف 3000 دولار في الساعة، ومع استمرار وتيرة القصف الذي يُبقي الطائرات في السماء مدة 90 دقيقة في اليوم في المتوسط، وتطير المروحيات ساعة واحدة في اليوم، تنفق موسكو حوالى 710،000 دولار كل 24 ساعة كل يوم حيث يسقطون حوالى 750،000 دولار من الذخائر على الشعب السوري.
يضاف إليها تكلفة الأفراد العسكريين التي تقدر بحوالى 440،000 دولار في اليوم إذ يتطلب الحفاظ على السفن في البحر المتوسط 200000 دولار إضافية والخدمات اللوجستية وجمع المعلومات والاتصالات والهندسة التي تضيف 250،000 دولار يوميًا.
صحيح أن تكاليف التدخل الروسي في سوريا كبيرة ولكنها استطاعت تعويضها ليس فقط عن طريق ضمان الحق الحصري في استثمار النفط السوري والثروة الأرضية، والمرافئ السورية مدة نصف قرن على الأقل، بل كذلك عن طريق بيعها السلاح الروسي الذي استعرضته في سماء سوريا في أثناء إبادتها للشعب السوري، واستخدامها أسلوب الأرض المحروقة، حيث تبوأت مكانة الدولة الثانية في العالم في بيع السلاح عام 2019 إذ بلغت 6.4 مليار دولار (جاءت بعد الولايات المتحدة الأمريكية التي باعت 10.5 مليار دولار).
باعت روسيا أسلحة كثيرة لـ 48 دولة في السنوات الخمس الماضية، وكانت الهند والصين والجزائر أكبر المستوردين.
في المستوى الإقليمي، استأثرت دول آسيا وأوقيانوسيا بنسبة 60 في المئة من صادرات الأسلحة الروسية في المدّة 2018-2014، وأفريقيا بنسبة 17 في المئة، والشرق الأوسط بنسبة 16 في المئة، وأوروبا بنسبة 5.8 في المئة، والأمريكتان بنسبة 1.4 في المئة.
لكن واقع الحال أن الصادرات الروسية من الأسلحة الرئيسية إلى الشرق الأوسط زادت بنسبة 19 في المئة إذا ما قارنا مبيعاتها أعوام ( 2009-2013) و( 2014-2018.(
في المدة 2018-2014، كانت مصر والعراق هما المستفيدان الرئيسيان من صادرات الأسلحة الروسية إلى الشرق الأوسط، فقد استحوذتا على التوالي على 46 و 36 في المئة من صادرات الأسلحة الروسية إلى المنطقة، وقد زادت عمليات التسليم إلى العراق بنسبة 780 في المئة بين ( 2009-2013) و ( 2014-2018)، بينما ارتفعت عمليات التسليم إلى مصر بنسبة 150 في المئة.(بحسب معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام مارس 2019).
وقد أكد وزير الدفاع الروسي (سيرغي شويغو) أن سوريا أرضاً وشعباً كانت في منزلة حقل تجارب، إذ استخلصت روسيا معلوماتٍ كبيرة من “التجربة السورية” وأكد “إنها اختبرت /231/ عينةً من الأسلحة الحديثة والمحدّثة منذ تدخلها في سوريا، حيث أتاحت الحرب –بحسب تعبيره – في سوريا الفرصة للجيش الروسي بتجربة أسلحةٍ جديدةٍ، ووفّرت لشركات السلاح الروسية مراجعاتٍ ميدانيةً لتعديل عددٍ من الأسلحة بناءً على ما كشفته الأرض السورية من عيوبٍ في بعضها”، ولفت شويغو في حديث صحافي -في 22 سبتمبر 2019- إلى أنّه “استناداً إلى نتائج العمليّات القتاليّة في سوريا، كان لدينا بطبيعة الحال استخلاص معلوماتٍ كبير، فقد جرى تعديل وتحديث حوالى /300/ نوع من الأسلحة مع مراعاة التجربة السوريّة، و/12/ نموذجاً واعداً أُزيل من الإنتاج والتسلّح” وبحسب تقريرٍ سابقٍ لصحيفة “ريد ستار العسكرية الروسية”، فإن “/98/ في المئة من طاقم النقل الجوي و/90/ في المئة من طواقم الطيران في الجيش الروسي، وكذلك /60/ في المئة من الطيارين للعمليات بعيدة المدى قد شاركوا بالفعل في العمليات في سوريا”. وأضاف: “الصواريخ المجنّحة من نوع “كاليبر” خضعت للتحديث بعد استعمالها في سوريا، ما ساعد في تقليص زمن تحميل إشارة الإطلاق”.
إن كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا بإمكانهما البقاء في سوريا أمداً طويلاً من دون أن يكون لبقائهما تداعيات اقتصادية كبيرة، وبخاصة أن روسيا تعدّ جغرافية سوريا وأهلها صالة عرض لأسلحتها وحقل تجارب تُستخدم لأغراض تسويق السلاح الروسي الذي زاد الطلب عليه بعد دخولها سوريا، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقول صراحةً : “إن الخبرة العسكرية التي اكتسبها الجيش في سوريا ساعدت على تطوير أنظمة أسلحة جديدة، حيث شنت روسيا حملة في سوريا منذ أيلول/ سبتمبر 2015، ساعدت في قلب مجرى الحرب لمصلحة الرئيس السوري بشار الأسد، وقد استخدم الجيش الروسي الصراع لاختبار طائراته الجديدة وصواريخ كروز والأسلحة الأخرى في القتال لأول مرة”.
هل ترى أن قوة الاقتصاد الذي تمثله الولايات المتحدة هو الذي يدعم قوة قراراتها السياسية والعسكرية؟
لا شك في أن الولايات المتحدة الأمريكية تستمد قوتها من قدرتها الاقتصادية والعسكرية الخارقة وتتصرف على أساس أنها إمبراطورة العالم والقطب الأوحد، فهي تنتج 9.3 مليون برميل نفط يومياً، وفيها 13513 مطار (روسيا 1218 مطار)، و33 ميناء (روسيا 8 موانئ)، و 3611 باخرة بحرية تجارية، وتُعد عملتها إلى الآن العملة الأكثر استخداماً في الكون فحجم الدولارات المستخدمة في العالم بمعنى “النقود الضيقة” المادية (الأوراق النقدية، والعملات النقدية، والأموال المودعة في حسابات التوفير أو الشيكات)،حوالى 36.8 تريليون دولار (بعض التقديرات المتحفظة تقدرها بـ 14.8 تريليون دولار).
طبعاً لو توسعنا في تعريف النقود بحيث تشمل “نقوداً موسعة” وهي ليست محض أموال مادية بل تشمل أي أموال محتفظ بها في حسابات يسهل الوصول إليها، فإن الرقم يبلغ حوالى 90.4 تريليون دولار، ولو أردنا التوسع في مفهوم النقود إلى المشتقات فالمبلغ أكبر كثيراً إذ يبلغ إجمالي الأموال المستثمرة في المشتقات وحدها 544 تريليون دولار كحد أدنى، والتقدير الأكبر هو 1.2 كوادر يليون دولار (1200 تريليون دولار).
إضافة إلى ما سبق فإن لدى الولايات المتحدة حجماً خرافياً من الآلة العسكرية الجبارة من حيث الكم والنوع، إذ تملك 13398 طائرة بأنواعها (روسيا الثانية 4078 طائرة) ولديها 6287 دبابة مقاتلة، و 39223 سيارة مصفحة، ومجموع الأصول البحرية 415 بما فيها 68 مدمرة، و68 غواصة، و 24 حاملة طائرات، يضاف فارق التقدم التكنولوجي الكبير بين صناعاتها العسكرية وصناعة الدول الأخرى.
إن هذه القوة العسكرية والاقتصادية الخرافية تفسر تحكم الولايات المتحدة في قرارات مجلس الأمن وفي قرارات الحرب والسلم في العالم.
ما هي محاذير روسيا اقتصادياً في سوريا؟
روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي دولة فيها ثروات هائلة تتطلع -زمن الرئيس بوتين- أن تُظهر نفسها بصفتها دولة عظمى، لكن لديها تحيدات اقتصادية هائلة، إذ تواجه مشكلة سكانية بواقع تقلص عدد سكانها بحوالى 700 شخص يوميًا، أو أكثر من 250،000 شخص سنويًا، وفقًا لصحيفة أوراسيا ديلي مونيتور، وشهدت بعض المدن مثل مورمانسك، انخفاضًا في عدد السكان بأكثر من 30٪ منذ نهاية الاتحاد السوفياتي، ويعزى هذا الانخفاض جزئياً إلى التركيبة السكانية القديمة، وانخفاض معدلات الهجرة، وفشل الحكومة في تطبيق اللوائح الصحية والغذائية، وقد أشار الرئيس الروسي صراحة في خطاب الأمة في شباط/ فبراير 2019 إلى هذه الإشكالية حيث قال: “لقد دخلت روسيا الآن مرحلة ديموغرافية صعبة للغاية، معدل المواليد يتناقص”.
تمتلك روسيا أكثر من 460 مليار دولار كاحتياطي، مع مستوى دين يبلغ 29٪ من الناتج المحلي الإجمالي و 15.9 شهرًا من غطاء الاستيراد، تؤدي إحصاءات الاقتصاد الكلي الأساسية هذه إلى اعتقاد الخبراء أن بإمكان روسيا تحمل بعض الصدمات العالمية، حتى لو ظل معدل نموها الاقتصادي منخفضًا بنسبة 1.5٪ تقريبًا (بحسب صحيفة ماركتس انسايدر).
وتُعد روسيا دولة نفطية بامتياز واقتصادها يعتمد اعتمادًا كبيرًا على الموارد النفطية والغازية، فقد وصل إنتاجها النفطي إلى أكثر من 11 مليون برميل يومياً، وعام 2017 شكل الغاز 59٪ من صادرات روسيا، و25٪ من إجمالي إيراداته، وفقًا للبنك الدولي.
في 20 شباط/ فبراير 2019، صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه عن حالة الأمة أمام الجمعية الاتحادية الروسية بمكافحة الفقر في روسيا الذي يؤثر حاليًا في أكثر من 13٪ من السكان، أو حوالى 19.3 مليون روسي ممن يعيش تحت خط الفقر، وبعضهم يلقي باللوم على العقوبات الاقتصادية الغربية التي ساهمت في الفقر الروسي وعدم اليقين الاقتصادي.
عانى الاقتصاد الروسي أزمة مالية كبيرة في المدة من 2014 إلى 2017، بسبب الانخفاضات الهائلة في أسعار النفط في عام 2014 والعقوبات الدولية المفروضة على روسيا عندما تدخلت عسكريًا في أوكرانيا فقد شهد الروبل انخفاضاً هائلاً إلى أكثر من النصف، وقد ألقى بنك روسيا المركزي باللوم على العقوبات الأمريكية على الروبل ليصل إلى أدنى مستوى في كانون الثاني/ يناير 2016 إذ وصل سعر الروبل 85 لكل دولار، بينما وصل سعر الروبل في أيلول/ سبتمبر 2013 إلى 32 مقابل الدولار الأمريكي، بمعنى أن الروبل خسر أكثر من 60 في المئة من قيمته خلال ثلاث سنوات، والآن استقر سعره عند 64 روبل للدولار في أيلول/ سبتمبر 2019.
إن معدل الأجور الشهرية في روسيا حوالى 670 دولار، وانخفضت القدرة الشرائية للمواطن الروسي لأكثر من الثلث آخر خمسة سنين بسبب عدم استقرار الروبل.
مع استمرار روسيا في محاولة إعادة تأكيد نفسها بوصفها قوة عالمية، فإنها تواجه عملة متقلبة، وانخفاضا في عدد السكان، واقتصاداً يعتمد في نواح كثيرة على النفط والغاز الذي يعاني أزمة في تصديره سيخفف منها مشروع السيل الأحمر عبر تركيا.
إن الوضع الاقتصادي الحرج لروسيا لا ينسجم مع إرادتها أداء دور مهم في بقية دول العالم وبخاصة سوريا، لأن تكاليف الصراع مع الغرب في العالم كله وتحمُل نزيف مالي بهذا الحجم ليدعم الوجود الروسي المستمر في أوكرانيا سوريا سيضغط على وضعها الاقتصادي المتردي أصلاً، ولكن معاناة المواطن الروسي تعدها الأحلام القيصرية ضرورة من أجل استعادة مكانة الروس الدولية مهما كلفت من زيادة شقاء المواطن الروسي.
صانع القرار الروسي يُمنّي نفسه بالفوز بالحرب في سوريا كي يضع يده كاملة على الثروات النفطية والمعدنية والمرافئ (على الرغم من أن الثروة النفطية السورية الآن تحت سيطرة النفوذ الأمريكي) لذلك فهو يوقع اتفاقيات مع النظام السوري ولمدد تفوق نصف قرن، بحيث أن أي حكومة تعقب النظام تكون ملزمة بالديون وبالاتفاقيات الموقعة معه، وكون روسيا هي الضامن فيصعب أن تأتي أي حكومة تزيل القواعد العسكرية الروسية من سوريا أو تأمرها بمغادرة المرافئ التي وضعت يدها عليه، أو تنقض أي اتفاقيات وقعها النظام.
ما هي تخوفاتها من وجود اقتصادات معاقبة كإيران أو متذبذبة كتركيا أو مهيمنة كالولايات وما دور البعد الاقتصادي الإسرائيلي في جملة التفاهمات مع روسيا؟
العقوبات الاقتصادية على إيران التي تتزايد يوماً بعد يوم وبخاصة الأخيرة التي طالت البنك المركزي الإيراني وشركة “اعتماد تجارت” الإيرانية تجعل منها حليفاً روسياً ضعيفاً في سوريا، فالواقع الاقتصادي الإيراني يزداد سوءا، فقد هبط سعر التومان الإيراني الرسمي بحسب البنك المركزي الإيراني من 10000 تومان للدولار الواحد عام 2011 أكثر من أربعة أضعاف إلى 44000 تومان أيلول/ سبتمبر عام 2019، إضافة إلى وصول التضخم السنوي المعلن 20 في المئة ونسبة بطالة 12 في المئة، وبلغت حصة الفرد سنوياً من ناتج الدخل القومي 5470 دولاراً.
وقد يجد الروس في الأتراك حليفاً أقوى وأقل عداوة للعالم كونه عضو في حلف الناتو، وما زال يتمتع بعلاقات اقتصادية جيدة مع دول العالم، وبناتج دخل قومي 854 مليار دولار -تقريباً ضعف ناتج الدخل القومي الإيراني – ارتفع حوالى 5 أضعاف منذ 1995 (169 مليار دولار) وحصة الفرد التركي من ناتج الدخل القومي سنوياً 10380 دولار- ضعف الإيراني- وقد دخل تركيا 32 مليون سائح عام 2017، ولكن في الوقت نفسه فإن الليرة التركية انخفضت حوالى أربعة مرات منذ آذار/ مارس 2011 من 1.5 ليرة للدولار إلى أن وصلت إلى 5.6 ليرات للدولار في أيلول/ سبتمبر 2019.
جدير بالذكر أن العلاقات التجارية البينية الروسية التركية قوية فقد بلغت 26 مليار دولار عام 2018، وقد وضع هدف الوصول بهذا الرقم إلى 100 مليار دولار خلال زيارة الدولة التي أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أنقرة في 1 كانون الأول/ ديسمبر 2014، حيث وقعت شركة غازبروم وشركة بوتاش التركية مذكرة تفاهم بشأن بناء خط أنابيب الغاز البحري من روسيا إلى تركيا عبر البحر الأسود، وتلقت شركة “غازبروم” سلسلة من التصاريح لمشروع “ترك ستريم” بطول 1500 كم، وقد بدأ بناء خط الأنابيب في 7 أيار/ مايو 2017 في البحر الأسود بالقرب من الساحل الروسي وانتهى 90 في المئة منه، وسيعلن انتهاء المشروع آخر عام 2019.
روسيا وتركيا كلاهما بحاجة إلى تنويع طرق توصيل الغاز الطبيعي، إذ ترغب روسيا في ضمان صادرات مستقرة إلى السوق الأوروبية بسبب خطر تدفق الغاز غير المستقر عبر الطريق الأوكراني، في حين أن هدف تركيا هو تحقيق أمن الطاقة.
علاوة على ذلك، وفقًا للخطة الاستراتيجية للطاقة التركية، فإن خط أنابيب “ترك ستريم” سيتيح لتركيا أن تصبح مركزًا لتجارة الغاز في المنطقة.
إضافة إلى بناء روسيا منذ عام 2017 لأربع محطات نووية لتوليد الطاقة في أكويو-تركيا بتكلفة 25 مليار دولار تولد كل واحدة منها 1200 ميغا وات، وتؤمّن كهرباء لمدة ستين سنة مقبلة وينتهي العمل ببناء المحطات عام 2023، وقد اشترى بنك “سبيربانك” الروسي “دينزبانك” التركي بمبلغ 3.5 مليار دولار، واستحوذت شركة “ماغنيتوغورسك” للمعادن الروسية على مصنع الصلب التركي في إسكندرون مع ميناء خاص بها من أجل الوصول إلى سوق الاتحاد الأوروبي.
وأكملت الشركات التركية مشروعات بناء بقيمة 64 مليار دولار أمريكي في روسيا (لتاريخ حزيران/ يونيو 2016)، وأُنجز أكثر من 3 مليارات دولار من مشروعات البناء هذه عام 2014 في إطار دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي، وقد احتلت روسيا المرتبة الأولى بنسبة 20٪ من إجمالي عدد المشروعات التي أنجزتها الشركات التركية في الخارج، إضافة إلى دخول 4.7 مليون سائح روسي إلى تركيا عام 2017.
هذا جزء بسيط من التداخل الاقتصادي الروسي التركي الذي ينعكس على أي قرار روسي في الشأن السوري آخذاً بالحسبان شركاءه الأتراك.
في الوقت نفسه حجم التبادل التجاري الإيراني التركي 9.3 مليار دولار، حيث تصدر تركيا 2.4 مليار دولار لإيران، وتستورد منها 6.9 مليار دولار (أغلبها نفط ربما تعوضه فور استكمال الخط الروسي آخر عام 2019).
إن صانع القرار التركي عملياً لا يمكن أن يضحي بسهولة بهذا الحجم التجاري مع إيران ولا بد أن ينعكس هذا في موقفه السياسي في القضية السورية، لكنه بالواقعية نفسها أقرب إلى الروس وإرضاؤهم ضرورة اقتصادية لا محيد عنها، وفي الوقت نفسه الروس مهتمون بتمتين علاقاتهم الاقتصادية مع تركيا التي تتجاوز كثيراً حجم التبادل التجاري البسيط بين الروس وإيران الذي لم يتجاوز 1.7 مليار دولار عام 2018، وهذا سيترجم مواقف سياسية في القضية السورية.
إن علاقات روسيا مع تركيا لا تقارن بعلاقتها باسرائيل التي بالكاد يصل حجم تبادلهما التجاري المليار دولار، ووصلت في بعض السنين إلى أقل من نصف مليار دولار سنوياً، وإسرائيل تستفيد من 400 ألف سائح روسي سنوياً وبخاصة من السائحين الدينيين الأرثوذكس الروس.
كذلك العلاقات التجارية بين تركيا وإسرائيل ضعيفة نسبياً وصلت 4.3 مليار دولار 2015، ولكنها تعرضت لاهتزازات كبيرة، والصادرات التركية بلغت 453 مليون دولار في آذار/ مارس 2019، بينما كانت 2.6 مليار دولار عام 2015.
واقع الأمر أن الولايات المتحدة الأمريكية هي أكثر من ينافس الروس في علاقاتهم التجارية مع الأتراك، إذ بلغ إجمالي تجارة السلع والخدمات الأمريكية مع تركيا 24 مليار دولار عام 2017، إذ بلغت الصادرات الأمريكية لتركيا 12.7 مليار دولار، وكانت الواردات الأمريكية من تركيا 11.2 مليار دولار، وتعد تركيا الشريك الثاني والثلاثين في تجارة السلع مع الولايات المتحدة عام 2018.
لا شك في أن الأتراك أمام تحدٍ كبير عند إجراء مفاضلة محرجة بين الروس والأمريكان اقتصادياً، تتوقف على مدى حنكة الأمريكان في إعادة العلاقات مع تركيا والتوقف عن التحرش بحدودهم ودعم أعدائهم، ولأن هذا سيدفعهم إلى الميل روسيا، وهذا كان واضحاً في انضمام الأتراك إلى محادثات آستانة مع روسيا من دون الحليف السابق الأمريكي.
واقع الأمر أنه في ظل التدويل الكبير في القضية السورية وخروج السوريين من المعادلة السياسية، فإن أياً من اللاعبين الدوليين الفاعلين في القضية السورية غير مستعجل للخروج منها، والكل يسعى لضمان تعويض خسارته الناجمة عن التدخل في القضية السورية، وفي الوقت نفسه فإن تلك الدول لن تضحي بعلاقتها مع أي دولة، وربما يكون الشريك الوحيد المهدد بالخروج من اللعبة، هو إيران حيث أن إبعادها أقل تكلفة من إبعاد أي طرف دولي فاعل آخر، فعلاقاتها مع الأطراف الروسية والتركية ضعيفة نسبياً، وتعلن عداءها للطرف الإسرائيلي بوصفه لاعباً أساسياً مدعوماً أمريكياً وروسياً.
إن الاستغناء عن إيران لن يشكل ضرراً اقتصادياً كبيراً للدول الفاعلة، وإبعاد اللاعب الإيراني ربما سيكون مدخل الحل السوري في المستقبل القريب، بحيث تجري الصفقة بإرضاء الجميع ويبقى خاسر واحد وهو إيران، الذي يمكن إسترضاؤه في حال موافقته ضمن صفقة واحدة بعيداً عن مشروعه الطائفي أو الفارسي القومي في المنطقة الذي لا يتقاطع مع التطلعات القيصرية الروسية، أو التركية أو الإسرائيلية أو الأمريكية.
بروكار سوريا