الأزمة الإيرانية – السعودية بعد هجمات “أرامكو” واحتمالات التصعيد -مجموعة مقالات-
الأزمة الإيرانية – السعودية بعد هجمات “أرامكو” واحتمالات التصعيد
لمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
تعرّضت منشآت تابعة لشركة أرامكو السعودية، يوم السبت 14 أيلول/ سبتمبر 2019، لهجمات بصواريخ وطائرات مسيّرة، أدت إلى تعطيل نصف إنتاج النفط السعودي. وعلى الرغم من تبنّي الحوثيين هذه الهجمات، فإن واشنطن والرياض اتهمتا إيران بالوقوف وراءها، بسبب بُعد الموقع عن اليمن، وتعقيد التنفيذ، وأن مصدرها كان من شمال غرب المملكة العربية السعودية. وتواجه المملكة والولايات المتحدة الأميركية معضلةً في كيفية الرد على هذا التصعيد. وتراوح الاحتمالات بين الاكتفاء بتشديد العقوبات على إيران، وزيادة الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، وصولًا إلى القيام برد عسكري محدود، سواء في مناطق نفوذ إيران في سورية أو العراق، أو حتى داخل إيران نفسها، مع أن هذا الاحتمال الأخير يبدو ضعيفًا بحسب المعطيات.
محدّدات السلوك الأميركي في الأزمة مع إيران
تتحكّم مجموعة من الاعتبارات في سياسة إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إزاء التصعيد الإيراني المتدرّج، أهمها موقف الرئيس الرافض للتورط في أي حرب جديدة لا تتصل مباشرة بالمصالح الأميركية، وذلك استنادًا إلى “استراتيجية الأمن القومي الأميركي” التي تعتمدها إدارته، ومنطلقها شعار حملته الانتخابية “أميركا أولًا”. وكان ترامب قد تعهد، خلال حملته الانتخابية عام 2016، بسحب القوات الأميركية من العديد من مناطق الصراع في العالم، وتحديدًا من الشرق الأوسط، لكنّه لم يحقق نجاحًا يذكر في هذا الصدد. بل إنه وجد نفسه مضطرًا إلى إرسال مزيد من القوات إلى أفغانستان، مثلًا، عام 2017، وكذلك نشر قوات إضافية في منطقة الخليج العربي، في شهري أيار/ مايو وتموز/ يوليو 2019، في محاولة لردع إيران عن تنفيذ هجماتٍ تهدد حرية الملاحة في المنطقة. ومع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، يجد ترامب نفسه أمام وعد انتخابي لم يتمكّن من إنفاذه، وخصوصًا أنه كان يتهم سلفَيه، جورج بوش الابن وباراك أوباما، بتوريط الولايات المتحدة في صراعات دولية مكلفة، ليس لواشنطن مصالح مباشرة فيها.
ولكن ترامب لا يريد، في المقابل، أن يبدو بمظهر الرئيس الضعيف أمام إيران، خصوصا أنه لم يتردّد في اتهام رؤساء أميركيين سابقين بأنهم “فقدوا إيمانهم بالعظمة الأميركية”. وكثيرًا ما نعت أوباما باتباع سياسات ضعيفة ومتردّدة في العالم؛ ما جعل خصوم أميركا يتجرؤون عليها. ويجد ترامب نفسه محرجًا أمام صقور الجمهوريين، وحلفائه في إسرائيل والسعودية؛ ذلك أنه أطلق تهديدات كبيرة ضد إيران، لكنه يستجدي الآن حوارًا معها في ظل العقوبات التي أعاد فرضها بعد أن انسحب أحاديًا من الاتفاق النووي في عام 2018؛ الأمر الذي تفهمه إيران بأنه تسليم بإلغاء الاتفاق وخضوعٌ للعقوبات. وقد أضعف هذا السلوك كثيرًا الصورة التي حاول ترامب أن يرسخها لنفسه، بصفته “صانع صفقات كبرى” من موقع قوة. كما زادت إيران من تحدّيها ترامب، وبدلًا من أن ترضخ للعقوبات وتعود إلى طاولة المفاوضات، أخذت في التصعيد تدريجيًا لرفع التكلفة عليه، وإجباره على التراجع عن سياساته إزاءها. أمام هذا المأزق، ليس في وسع ترامب التراجع عن سياسة العقوبات التي فرضها، وفي الوقت نفسه، لم يعد أمامه من أدوات ضغط إلا العمل العسكري، وهو ما يحاول تجنّبه خشية الانزلاق نحو حرب شاملة في سنة انتخابية.
الاعتبارات السعودية
تجد السعودية نفسها أمام معضلةٍ لا تقل صعوبة عن المعضلة التي يواجهها ترامب. ففي بداية الأزمة، كانت السعودية تدفع في اتجاه مواجهة عسكرية بين واشنطن وطهران، على أمل أن يضع ذلك حدًا لسياسات التمدّد الإيراني في المنطقة. لكن بمرور الوقت، بدأت السعودية تدرك أنها قد تدفع ثمنًا غاليًا في مثل هذه المواجهة، خصوصا مع تآكل الثقة بالموقف الأميركي، واتضاح تردد إدارة ترامب وإحجامها عن التورّط في مواجهة عسكرية شاملة مع إيران. وقد زادت الهجمات التي تعرّضت لها السعودية أخيرا من انكشافها أمام التهديدات التي تواجهها. وعلى الرغم من صفقات التسلح الكبيرة، والإنفاق العسكري السعودي الذي يأتي في المرتبة الثالثة عالميًا بعد الولايات المتحدة والصين فقط، بدت السعودية عاجزة تمامًا أمام الهجمات الجوية التي تعرّضت لها، سواء كانت صادرة من اليمن أو من الشمال.
وتشير تقارير أميركية إلى أن الشكوك السعودية في نيات ترامب التصدّي بقوة للتصعيد الإيراني الذي يستهدفها دفعت الرياض إلى أن تطلب رسميًا من واشنطن عدم إشعال حربٍ إقليمية، تكون المملكة المتضرّر الأول منها، أو ساحة رئيسة لها. وقد جاء الطلب السعودي الذي سرّبت مضمونه إدارة ترامب، عبر نائب وزير الدفاع، الأمير خالد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، خلال زيارته الأخيرة لواشنطن أواخر آب/ أغسطس 2019. وعوضًا عن قرع طبول الحرب، طلب ابن سلمان من المسؤولين الأميركيين مواصلة نهج العقوبات على إيران؛ على أساس أن سياسة “الضغوط القصوى” الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة عليها، في آب/ أغسطس 2018، تعتبر سياسةً فعالةً في تقويض استقرار نظام طهران الذي قد يكون معنيًا بحرب محدودة، لتحويل انتباه الشعب الإيراني من الأزمات الداخلية إلى التهديدات الخارجية.
وتبدو المخاوف السعودية من الخذلان الأميركي مبرّرة واقعيًا؛ ذلك أن سلسلة الهجمات على ناقلات نفط في الخليج العربي، في أيار/ مايو وحزيران/ يونيو 2019، لم تولّد ردًا عسكريًا أميركيًا. ولم يغيّر إسقاط إيران طائرةً أميركية من دون طيار، في حزيران/ يونيو 2019 – أصرّت الولايات المتحدة على أنها كانت تحلق فوق مضيق هرمز، وليس في الأجواء الإيرانية – في الموقف الأميركي شيئًا. وبعد أن حسمت واشنطن قرارها بتوجيه ضربةٍ عسكريةٍ انتقاميةٍ إلى إيران، تراجع ترامب في اللحظة الأخيرة؛ بزعم أن إيقاع قتلى إيرانيين هو رد غير متناسب مع إسقاط طائرة مسيّرة، واكتفى بدلًا من ذلك بشن هجوم “سبراني”، زعم ترامب أنه ألحق ضررًا كبيرًا ببرنامج إيران الصاروخي. وأخيرًا، جاءت الهجمات التي تعرّضت لها منشآت “أرامكو”، في 14 أيلول/ سبتمبر، لتكشف، على نحو لا لبس فيه، عدم جدّية ترامب في خوض أي مواجهة مع إيران، ما دامت لا تمس مباشرة القوات الأميركية في المنطقة. وبعد أن أكد ترامب أن بلاده “على أهبة الاستعداد” للتصدّي لإيران، بدأ يتراجع من جديد، مطالبًا السعوديين بأخذ زمام المبادرة.
ولا تبدو صورة السعودية في واشنطن أفضل كثيرًا من صورة إيران، ما يزيد من صعوبة الدفاع عنها حال تعرّضها لهجوم، فالرياض تعاني تقلص قاعدة حلفائها في الكونغرس الأميركي على خلفية عدد من القضايا، منها الانتهاكات التي ترتكبها في حرب اليمن منذ عام 2015؛ وهو ما دفع الكونغرس إلى التصويت بأغلبية مجلسيه، النواب والشيوخ، في أيار/ مايو 2019، على قرارٍ يمنع الولايات المتحدة من استمرار تقديم الدعم للحلف السعودي – الإماراتي، وقد اضطر ترامب إلى استخدام الفيتو لوقفه. أضف إلى ذلك تداعيات جريمة اغتيال الصحفي السعودي، جمال خاشقجي، الذي كان يحمل إقامة أميركية، في قنصلية بلاده في إسطنبول، في تشرين الأول/ أكتوبر 2018. فضلًا عن أن ملف حقوق الإنسان في المملكة لا يزال يثير انتقادات واسعة في واشنطن والعالم.
وتبرّر الرياض عدم نيتها الرد مباشرة على الهجوم الذي تتهم إيران بشنه ضد منشآت “أرامكو” النفطية بضرورة التنسيق مع واشنطن، والحصول على موافقتها؛ ذلك أن لدى الولايات المتحدة مئات الجنود المتمركزين في السعودية، كما أن لديها آلافًا آخرين منتشرين في قواعد وقطع عسكرية في الخليج العربي؛ ما يجعلهم عرضةً لهجمات انتقامية من إيران. وهذا الأمر يجعل قرار الرد على إيران عمليًا بيد الولايات المتحدة، كما يقول السعوديون، على الرغم من أن مسؤولين أميركيين يؤكدون أن واشنطن باعت الرياض أسلحة كثيرة متطورة تمكّنها من الرد على الهجوم الإيراني، لو أرادت ذلك فعلًا.
بناء على هذه الاعتبارات، يبدو أن إعلان وزارة الخزانة الأميركية، في العشرين من أيلول/ سبتمبر 2019، فرض مزيد من العقوبات على طهران، متبوعًا بإعلان وزارة الدفاع تعزيز قواتها ومعدّات الدفاع الجوي والصاروخي لديها في المنطقة ردًا على الهجوم على “أرامكو”، قد يكونان أقصى ما ترغب واشنطن والرياض في فعله في المرحلة الراهنة، على أمل أن تكف إيران عن اتخاذ مزيد من الإجراءات التصعيدية.
خلفيات تردد واشنطن في مواجهة التصعيد الإيراني
هناك عوامل المهمة تدفع الإدارة الأميركية، خصوصا البنتاغون، إلى التعامل بحذر كبير في الأزمة مع إيران، أهمها:
الخشية من أن تؤدي أي ضربة محدودة لإيران إلى إشعال حرب شاملة في المنطقة، تتورّط فيها الولايات المتحدة إلى جانب حلفائها. ويُحتمل أن تستعين إيران، في حال توجيه ضربة محدودة إليها، بشبكة وكلائها الممتدة من اليمن إلى العراق وسورية ولبنان؛ وهو ما قد يعرّض القواعد والقطع العسكرية والمصالح الأميركية للخطر. وإذا حدث ذلك، ستجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة إلى حشد قوة عسكرية كبيرة لهزيمة إيران؛ ما يعني حربًا جديدة في الشرق الأوسط، ودخول سيناريو أسوأ من سيناريو العراق.
تخشى الإدارة الأميركية أيضًا من أنها ربما تخدم التيار المتشدّد في إيران، إذا وجهت إليها ضربة عسكرية. وقد تقضي على أي فرص للتفاوض من جديد على الاتفاق النووي الإيراني.
وفقًا لتقدير مجتمع الاستخبارات الأميركية، فإن النظام الإيراني الذي يعاني تراجعًا في شعبيته، بسبب وطأة العقوبات الاقتصادية، يسعى إلى استدراج الولايات المتحدة إلى هجوم عسكري محدود، لرفع شعبيته داخليًا، وتعزيز موقفه الاستراتيجي خارجيًا، ومن ثمّ فإن إدارة ترامب لا تريد أن تمنحه هذه الورقة.
خاتمة
بغض النظر عن الاعتبارات الظرفية التي تحكم السلوك الأميركي في الرد على التصعيد الإيراني، فإن الأزمة الأخيرة كشفت تغيرًا عميقًا في المقاربة الأميركية لأمن منطقة الخليج وحدود التزامها بها. لم يبدأ هذا التغيير مع إدارة ترامب، بل أسّست له إدارة أوباما؛ فهو مرتبط، من ناحية، بإعادة تعريف الولايات المتحدة مصادر التهديد الاستراتيجي التي تواجهها، وباتت تركز أكثر على الصين وروسيا، وفق استراتيجية الأمن القومي التي كشفت عنها إدارة ترامب عام 2017. ومن ناحية أخرى، باتت الولايات المتحدة اليوم أقل اعتمادًا على نفط الخليج؛ إذ إنها تنتج 12 مليون برميل من النفط يوميًا، ولا تشتري من السعودية سوى 9% فقط من واردات النفط الأميركي من الخارج. ولا يعنى هذا أن منطقة الخليج فقدت أهميتها كلّيًا بالنسبة إلى الولايات المتحدة؛ فهذه المنطقة تبقى مصدرًا أساسيًا للنفط والغاز في العالم، وتؤثر في استقرار أسعار الطاقة عالميًا، ومن ثمّ في استقرار الاقتصادي العالمي. وليس واردًا أن تسمح الولايات المتحدة لقوى دولية منافسة، مثل روسيا والصين، بالحلول مكانها في منطقة الخليج العربي، لكن هذه المنطقة لم تعد تكتسي الأهمية نفسها التي كانت لها في السابق، عندما كانت واشنطن تستورد جزءًا كبيرًا من نفطها منها. وأخيرًا، فشل رهان حلفاء الولايات المتحدة في منطقة الخليج، خصوصا السعودية والإمارات العربية المتحدة، على الرئيس ترامب، اعتقادًا منهم أنه سوف يغير سياسات أوباما جذريًا. فكل ما تغير بالنسبة إليهم، مع اندفاعهم للتطبيع مع إسرائيل لكسب رضاه، هو مطالبته المتواصلة لهم بدفع الأموال مقابل توفير الحماية، من دون ترجمة حقيقية لذلك على الأرض.
العربي الجديد
السبب الحقيقيّ وراء عدم شن ترامب هجوماً على إيران
هناك اعتقاد عام بأنَّ إيران هي المسؤولة عن قصف المملكة العربيّة السعوديّة في 14 أيلول/ سبتمبر، إذ استهدفت طائرات مُسيَّرة مع سلسلة من الهجمات الصاروخيّة منشأتَين نفطيّتَين مهمّتَين تابعتَين لشركة “أرامكو”، ما تسبَّب في إيقاف قرابة 5.7 مليون برميل يوميّاً من إجمالي إنتاج النفط في البلاد، وتقليص إمدادات النفط العالميّة بنسبة 5 في المئة. وفي حال قررت إدارة ترامب تنفيذَ ضربة عسكريّة ردّاً على هذه الهجمات، فسوف توصف المواجهة التي ستعقب ذلك على الأغلب بأنّها “حرب نفطيّة” أميركيّة ثانية في الشرق الأوسط، لكن ذلك سيكون وصفاً خاطئاً للغاية. ففي الحالة الراهنة، من المرجَّح أنْ تعمل المصالح النفطيّة على منع نشوب الحرب، لا إشعالها.
إذ قد تزعزع حرب جديدة في الخليج العربي استقرار النظام النفطي العالمي بشدة. وإنْ حدَث وضربَت إدارة ترامب إيران -سواء بمفردها أو بالتعاون مع السعوديّة- واستهدفَت المنشآتِ النفطيّة الإيرانيّة، فستؤثر هذه الهجمات في مزيدٍ من الإمدادات النفطيّة وستؤدِّي في النهاية إلى إيقافها. فعلى رغم انخفاض الإنتاج النفطيّ الإيرانيّ بشكلٍ ملحوظ، بعدما فرضَت الولايات المتّحدة عقوباتٍ جديدة في 2018، لا تزال إيران تنتج أكثرَ من مليوني برميل نفط يوميّاً، وتصدّر أيضاً نحو نصف مليون برميل يوميّاً من المنتجات البتروليّة والغاز النفطيّ المُسال لمجموعةٍ متنوّعة من الزبائن. ستؤدِّي الهجمات إلى سحب هذه الإمدادات من السوق، في الوقت الذي تُكافِح الدول الأخرى المنتجة للنفط من أجل تعويض خسائر الإمدادات السعوديّة.
هدَّدت إيران أيضاً بالردِّ على الهجمات العسكريّة سواء كانت أميركيّة أو سعوديّة. وربَّما يُوقِف الإيرانيون الإنتاج في مرافق أخرى إضافيّة أو يعطلون الإصلاحات الجارية في منشأتَي بقيق وهجرة خُرَيص، وذلك إذا ما قرروا استهداف المنشآت النفطيّة السعوديّة، علماً أنّ الهجمات الأوّليّة على تلك المنشآت، أدّت إلى أضرارٍ بالغة فاقت توقعات كثرٍ من المحللين في القطاع النفطيّ، واستهدفت مرافق المعالجة الرئيسيّة -بما في ذلك أبراج التثبيت ومستودعات التخزين- بدقة عالية. حتى لو كانت طهران غير مسؤولة مباشرةً عن تلك الهجمات، فإنّ المسؤولين السعوديّين على يقينٍ من أنّ المنفّذين استخدَموا أسلحة إيرانيّة. وإذا ثبتت دقة هذه المزاعم، فمعنى هذا أنّ طهران لديها القدرة على إلحاق أضرار إضافيّة كبيرة بالقطاع النفطيّ السعوديّ. ورغم أنّ السعوديّة ربَّما تكون قد عزّزت نظامَ دفاعها الجوّيّ بعد وقوع تلك الهجمات، فقد باتت قدرة المملكة على حماية منشآتها النفطيّة المهمّة، من هجمات الطائرات المُسيَّرة والصواريخ التي تحلِّق على ارتفاعاتٍ منخفضة، محلَّ شكٍّ.
قد يردُّ الإيرانيّون أيضاً على الهجمات الأميركيّة والسعوديّة من خلال محاولة قطع الطريق أمام عمليات نقل النفط. إذ أعربت القوات البحريّة التابعة للحرس الثوريّ الإيرانيّ عن استعدادها لاحتجاز ناقلات النفط الأجنبيّة التي تمر في الخليج العربيّ ومصادرتها، مثلما فعلت يوم الإثنين 16 أيلول وفي شهر تموز/ يوليو الماضي. قد تشل تلك القوات أيضاً حركة ناقلات النفط من خلال استخدام الألغام البحريّة وغيرها من المتفجِّرات، في محاكاةٍ للهجمات التي وقعت في وقتٍ سابق من هذا العام.
وأخيراً، ربَّما تحاول إيران إغلاقَ مضيق هرمز، فهي تهدِّد بذلك منذ أشهر. وفي حين أنّ القوات البحريّة الإيرانيّة ربَّما ليست قادرة على وقف عمليّات النقل بالكامل، أو حتى مواصلة إغلاق الممرّ على المدى الطويل، فإنَّ المحاولة في حدِّ ذاتِها قد تُعكّر صفو أسواق النفط العالمية. فقد ارتفعت بالفعل أسعار التأمين على ناقلات النفط التي تمر عبر المضيق بمقدار عشرة أضعاف بين شهرَي أيار/ مايو وأيلول. وقد تساهِم أي محاولات لإغلاق المضيق في ارتفاعٍ حادٍّ آخر. يمكن أيضاً أنْ تشهَد أسعارُ النفط نفسُها ارتفاعاً كبيراً، نتيجة زيادة المخاطر الجيوسياسيّة.
ربَّما يضرّ تصاعُد الصراع في الخليج العربيّ بمصالح الكثير من الدول في قطاع الطاقة. وسوف تتأثّر المملكة العربيّة السعوديّة على جبهات عدة، نتيجةً لهذا الصراع الخليجيّ المكثّف. إذ ستتكبد منشآتها النفطيّة أضراراً مادّيّة جديدة، إضافة إلى خسارة المزيد من إيرادات مواردها الطبيعيّة بسبب مبيعات النفط المُعلَّقة. والأهمّ من ذلك كلِّه هو أنَّ سُمعةَ شركة النفط المملوكة للدولة (شركة الزيت العربيّة السعوديّة، أرامكو السعوديّة)، باعتبارها مورّداً نفطيّاً موثوقاً، قد تتلقى ضربةً موجعةً أخرى.
بدأ المسؤولون السعوديّون بالفعل في محاولةٍ جاهدة لاستعادة الثقة في شركة النفط الوطنيّة بعد الهجمات التي وقعت نهايةَ الأسبوع الماضي. فقد أكّد أمين حسن الناصر، رئيس وكبير الإداريّين التنفيذيّين في أرامكو السعوديّة، يومَ الثلاثاء الماضي أنّ الشركة ستستعيد كاملَ قدراتها الإنتاجيّة التي توقّفت في وقتٍ سابقٍ على خلفيّة الهجمات التخريبيّة على معاملها في بقيق وهجرة خُرَيص نهايةَ الشهر الحالي، وأنّ الطرْحَ العام الأولي للشركة الذي طال انتظارُه، سيمضي كما هو مُخطَّط له. ومع ذلك، حامَ شكوك كثيرة حول هذا الأمر، فضلاً عن أنّ حدوثَ المزيد من الاضطرابات سيُلحِق ضرراً كبيراً بتقييم الشركة وبمخطّطاتِ القائد السعوديّ محمد بن سلمان، الراميةِ إلى استخدام عائدات الطرح العام الأولي للشركة من أجل تمويل التنوّع الاقتصاديّ في البلاد. بيد أنّ الخوف من عدم الاستقرار يحدّ من قدرة الرياض على المناوَرة. وقد أشار روبن ميلز -الزميل السابق غير المقيم لشؤون الطاقة في مركز “بروكنغز الدوحة”، ومؤسِّس شركة قمر للطاقة- إلى أنه “سيكون من المستحيل المضي قدماً في عملية الطرح العام الأولي للشركة إذا ما استمرّت الهجمات على هذا النحو”.
من شأنِ تصاعُد حدّة الصراع في الخليج أنْ يُهدِّد أيضاً أمنَ الطاقة في الصين وأوروبا. إذ تُعَدّ المملكة العربيّة السعوديّة أكبرَ مورِّد للنفط إلى الصين حالياً، حيث تمدّها بما يقرب من 17 في المئة، من وارداتها من النفط الخام، فيما لا يزال المستهلكون الصينيّون مستمرّين في شراء كمياتٍ صغيرة من النفط الخام الإيرانيّ، إضافة إلى منتجات بتروليّة أخرى، على رغم العقوبات الأميركيّة. في المقابل، أوقفت الدولُ الأوروبيّة شراءَ النفط من إيران، ولكنها أقل اعتماداً على النفط السعوديّ. غير أنّ الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبيّ ما زالت تستورد أكثر من 13 في المئة من احتياجاتها من الدول المنتجة للنفط في الخليج. ومن شأن اشتدادِ الصراع الإقليمي أن يُهدّدَ قدرةَ الأوروبيين على الوصول إلى هذه الإمدادات، ويُجبرَهم على دفع أسعار أعلى، ويقوّض جهودهم الديبلوماسيّة المستمرة، لإعادة النفط الخام الإيرانيّ إلى سوق النفط العالميّة.
ليس من المستغرب أنْ يتبنّى المسؤولون الصينيّون والأوروبيّون موقفاً حذِراً في التعامل مع الأزمة. فعلى رغم إدانة وزارة الخارجيّة الصينيّة الهجومَ، نصحَت هوا تشان ينغ، المتحدِّثة الرسميّة باسم الوزارة، جميعَ الأطراف المعنيّة بالأزمة “بتجنّب اتّخاذ إجراءاتٍ من شأنها أنْ تؤدي إلى تصعيد التوترات الإقليميّة”، وفضَّلَت عدمَ توجيه أصابع الاتهام أو إسناد المسؤولية عن الهجمات إلى جهة معينة. في حين طالبَت المستشارةُ الألمانيّة أنغيلا ميركل ورئيس الوزراء البريطانيّ بوريس جونسون بردٍّ دوليّ على الهجمات. ومع ذلك شددا على “أهمّيّة تفادي زيادة تصعيد التوتّرات في المنطقة”. ونظراً إلى هذا التحفّظ، يبدو جلِيّاً أنه إنْ كانت الولايات المتّحدة راغبةً في شنِّ هجومٍ انتقاميّ على إيران، فسيكون لِزاماً عليها أنْ تتحرَّك بمفردِها.
غير أنَّ إدارةَ ترامب لديها أيضاً دوافع قويّة لتجنّب تصعيد الصراع. فعلى رغم أنّ الولايات المتّحدة صارت الآن أكبرَ منتج للنفط في العالم، كما أشار ترامب أخيراً، فإنّ البلادَ ليست في مأمنٍ من عدم الاستقرار، إذ إنَّ سوقَ النفط سوقٌ عالميّة، ولهذا فحتّى إذا ما حقّقَت الولايات المتّحدة الاكتفاءَ الذاتي من النفط، فإنها بلا شكّ ستظل متأثرةً بارتفاع الأسعار في هذه السوق العالميّة، وستدفع المصافي الأميركيّة مبالغَ أكبر مقابلَ النفط الخام، بغضِّ النظر عن مصدره. وعندما تنتقل هذه الزيادة في الأسعار إلى العملاء، سيتكبَّد الأميركيّون هذا الفارق، وسيضطرّون إلى دفع المزيد في محطّات الوقود.
لا تحظى عملية ارتفاع أسعار البنزين بشعبيّةٍ على الإطلاق، ومع ذلك، فإنها تُشكِّل خطورةً مهمة في العام المُقرَّر أنْ تُعقَد فيه الانتخابات. ومن شأن تعرُّض الموارد المالية والمصالح الاقتصادية الأميركية لصدمةٍ من هذا القبيل أنْ يقوِّض على الفور دعم إعادة انتخاب ترامب. ويُمكن أنْ يدفع الارتفاعُ المستمر في أسعار النفط البلادَ إلى الركود، وهو الأمر الذي من شأنه أنْ يُلحق أشدَّ الضرر بطموحاته الاقتصاديّة.
يُمكن تقليص هذا الخطر إذا استطاعَت إدارةُ ترامب إقناعَ الناخبين الأميركيّين بأنّ حماية تدفق النفط في الخليج هي مصلحة جوهرية للأمن القومي الأميركي. بيد أن هذه المهمة ستكون شاقة للغاية. ففي الآونة الأخيرة، لا يُبدي الأميركيّون اهتماماً كبيراً بإهدار المال والأرواح لدعم أيٍّ من حكومات الشرق الأوسط. ومن غير المرجَّح أنْ يَلقَى النظام السعودي، خصوصاً، دعماً شعبياً، بسبب العداوة طويلة الأمد التي أثارها تورُّط مواطنين سعوديّين في هجمات 11 أيلول الإرهابيّة، فضلاً عن النهج الذي تتّبعه الدولة في التعامل مع قضايا المرأة، إضافة إلى حالة الاشمئزاز العام التي سادت إثر مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي. ولأنّهم استشعروا وجود فرصة سياسية سانحة للمعارضة، سارع خصومُ ترامب إلى التعبير عن رفضهم قيام الولايات المتّحدة بأيّ عملٍ عسكريّ. وقد ظهر ذلك جليّاً في تصريح أحد هؤلاء المعارضين، وهو السيناتور الديموقراطيّ عن ولاية فرجينيا تيم كين، أنّ القتالَ من أجل الدفاع عن النفط السعوديّ سيكون “خطأً فادحاً”.
يبدو أنّ إدارة ترامب أدركت تدريجيّاً الثمن السياسيّ الذي قد تدفعه جرّاء تصعيد الصراع. على رغم أنّ استجابة الرئيس للهجمات في السعوديّة، كانت في البداية من خلال التغريد قائلاً إنّ الولايات المتّحدة “على أتمّ الاستعداد” للقيام بضربة عسكريّة بحلول يوم الاثنين، إلّا أنّه كان يرفض اتّهام إيران بشكلٍ قاطع وحاسم. وقد أخبر ترامب الصحافيّين أيضاً أنّه كان يرغب في تجنّب المزيد من الحروب وأنّه إنْ أراد السعوديّون الحصولَ على دعمٍ أميركيّ، فمن الأفضل أنْ يكونوا على استعدادٍ لدفع تكاليف ذلك الدعم. وعلى رغم أنّ دعوات اليوم إلى توقيع عقوباتٍ أقوى تكون رادعة لإيران، إلّا أنّها لا ترقَى إلى مستوى العمل العسكريّ.
هذا التردّد الجماعي في الانتقام، من جانب الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبيّ والصين والمملكة العربيّة السعوديّة، يعني أنّ أيّاً كان مَن ارتكَبَ الهجمات على بقيق وهجرة خُرَيص قد يُفلِت من العقاب. إنّ اعتماد الدول الأخرى على مصادر النفط وأرباحها قد غلّ أيديها، لأنّ تصعيد الصراع الحالي قد يهدّد مصالحها الأساسيّة في قطاع الطاقة.
تلك القيود تمنح طهران حرية استثنائية في العمل والحركة. وفيما قد لا تكون إيران مسؤولةً عن تلك الهجمات، فإنّ الأخيرة دفعَت عدداً من مصالِحَها إلى الأمام. بدايةً، أضرّت عمليّات القصف بالمملكة العربيّة السعوديّة، خصم إيران في اليمن ومنافستها في منطقة الخليج. وكشفت تلك الهجمات عن حساسية قطاع النفط في المملكة وضعفه، ومثّلت تهديداً للطرْح العام الأوّليّ الذي طال انتظارُه لشركة “أرامكو” السعوديّة. ثانياً، إذا قرّرت إدارة ترامب الثأرَ للهجمات، من جانبٍ أحاديّ أو بالتعاون مع المملكة، فإنّ هذا سيزيد من العزلة الديبلوماسيّة للولايات المتّحدة. ثالثاً، بزيادة علاوة الخطر الجيوسياسيّ المرتبطة بأسعار النفط، فإنّ عمليّات القصف قد تُقنِع مستهلِكي النفط بأنّه قد يكون من الآمَن رفع العقوبات الدوليّة، لإتاحة عودة النفط الإيرانيّ إلى الأسواق ولتقليص ما قد يدفع البلاد إلى مهاجمة المنشآت النفطيّة لجيرانها.
سيكون المسؤولون الأميركيّون متردّدين في الإحجام عن الانتقام، فضلاً عن تخفيف العقوبات على إيران، إذ قد تمثّل تلك التنازلاتُ مكافأةً مقابل ما بَدَا عدواناً على نطاق دوليّ. إلّا أنّ قصف إيران أو تعزيز العقوبات على قطاع النفط لن يحلّ المشكلة. ما دامت هناك عقوبات يتم تنفيذها، فإنّ الأزمة الاقتصاديّة الإيرانيّة ستدوم. ومع اشتداد الأزمة سيصبح النظام الإيرانيّ أكثر يأساً. ستتوقّف طهران عن اعتبار اعتماد الدول الأخرى على النفط فرصةً للاستغلال من خلال ضربات محدودة ومدروسة بعناية، وعَوِضاً عن ذلك -ومع زيادة التضييق عليها- سيكون لديها دافع للمخاطرة بكلّ شيء.
وقد رأينا ذلك المسارَ ذاته، عام 1990، عندما دفعَت الأزمة الاقتصاديّة العراقيّة المتصاعِدة، والتي تفاقَمَت مع تراجُع عائدات النفط، الرئيسَ العراقيّ صدام حسين إلى غزو الكويت. وعلى النقيض من التفسيرات الشائعة لذلك الصراع، فإنّ الرئيسَ العراقيّ الأسبق لم يعتقد أنّ الولايات المتّحدة لن تردَّ على عدوانه، وإنّما افترَضَ أنّ إدارةَ جورج بوش الأب قد تردُّ اقتصاديّاً وعسكريّاً. نبع هذا الاعتقاد من إيمانه العميق بأنّ الولايات المتحدة كانت عازِمةً على تدمير العراق والإطاحة به. غزا صدّام الكويت لاعتقادِه بأنّ الاستيلاء على نفط الكويت يمثّل سبيلَه الوحيد المُتاح للبقاء.
إذا حُشِر النظام الإيرانيّ في الزاوية، فمن الأرجح أنْ يتّخذَ قراراً مشابِهاً. ولقناعته بأنّ الولايات المتّحدة دولة مُعادِية بلا هوادة، ومع التهديدات الحالية لبقائه، فإنّ النظام الإيرانيّ سيلجأ إلى عمليّاتٍ من العدوان الدوليّ، على رغم آفاقِه المحدودة في تعزيز إيران سياسيّاً أو اقتصاديّاً. ومن الراجح أنْ يكون هذا الاعتداء اليائس أقلَّ تمييزاً وأكثر تدميراً، ممّا شهدناه في العمليّات الأخيرة. بناءً على هذا، وفيما تُحجِم إدارة ترامب بشكلٍ متفهَّم عن التصالُح مع المعتدي المحتمَل (إيران)، فربّما ليس لديها خيارٌ آخر. وإلى أنْ تُصبح الدول الأخرى أقلّ تقييداً ومحدوديّة بسبب اعتمادِها على مصادر النفط وعائداتِه، فإنّ طهران ستكون لها اليد الطُولَى عليها.
هذا المقال مترجَم عن foreignpolicy.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي.
درج
إيران خطر قائم وقادم/ سمير سعيفان
ينقل ضرب منشآت نفطية سعودية الخطر الإيراني خطوة كبيرة إلى الأمام، فالضربة تظهر قدرة تكنولوجية متقدمة، وهي استعراض للقوة في الهواء الطلق تعلن عنه إيران، أيا كانت الجهة التي نفذتها، أو المكان الذي انطلقت منها، فهي تعلن عن قدرة كبيرة غير متوقعة، بأن ترسل إيران عشرات الطائرات الصغيرة المسيّرة لمسافاتٍ تزيد عدة مئات الكيلومترات، ثم يصيب أغلبها أهدافه بدقة محدثًا دمارًا عظيمًا، ما يعني امتلاكها وقودا جافّا، وامتلاك قدرة السيطرة على الطائرات وتوجيهها، على الرغم من المسافات البعيدة. وبإضافة هذه القدرة الجديدة لقدراتها على صناعة صواريخ بعيدة المدى، وقدرتها على التخصيب النووي والغواصات وغيرها، ولو كانت بتكنولوجيا قديمة نسبيًا، فهذا كله يشير إلى قدرةٍ متزايدة، ترفع من شهيتها وعدوانيتها للسيطرة على الجهة المقابلة من الخليج. وهي لا تخفي هذه الأطماع، وتسعى إلى التدخل السافر عبر تشكيل جماعات موالية بلباس ديني في كل مكان. وقد كان الإعلان الأول للخميني تصميمه على تصدير الثورة، وكان هذا محرّض صدام حسين لمواجهته، قبل أن يصبح أقوى، ولكنه أفلح في تحجيمه، ولم يفلح في القضاء عليه، ثم خذل العرب بخذلان صدّام، ما دفعه للقيام بحماقة بمغامرة غزو الكويت، فكانت نهايته التي فتحت الباب لتمدّد إيران في العراق وغيره.
يخشى الغرب إيران ويريدها أن تلتزم حدودها ولا تتمدّد، فسياسة الغرب الثابتة أن ليس من مصلحته قيام إيران قوية تسيطر على منابع مهمة للنفط ومنطقة جغرافية مهمة غنية بمصادر الطاقة، وإن سيطرت على الخليج فستتجه بعدها الى وسط آسيا. لذلك يسعى الأميركيون لتحجيمها، ولكنهم ليسوا مستعدين للذهاب إلى حرب معها، شرط إبقائها تحت ضغط وحصار. وقد خالف أوباما هذه السياسة وأبرم معها اتفاقًا هو لصالحها بالكامل، ويسعى ترامب بطريقته الفوضوية لإرغامها على إبرام اتفاق جديد يلزمها بوقف دائم للتخصيب النووي.
أصبحت إيران تختنق بسبب الحصار المزمن، وسيخنقها حصار الرئيس الأميركي، ترامب، أكثر. ولذا هي تريد إرغامه على الرجوع إلى اتفاق 2015 النووي بأي ثمن، فاتفاق سلفه الرئيس أوباما هو لصالحها بالكامل، لأنه يحدّد وقف التخصيب بعشر سنوات فقط، وقد مضى منها أربعة، وستعود بعدها إلى التخصيب الحر. وهذا ما يرفضه ترامب، ويريد إجبارها على إبرام اتفاق نووي جديد، يشترط وقف التخصيب الدائم، وهذا ما لا تريده إيران الطامحة لامتلاك سلاح نووي. وسنرى مستقبلًأ من سيصرخ أولا في لعبة عض الأصابع هذه.
تعلم إيران أن ترامب لا يريد الدخول في حربٍ ولو محدودة في الخليج، إذ ليست الحرب في صالحه، ولكنه قد يدخلها إن نجح في الانتخابات الرئاسية الأميركية بعد عام. ولذا تسعى إيران إلى إجباره على العودة إلى اتفاق 2015 قبل الانتخابات، وهي تدفع الأمور في الخليج نحو حافّة الهاوية. ولذا اعتدت على ناقلة نفط إماراتية، واحتجزت أخرى، من دون أن تجرؤ الإمارات على التفوه بكلمة، بل أنكرت ملكيتها الناقلتين واحتجزت ناقلة نفط انكليزية وأجبرت سلطات جبل طارق الانكليزية على إطلاق سراح ناقلة النفط التي احتجزوها، والتي تابعت طريقها لتفرغ حمولتها في بانياس السورية، متحدّية العقوبات الأميركية، وضربوا مطاراتٍ عديدة للسعودية نفذها الحوثيون. وأخيرا وجهوا ضربتهم المؤلمة للسعودية، ولم يتجرأ الأميركان ولا السعوديون على التصريح أن إيران هي الفاعل، بل يزعمون أنهم لا يعرفون من أين أتت، ولا من هو الفاعل!
يأتي خطر إيران الدائم من أن النظام الحاكم فيها ديني (ثيوقراطي) مذهبي متزمت، لا تقل مخاطره عن أي نظام ديني آخر. وهو نظام مستبد معادٍ للديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المواطنة المتساوية، يطبق قواعد وأحكاما عفا عليها الزمن، وسيطبق أحكامه على أي منطقة يسيطر عليها، وينبش قبور التاريخ بعد 14 قرنا من الصراع الديني السني الشيعي، فتدخل المنطقة في أتون حربٍ ستمتد عقودا، وتبقى ما بقي نظام الولي الفقيه الذي اخترعته لتحكم الأرض باسم السماء. وفي إيران ذاتها، بدّد النظام الديني موارد البلاد الكبيرة، وقدرتها العلمية، في الإنفاق العسكري والتدخل التخريبي في المنطقة، وحوّل إيران من قوة موجبة، تحتاجها المنطقة لمواجهة إسرائيل، وأميركا معها، إلى قوة تخريب أثارت سباق تسلّح يبدّد موارد دول المنطقة وطاقاتها، وأدخلت الحروب إلى داخل الإقليم، ما زاد أطماع الآخرين به.
تقيم إيران الفوضى أينما حلت، لأن الفوضى تخدمها، فعلى الرغم من أنها سيطرت على العراق بمساعدة قوى الاستكبار (أميركا) التي تعلن حربها عليها، وهذه مفارقة مضحكة مبكية. وعلى الرغم من مضي أكثر من 16 عاما على سيطرتها على العراق لا يزال هذا البلد العربي خرابا، على الرغم من غنى موارده المادية والبشرية التي تؤهله لأن يكون البلد الأول في المنطقة في كل شيء، وإيران ماضية في نهب العراق أيضا إضافة إلى تخريبه، وقامت بتخريب اليمن منذ بدأت تسلّح الحوثيين وتمدهم بالمال قبل أكثر من عقدين، وهي ماضية في تخريبها. وفي سورية، كان من مصلحتها أن يتعنّت بشار الأسد في مارس/ آذار 2011، بدعمٍ مطلق منها، ويرفض أي حل سياسي، أو شبه سياسي، وأن يعلنها حرب دمار وفق مبدأ كل شيء أو لا شيء، ويستخدم أكبر قدر ممكن من العنف منذ اليوم الأول، ما أدّى إلى مقابلته بعنفٍ مماثل، وتحوّل الصراع السياسي إلى حربٍ بالأسلحة، ما تسبّب بخراب سورية، وتشريد نصف شعبها وتفريغها من كادراتها ورؤوس أموالها وتهديم كل شيء فيها. وتحوّل الصراع إلى مسلح هو بالضبط ما جعل نظام الأسد بحاجة ماسّة لإيران، وأن يلبي، في النهاية، كل شروطها، فاستباحت إيران سورية، وأحضرت مئات آلاف المرتزقة، ليقاتلوا دفاعا عن نظام الأسد، وتعمل على إقامتهم فيها ومنحهم الجنسية السورية، وتعمل على نشر التشيع وشراء العقارات وإقامة المراقد الشيعية. وأصبح نفوذها داخل مؤسسات النظام أوسع بكثير، وأصبح النظام والروس أيضا بحاجتها وحاجة مرتزقتها على الأرض، ومصلحتها باستمرار الصراع في سورية واستمرار الخراب. ولذا لن تعود سورية دولةً، طالما بقيت إيران، وبالطبع طالما بقي الأميركان وحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) والروس وغيرهم من مرتزقة على طرفي جبهتي الصراع.
وبالعودة إلى ضربة السعودية، فهل سيرد ترامب على تحدّي إيران؟ أو هل سيرغم “البنتاغون” (وزارة الدفاع) ترامب على الرد بطريقةٍ تحفظ ماء وجه أميركا أمام التحدّي الإيراني؟ وإن لم ترد أميركا، ما هي الخطوة التصعيدية التي ستقوم بها إيران متحدّية ترامب مرة ثانية وثالية، وهي تقول له: إما أن تعود إلى اتفاق 2015 أو سنصعّد ونهدّد، ونحرجك ونسيء لسمعتك ونؤثر على فرص انتخابك لرئاسة جديدة، ونحن نعلم أنك لن تستطيع الدخول في حرب معنا… أما نحن العرب فنجلس منتظرين، نتابع لعبة عض الأصابع هذه، لنرقب من سيصرخ أولًا!
العربي الجديد
ما بعد هجمات أرامكو: اتفاق دولي مع إيران/ شادي علاء الدين
شكلت الهجمات التي طالت المنشآت النفطية التابعة لشركة أرامكو السعودية فرصة دولية للانقضاض المشروع والمبرر على إيران، إذ إنه من الصعب التشكيك في نسبتها إلى طرف آخر.
لم تكن مسارعة الحوثيين بعد فترة من وقوع الهجمات إلى تبنيها، والإعلان في الوقت نفسه، عن توقف الأعمال العسكرية ضد السعودية، تصرفا عشوائيا أوتخوفا من ردة فعل سعودية ودولية تتناسب مع حجم العملية الضخم، بل تظهر قراءة مسارات التعامل مع الهجمات أن السلوك الحوثي منسجم مع طبخة سلام مع إيران، يجري إعدادها بين أميركا والأوروبيين.
تركيب خطاب ردة الفعل كشف عن جملة مفارقات لافتة إذ أن السعودية عمدت إلى إظهار مدى قدرتها على احتواء الخسائر، ومنع تأثيراتها على الإمدادات النفطية العالمية وإنتاج النفط وأسعاره، تبعتها في ذلك الولايات المتحدة الأميركية.
خطاب التعافي يعلن عن نوع تعامل خاص بين إيران والعالم تمنح بموجبه الحق في الاستهداف، بينما يقتصر رد العالم عليها في استيعابه، وإظهار القدرة على التعافي منه بأسرع وقت ممكن.
ما تجلى بعد هذه الضربة يكشف عن مسارات لا تبدو اعتباطية على الإطلاق، وكأنها ذروة تصعيدية قصوى تمثل اللحظة التي تسبق الاتفاقات والتفاهمات.
تعتقد أميركا، وتجر أوروبا إلى تبني الموقف نفسه، أن لحظة الهجوم على أرامكو
حققت التوازن بين تأثير العقوبات المالية الضخمة المفروضة على إيران وبين الأكلاف الأمنية والمادية الهائلة التي تدفعها السعودية جراء خوضها الحرب ضد الحوثيين في اليمن.
من هنا فإن المجال قد بات مفتوحا لتطبيق مفاعيل الرؤية الترامبية لكيفية الاستفادة من الصراعات والحروب، والقائمة على تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح من دون أي تدخل ميداني.
يتطلب تطبيق هذه الإستراتيجية وصول الأطراف المتصارعة إلى لحظة إنهاك قصوى بشكل متوازن، ما يوحي بأن التفاصيل المريبة المرتبطة بشكل الهجمات على منشآت أرامكو وطبيعتها ليست سوى جزء من خريطة تفاهمات كبرى، تتوافق على تفعيل العمل على إنجاحها منظومة دولية، تضم الأميركيين والروس والأوروبيين.
النظر إلى خريطة المواقف الدولية من الهجوم يمنح هذه التحليلات وجاهتها، فبعد أوصاف الخسة والدناءة والخطر الدولي، وتهديد اقتصاد النفط العالمي الصادرة عن شخصيات أوروبية وأميركية، يخرج وزير الخارجية الأميركي الذي يوصف بأنه أبرز صقور الحرب على إيران، ليعلن عن الاستعداد للتوصل إلى تفاهم مع إيران إذا كانت مستعدة لذلك.
يعني ذلك قبل كل شيء أن ضربات أرامكو وإن كانت قد نفذت ميدانيا عبر إيران وميليشياتها، إلا أن الطرف الذي خلق الظروف المناسبة لنجاحها، ليس طرفا إقليميا بل دولة كبرى.
يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك والتأكيد على أن مثل هذه الهجمات ما كانت لتتم لولا أنها حصلت على نوع من إجماع دولي ما، طبخ في الظلام بهدف تهيئة مخارج من مآزق كبرى يمكن أن تحدث في حال اندلعت حرب مفتوحة وجدية بين السعودية وإيران.
مثل هذه الحرب في حال وقعت ستكون بلا ضوابط ولا قوانين، وستجبر كل المنظومة الدولية على اتخاذ قرارات ومواقف شاقة ومكلفة وغير مضمونة.
جاء تنظيم ضربات أرامكو ليضع حدا لسيناريو الحرب ويفتتح مسار السلام مع إيران، ولكن الخطورة تكمن في عدم تكافؤ موازين الربح والخسارة بينها وبين السعودية وسائر دول المنطقة داخل منظومة السلام المنشودة.
ستكون إيران ليست ناجية وحسب، بل منتصرة، وذلك لأسباب عديدة أبرزها أنها حققت الفصل بينها وبين ميليشياتها المنتشرة في الخارج مع الحفاظ على ولائها لها، فقد باتت هذه الميليشيات تتمتع باستقلال ذاتي، وقدرة على تأمين تمويلها الخاص من السطو على موارد الدول، وشبكات التهريب وتبييض الأموال المنتشرة في كل بقاع الأرض. يضاف إلى ذلك أن نفوذها الميداني في سوريا لم يعد يحمل طابعا ميليشويا بل بات منظما في إطار منظومة التنافس والتفاهم مع روسيا وتحت ظلال اتفاقات تجارية تحظى بشرعية تتكامل مع شرعية يفرضها واقع امتلاكها لجمهور منتشر في عدة مناطق سورية.
الأمر نفسه ينطلق على لبنان إذ إن سيطرة إيران عليه لم تعد مجرد عملية تغلب تحت سطوة السلاح بل تحولت إلى الشرعية اللبنانية التي تنطق بلسان الحزب في المؤتمرات والمحافل الدولية بوصفها التعبير النهائي عن إجماع لبناني، لا تستطيع محاولات بعض الأطراف اللبنانية التمايز عنه أو أن تغير فيه شيئا.
من ناحية أخرى لا ينطبق الربح من معادلة السلام على حسابات السعودية لأنها ستكون ناجية وحسب، وحتى أن قدرة إيران على تهديدها لن تزول بل ستكون مرشحة للتمادي.
ما ستربحه السعودية يقتصر على الحفاظ الشاق على النظام القائم حاليا، وتمكينها من متابعة مشروع التحديث الرامي إلى تشبيك بنية الاقتصاد السعودي مع الاقتصاد العالمي، بما يفترضه ذلك من إعادة انتاج صعبة لنمط الحياة السعودي وتعديلات تطال البنى الاجتماعية والتقاليد السائدة فيها.
سيمنح السلام السعودية الفرصة لتعزيز مكانتها الاقتصادية بعد فترة تحتاجها للتعافي من الأكلاف المادية الكبرى للحرب اليمنية. المدى الأوسع لهذا النشاط
لن يتجاوز حدود القدرة على تمكين حضور النظام السعودي في الداخل وتنظيم علاقته بالعالم انطلاقا من هذا الهدف الذي يحتاج دائما إلى خلق شبكة حماية أميركية ودولية لا تقتصر كلفتها على التبعات المادية وحسب بل تتجاوز ذلك إلى المكانة والدور والحضور.
إيران ستتحول بالسلام إلى شريك استراتيجي للمنظومة الدولية وإلى دولة قائدة في المنطقة لا يمكن تجاوز مصالحها ورؤيتها، بينما لا يمكن أن ينتج سلام تحقق بعد تعرض دولة لضربة عسكرية سوى مفاعيل الهزيمة والاستسلام وما يستجره الأمر من تبعات قد تتجاوز مخاطر الحرب المباشرة.
مفهوم السلام مع إيران كما يروج له حاليا وضمن منطق انعدام التوازن الحالي سيؤسس للحرب، إلا في حال تمت موازاة الفعل الحربي ضد السعودية بما يوازيه في الجانب الإيراني، وهو ما يبدو مستبعدا في ظل سياسة الاكتفاء بحرب العقوبات المالية.
نقع إذن بين احتمالين فإما سلام غير متوازن يحول إيران إلى دولة قائدة في المنطقة تحظى بشرعية دولية، وتشكل جزءاً من منظومة الأمن الاستراتيجي الدولي، وإما حرب مفتوحة لا يمكن لأحد التحكم بمساراتها وتحديد شبكة امتداداتها وتوقع نتائجها.
تلفزيون سوريا
كيف تتحكّم إيران بالمنطقة؟/ غازي دحمان
باتت إيران المتحكّم الفعل بالمسارات في الشرق الأوسط. هذه الحقيقة، وإن يصعب الإقرار بها، إلا أن فائدتها تكمن بوصفها معطىً يجب الانطلاق منه لمعرفة كيفية التعامل مع هذا الأمر الواقع، والذي بات أحد مهدّدات الأمن العربي في المرحلة المقبلة.
تتحكم إيران بمخرجات السياسة في المنطقة، سواء بالنسبة إلى العواصم التي تسيطر عليها، أو حتى بالنسبة إلى خصومها، وحتى سياسات القوى الدولية الكبرى، فجميع سياسات هذه الأطراف تصدّر كرد فعل على السياسات الإيرانية، وهي في الغالب ذات طابع دفاعي، فقد فرضت إيران نمطاً سياسياً، بات يسري على مستوى الإقليم، في التعامل مع بؤر الصراع، سورية والعراق ولبنان واليمن، يقوم على مبدأ المحاصصة الجغرافية والمناطقية، وحتى على صعيد الكتل الاجتماعية، هذه لكم وتلك لي، وبذلك استطاعت شرعنة وجودها من جهة، ودفعت الآخرين إلى الانخراط في لعبةٍ قامت هي بتفصيل مقاساتها، والدليل ما هو حاصل في سورية ولبنان.
ولعل المفارقة في الأمر أن طاقة إيران على اللعب والمناورة، بالإضافة إلى حجم النفوذ الذي باتت تستحوذ عليه، لا يتناسبان مع قدراتها التكنولوجية والعسكرية، ولا حتى الاقتصادية، مقارنة باللاعبين الآخرين، إقليميين ودوليين. لذا لن يفيد الركون لقياس قوّة التأثير الإيراني حسب المعيار الكلاسيكي الذي يعطي العناصر السابقة، التكنولوجيا والقوة العسكرية والاقتصادية، القيمة الأكبر في احتساب قوّة الدولة، لن يفيد كثيراً في تحليل قوّة إيران، وفهم أبعاد تأثيراتها الحقيقية في المنطقة.
وثمّة عوامل مختلفة ساهمت في صناعة التأثير الإيراني الذي تحوّل مع الزمن إلى مشكلة، ليس فقط بالنسبة للأطراف الإقليمية، بل من الواضح أن القوى الكبرى أيضاً لم تعد تملك خيارات سهلة لمواجهة هذا التأثير:
أولا، الاستفادة من الفراغ: بنت إيران نفوذها في بيئاتٍ تعاني من فراغ سياسي، نتيجة أزمات عصفت بها، وقد عرفت كيف تستفيد من هذه الأوضاع وتوظفها لصالحها. ولطالما طرحت إيران نفسها ضمن هذه البيئات بوصفها قوّة استقرار، هدفها الأساسي الحفاظ على كيان الدولة، ولكن بطريقتها الخاصة، وعبر هندساتٍ عسكرية واجتماعية، استطاعت من خلالها تفكيك البنى القديمة، وإعادة تركيبها بمنهجية جديدة.
ثانيا، استثمار الحروب الهجينة: تميزت القوّة الصلبة لإيران بمرونتها وقدرتها على التكيف، بل إنها فرضت نمطا من القوّة، على مساحة الإقليم، صار من الصعب كسره في إطار الحروب الكلاسيكية وركائزها العسكرية. وقد دمجت إيران في قوتها العنصر المليشياوي “الوكيل” سهل الحركة ومنخفض التكاليف، بالإضافة إلى استخدام التقنيات الحديثة، وكان جديدها الطائرات المسيّرة التي يبدو أنها ستكون العنصر الأكثر فعالية في الجيل الحديث من الحروب.
ثالثا، الاستفادة من طاقة الصراع الهوياتي في المنطقة: حيث تركز إيران على البيئات الشيعية، والتي طالما اعتبرت نفسها ضحية مظالم منذ مئات السنوات، وأنها تواجه فرصة تاريخية لتغيير معادلات السلطة والحكم في المنطقة، لذا هي على استعداد لتحمل تبعات هذا الأمر ودفع أثمانه، في مواجهة بيئاتٍ مستنزفة، بفعل صراعات سلطوية داخلية، أو بفعل تراجع تأثير البعد الهوياتي في اجتماعها، أو حتى نتيجة نكوصها إلى هويات صغرى متعدّدة.
رابعا، اللعب على الصراعات الدولية: تعرف إيران كيف تجعل بعض الأطراف الدولية تقف في صفها في مواجهة خصومها، وقد نجحت سياساتها في جعل روسيا والصين حلفاء لها في مواجهة عداء أميركا، وتموضعت ضمن هذه العلاقة بوصفها قوّة ممانعة دولية في مواجهة التفرد الأميركي.
ويحسب لصانع القرار الإيراني قدرته على التقاط توجهات البيئة الدولية ودراسة مواضع الضعف والقوّة فيها، فقد اكتشفت إيران باكراً أن إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، تلهث وراء الحصول على اتفاق نووي، ولو بتأجيل المشروع النووي الإيراني بضع سنوات، في مقابل غض الطرف عن سياسات إيران الإقليمية. كما التقطت نقطة الضعف الأساسية في سياسات إدارة دونالد ترامب الخارجية، وهي مكافحة الانجرار إلى حروبٍ خارجية، وتراجع أهمية الشرق الأوسط بالنسبة لهذه الإدارة، ما أتاح لها الفرصة لتوسيع رقعة نفوذها وتثبيتها.
تعاملت إيران في صراعاتها مع أميركا، الطرف الأكثر فعالية في المنطقة، عبر أسلوبين: العمل من خلال وكلائها في المنطقة، فلا تتبنى أي عمل بشكل مباشر، ما يضعف الخيارات العسكرية للأطراف الأخرى، والأمثلة كثيرة، منها الهجوم أخيرا على منشآت لشركة أرامكو في السعودية، والذي تبنّاه الحوثيون، وضرب المنطقة الخضراء في بغداد، والطائرات المسيّرة التي يطلقها حزب الله باتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة. اللسع هو الأسلوب الثاني في تكتيكات الصراع الإيراني، حيث تعمد طهران إلى القيام بعملياتٍ يجري، في الغالب، تصنيفها في إطار السلوك الاستفزازي الذي لا يستدعي الرد بإشعال نزاع واسع، في وقتٍ ترفع هذه العمليات من قوّة الردع الإيرانية وتكسبها زخماً معنوياً هائلاً.
كيف يمكن احتواء تأثيرات القوّة الإيرانية؟ لا بد من الاعتراف بأن العرب يواجهون مأزقاً مركباً في المواجهة مع إيران، فبالإضافة إلى السيطرة المطلقة لإيران على الجناح الشرقي للعالم العربي (العراق وسورية)، فإن العرب أنفسهم يفتقرون لموقف واضح وموحد للتعامل مع الخطر الإيراني، في وقتٍ تقوم به إيران بتغيير الوقائع والمعطيات لصالحها بشكل يومي وسريع. ولا يبدو أن ثمة رهانا ممكنا للخروج من المأزق الحالي، في ظل الذهنية السلطوية العربية الراهنة، كما أن الرهان على القوة الخارجية لردع إيران يثبت، يوماً بعد آخر، أنه ليس سوى وصفة ناجعة لتحقيق خسائر متزايدة لصالح إيران.
العربي الجديد