صلاح بوسريف: ذهاب الشاعر للرواية نوع من التعويض
عماد الدين موسى
تعثّرَ في دراسته، وكادَ يضيعُ حقَّه في التعليم، أخفقَ كثيراً لكنَّه حرصَ على أن لا تتلوَّث روحه بخطيئة الجهل، سافرَ وحصَّلَ معارف وعلوماً، تعرَّفَ على جلال الدين الرومي، قرأهُ واكتشف جزءاً من شاعريته التي تحوَّلت إلى ثروةٍ ثقافية وجمالية. “فبالشعر نشفى، وبالشعر يتعمَّقُ إحساسنا بالحياة، ونصيرُ أكثرَ امتلاءً بالحُب والحكمة”.
صلاح بوسريف شاعر مغربي، حاصل على شهادة الدكتوراه في الشعر العربي المعاصر، قضى مراحل التعليم الأولي والثانوي بالمغرب، بينما درس التاريخ القديم بجامعة بغداد. حاصل على دبلوم الدراسات العليا، وشهادة الدكتوراه بجامعة محمد بنعبد الله ـ ظهر المهراز بفاس. مسؤول عن الملحق الثقافي بجريدة “المساء” المغربية، والمدير المسؤول عن مجلة “الثقافة المغربية” التي تصدر عن وزارة الثقافة.
في هذا الحوار مع بوسريف نحاول القبض على لحظات الفكر في شعره وكتاباته الأخرى:
لا تنازل عن الشرط المعرفي والجمالي في الكتابة
(*) تشتغل اليوم كمدير لمجلة “الثقافة المغربية” التي تصدر عن وزارة الثقافة بالمغرب، أي صورة ترسمها للمجلة الورقية وفق التغيرات التي طالت المنظومة الثقافية، وأعني هنا الطفرة التكنولوجية؟
المجلات الثقافية كانت، دائماً، هي النافذة التي منها أشَرَفْنا، جميعاً، على الكُتُب، وعلى الثقافة والمعرفة والفكر والفن. كانت مجلات مصر ولبنان، ومجلات العراق، تُتِيحُ لنا مواكبة ما يجري من أفكار وقضايا، وما كان يدور من نقاش في الشِّعر، وفي نقد الشِّعر. ويمكن أن أذكر هنا، مجلتي مواقف وشعر وفيما بعد مجلة الآداب. في العراق، المجلات فَتَحَتْنا على بعض قضايا التراث، وعلى التراث الشعبي، وعلى الفن، أيضاً، وأشير أيضاً إلى مجلة العربي الكويتية. فنحن جيل كانت نوافذنا على الثقافة والمعرفة والفن، هي المجلات، ولم تكن التقنية الحديثة ظهرت بعد في وجودنا، ما ساعدنا على محبة الكتاب الورقي والارتباط به، رغم أننا اليوم نستعمل وسائط البحث والتواصل الحديثة، إلى جانب الكتب والمجلات والجرائد الورقية، لأن الوسائط التقنية، هي وسائل فقط، وليست غاية في ذاتها.
لا أخفيك أنَّ المجلات، رغم كل ما تراه من انشغال بالهواتف المحمولة والألواح الإلكترونية، ما تزال تحظى باهتمام القراء، حين تكون هذه المجلات، في شكلها ومحتواها، تستجيب للحظة الراهنة التي أصبحت الصورة واللون والكلمة من شروطها، وكذلك المعرفة والإبداع، وتجديد المفاهيم والرُّؤى، واقتراح الأفكار الجديدة المغايرة. في مجلة “الثقافة المغربية” التي أُشْرِف على إدارتها، اكتشفنا، منذ صدور عددها الأول ضمن التصور الجديد الذي اقترحناه في هيئة التحرير، الإقبال الكبير الذي حظيت به، إلى الدرجة التي أصبح القارئ يؤدي لأصحاب الأكشاك ثمن المجلة قبل صدورها، ما يعني أن هناك شغفاً كبيراً للمعرفة والجمال، لكن بشروط المعرفة والجمال، وبشروط الجدة والابتكار. لاحظ معي أن الجرائد الورقية بدورها، أصبحت مُجْبَرة على استعمال اللون والصورة، والتفكير في الجانب الجمالي الذي هو أحد أشكال مواجهة التقنيات الحديثة التي باتت تنافس الورق، لكن، لا ينبغي التنازل عن الشرط المعرفي والجمالي في الكتابة والإبداع عموماً.
(*) في كتابك “حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر” تستعمل مفهوم العمل على حساب الديوان ومفهوم النص على حساب القصيدة. ما السر وراء ذلك؟
هذه المفاهيم وغيرها اشتغلتُ عليها شِعْرِياً، قبل أن أذهب إليها في بُعْدِها النظري. مِلْتُ إلى مفهوم العمل الشِّعري L’oeuvre poétique كما كان ذهب إليه رامبو في ما سماه بـ “كتاب الزنجي”، وعند مالارميه. حتى بلزاك، في الرواية، حَلُم بهذا الكتاب ورغب في كتابته، وهو كتاب الكون، أو الكتاب المفتوح على الكون، أنا في ذهابي إلى هذه التجربة في أواخر تسعينيات القرن الماضي، كنتُ أفكر في هذا الكتاب، الذي اعْتَبَرْتُه كتاب الوُجود، لأننا فيه نُدَوِّنُ وجودنا على الأرض، بعكس الكتب التي نزلت من السماء.
لم أُلغِ مفهوم الديوان، ولم أنْتَقِدْهُ، لأن مفهوم الديوان جاء من التدوين والكتابة، وفي كتابي “حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر”، وهو أطروحة دكتوراه اشتغلت عليها عشر سنوات، رأيتُ، من خلال قراءتي للمدونات النقدية القديمة، والشعر العربي القديم، أنَّ هذا الشِّعر، كان في بنيته الأم شعراً شفاهياً، بمعنى أنَّ مفهوم الخِطاب Discours ينطبق عليه، لأن الخطاب هو شفاهة ولفظ وإلقاء، بعكس مفهوم النص الذي هو نسيج وعمل يدوي في مفهومه الإغريقي القديم، والنص هو ظهور وتَبَدٍ، وفي الكتابة فالصفحة ليست مجرد حامل، بل هي دالٍّ من دوال النص، إلى جانب اللغة، والتفضية، أي توزيع الجمل والعبارات والأسطر، وشكل الحروف التي تُكْتَبُ بها، والرسوم، والعلامات، والفراغات، والنقط والفواصل، والأقواس La ponctuation فالصفحة، في حداثة الكتابة، هي شرط من شروط قراءة النص واكتشافه، والنص هو نفسه العمل، لكن النص، هذه المرة، هو كتاب كامل، كما تجد مثلا في “حامل المرآة” و “رفات جلجامش…” و “ياااا هذا تكلم لأراك”، وحتى في “شرفة يتيمة” بأجزائها الثلاثة.
القصيدة هي مفهوم انتهى في ما يُكْتَبُ اليوم، لأن النُّقَّادُ من سمَّوْها بهذا الاسم، وليس الشُّعراء، الشُّعراء استعملوا عبارة شعر “هل غادر الشُّعراء من متردم”، مثلاً. والقصيدة من التقصيد، أي الشطر والتقسيم إلى شطرين، هي بنية شفاهية إنشادية، ترتبط بنظام عروضي يقوم على التوازي بين الصدر والعجز، وهو ما لا يمكن أن تجده حتى في المفهوم المُرْتَبِك لما نُسَمِّيه خَلَلاً بـ “قصيدة النثر”. هذه مفارقة صارخة في فكرنا ونقدنا وثقافتنا، علما أن هذه ترجمة لتسمية سوزان برنار Poéme en prose وكلمة Poéme في الفرنسية ليست مُقابلاً لقصيدة في العربية، ولا ترجمة لها، بل لشِعر، أو يمكن ترجمتها بنص شعري، وهذا هو الصواب، لأن كلمة قصيدة، عندنا، تخُصُّ الشِّعر العربي القديم ذي الشطرين، لا ما يُكْتَب اليوم من شعر لا وجود فيه لهذا المعنى. كلمة شعر في العربية ليست مفرداً لقصيدة، وهي ليست جمعاً، بل كثرةً، لذلك اعْتَبَرْتُ الشعر هو جامع أنواع، تدخل فيه القصيدة والرجز والكان وكان والقوما والدوبيت والموشح، وغيرها. فلماذا اسْتَسْلَمْنا لماضينا في مفاهيمه التي تدل على زمن الماضين، وعلى ثقافتهم وعقلهم ورؤيتهم لوجودهم، ونحن ننتقدهم، ونعتبر أننا تجاوزناهم، في حين أن جوهر عقلهم بقي كامناً فينا، وهو مفاهيمهم، مفهوم القصيدة والبيت، مثلاً. وأدونيس نفسه في بياناته دعا إلى “كتابة جديدة”، وظل يستعمل مفهوم القصيدة، ولم يُذَكِّر النِّسْيان، كما يقول فوكو.
التصوّف والذات وجيل الثمانينيات
(*) أنت من الشعراء الذين راكموا متناً شعرياً متميزاً داخل المشهد الشعري المغربي المعاصر، خاصة ممن اشتغلوا على التصوف في أبعاده الروحية والفكرية. كيف جاء بداية هذا الهوس بالتصوف ثمَّ بالتراث العربي؟
هذا ليس هوساً، لأنَّ علاقتي بالتصوف تعود إلى تربيتي، وبالتحديد إلى والدي الذي كان رجُلا مجدوباً يُقِيم ليلات شعبانة في بيتنا، وكان مشدوداً إلى عوالم غير ما كُنَّا نحن نعيشه ونراه. وهذا دَمٌ سَرَى في ذاكرتي ووجداني، وتَشَرَّبْتُه، إلى حين اكتشافي لمصادر التصوف الأساسية، أثناء دراستي ببغداد، وكان أول كتاب أشعل فيَّ هذا الحنين إلى والدي هو “الرسالة القشيرية” ثم كتاب “الإنسان الكامل”، لكن عثوري في إحدى مكتبات شارع الرشيد على كتاب “المثنوي” لجلال الدين الرومي، في جزأين، ترجمة عبد السلام كفافي، كان لحظة الضوء التي جعلتني أقرأ كل ما له علاقة بالتصوف. ديواني الأول الذي كتبته بين بغداد والدار البيضاء، “فاكهة الليل”، كانت التجربة الصوفية للرومي حاضرة فيه بشكل ظاهر، والديوان كتبته بين أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي، رغم أنني تأخرتُ في نشره إلى غاية سنة 1994، بإلحاح من الشاعر الراحل عبد الله راجع.
في عملي الشعري “ياااا هذا تكلم لأراك” الذي يتجاوز الخمسمئة صفحة، وهو نص واحد يشمل الكتاب كاملاً، اسْتَعدْتُ الرومي في سياق آخر مُغاير، وقُمْتُ بنفس الرحلة التي قام بها الرومي مع والده عبر طريق الحرير، قبل أن يستقر في مدينة قونية بهضبة الأناضول بتركيا، وقد عشت التجربة عن قرب مع الدراويش الدوارين، لأنني اعتبرتُ ما يجري اليوم باسم الدين من قهر وقتل وإرهاب، في هذا الفضاء الجغرافي بالذات، مروراً إلى بغداد ودمشق، هو نفسه الذي كان جرى مع المغول، وكان الرومي، في زمن القتل والقهر، يتغنَّى بالمحبة والعشق، وهذا خطاب احتجاجي مُبَطَّن، لأن الرومي كان يخاف على نفسه من شطط المغول وجبروتهم، والرجل كانت له رسالة، أصرَّ على أن تصل كاملة، كما كان أشْعَلَها فيه شمس الدين التبريزي، الذي أخرج الرومي من العدم إلى الوجود.
الشِّعر، إذاً، هو هذا البحث والتَّقَصِّي، وهو هذا الذهاب إلى المجهول، وإعادة كتابة وجودنا على الأرض، وهذا هو مفهوم ومعنى العمل الشِّعري، وحداثة الكتابة تحديداً، وكذلك معنى التصوف في لغته ورؤيته التي هي خلاص من سلطة الآخر، في مقابل اكتشاف الذات لذاتها “اعرف نفسك بنفسك”، واترك الوسيط خلفك لا تلتفت إليه.
(*) تنتمي بمنطق الجيل إلى المشهد الثالث في المشهد الشعري المغربي، ما الملامح التي ترسمها لهذا الجيل، خاصة وأنَّ بعض أفراده لم يطوِّروا تجاربهم الشعرية فاضطروا إلى كتابة الرواية مثلاً؟
تقصد جيل الثمانينيات. هذا الجيل جاء في فترة كان فيها الخطاب السياسي أو الأيديولوجي هو المهيمن، كان صراع اليسار مع النظام الملكي قاسيا. جيل السبعينيات من الشُّعراء والمفكرين والكُتَّاب، كانوا غارقين في هذا الجو، وكان شعرهم شعارات وخطابات لا علاقة لها بالشِّعر، وحتى الجيل الذي قبلهم كان بنفس المعنى. حين ظهرنا نحن كأفراد، لم يهتم بنا أحد، ولا أحد تكلم عنا، واعتبرونا مجرد هَبَّة عابرة، لا أساس لها في الوجود الشِّعري في المغرب أو في غيره، خصوصاً حين كتَبْتُ في ثمانِينيات القرن الماضي مقالاً أُؤَكِّد فيه أن الشّعر ليس هو السياسة ولا ينبغي أن يكون تابعاً للسياسة، وأشدّد على ذات الشَّاعر، في مختلف تجلياتها بما فيها من غربة وإحساس باليُتْم، وحاجة إلى التعبير عن الجراح الشخصية في علاقةٍ بما تَسْتَشْعِره هذه الذات من رغبة في الانعتاق والتحرر، وأن تكون قائمة بذاتها لا بغيرها… هذا المقال جعل من غرقوا في السياسة ينتقدونني، ولكنهم بعد وقت قصير شرعوا في الحديث عن الشعر باعتباره أفقا جمالياً، وأن الذات هي شرط الكتابة الأول. وقد كان كتابي “المُغايرة والاختلاف في الشعر المغربي المعاصر”، يسير في هذا الاتجاه، وهو خاص بجيل الثمانينيات في المغرب.
ولا بُدّ من القول إن عدداً من شُعراء هذا الجيل تنازلوا عن الشِّعر، بمعنى أنهم لم يطوّروا تجاربهم، وبعضهم بقيت تجربته، رغم كل الرتوشات والأصباغ الموضوعة عليها، غارقة في الأيديولوجيا ولم تخرج منها. وعدد شعراء هذا الجيل ممن بقوا على عهدهم بالشِّعر قليل، وهذا يعود إلى ما جرى في الشِّعر من تحوُّلات، وارتباطه بالمعرفة الشِّعرية، وهم اكتفَوْا بالكتابة بما في يدهم، ولم يَسْتَشْعِرُوا ركود الماء في ما يكتبونه، لغة وتعبيراً وتصوراً.
لعل أهم ما يُحْسَبُ لهذا الجيل هو انتصاره للذات، وللأفق الجمالي للشِّعر، وكما كتبتُ في “المغايرة والاختلاف..” فالثمانينيون أثروا في من قبلهم، وهذا واقع، لأن ما ظهر من تحول في تجارب السبعينيين جاء في النصف الثاني من الثمانينيات وليس في السبعينيات. ثم إن جيل الثمانينيات هو جيل شتات، جيل متفرق، ودراسته لم تكتف بالأدب وحده، وشعراء هذا الجيل انفتحوا على لغات أخرى غير الفرنسية، واليوم بعض شعراء هذا الجيل، باتوا محطّ اهتمام في الجامعات العربية، ولهم وجود بالفعل، لا بالقوة، في المشهد الشعري العربي، وتجاربهم فيها اختراقات حقيقية، على النقد أن ينتبه إليها، خارج ضغط شعراء الإعلام والعلاقات العامة.
(*) يُعدّ الناقد الفرنسي هنري ميشونيك أحد أهم الأسماء التي طوَّرت مفهوم الشعر في فرنسا والعالم في جانبه التنظيري، كيف تمَّ برأيك تلقي ميشونيك عربياً؟ وإلى أيِّ حدٍّ نحن في حاجة إليه للخروج بالشعر العربي إلى فضاء أرحب يصير معه النص مختبراً للمعرفة بكل تجلياتها؟
الشِّعر العربي المُعاصِر هو اليوم شعر كَوْنِيّ، بمعنى أنَّ الشَّاعر العربي لم يَعُد يكتب الشِّعْر برؤية وطنية أو محلِّية ضيقة، ومخنوقة داخل إطار جغرافي أو تاريخي معين، لأنَّ الشِّعر بطبيعته هو سماء تُغطي كل الكون، وهذا ما جعل الوعي بهذا البُعْد الكوني الإنساني يفتح الشعرية العربية على اختيارات جمالية، مصادرها متنوعة ومتعددة، لم تعد تقتصر على ما جاء من الثقافة العربية وحدها، بل حتَّى ما يوجد في ثقافات الآخرين المُجاورين لنا في الفضاء المتوسطي، أو البعِيدِين عَنَّا في آسيا أو أستراليا.
المغرب، بحكم عامل الجوار الجغرافي من فرنسا، وبحكم اللغة، باعتبار الفرنسية اللغة الثانية عندنا، كان الشِّعر والنقد والثقافة الفرنسية، عموماً، أقرب إلينا من غيرها، في وقت من الأوقات، وهذا ما جعلنا نكون مُتابِعِين لِما يظهر في فرنسا من تصورات نظرية ونقدية حول الشِّعر، وما ظهر من مناهج ومفاهيم ومدارس وتيارات، ساعدت في توسيع أفق الشعرية المغربية، وفي توسيع رؤيتها الجمالية، وسياقاتها الشِّعرية. هنري ميشونيك لم يكن له تأثير كبير على الشِّعر العربي، ولا على الشِّعر المغربي. الذين اشتغلوا على الشِّعرية المُعاصرة عند ميشونيك في أطاريحهم الجامعية، وكتاباتهم النقدية، وفي تصوُّرهم للشِّعر، عددهم قليل جداً، وهؤلاء أخطأوا الطريق، في قراءتهم لميشونيك، إلى الشعر، فهم اقْتَصَروا على الإيقاع، وكان عندهم بالدرجة الأولى هو الوزن، رغم كل التمارين التي قاموا بها لتوهيم القارئ بتوسُّع الإيقاع، لأنهم لم يذهبوا إلى الشِّعر باعتباره جامع أنواع، بل اكْتفَوْا بالشِّعر العروضي الموزون، وبشعراء يستجيبون لهذا الشرط العروضي، والشِّعر عندهم هو الإيقاع، وهذا هو دَالُّ الشِّعر الوحيد، وتجاهَلُوا الدَّال الآخر البانِيَ للشِّعر، وهو الخيال، أو جعلوه ثانوياً، أو خافِتاً في ما ذهبوا إليه. وهذا سببه أن قراءتهم لميشونيك كانت قراءة تبعية وطاعة، وهذا غير ممكن، ولا يُساعِد في توسيع أفق الشِّعر. في أطروحتي “حداثة الكتابة في الشِّعر العربي المعاصر”، انتقدت ميشونيك، ومن خلاله انتقدتُ هؤلاء، وكشفتُ أنهم لم يخرجوا من “القصيدة” إلى الشِّعر، أو إلى الكتابة، بمن فيهم أصحاب البيانات الشِّعرية، ومنهم أدونيس.
بقيتْ الشَّفاهة هي ما يحكم كتابتهم ونقدهم للشِّعر، لأن العروض الخليلي في جوهره، هو انعكاس للبنية الشفاهية الشَّطْرية في الشِّعر، أي في “القصيدة” التي ليست هي كل الشِّعر، بل هي أحد أنواعه فقط، وتعميم القصيدة على الشِّعر، أو باعتبارها هي كل الشِّعر، جاءنا من عصر التدوين، الذي كان عصر قوانين، سدَّت كل أفق في الابتداع، في اللغة، كما في النحو والعروض والبلاغة، وفي الفقه، وفي الدين عموماً، وهو العصر الذي ما زال يحكمنا إلى اليوم. شعرياً هؤلاء الذين قالوا بالإيقاع كدال أكبر خرجوا من هذه المرجعية، سواء كانوا على وعي بها أم لا، وميشونيك كان عندهم الغمامة التي أخْفَوْا خلفها انتماءهم إلى هذا الماضي.
لا أعتبر الشَّاعر ناقداً
(*) يرى البعض أن المبدع ناقد بالضرورة، انطلاقاً من نصِّه مروراً إلى نصوص الآخرين، كيف تنظر إلى هذه الظاهرة؟
خليل حاوي، في عدد من حواراته وكتاباته النظرية في الشِّعر، كان يذهب إلى هذا المعنى الذي تتكلَّم عنه، وهذا يعود إلى بعض كتابات إليوت، والنقاش الذي دار حول الشَّاعر النَّاقد.
أنا لا أعتبر الشَّاعر ناقداً، بالمعنى الدقيق لكلمة ناقد أو نقد، كما يُمارسُه المختصون، بل إن الشاعر، وهو يكتب عن تجارب الآخرين، إنما يختبر الأراضي التي حَوْلَه، ويبحث في تُربَتِها، في طبقاتها، وما تحفل به من غِنًى أو ثراء، أو ما فيها من خصوبة، وما مصدر هذه الخصوبة، لأنَّ الشَّاعر مُلْزَم، خصوصاً في وقتنا الراهن، أن يكون له مشروع شعري ـ نظري، وليس نقدياً، أي له معرفة بالشعريات المختلفة، وببناء النصوص والتجارب، وبما تبتكره من دوال، وما تكتشفه من طبقات جديدة في الشِّعر، وفي غير الشِّعر، في مختلف المعارف. إذاً، فالشَّاعر الذي يكتب عن الشِّعر، يُؤسِّس لمعرفة ولرؤية شعرية جمالية مُغايِرَة، ومن يكتب دون معرفة بالشِّعر، فهو يكتب مثلما يكتب الجميع، أي من لا معرفة لهم بأراضي الشِّعر وطبقاته المختلفة، والتجاوز، هنا، يصبح غير ممكن، لأنه وعي ومعرفة بما عند الآخرين، من الماضين والحاضرين. لا شاعر يُجدِّد بالصُّدْفَة، أو يُغايِر بالصدفة.
منذ قديم الشِّعر، كان الشُّعراء على وعي بالشِّعر، بما يُصاحبه ويُرافقه، وفي الشِّعر الجاهلي نجد هذا الوعي، مهما كانت طبيعته، فهو وعي ولو بالحدس، بأنَّ الشِّعر ليس اللغة، فقط، أو المعرفة بالعروض، أو ما توهَّمُوه من أعاريض كما قال ابن رشيق القيرواني عنهم، فهم كانوا يشعرون بالحاجة لمعرفة ما يقولونه، وما أُسُس بنائه، وإلاَّ ما كان جرى بينهم التشابه في ما صار قاعدة ونمطاً، وما أفصحوا عنه “نَصَّياً” في قصائدهم.
لا بد من الوعي بما نكتبه، ولا بد من وجود تصوُّر لمعنى ما نكتبه، لا شيء اليوم، يجري دون علم ومعرفة، ودون تصورات، فالشاعر استفاد من المعمار، كما استفاد من التشكيل، ومن الموسيقى والرقص، ومن السينما والتعبيرات الجسدية الكوريغرافية، ومن الفلسفة وغيرها، ولم يعد الشَّاعر مُكْتَفِياً بقراءة الشِّعر وحده، لأنَّ هذا سيُفْضِي به إلى التقليد واستعادة تجارب الآخرين.
وأعطي مثالاً حياً هنا، في لقاء حول تجربة محمود درويش، وبحضوره، كنتُ اعْتَبَرْتُ درويش، رغم تنكُّرِه لممارسة النقد أو التنظير للشِّعر، ناقداً ومُنَظِّراً، وأتَيْتُ بمجموعة من حواراته التي فيها تصوه للشِّعر، وما يتبنَّاه من مفاهيم، ومحمود وافق على هذا، بحضور عدد من النقاد والشُّعراء، بينهم إلياس خوري وصبحي حديدي ومنصف الوهايبي وغيرهم، وهذا كان بمدينة الرباط. معناه أن لا شاعر يفلت من النظرية، ومن وجود تصور نقدي عنده للشِّعر.
الشعراء والرواية
(*) مؤخراً، تحوّل عديد من الشعراء إلى عالم الرواية، كشاعر كيف تنظر إلى هذه الظاهرة، وما هي الأسباب التي تدفع الشاعر تحديداً إلى كتابة الرواية؟
الرواية، اليوم، باتت مثل “حمار الشُّعراء” قديما، والمقصود به بحر الرجز. السؤال الذي علينا طرحُه، هل هذا الكم من الروايات التي تصدر يكفي لندَّعي أننا دخلنا “زمن الرواية”؟ ثم ما الروايات التي يمكن أن تصمد إبداعياً وجمالياً، وتَعْبُر زمنها إلى الأزمنة القادمة؟ الإبداع، عموماً، ليس مشروطاً، بأن نُراكِم ونُكْثِر من كتابة جنس أو نوع معين، الإبداع هو ما يأتي من المستقبل، ما يكون مستقبلاً ونحن نقرأه. الرواية الجديرة بأن نقرأها، هي الرواية التي تكون ملحمة إنسانية بالمعنى العميق للملحمة، كما نجد في الشِّعر، عند عدد من الشُّعراء، شعرهم يفرض علينا أن نقرأه باستمرار، وهو مثل زرقة الأفق، لا تُحَدّ، فيما الروايات التي نقرأها نكتشف أنها اسْتُنْفِدت، في سردها، في حبكتها، في بنائها، وفي خيالها، ولم نعد نرغب في العودة إليها، أو الاحتفاظ بها في مكتباتنا. لا أتحدث هنا، مثلاً، عن نجيب محفوظ، ولا عن إدوارد الخراط، أو صنع الله إبراهيم، والغيطاني، ومنيف، وغيرهم ممن تعرفهم ويعرفهم القراء، هؤلاء لم يكتبوا الرواية على مقاس الجوائز، ولا بشروطها ومعاييرها، كتبوا لأنهم كانوا يسعون للتعبير عن المعنى المأساوي أو الملحمي لوجودنا على الأرض، وهذا ما نجده عند بلزاك في الكوميديا البشرية التي هي نقد للمجتمع، بل نقد للإنسان.
يبدو أن الخليج أغرى الكثيرين بالمال ولم يُغْرِهِم بالإبداع، وهذا ما جعل حتَّى الشُّعراء يذهبون إلى الرواية. لكن علينا أن نحذر هذا المطب، ففي تصوري أن الشاعر الذي يذهب إلى الرواية، مهما كان، وكيفما كانت تجربته، يفعل هذا لأنه وجد نفسه عاجزاً عن تحقيق الشرط المأساوي الملحمي في شعره، وفي اللغة التي يكتب بها، أو أن تصوره للشِّعر بات مخنوقاً. الشِّعر فيه من الإمكانات، ما يجعلك تكتب بهذا الشرط، إذا ما كنتَ على صلة بالمعرفة والجمال الإنسانيين، وكنتَ تُدْرِكُ اللغة في توسُّعاتِها، في ما تحتمله من رموز ودلالات، ومن قدرة على قول المُحال. غير هذا، سيكون ذهاب الشاعر إلى الرواية هو نوع من التعويض فقط، مهما كانت مبررات الشاعر ومسوِّغاته.
ثمة تراكم كبير الآن في شتى مجالات الإبداع والمعرفة
(*) كيف تقرأ المشهد الإبداعي والثقافي في العالم العربي اليوم، في ضوء المتغيرات السياسية والاجتماعية المتلاحقة التي طالته في السنوات الأخيرة؟
ثمة تراكم كبير في كل مجالات الإبداع والمعرفة والفكر والفن، في الثقافة العربية المعاصرة. قبل ذلك كان هذا التراكم محدوداً، ما كان يجعل من صدور كتاب مَّا يُثِير اهتمام القُرَّاء، وكان صدور عمل مَّا، هو حدث في ذاته. حالياً، لا يمكن أن يمر يوم، دون أن تجد كتباً جديدة في رفوف المكتبات، تشمل كل الحقول. الصحافة والإعلام لم يعودا قادرين على مواكبة الإصدارات بشكل منظم، مثلما كان بالأمس، وحتى القارئ بات عاجزاً عن قراءة كل شيء، ما لم يكن مختصّاً وباحثاً. كثير من الكتب المهمة، في الشعر وفي الفكر وفي الفن والإبداع، فيها اختراقات وتجاوزات لا ننتبه إليها، إلا بعد أن نقرأ عنها شيئاً ما هنا أو هناك، أو تحصل على جائزة ما. هذا يعني أن التراكُم عندنا، بقدر ما هو إيجابي ومفيد، بقدر ما بات يحجب عنَّا ما يجري في المشهد الثقافي العربي. هناك كتب أهم بكثير من “الثابت والمتحول”، وأهم بكثير من “النزعات المادية”، وأهم بكثير مما كان يتصدَّر المشهد الثقافي في العالم العربي خلال سنوات الثمانينيات وما قبلها، لكنها كتب لم تجد قارئها بعد، أو اكتفت بذوي الاختصاص والباحثين فقط، وفيها ما يتجاوز طه حسين وغيره. لكن المدرسة والجامعة عندنا ما زالتا تعملان على تكريس ما يخدم أفق المؤسسة فقط، ولا تستطيعان إحداث الاختراق، أو دعم الاستثناءات والطارئ في الإبداع.
(*) هل من مشروع عمل جديد لك قريباً؟
العمل الشِّعري الذي أنا بصدد إعداده للنشر، هو “مثالب هوميروس” في جزأين، الأول “نكاية في الآلهة” والثاني “هُلاسُ الأوقيانُوس”، وهو اشتغال على ملحمتَيْ الإلياذة والأوديسا، أي بمعنى ما بثَّه فيهما هوميروس من مثالب، في نقد الأولمب، وفي كشف حقيقة الآلهة، وتلاعبها بمصائر البشر على الأرض، أو بالوجود والإقامة البشريين على الأرض، حيث الإنسان يصير آلة ووسيلة لتحقيق رغبات الآلهة فقط، وهو لا حق له في بلوغ ما يرغب فيه، بحيث كل شيء يجري باسم الآلهة، كما نجد اليوم في ما نعتبره إرهاباً، فهم يقتلون باسم الله، بمعنى أنهم ينفذون أوامره. ما الفرق إذاً، بين ما يجري وما كان. الجزآن سيصدران معاً، خلال سنة2020 . ولي أيضا ثلاثة كتب نظرية حول الشِّعر ستصدر خلال نفس السنة، ضمنها كتاب “القوس والوتر- بيانات في حداثة الكتابة”. الكتابات الآخران كتبتُهما على شكل شذرات نظرية في الشِّعر، يسيران في اتجاه نفس المشروع الشِّعري الذي حول الكتابة، أو الشعر في مقابل “القصيدة”. وهناك ديوان “لا أحد سواي” الذي أنتظر ظهوره بين الفينة والأخرى.
(*) ما الذي تود أن تضيفه في نهاية حوارنا معك؟
علينا، كشعراء، أن ننتبه إلى أن الشِّعر أكبر مما نظن، وأنه لا يُخْتَزَل في قراءات هنا وهناك، ولا في سفريات وفنادق ومهرجانات وجوائز، ولا في ترجمات بئيسة تأتي تحت الطلب. الشِّعر هو عمل على الأرض وفي الأرض، واشتغال في أفق توسيع معنى الشِّعر، وتوسيع بنائه، والخروج فيه من النمط والقاعدة، لأن الشِّعر يجري خارج الأطر والأنساق، فهو طُرُق، وهو مجهولات هذه الطُّرُق، بما فيها من مفاجآت وخطر وأهوال. التجارب العالمية التي بقيت قائمة كانت في أصلها اختراقات، وكانت مرفوضة في زمنها، لا أحد انتبه إليها، فرامبو أمه أول من سخر منه حين أخبرها أنها يكتب عملا غير مسبوق. وهذه الأعمال الشعرية تأتي دائماً بهذا المعنى، لأنها تخرج عن مفهوم الزمن نفسه، ومفهوم المكان، ومفهوم الشعر كما هو سائد ومنتشر.
كل شاعر يكتب وعينه على مثال ما لن يبلغ ما في الشِّعر من دهشة واختراق، والشِّعر هو دهشة واختراق، منذ شرع في توطين وجوده على الأرض، وفي الانتصار للإنسان، ولمآسيه وصراعاته مع الأولمب.
ضفة ثالثة