“نحن” و”هم”…في حال الشتات السوري…/ حسام الدين درويش
إن حالة الشتات التي يعيشها ملايين السوريين أتاحت لهم الاحتكاك المباشر بما هو “أجنبي”، من بلادٍ ومجتمعاتٍ وجماعاتٍ وثقافاتٍ ولغاتٍ وناسٍ. بالنسبة إلى معظم السوريين، يمثِّل هذا الاحتكاك فرصةً نادرةً، ليس للتعرُّف إلى هذا “الأجنبي” فحسب، بل لإعادة التعرف إلى ذاته الفردية والجمعية أيضًا. فمن خلال عمليات المقارنة المستمرة، بوعيٍ أو من دونه، بين الـ “نحن” واﻟ “هم”، ومن خلال المراجعة العملية والنظرية التي يمارسها السوري في الشتات، بوعيٍّ أو من دونه، للأحكام المسبقة والتعميمات الشائعة بخصوص هذا الجانب أو الطرف الأجنبي أو ذاك، يمكن لكثير من الثنائيات الحادة ذات الحمولة المعيارية الكبيرة، أن تتفكك وتتهاوى، وأن تظهر هشاشتها الكبيرة. والثنائيات المعنية هي “شرقي وغربي”، “عربي وأجنبي”، “سوري وغير سوري”، “مسلم ومسيحي”، “مؤمن/ متدين وملحد/ غير متدين”، “ذكر وأنثى”، “يساري ويميني” … إلخ.
ويعني تفكك هذه الثنائيات فقدانها الحمولة المعيارية المُفترض وجودها بين قطبيها. فليس نادرًا أن يكتشف السوري أن “أجنبيًّا ما” هو أقرب إليه، فكريًّا و/ أو أخلاقيًّا و/ أو نفسيًّا/ روحيًّا، من سوريين كثر، أو أن يكتشف السوري المؤمن/ المتديِّن الإمكانية الفعلية لأن يكون الملحد/ غير المتدين ذا أخلاقٍ رفيعةٍ حميدةٍ تمثل مثلًا أعلى له ولكثيرٍ من المتدينين. إن تفكك هذه الثنائيات وما يماثلها ويتصل بها، يمكن أن يفضي إلى تغييراتٍ إيجابيةٍ كثيرةٍ وكبيرةٍ. ولا يعني هذا التفكك إنكارًا ﻟ “سورية” السوري، أو تخليًّا عن هويته الفعلية أو المزعومة، كما يظن أو يتخوَّف كثيرون، بل يعني إعطاء “سوريته/ هويته” بعدًا إنسانيًّا/ أخلاقيًّا يتجاوز تلك الثنائيات والانتماءات الأيديولوجية الضيقة، ويتأسس على منظومةٍ معرفيةٍ وقيميةٍ أكثر رقيًّا وانفتاحًا وغنىً، في الوقت نفسه. وانطلاقًا من ذلك تزول الحدود السابقة بين اﻟ “نحن” واﻟ “هم” تدريجيًّا، ويصبح كل طرفٍ جزءًا من الآخر، جزئيًّا ونسبيًّا، على الأقل؛ وتنشأ أنماط جديدةٌ من الانتماء القائم على الانتساب الإرادي، لا النسب اللا-إرادي (الإثني أو القومي أو الديني أو المناطقي، أو الجنسي … إلخ).
في خلال مشاركتي في المؤتمر العام الثالث عشر للجمعية الأوروبية للبحث السياسي الذي عُقد مؤخرًا في بولندا، تبين لي أن القضايا السورية ما زالت تحظى ببعض الاهتمام، على الصعيد البحثي الأكاديمي”، على الرغم من الخفوت المتزايد في شدة هذا الاهتمام، وعلى الرغم من لا مبالاة “أقطاب المجتمع الدولي” المتزايدة تجاه هذه القضايا. ومؤخرًا، تجسدت تلك اللامبالاة -على سبيل المثال- في خلو البيان الختامي ﻟ “مجموعة السبع” من أي ذكرٍ أو إشارةٍ إلى “سوريا”. أما في المؤتمر المذكور، فقد كانت “سوريا”، وما يتصل بها، موضع بحثٍ ونقاشٍ في تسع جلساتٍ نقاشيةٍ من جلسات المؤتمر البالغ عددها 470 جلسة. أما في المؤتمر العام السادس والعشرين للجمعية الألمانية للدراسات الشرقية الذي سيُعقد في هامبورغ، في بدايات الشهر المقبل، فسيقتصر حضور “القضايا السورية” على جلسةٍ نقاشيةٍ أو جلستين من الجلسات الخمسين التي يتضمنها هذا المؤتمر.
في خلال حضوري المؤتمر المذكور، للجمعية الأوروبية للبحث السياسي، أجريت، إراديًّا أو لا إراديًّا، بعض المقارنات بين “الفكر العربي” والفكر الغربي/ الأوروبي، في خصوص تناولهما مسائل عدة، أذكر منها في السياق الحالي مسألة الديمقراطية. فعلى الرغم من أن الأيديولوجيا محايثة للسياسة والفكر السياسي عمومًا، فإن حضورها في الفكر العربي يبدو أقوى أو ذا نتائج مختلفةٍ، مثيرةٍ للانتباه والتفكير. فغالبًا ما يركِّز الفكر العربي، المتبني للديمقراطية، على إظهار مزايا الديمقراطية وأهميتها، والتشديد على إمكانية -بل ضرورة- تحقيقها، في العالم العربي، في حين يركِّز كثيرٌ من الباحثين والمفكرين الغربيين على السلبيات والمثالب والعيوب الموجودة فعليًّا، أو التي يمكن أن توجد، في الديمقراطية. وهذا ما فعله الباحثون الغربيون -معظمهم- الذين تناولوا مسألة الديمقراطية، في المؤتمر المذكور.
لا ينبغي المبالغة في القراءة المعيارية لهذا الاختلاف، ولا رده إلى “القدرات الفكرية والإبداعية الغربية” على تقديم الجديد في هذا الخصوص، ولا إلى “العجز الطبيعي” لـ”الفكر العربي” عن تقديم الجديد ومواكبة آخر المستجدات الفكرية. فمن الضروري ارتباط مضامين أي نظريةٍ أو رؤية فكريةٍ سياسيةٍ بواقعٍ ما. ولا يبدو ملائما أو ملحًّا أن يركِّز الفكر العربي على نقد الديمقراطية أو التفصيل في أنواعها وعناصرها وسلبياتها، في ظل غياب الديمقراطية وسيادة أنظمة سياسية غير ديمقراطية في معظم أرجاء “العالم العربي”. ولهذا يبدو مسوَّغًا، بل إيجابيًّا، الحضور القوي في الفكر العربي للنزعات الدعوية والتبشيرية، في هذا الخصوص. لكن ما ينبغي الانتباه إليه، في هذا الخصوص، هو الاقتصار على هذا التوجه الدعوي/ التبشيري أو اختزال علاقتنا بالديمقراطية فيه، وعدم نشر الاعتقاد/ الوهم بأن الديمقراطية هي وصفةٌ أو صيغةٌ واضحة المعالم والعناصر، وقابلة للتطبيق، من دون أي حساب لأي اختلافٍ فكريٍّ/ ثقافيٍّ معرفيٍّ وقيميٍّ، وأي خصوصيةٍ محليةٍ.
الحديث عن الخصوصيات المحلية له سمعةٌ سيئةٌ في عالمنا العربي. فغالبًا ما يستخدم المستبدون ومؤيدوهم هذه الحجة لتسويغ جرائمهم وعدم ديمقراطيتهم وعدم احترامهم أبسط مبادئ منظومة حقوق الإنسان. ويمكن للإفراط في التشديد على هذه الخصوصيات أن يوفِّر أساسًا لنزعةٍ جوهرانيةٍ تقول بأن شعبًا أو مجتمعًا ما قابلٌ، بطبيعته أو بماهيته، لأن يتبنى قيم الديمقراطية ومبادئها الأولية، في حين إن شعبًا أو مجتمعًا آخر غير قابلٍ لذلك. وعلى الرغم من ذلك، وبعيدًا عنه، نرى أن الديمقراطية ليست وصفةً جاهزةً، ولا رؤيةً واحدة كاملةً واضحة المعالم والعناصر، بل هي أقرب إلى المفهوم العام الذي يتضمن قيمًا ومبادئ وأفكارًا بالغة العمومية، وهي تحتاج إلى تحديدات تتناسب مع كل سياقٍ مجتمعيٍّ وثقافيٍّ، زمانيٍّ ومكانيٍّ. ولا يروم الحديث عن الخصوصية نفي القيمة العالمية/ الكونية للديمقراطية وقيمها أو مبادئها الرئيسة، ولا التقليل من قيمتها وأهميتها، ولا إضعاف الهمم الساعية إلى تحقيقها، وإنما يهدف تحديدًا إلى التشديد على ضرورة أن يترافق النشاط الأيديولوجي السياسي مع نشاطٍ معرفيٍّ منتجٍ، يستفيد من تجارب الآخرين وأفكارهم من جهةٍ، ويأخذ في الحسبان خصوصيات واقعه/ سياقه التاريخي، واختلاف شروط هذا الواقع وسماته، من جهةٍ أخرى.
لا ينبغي إنكار وجود خصوصيات واختلافات بين الأفراد والمجتمعات والشعوب، لكن لا ينبغي في المقابل نفي وجود مشتركات إنسانية، قيمية ومعرفية، موجودة أو واجبة الوجود؛ ولا ينبغي إنكار وجود تفاعلٍ وتداخلٍ بين الثقافات، لدرجةٍ تجعل كلًّا منها جزءًا من الأخرى. فلم يعد هناك ثقافة غير متأثرة بثقافاتٍ أخرى. وهذا التداخل والتفاعل بين الثقافات، هو الذي يجعل رسم الحدود الفاصلة، فصلًا كاملًا، بين الـ”نحن” واﻟ “هم”، بل بين اﻠ “أنا” واﻟ “آخر”، أمرًا مرفوضًا، من حيث الوجود والوجوب، في الوقت نفسه. وتزداد حدة هذا الرفض وقوته بازدياد سطوع حضور الانتماءات القائمة على الانتساب، الإرادي الحر والاختياري، وبازدياد خسوف الانتماءات الناتجة من النسب القدَري. ومن الضروري أن نأخذ في الحسبان هذا الجدل بين التواصل والتفاصل، أو بين المشتركات الإنسانية والخصوصيات المحلية، في تفاعلاتنا كلها؛ النظرية والعملية، الجمعية والفردية، مع الآخرين، بحيث لا نبالغ في التشديد على اختلافنا الفردي أو الجمعي، من جهةٍ، ولا ننكر وجود هذا الاختلاف، من جهةٍ أخرى. وليس لهذا الاختلاف ماهيةً جامدةً أو حتى ثابتةً، بل هو في صيرورةٍ مستمرةٍ، كما هو حال الاختلافات كلها، والهويات كلها.
ومن دون الاعتراف بصيرورة الهوية والاختلاف عبر الزمان والمكان، وبالإمكانية المبدئية أو الفعلية للتقاطع والتشابك والتلاقح بين الثقافات، ومن دون القبول، بل التقبُّل، المبدئي لهذه الصيرورة وذلك التلاقح، لن يكون بإمكان الإنسان المساهمة الفعلية أو الإيجابية في صنع مستقبله، وسيغترب، عمومًا، عن حاضره/ واقعه، بل عن ذاته، لدرجةٍ تجعله يتبنى “فكرًا رجعيًّا”، يرى الخلاص في العودة إلى هويةٍ ما، يظن أو يتوهَّم أنها موجودةٌ، أو كانت موجودةً، في مكانٍ ما، أو في ماضٍ ما
بروكار سوريا