مشكلة النخب: التشتت الثقافي والوساطة الاجتماعية/ محمد سامي الكيال
تُظهر الاضطرابات الاجتماعية المتزايدة على الصعيد العالمي واقعاً مركباً، فنشهد من جهة تصاعداً للبؤس الاجتماعي، مع ميل واضح لتعطيل الديمقراطية وإفراغها من مضمونها لحساب هيمنة أوليغارشية، ومن جهة أخرى تراجعاً ثقافياً عاماً له انعكاساته السياسية الكبيرة، يعيق نشوء تعبيرات واضحة عن حالة الرفض والاحتجاج، فتبدو الحركات الاجتماعية فاقدة لوجهتها، ومنقسمة بين خطوط متعددة، تثير ارتباك المشاركين فيها أنفسهم.
من «السترات الصفراء» في فرنسا، مروراً بالاضطراب السياسي في دول جنوب أوروبا، وصولاً للعالم العربي، يبدو الوضع متشابهاً رغم الاختلاف الشديد في الظروف وطبيعة الأنظمة السياسية والبنى الاجتماعية – الاقتصادية.
يطرح هذا الواقع مشكلة «الوساطة الاجتماعية»: من المفترض أن توجد بين سلطة الدولة والحياة العادية للناس شبكة من المؤسسات والهيئات الاجتماعية، تشكل مجالاً لتحقيق الهيمنة الثقافية والأيديولوجية للدولة. ومن هنا يبرز دور النخب بوصفها عنصراً أساسياً في نقل القيم والإفكار، وتجسيد دور الوساطة هذا، أو في الحالة المعاكسة تعمل النخب على فرض هيمنة مضادة، سواء من خلال التغلغل في المؤسسات السلطوية القائمة، أو بإنشاء مؤسسات بديلة. في حال غياب أشكال التوسط هذه تصبح النزاعات الاجتماعية أكثر حدة واحتداماً، وقد تتخذ مسارات عبثية، معبرة عن غضب يائس، لا يجد تعبيراته اللغوية والثقافية الواضحة.
يمكن القول إن الشرط التاريخي للاحتجاجات الفعلية في عصرنا يتخذ المسار الأخير. ظهرت كتابات عديدة تحاول تجاوز ضرورة الوساطة نظرياً، معولة على قدرة البشر على تنظيم أنفسهم وإنتاج فضاءاتهم المستقلة، بدون الحاجة لهيئات مرتبطة بسلطة الدولة، أو أحزاب ومنظمات تشكل الهيكل البديل لهذه السلطة، إلا أن التجربة الاجتماعية لم تثبت فعالية هذه التنظيرات. وربما كان من الممكن طرح السؤال بشكل مختلف: هل يجب التفكير بشكل جاد في تجاوز الوساطة الاجتماعية، والتقليل من دور النخب أو نقدها؟ أم الأجدى البحث عن سبب عدم وجود نخب فعلية، والعمل على تشكيل حيّز جديد لفاعليتها؟
في انتظار القائد
تؤكد المفكرة البلجيكية شانتال موف أن بناء إرادة جماعية، أو مفهوم جديد لـ»الشعب»، يستلزم التعبير عن سلسلة من المطالب الديمقراطية غير المتجانسة لفئات متعددة، مثل قضايا العمل، مواجهة العنصرية وحقوق النساء والمثليين، لا يكون ذلك عن طريق رصف المطالب جوار بعضها بعضا، على طريقة المسيرات «الملونة»، بل من خلال إيجاد أسلوب تعبير أو مبدأ يتيح إظهار وحدة هذه المطالب، تسميه موف «دالاً هيمنياً»، أي رمزاً يمكن من خلاله جعل المطالب الاجتماعية قادرة على فرض نفسها، بوصفها كتلة متماسكة، في الحيز العام والمؤسسات الاجتماعية. هذا الرمز يجب بالضرورة أن لا يكون شخصاً، أي زعامة كارزمية ما، بل يمكن أن يكون مبدأً يمتلك حضوراً اعتبارياً قوياً، كقضايا النساء مثلاً، التي يمكن وضعها في الواجهة للتعبير عن وحدة المطالب الديمقراطية المتنوعة. توجد تجارب مهمة في هذا السياق، منها مثلاً حراك «طالعات»، الذي نظمته نساء فلسطينيات في عدد من المدن حول العالم.
إلا أن موف لا تبالغ بإنكار أهمية الشخصيات القيادية والتوجس منها، بل ترى أن حضور «القائد» قد يسهّل، بما يؤمنه من إرضاء للجانب الانفعالي لدى البشر، تأسيس الائتلاف العريض، الذي سيحمل صفة «الشعب». وهذا لن يؤدي بالضرورة للاستبداد والطغيان، فالقائد، في هذا النوع من الائتلافات، يمكن أن يكون «الأول بين متساوين».
لا تستطيع موف أن تشرح ضعف استراتيجية الشعبوية اليسارية التي تطرحها مقارنة بالنجاح النسبي للشعبوية اليمينية، فقد تمكنت الأخيرة من إبراز شخصيات يمكن نعتها، إلى حد ما، بالكارزمية. مثل الرئيس الأمريكي ترامب، أو طرح قضايا أصبحت «دالاً هيمنياً» واضحاً، مثل قضية الهجرة. الأمثلة التي تقترحها موف، مثل زعامة جيرمي كوربين لحزب العمال البريطاني، أو قضايا النساء بوصفها رمزاً لوحدة المطالب الاجتماعية، لا تبدو بالكفاءة نفسها في بناء ائتلافات متماسكة.
يمكن تفسير هذا بأن معظم حركات الشعبوية اليمينية تطرح نفسها بوصفها تمرداً على «المؤسسة»، في حين أن الائتلاف اليساري، الذي تقترحه موف، له جذور قوية في المؤسسات والأيديولوجيا السائدة، نظراً لقربه من سياسات الهوية، ما يجعل من السهل السيطرة عليه، أو إظهاره بمظهر المتواطئ مع السلطة. سبق للمفكرة الأمريكية نانسي فريزر المطالبة بإجراء قطيعة مع «النيوليبرالية التقدمية»، كي تحقق الشعبوية التقدمية استقلالها الواضح طبقياً وأيديولوجياً، ولكن هذه القطيعة لا تبدو سهلة التحقيق. تجربة الصراع داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي، بين تيار يساري، يمثله أساساً بيرني ساندرز، وآخر نيوليبرالي مرتبط بزعامات الحزب التقليدية، لم تنتج خطوط فصل واضحة، وكثيراً ما تضيع «راديكالية» الطرح اليساري بسبب تشابكاته المعقدة، صعبة الفصم، مع المؤسسات والأيديولوجيا النيوليبرالية.
رفض الوساطة
يعكس الميل لرفض «المؤسسة» جانباً شديد الأهمية في المزاج الاحتجاجي في عالم اليوم، وهو رفض الوساطة. يرى كثيرون أن المؤسسات الوسيطة لا تعنيهم أو تعبّر عنهم، ويمتد هذا الشعور إلى مؤسسات الديمقراطية التمثيلية نفسها، فحتى عندما يمتلك الناس حق التصويت، يشعرون بأن صوتهم ضائع، وغير قادر على التغيير. وهذا مؤشر على أزمة هيمنة واضحة، فرغم أن النيوليبرالية باتت هي الأيديولوجيا المسيطرة، ولا تشذّ عن أولوياتها حتى حركات اليمين الشعبوي، إلا أنها لم تنجح في تحقيق اندماج اجتماعي فعّال، فأقصت شرائح اجتماعية واسعة، وبالمقارنة بعصر دولة الرفاه، التي استطاعت دمج الطبقة العاملة في الدول الغربية في العالم البورجوازي، تبدو الهيمنة في عالم اليوم طغموية وأقلوية بشدة. إلا أن الفئات المقصاة لا تبدو قادرة على تنظيم نفسها، أو إبداع مؤسسات جديدة، تجعلها «الشعب» حسبما يفترض التكتيك الشعبوي، أو طبقة لذاتها، قادرة على تغيير العلاقات الاجتماعية، وفق المبدأ اليساري الكلاسيكي. قد يعكس هذا واقع تدهور نموذج المعمل المدار بالطريقة الفوردية – التايليرية (العمل الجماعي المنظم على خط إنتاج)، والذي كان موطناً لانطلاق العديد من الحركات العمالية. في المقابل يقترح الجغرافي البريطاني ديفيد هارفي المدينة بوصفها فضاءً للحركات الاحتجاجية الجديدة، فالرأسمالية المعاصرة تقوم بتحقيق «التراكم عن طريق نزع الملكية»، أي سلب الملكيات الفردية والجماعية من الفئات الأفقر لمصلحة رأس المال. ما يجعل فئات عديدة، بمن فيهم أفراد من الطبقة الوسطى، متضررين من هذه الممارسة، وتصبح «استعادة المدينة» من قبل سكانها، بوصفها مجالاً حيوياً للعمل والحياة، أحد أهم قضايا عصرنا. رغم هذا لم تستطع المدينة المعاصرة إنتاج حركات احتجاجية واضحة المعالم، أو نخباً قادرة على تأطير سخط البشر ضمن مؤسسات بديلة. المفكر الإيطالي أنطونيو نيغري، وهو من أهم منظري التسيير الذاتي وتجاوز الوساطة، يلاحظ هذا بمرارة واضحة. ورغم تقديره لرفض الجمهور للوساطة والديمقراطية التمثيلية، لا يرى أفقاً لاحتجاجات لا تستطيع تحويل نفسها إلى «منظمة».
نُخَب العالم العربي
ذمّ النخب عادة ثقافية شائعة في العالم العربي، فهي دائماً تُتهم بالاستعلاء على الناس، والاهتمام بمواضيع تعتبر ترفاً بالنسبة للقاعدة الشعبية العريضة. لا ينبع هذا النقد من رفض الوساطة على الطريقة الغربية، بل لأن الشبكات الزبائنية التقليدية، المعتمدة على الأعيان المحليين، والفساد الهيكلي في جهاز الدولة، هي على الأغلب من يقوم بدور الوسيط بين المجتمعات الأهلية والدولة، فتبدو النخب الحداثية فائضة عن الحاجة كثيراً من الأحيان.
إلا أن هذه النخب لعبت دوراً مهماً في الثورات العربية، ومازالت حتى اليوم تُعتبر تهديداً للسطة. قيام النظام المصري باعتقال عشرات من الناشطين تعسفياً، بعد دعوات التظاهر الأخيرة في البلاد، مؤشرٌ قويٌ على هذا. استبشر البعض بمحاولات تغيير تبدو قادرة على تجاوز النخبة، إلا أن هذه المحاولات لم تكلل، حتى الآن، بنجاح يذكر. ربما لأن أي حراك اجتماعي بدون مجهود تنظيمي لن ينتج أكثر من انفجارات محدودة التأثير، يسهل قمعها.
تعطينا التجربة نتائج متشابهة حول العالم: ضعف النخب وتشتتها، وإغلاق المجال العام أمامها، سواء بوسائل قمعية صلبة على الطريقة العربية، أو عبر آليات الاستبعاد كما في الدول الأكثر تقدماً، يؤدي لحالة استعصاء اجتماعي شامل. وسواء كان المطلوب استعادة الديمقراطية بطريقة راديكالية، أو إنتاج فضاءات بديلة تواجه سلطة الدولة، فلا بد من «منظمة» تعمل عليها نخبة مرتبطة عضوياً بتطلعات المحتجين. يستلزم هذا عملاً طويل النَفَس في المجال الثقافي والاجتماعي، تمهيداً لبروز «سياسة» قادرة على تقديم البدائل. والأهم بحثاً أكثر عمقاً في الحالة المدينية المعاصرة: أين توجد مواطن القوة الاجتماعية، التي يمكن أن تتحول إلى نقاط مقاومة ضد السلطة، أو بإمكانها تحقيق موقع تفاوضي أفضل معها؟ ربما كان هذا هو سؤال التغيير الأكثر مركزية لأي أفق راديكالي محتمل. وهو سؤال «نخبوي» بامتياز.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي