مَن يغير مَن: الأدب أم الواقع/ مفيد نجم
في الزمن الذي سيطر فيه مفهوم الالتزام والواقعية الاشتراكية على الأدب كثر الحديث عن دور الأدب في تغيير الواقع، لكن هذه المرحلة انتهت ثقافيا وسياسيا وما زال الجدل حول وظيفة الأدب في الحياة والواقع قائما، فهل بمقدور الأدب فعلا أن يغير الواقع أم أن ذلك محاولة لتحميل الأدب ما لا يحتمل وإشغال له بقضية خارج وظيفته الجمالية في الحياة. إن هذه الإشكالية التي ما زالت مطروحة للجدل تختزل رؤيتين متناقضتين لكنهما تتفقان على أهمية الأدب في الحياة ودوره في تجديد المنظور العام لها. لذلك جرى استخدام الأدب في الحرب الثقافية التي كانت تدور بين الشيوعية والرأسمالية، الأمر الذي يكشف عن البعد السياسي في محاولة استثمار الأدب وتوجيهه لخدمة الأهداف الخاصة لكلا المعسكرين.
الكاتب والروائي اليوناني المعروف نيكوس كتانزاكي يعترف بعجز الأدب عن تغيير الواقع، لكنه مقابل هذا الاعتراف يطلب من الكتابة أن تعمل على تغيير العين التي تنظر إلى هذا الواقع. إصرار البعض من نقاد الأدب وكتّابه على دور الأدب في تغيير الواقع هو انعكاس لرؤية خارجية إلى الأدب، تسعى إلى ربط الجمالي بالسياسي والإيديولوجي، ما يجعل الجمالي ينوء تحت ثقل السياسي في هذه المعادلة القائمة على عدم التوازن في العلاقة. إن استمرار هذه الإشكالية الخاصة واستمرار الجدل حولها يعتبر تأكيدا لوجود الاختلاف الذي لا يزال قائما في المنظور والخلفية والموقف، أو هو وفق تعبير كتانزاكي مرهون بالعين التي تنظر إلى هذه المسألة.
والحقيقة أن هناك أدبين في سياق علاقة الأدب بالسياسي؛ أدب يحاول تجميل الواقع وأدب يسعى إلى تعرية الواقع، وفي كلا الموقفين يظل الفكري والسياسي حاضرا، في الحالة الأولى يهيمن السياسي على الأدب وفي الثانية يعبر عن وعي نقدي يرتهن لذاته. وإذا كان أدب التجميل قد فشل في تزييف الواقع والحفاظ على قيمته التاريخية والجمالية فإن الأدب الثاني ظل واثقا من قدرته على نحت الواقع وتعريته، لكنه لا يدعي قدرته على تغييره لأن جل ما يمكن أن يفعله هو تغيير رؤيتنا إليه.
منذ خمسينات وستينات القرن الماضي ارتبط الأدب بالسياسة، ونادرا ما كان الأدب يتخلق خارج هذا المدار بسبب طبيعة المرحلة وما كان يهيمن على الوعي الجمعي من أفكار وآمال. لقد لعبت النخب الفكرية، التي كان أغلبها منتميا فكريا أو سياسيا، دورا كبيرا في توطيد العلاقة بين الإيديولجي والجمالي تحت تأثير الأفكار التي كانت رائجة آنذاك أو بحكم ارتباطها بإيدلوجيات عالمية. في المقابل حاولت قوى الحداثة توظيف الأدب في سياق ترويجها لمشاريعها وقيمها الحداثية الخاصة، وخاضت معارك فكرية وثقافية مع أقطاب التيار الآخر. لكن ما كشفت عنه وثائق المخابرات المركزية الأميركية في هذا السياق، خلال سنوات الخمسينات والستينات وعلاقتها بالجمعيات والنخب الثقافية، يدل دلالة واضحة على حقيقة هذا الدور الذي استخدم فيه الأدب وسيلة لمحاربة الفكر اليساري في العالم.
لقد تحول الأدب، شأنه شأن الاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة، إلى ساحة معركة بين النظامين العالمين والقوى الحليفة لهما. لقد كان تأثير هذا الصراع على الأدب ظاهرا في تكريس القيم والمفاهيم التي كان ينادي بها كل طرف من طرفي الصراع، وقد ظهر أثر ذلك إما في غلبة السياسي والإيديلوجي على الجمالي في الأدب، أو في فوضى الكتابة وتكريس مفاهيم حسية وعابرة تتناسب مع ثقافة الاستهلاك والبحث عن الخلاص الذاتي بعيدا عن قضايا الحياة والإنسان.
إن التأثير الذي يمكن للأدب أن يمارسه في المجتمع لا يمكن أن يتحقق إلا في سياق ثقافي تتضافر فيه جميع عناصر الثقافة لتحقيق هذا الهدف، لكن لا يمكن للأدب أو الثقافة أن يقوما بمهمة التغيير وحدهما طالما أن تأثيرهما لا يتعدى النخب والمهتمين بالأدب أو تكوين الوجدان الجمعي، لأن التغيير يحتاج إلى قوى اجتماعية فاعلة تتقاطع مصالحها وأهدافها في لحظة تاريخية ناجزة لتحقيق هذا الهدف، عندها يمكن للأدب أن يكون فاعلا ومؤثرا في تعزيز القيم والأفكار التي يحملها مشروع التغيير في الوجدان الجمعي.
لقد جنى أصحاب نظرية الواقعية الاشتراكية والالتزام على الأدب كثيرا عندما ربطوا جماليات الكتابة بالقيم التي كانوا يرجون لها ويطالبون الأدب بأن يتمثلها وكأنها القيمة العليا للجمال، ما انعكس سلبا على فنية الأدب وجمالياته. لذلك كان غياب هذا التاريخ بمثابة غياب للأدب الذي رهن مصيره بمصير السياسة والإيديولوجيا وحاول أن يستمد قيمته من خلال الأفكار والقضايا التي كان يعمل على تعظيمها.
إن الأدب الذي يدافع عن قيم الحياة الجميلة وعن قضايا الإنسان وحقه في الحياة الكريمة هو الأكثر التزاما بالمعنى الإنساني بالقيم الحقيقية للحياة، وهو الأكثر تأثيرا وديمومة، لأنه لا ينتهي بانتهاء هذه الأفكار والإيديولوجيات أو هذه المرحلة أو تلك ما دام قادرا على تمثل وتمثيل هذه القيم الإنسانية بمعناها الجمالي الكبير، بصورة تثري الوجدان وتغني الوجود الإنساني كما فعل الأدب في أعمال كثيرة لم تفقد حضورها وتأثيرها على الرغم من مرور زمن طويل على تأليفها.
الحديث عن قدرة الأدب على تغيير الواقع يستدعي الحديث عن دور الواقع في تغيير الأدب من خلال مجموع العلاقات والقيم والمفاهيم الجديدة التي تنشأ وتؤدي إلى تغيير المنظور إلى الواقع عند الكاتب وما يخلقه من حساسية جديدة عند الجيل الجديد من الكتّاب. إن العلاقة بين هذا التحول والواقع لا يمكن نكرانها ما دام الأدب دائم التفاعل مع الواقع يؤثر ويتأثر به، لكن هذا التحول الذي يحدثه الواقع يحتاج إلى عين ذكية وحساسية عالية ورؤية كمقدمة عند الكاتب ولذلك تتباين مستويات الإبداع بين كاتب وآخر وبين تجربة وأخرى.
لقد تجاهل الإيديولوجيون وكتّاب الالتزام هذا الدور الذي يلعبه الواقع كما يتجلى ذلك في التحولات التي شهدها تاريخ الأدب عبر مدارسه وتياراته المختلفة، حيث استطاع الكاتب في كل مراحله أن يلتقط الإيقاع الجديد للحياة وأن يتمثل المتغيرات الجديدة فيه وأن يعمل على استلهامها في حوار دائم ومتجدد معها.
كاتب سوري
العرب