تأصيل العنف والجريمة في سوريا/ سوسن جميل حسن
أثارت قضية الطفلة المصرية جنى محمد سمير ذات الأربع سنوات التي قضت جراء تعرضها إلى العنف الشديد من قبل جدتها الرأي العام العربي، وشغلت مواقع التواصل الاجتماعي والشاشات، ولقد أظهرت الفيديوهات التي صورت الطفلة وشقيقتها الأكبر بعامين آثار تعذيب تفوق خيال البشر تنم عن سادية متوحشة، وذلك بالكي والحرق ونزع الجلد وتكسير الأطراف الذي أدى إلى بتر ساق الطفلة المغدورة، حتى إن الجدة هددت الطفلة أماني أخت الضحية بالذبح بحسب ما قالت.
هذه الجريمة بالرغم من بشاعتها ووحشيتها، تختلف فقط بأن الإعلام سلط الضوء عليها وانشغل بها واتخذت منها بعض المحطات موضوعًا تناقش من خلاله قضية العنف الممارس ضد الأطفال وتحديد المسؤولية الاجتماعية والقانونية وكيفية الوصول إلى حماية قانونية لهم في المجتمعات العربية. ففي سوريا، وغيرها من المناطق المشتعلة بحروب منذ عدة سنوات أدت إلى انهيار الدول والمجتمعات، فإن مثل هذه الجرائم تتكرر يوميًا بأعداد كبيرة حتى إنها صارت تمر كخبر مثلها مثل باقي الأخبار التي اعتاد الناس عليها مثلما لو أنها صارت ملمحًا طبيعيًا من ملامح العيش في أوقات الحرب، وأنها ليست من الأولويات أمام ضغط الحياة والثقل الذي تركته الحروب على أرواح الباقين ولم يحصدهم الموت، إذ أصبحت غريزة الحياة هي الهم الأكبر والدافع الرئيس للسلوكيات وطرق العيش أمام تحديات الوجود الجبارة.
لا يكاد يمر يوم إلا ويسمع السوريون بجرائم عديدة تقع في جميع المناطق السورية، وفي مخيمات اللجوء أيضًا حيث يعيش اللاجئون السوريون ظروفًا مهينة لإنسانيتهم، ومن الطبيعي أن يكون الأطفال والنساء أكثر المتعرضين للجرائم باعتبارهم من الشرائح الضعيفة والمستضعفة تاريخيًا بحسب الثقافة المهيمنة التي تضافرت فيها العوامل الاجتماعية والدينية والسياسية والموروث الشعبي، بل حتى القوانين التي هي أيضًا حصيلة هذه التراكمات التي واربتها الأنظمة السياسية والحكومات المتعاقبة ولم تفتح عليها أبوابًا مشرعة من أجل إصلاحها والنهوض بالواقع المجتمعي إلى مستويات أكثر حداثة وعصرية تتماشى مع عصر الحقوق الإنسانية.
بعد سنوات الحرب والعنف غير المسبوق الذي مورس بحق الشعب السوري، وبعد أن بدأت أصوات المدافع تصمت في مناطق عديدة، والزلزال السوري يكف عن النشاط، فإن الهزات الارتدادية بدأت تظهر وتكشف الواقع الأكثر مأساوية مما كنا نتصور، فالحياة بشكل عام تصدعت وانهارت وانحدر مستوى معيشة الغالبية الساحقة من الشعب إلى خطوط الفقر وما تحته، وبدأت الإعاقات التي أحدثتها الحرب بالإعلان عن نفسها والظهور بأعداد كبيرة، ليس فقط الإعاقات الجسدية، بل الأمراض والاضطرابات النفسية والسلوكية، وانهيار منظومة القيم وتفشي الذرائعية التي تتيح للفرد أن يمارس كل أنواع التجاوزات والارتكابات بحجة الحرب والضائقة المعيشية وقصر الباع وانعدام الحيلة والوسيلة، فصارت مقولة “اللهم أسألك نفسي”” أو “أنا ومن بعدي الطوفان” وغيرهما هي الناظم السلوكي لغالبية الناس.
في استطلاع رأي أجرته إحدى المحطات التلفزيونية حول ظاهرة العنف ضد الأطفال، من وحي جريمة الطفلة جنى، وسط بعض الشوارع العربية، جاءت الآراء سطحية ومقتضبة وتنم عن جهل وعدم اكتراث بهذا الأمر، فمعظم الذين سئلوا ألقوا بالمسؤولية على الأهل والتربية في البيت، وبعض الردود نمت عن حد كبير من اليأس من إمكانية اضطلاع الحكومات بمسؤولياتها أمام المواطنين ومنها حماية الأطفال، فالحكومات بحسب هذه الردود غارقة بمحسوبياتها ومصالحها وآخر همها المواطن.
إن قولاً كهذا بالرغم من سلبيته ويأسه فإنه يعبر إلى حد كبير من الشفافية عن واقع المواطن في ظل أنظمة وحكومات كهذه، بل إن تسمية أفراد الشعوب المحكومة من قبلها بالمواطنين نوع من التجاوز والترف الذي لا تملكه الشعوب، فدولة المواطنة تحتكم إلى دستور يضمن الحقوق ومنه تتفرع القوانين، لكن الواقع يظهر العكس تمامًا، فالمواطن العربي منتهك الحقوق مهدور الكرامة مقموع مغيب عن دوره ممسوخ الإرادة مقصي عن القرار، متروك للموروث الديني والاجتماعي والثقافي ومنظومات العادات والتقاليد تدبر حياته وتنظم سلوكه وعلاقاته وتضبط حياته، ولما كانت هذه المنظومات تقوم على التمييز والمفاضلة في الحقوق والواجبات وتنعدم فيها المساواة وتغيب العدالة فإن من الطبيعي أن تكون المرأة والطفل والفئات المستضعفة معرضة أكثر من غيرها للعنف، ومن الطبيعي أيضًا في حالة انتهاك القوانين وشعور الفرد بأنه ضعيف لا يحميه قانون ولا يضمن له حقوقه ومعرض للقمع والاضطهاد وممارسة العنف بحقه من دون مساءلة أو محاكمة، من الطبيعي أن لا يمتلك الوعي اللازم ولا حتى النية في حماية أطفاله من العنف، ليس هذا فقط بل يشعر بالولاء إلى منظومة قيم العشيرة والقبيلة والطائفة والجماعة أكثر مما يشعر تجاه القانون والدولة، وأن من حقه تربية الواقعين تحت سيطرته كملكية مكتسبة من أطفال وإناث بالطريقة التي يراها مناسبة ويقرها له العرف ومكانته في النسيج الاجتماعي.
هذا الواقع القاتم كان قائمًا فيما مضى، فكيف يمكن لحياة خلفتها الحرب الدامية المدمرة أن تكون؟ شعب خلفته الخرب منقسمًا معطوب الأرواح مكلومًا فاقد الأمن والأمان يعيش تحت تهديد الجوع والفاقة والمرض، محروم من أبسط حقوقه الحياتية؟ شعب عاش على وقع المدافع وفي حمأة الثأرية والضغينة والعنف؟ شعب بات موزعًا بين مصاب ومعوق ويتيم ومعطوب وفاقد التأهيل والأهلية، كيف له أن يكون واعيًا لواقعه ولأسباب تهديد مستقبله؟ شعب صار همه الوحيد البحث عما يسد رمقه ورمق أطفاله، وعن مأوى ولو كان سقفًا من الصفيح أو الأغصان اليابسة يأوي إليه لينام مع أطفاله المحرومين من اللقمة والمدرسة والرعاية واللعب، كيف يمكن تحميله مسؤولية إعداد أبنائه ليكونوا أفرادًا منتجين وبنائين للمستقبل وأن يكون رحيمًا معهم ومفكرًا ومثقفًا وواعيًا لما يمكن ان يترتب عن سلوكه العنيف؟
كيف يمكن الانتظار من أفراد يعيشون مع القهر والذل كل لحظة أمام مفارقات الحياة التي أنتجت طبقة من الحيتان المفترسة التي لا تشبع أثرت على حساب أمنهم وحياتهم وحصصهم في بلادهم أن يكونوا واعين لسلوكهم مدركين للآثار التي يتركها العنف الممارس على أطفالهم أو في علاقاتهم وهم صاروا غارقين في لجته؟
إن مأساة الشعب السوري أكبر من الوصف، ووضع الحلول لها يلزمها البداية بأولويات، وأول هذه الأولويات وقف العنف الممارس بحقه، ومنحه رتبة المواطنة التي تترجم أفعالاً وواقعًا، إعادة ثقته بنفسه بالاعتراف بالمسؤولية عما جرى له من قبل العالم أجمع بعد أن تمكنت منه خيبته من هذا العالم، إن القوى الكبرى التي ادعت أو تدعي صداقة الشعوب وحماية الحقوق الإنسانية، كما حصل مع الشعب السوري، قد فشلت في تحقيق الأمن والسلام وفي حماية الشعوب من المصير الأسود الذي وصلت إليه، ولم تستطع أن تحدث التغيير الذي تتطلع إليه الشعوب المظلومة، بل كان من الخطأ التمسك بأمل معقود على رغبتها في ذلك ونيتها في الوقوف إلى جانب المظلومين، فهي في الأساس تعتمد القوة والسيطرة عل مقدراتها، وهذا سبب إضافي أضيف إلى مجموعة الأسباب التي جعلت من العنف ناظم الحياة السورية، في سنوات الحرب وما يتلوها، والجريمة المتزايدة باضطراد أكبر دليل على النكبة السورية.
تلفزيون سوريا