سياسة

افهموها بقى!/ عمر قدور

في سوريا وفي مصر وربما في العديد من دول المشرق يُقال “افهموها بقى” دلالةً على نفاذ الصبر ممّن لا يريد فهم ما هو واضح، أو ما صار مكشوفاً وجلياً بحكم التكرار. ومن لا يريد الفهم لا يفعل ذلك بداعي الغباء دائماً، بل ربما بدافع الاستغباء، أو مراهنةً على أن الإنكار المستمر للواقع مع محاربته سيتكفلان بتغييره، أو بالأحرى إعادته إلى الوراء حيث لا يتوجب الفهم.

هكذا، على سبيل المثال، تطالعنا جريدة لبنانية محسوبة على إيران بوقائع مخطط أمريكي هو الذي دفع العراقيين إلى التظاهر في الشارع ضد الحكم، ولا تترك لنا فسحة استنتاج أن القوة المفرطة التي قوبل بها العراقيون بمثابة عنف يستحقه أولئك الخونة. بموجب الجريدة، تصبح الاحتجاجات تمهيداً مدروساً لانقلاب عسكري، يُرجح أن تقوده شخصية اكتسبت شعبية في الشارع بسبب قيادة الحرب على داعش، والمقصود هو اللواء عبدالوهاب الساعدي الذي بات يُتهم الآن بعلاقة طيبة مع الأمريكيين، وهي صلة جاءت أصلاً بسبب تحالف تلك الحرب بين واشنطن وطهران.

هكذا علينا نسيان سياق متكامل لم تهدأ فيه الأحوال في العراق، فالانتفاضة التي استمرت نحو خمسة أشهر بدءاً من كانون الأول 2012 تصبح من الماضي بوصفها انتفاضة طائفية سنية، ووصمها بالسنية يتكفل بتجريدها من أحقيتها. تظاهرات صيف عام 2015 يمكن وصفها باحتجاجات مطلبية صغيرة، مع التنويه بقرارات حكومية استجابت لبعض مطالبها، حيث يعزّ وصمها بالطائفية. كذلك هو الحال مع تظاهرات صيف 2018 التي انطلقت من المحافظات الجنوبية وصولاً إلى بغداد، ولا بأس إذا أهملنا مظاهرات شباط 2017، أو إذا أهملنا مواجهة المتظاهرين بالعنف المفرط في كل مناسبة وإيقاع عدد غير قليل من الضحايا.

في سياق أوسع، كانت إيران أول بلد في المنطقة يشهد انتفاضة واسعة “2009-2010” جرى قمعها بعنف شديد على كافة الأصعدة، بما فيها التخوين إعلامياً حيث بادر نظام الملالي فوراً إلى الحديث عن مخطط أمريكي لإسقاط النظام. مع نهاية عام 2017 كانت التظاهرات الإيرانية قد عمت مختلف المدن، وذكّر بعض مسؤولي نظام الملالي بسيناريو 2009 كرسالة لسحق المتظاهرين، لكن الرسالة تعكس أيضاً إحساس النظام بأزمته إزاء الشارع وتعكس مقدار الاحتجاجات التي يُراد تقزيمها إعلامياً، وهي بخلاف عام 2009 كانت ترفع شعار إسقاط النظام. وإذا أهملنا انتفاضة الاستقلال اللبنانية عام 2005 فلأن الطابع التحرري من الاحتلال الأسدي قد تغلب على مطالبها الداخلية، رغم أنها قوبلت أيضاً بتخوين مماثل، ورغم أن إجهاضها يضع لبنان اليوم على الفالق الذي يهز المنطقة بأسرها.

قبل ما سبق وخلاله، أتت موجة “الربيع العربي” في نهاية عام 2010. نجت تونس “ربما بسبب سرعة الحدث” من التأثيرات والصراعات الخارجية، ذلك لم يحدث في ليبيا المجاورة إذ برزت الصراعات الإقليمية والصراع الداخلي بالوكالة بعد إسقاط القذافي. الأمر نفسه حدث في اليمن وفي سوريا، حيث فرض الصراع الخارجي نفسه بديلاً عن الصراع الوطني، أما في مصر فقُطع المسار الديموقراطي القصير جداً بانقلاب السيسي الذي سيتولى إرهاب المصريين مسنوداً بدعم خارجي لا يقل وقاحة عن إرهابه.

أثناء سويعات “بالمعنى التاريخي” سارع متلهفون كثر إلى إعلان نعي الربيع العربي، وإلى إبراز نتائجه الكارثية قياساً إلى “نعمة” الاستقرار التي كانت من قبل. سارع كثر أيضاً، عطفاً على إعلان الوفاة، إلى ترسيخ السردية التي تنص على كونه ربيعاً إسلامياً، مع التنويه بتفضيلهم له وصف الخريف إمعاناً في تحقيره. أنصار الربيع انتابتهم حالة من اليأس، فالحصيلة العامة كارثية حقاً، والأفق المنظور مسدود، ولا يستطيعون إنكار ركوب معادين أصيلين للديموقراطية الموجة ذاتها المطالبة بالديموقراطية.

ليس من باب المدد لأنصار الثورات أن اندلعت الثورة السودانية مع نهاية عام 2018، لتتوج بتنحية البشير والاتفاق على حكم انتقالي للبلاد. أيضاً اندلعت الثورة في الجزائر، وما تزال فصولها مستمرة حتى الآن بعد تحقيق المطلب الأول بعدم ترشيح بوتفليقة لولاية جديدة، وانتقل الصراع بعد إزاحة الأخير لمواجهة القوى التي تتستر خلفه وتقبض على البلاد. في مصر عادت الثورة لتتوعد حكم السيسي، وإذا لم تكشف المظاهرات عن حجم النقمة فإن الاحتياطات الأمنية هي التي تكشف الحجم المتوقع والأقرب إلى الواقع.

كنا خلال معظم هذه السنوات نشهد ما يجوز تسميته بالخصوصية السورية، فبشار الأسد كان آيلاً للسقوط في أكثر من مناسبة لتأتيه النجدة الخارجية وتنقذه، ولم تتضافر لمستبد آخر تلك القوى المتضاربة المصالح والمتفقة على إبقائه. الخصوصية هي في اعتراف كل حُماته غرباً وشرقاً بأسوأ مساوئه وبوحشيته، والتواطؤ رغم ذلك على بقائه الذي كلف السوريين فاتورة باهظة من الإبادة والتدمير والتهجير. هذا التواطؤ أدى إلى بروز ما يُسمى الفزّاعة السورية، وقد تناوب على التلويح بها حكام مصر والسودان والجزائر في مواجهة شعوبهم. لكن يبقى الأهم أن الفزاعة مستندة إلى توجه غربي بات يفضّل استقرار الاستبداد على التغيير، وللتوجه الغربي وجه يتحمل ما فيه من قباحة هو الدور الروسي سواء في مجلس الأمن أو في الميدان، فموسكو لا تكف عن إعلان وقوفها إلى جانب كافة الأنظمة القائمة بصرف النظر عن مدى الود معها، ولا يفوق “مبدئية” بوتين على هذا الصعيد سوى وقاحة ترامب وهو يصف السيسي بـ”ديكتاتوري المفضّل”.

عقد كامل من الانتفاضات في المنطقة، لا نستثني منها الاحتجاجات الشعبية في الأردن أو المغرب. قلائل في المنطقة أو خارجها اعترفوا بما يحصل بوصفه حدثاً تاريخياً، وهو بهذا المعنى أكبر بكثير من أن نأخذه بالمفرّق ونفنّده على هذا الأساس. لا بأس بالمجاز إذا شبّهنا ما يحدث بموجة من الزلازل لها أسبابها المديدة، والحنين إلى الاستقرار القديم لا ينجي منها، لأنها لن تتوقف مع ارتداداتها حتى تقف المنطقة على أرض صلبة ومتماسكة حقاً.

نحن حقاً لا نعرف اليوم أين وكيف سيكون الزلزال القادم في المنطقة، ولا نملك يقيناً أقله في ما يخص المستقبل القريب. وباستثناء هواة الشعارات، لم تكن الثورات العميقة مطلقاً بالأمر المحبب للشعوب، وهي لا تحدث إلا عند الانسداد التام لأفق النظام القائم. ما تعلّمنا إياه الأحداث التاريخية الكبرى أن الوقوف في وجه التغيير يرفع من فاتورته، وإذا أفلح في إعادة التاريخ إلى الوراء فذاك نجاح مؤقت قبل إعادة دفع الفاتورة مع فوائد التأخير. لسنا نحن، نحن الذين لا نعدو كوننا شهوداً صغاراً، من يقولها. هي لسان حال المنتفضين من الجزائر وصولاً إلى العراق: افهموها بقى!   

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى