عن الطريدة التي أفلتت../ عمر قدور
قبل سنتين من الآن ظهر وزير خارجية قطر السابق حمد بن جبر آل جاسم كأنه يفجر قنبلة إعلامية إذ قال ما معناه: تقاتلنا على الطريدة، وأفلتت بينما بقينا نختلف حولها. الطريدة المقصودة هي سوريا، والخلاف هو بين قطر من جهة والسعودية من جهة أخرى. هذا كان أول وآخر تصريح من نوعه، فالقادة العرب لا يعلنون عن سياساتهم، ولا عن الأسباب الحقيقية لخلافاتهم، وعندما يبدلون مواقفهم من النقيض إلى النقيض لا يجدون أنفسهم مضطرين لشرح سبب التراجع عن مواقفهم السابقة.
الوزير القطري السابق بدوره لم يشرح طبيعة الخلاف حول الملف السوري، وإن أعطى الخلاصة متمثلة بـ”إفلات الصيدة” ما يعني أن الطرفين العربيين اللذين كانا منخرطين في الملف لم يعد لهما تأثير يُذكر. يُفهم أيضاً من كلام الوزير ما كان متداولاً من قبل عن تولي قطر الملف السوري مع بدء الثورة السورية، برغبة أمريكية وموافقة سعودية، قبل انقلاب الموقفين الأمريكي والسعودي وتفجر الخلافات الإقليمية بدءاً من تموز 2013 على خلفية تباين المواقف إزاء انقلاب السيسي في مصر.
عملت الدوحة وفق التفويض الأمريكي، والحديث عن المرحلة الأولى للثورة، مستلهمة النموذج الليبي الذي كانت قد ساهمت فيه أيضاً. تجلى ذلك في تسمية “المجلس الوطني” نفسها، وفي خيار العسكرة الذي اعتُمد فيه على مبدأ حرب التحرير، من دون مراعاة الفارق بين التجربتين لجهة تمتع ثوار ليبيا بدعم غربي عام، وبدعم عسكري أوروبي قبل الأمريكي، بينما بقيت “المناطق المحررة” في سوريا تحت قصف أسدي بلا رادع. الوزير القطري السابق يعترف في اللقاء نفسه بتقديم الدعم العسكري لمختلف الفصائل، بما فيها “النصرة” مستثنياً داعش فقط، وذهاب الدعم إلى فصائل إسلامية ليس بالسر، وهو ما استأنفته الرياض أيضاً، بل يمكن القول أنه كان برضا أمريكي إذا استرجعنا حديث أوباما عن ترك الساحة لمتطرفي الشيعة والسنة بغية سحق الطرفين.
على الصعيد السياسي، كان النظام الرسمي العربي قد أعلن عجزه في الملف السوري منذ فشل المبادرة العربية التي طُرحت في أواسط شهر تشرين الثاني 2011. حتى تلك المبادرة أخذت قرابة ثلاثة أشهر من المناقشات والتعديل، بينما كان وفد المراقبين العرب بقيادة المبعوث محمد الدابي تحت رحمة مناورات وخدع سلطة الأسد، ومن أهم بنودها طلب دعم المبادرة من قبل مجلس الأمن لمعرفة الأنظمة العربية بأن قراراتها غير ذات تأثير من دون موافقة القوى العظمى. البند الآخر المهم، الذي يُفترض أن يرضي الأسد حينها، كان التأكيد على رفض التدخل العسكري، إلا أن هذين البندين لم يمنعا الأسد من إفلات شبيحته لمهاجمة سفارات وقنصليات قطر والسعودية وتركيا وفرنسا.
النعي الرسمي للدور الرسمي العربي، ولو اعتبرناه من باب رفع العتب أو واجهة لدور دولي، النعي أتى بتعيين كوفي عنان في 23 شباط 2012 تحت مسمى المبعوث المشترك “الدولي والعربي” لسوريا. هذا أيضاً ما سيكون عليه الاسم الشكلي لخلَف عنان في المهمة الأخضر الإبراهيمي، إلا أن الولاية الفعلية كما نعلم أصبحت في عهدة مجلس الأمن المعطّل بالفيتو الروسي. ثم لم يعد من حضور سياسي في الملف سوى لواشنطن وموسكو، وصار الملف السوري رهن اللقاءات “الحميمة” التي يعقدها وزيرا خارجية البلدين كيري ولافروف.
في الأصل كان خيار اللجوء إلى الجامعة العربية، وما تلاه من مبادرات رفضها الأسد وتجميد عضوية سوريا، خياراً مبنياً على اليأس من الأسد. فعندما اندلعت الثورة حاول أمير قطر حثّ بشار على تقديم تنازلات، وحاول أردوغان إقناعه ببعض الإصلاحات، ولم يكن موقف السعودية أو الإمارات مختلفاً رغم ماضي العلاقة بين بشار والرياض، فكما نعلم تدهورت العلاقة منذ اغتيال الرئيس الحريري، وإثر حرب تموز في لبنان أظهر بشار انتماءه التام للمحور الإيراني واصفاً الزعماء العرب بأنصاف الرجال.
عموماً، ليس من طبيعة النظام العربي الانحياز إلى الثورات، وإذا استرجعنا مواقف الأنظمة من ثورات الربيع العربي جميعاً فهي أتت متحفظة في البداية، ولم تتغير المواقف إلا عندما أصبح التغيير محتماً. في الحالة السورية فرضت إيران بتدخلها العسكري المبكر والمباشر التدخلَ الخليجي كرد فعل، وفرضت دخول الصراع السوري في صراع أوسع تحت مسمى الصراع الشيعي-السني في المنطقة. وكان لطهران العديد من الأفضليات في تدخلها، منها أن السعودية لا تملك حدوداً مباشرة مع سوريا تمكّنها من لعب دور مستقل، والبوابة الأردنية لها حساباتها التي تتكئ كلياً على التوجه الأمريكي، ومنها أيضاً مفاوضات الملف النووي مع أوباما، والأخير جعل من إنجاز الاتفاق النووي هدفه الوحيد تقريباً في السياسة الخارجية.
نعم، كان هناك تحفز سعودي إلى إسقاط الأسد، لكنه لا يستند إلى قدرات لوجستية كافية، وبقي محكوماً بما تقرره غرفة الموك الممسكة بجبهة حوران وهي الأهم لقربها من دمشق. منذ عام 2013 حتى بداية عام 2015 ستتأثر السياسة السعودية في الملف السوري بالخلافات الإقليمية المستجدة بسبب انقلاب السيسي، وستضحي الرياض بتحالف الضرورة مع تركيا حيث تملك الأخيرة أطول حدود مع سوريا، ثم ستنشغل بالشأن الداخلي وترتيبات الحكم التي تلت تنصيب الملك سلمان، لتجد نفسها أمام التدخل العسكري الروسي المباشر.
لم تقرأ القيادة السعودية التدخل الروسي جيداً، ولعلنا نذكر تصريحات وزير الخارجية عادل الجبير التي كانت تتراوح بين التهديد بإسقاط الأسد بالقوة وبين عروض علنية لشراء الموقف الروسي بالمال والصفقات. فرغم كل ما يمكن قوله عن المافيا الروسية الحاكمة هي ليست من الطينة التي تخضع سوى لتهديدات جدية من طرف أقوى، وصفقة بيع بشار بالنسبة لها ذات أفق استراتيجي أضخم من الملايين المعروضة. مع ذلك تمت ترضية الرياض معنوياً إثر مباحثات فيينا “30 تشرين الأول 2015″، من خلال تكليفها بالإشراف على استحداث كيان جديد هو “الهيئة العليا للتفاوض” كان يُفترض به تمثيل المعارضة في المفاوضات مع الأسد. قبل ذلك كانت الرياض قد استقبلت علي مملوك بوساطة روسية، وكانت واضحة في ربط إيقاف دعمها المعارضة مقابل انسحاب الميليشيات الشيعية، ما يؤكد مرة أخرى على الزاوية التي تنظر من خلالها إلى الملف السوري.
التركيز على الدور السعودي يرجع فوق نقل الملف لعهدة الرياض إلى الثقل المحوري الذي تتمتع به السعودية في الخليج والمنطقة، أما قطر فكانت قد شرعت بالانسحاب تدريجياً منذ سُحب منها التفويض الدولي، وتجلى ذلك بتخليها عن ائتلاف المعارضة وتحول الأخير إلى التبعية المطلقة لأنقرة. بمعنى أن الدولتين العربيتين اللتين تحالفتا بدايةً، وقادتا حشد دعم ضمن الجامعة العربية لعزل الأسد، خرجتا من الساحة وطويت معهما صفحة الدور العربي، ومن الطريف ربما أن موسكو هي التي حاولت إعادة بشار إلى الجامعة العربية لإكسابه شرعية ما لا اعترافاً منها بدور عربي.
إن الخارطة السياسية المحيطة بالملف السوري اليوم تعبّر أفضل تعبير عن فشل النظام العربي، فالدول الإقليمية الثلاث المؤثرة في مجرياته هي إسرائيل وإيران وتركيا، وهذه الدول هي التي ستؤخذ مصالحها في الحسبان من قبل واشنطن وموسكو إذا قررتا إنجاز تسوية ما للملف. التطورات الإقليمية التي حدثت منذ الاحتلال الروسي قبل أربع سنوات ليست في صالح النظام العربي، فالرياض عجزت عن تحقيق انتصار في اليمن الذي يمثّل لها أولوية تفوق الملف السوري، وقطر مضطرة بحكم الانقسام الخليجي والعلاقة الباردة نسبياً مع إدارة ترامب إلى انتهاج سياسات خارجية متحفظة، ولا يُنتظر من مصر السيسي سوى البقاء على حال من الرثاثة يُفقدها أي دور إقليمي.
في الواقع أصبحت “الطريدة” خارجة كلياً عن المحيط العربي وتأثيراته، وقد رأينا من قبل شيئاً مشابهاً في العراق، ولا يلوح في الأفق المنظور مسار معاكس. ليست التجربة السورية استثناء، فخلال عقود شهدت المنطقة فشل النظام العربي في كل الملفات الملحة المطروحة عليه، مثلما شهدت فشلاً ذريعاً للأحزاب القومية الحاكمة وغير الحاكمة. قد لا نخطئ إذا جزمنا بأن هذا النظام لن يكون سوى ما كان عليه، إلا عندما تنتصر الديموقراطية في عموم المنطقة، وتقترح الشعوب منظومة إقليمية جديدة تعبّر عن مصالحها حقاً.
بروكار برس