أزمة الهوية: جذور صراع الانتماء والولاء في سوريا/ عبد الوهاب أحمد
مع نهاية عام 2018، اعتبر رئيس النظام السوري بشار الأسد أنّ سوريا والمنطقة العربية عموماً تمرّ بأزمة هوية، ملوّحاً بشكلٍ ما إلى أنّ الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت كانت نتيجةً لتلك المشكلة، دون أن يتطرّق إلى الأسباب التي أدّت إلى بروزها أو تفاقمها على اعتبار أنّها موجودة مسبقاً، لكنّه تطرّق في عام 2017 إلى كيفية نظر النظام إلى الهوية، حينما قال: “ربحنا مجتمعاً أكثر تجانساً وهذا التجانس هو أساس الوحدة الوطنية”، في تصنيف يختصر المجتمع بكل من رفض الخروج على السلطة ووقف معها.
في الواقع كرّس النظام السوري أزمة الهوية، التي لاحقت المجتمع منذ القرن التاسع عشر إبّان بروز النزعة القومية داخل الدولة العثمانية، على غرار النزعة القومية الأوروبية، حيث استخدم على مدار أربعة عقود سياسة صارمة تعتمد على إلغاء الآخر، وتعزيز الانقسام بين شرائح المجتمع سواءً كان ذلك على أسس مناطقية أو قومية أو أيديولوجية أو فئوية.
في عام 2011، كانت بعض الشعارات التي طرحها المتظاهرون السلميون تشير إلى شكل الهوية المرغوبة لدى فئات من المجتمع، مثل: “لا سلفية ولا إخوان”، و”الشعب السوري واحد”؛ أي هوية جامعة، بالمقابل طُرحت شعارات أخرى عكست وجود صراع الانتماء والولاء لدى أطياف أخرى في المجتمع؛ أي الهويات الفرعية، والتي استطاعت لاحقاً الهيمنة والاستحواذ على الاتجاه العام بفعل ظروف خارجية وداخلية.
صحيح أنّ الشعارات في تلك الفترة كانت لا تعكس تماماً إجماع المتظاهرين، بل هي تعبير عن إرادة النخب في كثير من الأحيان، لكنّ ذلك بحدّ ذاته يشير إلى التباس أعمق في الهوية على اعتبار أنّ النخب يُفترض أن تكون على درجة مناسبة من الوعي إزاء قضايا جوهرية تمسّ وجود ومصير المجتمع والدولة السورية.
كان ذلك في الواقع أحد آثار أزمة الهوية التي تعيشها البلاد وكرّسها حُكم النظام السوري.
ولفهم أزمة الهوية التي تعاني منها سوريا لا بدّ من الرجوع إلى جذورها، أي ما قبل قدوم حزب البعث إلى السلطة في عام 1963، وهي الفترة التي كانت فيها البلاد تعيش حالة من عدم الاستقرار، والاضطراب على صعيد الحكم سواءً من ناحية سيطرة العسكر على مقاليد السلطة والدولة عبر الانقلابات المتوالية، أو من ناحية التجاذبات الإقليمية والدولية، لكنّ ذلك لم يخرج عن إطار أزمة الهوية وتأثيرها على تلك التحوّلات ضمن صراع الانتماء والولاء بين النخب والقوى السياسية والعسكرية.
صراع الانتماء:
في عام 1921 كانت سوريا قد تجزّأت إلى ثلاث دويلات هي دمشق وحلب ولبنان الكبير، إلى جانب إقليمين يتمتّعان بالحكم الذاتي هما جبل العلويين، وجبل الدروز، وأيضاً سنجقين “لواءين” تابعين لدولة حلب يتمتّعان بقدر من الاستقلال الإداري والمالي وهما: اسكندرونة ودير الزور.
جاء ذلك بفعل فرنسا عقب إتمام احتلالها سوريا عام 1920، وقد اعتمدت في تلك التجزئة على تصوّر نسبي لبنية وطبيعة الطبقات الاجتماعية والسياسية، في تلك المرحلة القائمة وفقاً للتقسيمات الإدارية التي ورثتها المنطقة عن التنظيمات العثمانية. لمّا لاحظت فرنسا انتشار حالة من عدم القبول بين أوساط ممثلي المجتمع في ظل بروز حركة مقاومة ناشئة ضد الاستعمار، أصدرت قرار تشكيل الاتحاد السوري في نهاية حزيران/ يونيو 1922، والذي يضمّ الدويلات الثلاث نفسها «LA FE DE RATION SYRIENNE».
في بداية الاقتراح لم يكن ممثلو دولة حلب راغبين بالانضمام إلى الاتحاد، لاعتقادهم بأنّه سوف يخدم مصالح دمشق على حسابهم، حيث كانت الألوية لديهم منصبّة على تأسيس سكّة حديد تصل مدينة حلب بميناء الاسكندرونة، وتعزيز التجارة مع العراق، ويساورهم قلق شديد من اقتطاع لواء عينتاب لصالح تركيا، لأنّه كان مصدر المياه الوحيد لديهم.
لكن لاحقاً استطاعت فرنسا إقناعهم بالانضمام بعد تقديم وعود لهم بتولّي القيادة، وهو ما حصل فعلاً بالسنة الأولى عندما أصبحت مدينة حلب العاصمة برئاسة صبحي بركات، إلّا أنّ المندوب السامي قام بعد عام بنقل العاصمة إلى دمشق، ما أثار حفيظة دولة حلب ودفعها لمحاولة الخروج من الاتحاد في عام 1925.
كانت تلك الفترة تعكس بشكل واضح صراع الانتماء في سوريا، حيث يوجد التباس حول الهوية ويتمثل ذلك فيما يلي:
1. الهوية المناطقية والتي تضع التركيز على الرابطة العشائرية والطائفية والطبقية للتنظيمات الإدارية المعهودة، والتي تشكّلت على إثرها دولة حلب ودمشق ولبنان الكبير، بالإضافة إلى مناطق الحكم الذاتي في جبلي الدروز والعلويين، وقد استفادت فرنسا من هذه النزعة لدى بعض ممثلي المجتمع من نخب سياسية وقيادات مجتمعية واقتصادية في فرض حالة التقسيم وتأسيس دول مستقلة، وهي محاولة لم تستمر بسبب عدم وجود يقين لدى تلك القوى المجتمعية والسياسية حول الهوية النهائية للدولة، وبسبب صعوبة التنفيذ في ظل بروز دور ممثلي الهوية الوطنية في تلك الدويلات.
2. الهوية الوطنية غير المتبلورة والتي تقوم على استقلال القرار وإنهاء الانتداب، وتشكيل حكم مشترك نيابي لا تمثيلي مناطقي، وتتّخذ من المقاومة المسلّحة وسيلة لتحقيق مطالبها، والتي يُمكن فهمها من خلال النظر إلى لائحة تمّ تقديمها إلى فرنسا في منتصف كانون الثاني/ يناير 1925، تضمّ ثلاثة عشر بنداً.
في الواقع، إنّ الهوية الوطنية في تلك الفترة هي امتداد لأفكار وجهود المؤتمر السوري العام الذي عُقد عام 1920، وسبقته خطوات قام بها أعضاؤه في شرق الأردن لتكوين تصوّر حول المطالب والأهداف التي سوف يقوم عليها، وقد أصدر المؤتمر أول وثيقة دستورية تنصّ على استقلالية الدولة وتغيير اللغة الرسمية إلى العربية، ورفض الوصاية البريطانية والفرنسية على العرب. كان المؤتمر يعكس هوية وطنية تغلب عليها النزعة القومية العربية.
بطبيعة الحال أدّت سياسات فرنسا المحلية في سوريا والظروف الإقليمية والدولية، إلى اندلاع الثورة السورية الكبرى عام 1925. وعلى إثر تلك التحوّلات المحلية والدولية بدأت في تلك المرحلة تبرز قوى سياسية متعدّدة دخلت لاحقاً مرحلة من صراع حول الانتماء، وذلك ضمن ثلاثة تيارات هي الإسلامي واليساري والقومي.
في عام 1924 تأسّس الحزب الشيوعي السوري، مستفيداً من ارتباك فرنسا في سوريا، وتألّب المجتمع عليها، ومن انتصار البلاشفة في روسيا، وتأسيس الاتحاد السوفيتي عام 1917.
كان الحزب يحمل هوية ملتبسة؛ حيث أنّ اهتمامه بالمشروع الوطني السوري بقي محدوداً مقابل إيلائه الأولوية إلى القضايا الطبقية والعالمية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، محتذياً بسياسة الاتحاد السوفيتي في دعم نضالات الطبقة العاملة العالمية.
وفي عام 1928 تأسّست الكتلة الوطنية في سوريا، وكان أغلب قادتها من الذين قاوموا في السابق الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى وطالبوا باستقلال سوريا عنها، كما أنّ أغلب قادتها أيضاً كانوا من العائلات الإقطاعية التي كانت تملك مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، وسرعان ما تعرّضت الكتلة إلى انشقاقات بعد خلافات حادّة وصلت إلى اغتيال أحد أعضائها، حيث عاد حزب الشعب لينشط بشكل مستقل عنها، والذي تشكّل أصلاً إبّان تأسيس المملكة السورية العربية وحلّ نفسه في أعقاب زوالها ويحمل توجّهات قومية، وحصلت انشقاقات فردية زادت حدّتها بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1946، ما دفعها إلى إعادة تسمية الكتلة باسم الحزب الوطني السوري.
وفي عام 1936 تأسست جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، مستفيدة من تجربة الجماعة في مصر التي بدأتها عام 1928، ومن المناخ الملائم في سوريا والمنطقة على صعيد انحسار دور فرنسا وتوقيعها معاهدة عام 1936، التي مهّدت إلى مرحلة الاستقلال. كانت الجماعة تحمل هوية ملتبسة؛ حيث ترتكز أولوياتها على كل الأنشطة التي تساعد وتخدم المشروع الإسلامي الواسع، مقارنة مع المشروع الوطني.
وفي عام 1947 تأسّس حزب البعث العربي الاشتراكي في دمشق، وهو أيضاً استفاد من الظروف الداخلية والخارجية ليعبّر عن توجهه الذي كان يعكس هوية قومية عربية تجعل من القطر السوري مركزاً لها. وفي عام 1957 تأسس الحزب الديمقراطي الكردي في دمشق، محاولاً الاستفادة من الفراغ السياسي الناجم عن الانقلابات المتعاقبة التي تعرّضت لها سوريا، وبعيداً عن سلطة “الآغوات” الإقطاعيين في الجزيرة.
وقد حملت الأهداف التي قدمها الحزب رؤية حول الهوية؛ حيث وضع على عاتقه حماية الكرد من القمع والاندثار، في ظل الضغوطات التي مورست على التجمعات السياسة والثقافية الكردية المنتشرة في الجزيرة وحلب ودمشق من قبل حزب البعث والحزب الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي، والذين كانوا يتخوّفون من النزعة الانفصالية التي حملتها التوجّهات الفكرية لتلك التجمعات.
إنّ صراع الانتماء الذي شهدته سوريا قبل عام 1963 كان يُعبّر عن هوية فئات المجتمع صاحبة الثروة والقوة والنفوذ؛ أي مجتمع المشايخ الذي أنتج التيار الإسلامي، ومنه جاءت جماعة الإخوان المسلمين، ومجتمع الإقطاع والبرجوازية والقبيلة الذي أنتج التيار القومي ومنه الكتلة الوطنية وحزب البعث العربي الاشتراكي، ومجتمع العمال الذي استفاد منه التيار اليساري في تشكيل الحزب الشيوعي السوري.
لم يكن الجيش السوري بعيداً أيضاً عن صراع الانتماء، فمنذ نشأته عام 1901 وحتى تأسيسه رسمياً عام 1946، كانت بنيته مؤلفة من وحدات عسكرية إثنية وطائفية وقومية وكتل عسكرية جهوية متنافسة.
تسبب ذلك لاحقاً في بروز اتجاهات مختلفة على مستوى انتماء الدولة، حيث كان هناك اتجاه نحو العراق، وآخر نحو السعودية ولاحقاً اتّجاه نحو مصر، علماً أنّ صراع الانتماء داخل المؤسسة العسكرية في تلك الفترة لم يكن يخرج أيضاً عن صراع الولاء والتحوّلات السياسية في المنطقة العربية والعالم. كل ذلك كان يعكس عدم امتلاك الجيش السوري هويّة واضحة ومستقلة.
صراع الولاء:
كانت الحركة السياسية التي نشأت في سوريا في منذ الاستقلال، وحتى نهاية عهد الجمهورية الأولى، أي ما بين عامي 1920 و1963، تعيش إلى جانب صراع الانتماء، صراع الولاء، حيث دان الحزب الشيوعي السوري بالولاء إلى الاتحاد السوفيتي، وعانت الكتلة الوطنية من انقسام على صعيد الولاء، إذ بحث قسم منها عن الحماية والمصالح عبر الولاء إلى محور العراق، في حين وجد قسم آخر الحماية والمصالح عبر الولاء إلى محور السعودية ولاحقاً مصر. بينما كانت جماعة الإخوان المسلمين تدين بالولاء إلى مركزها الحركي في مصر.
بين عامي 1946 و1948، كانت الحركة السياسية السورية تعاني من حالة اضطراب وفراغ، حيث ألقت النكبة في فلسطين بظلالها على البلاد التي لم تستطع بعد الترتيب لمرحلة ما بعد الاستقلال عن فرنسا. من حينها بدأ الصراع على ولاء سوريا يأخذ بعداً خارجياً أكثر منه داخلياً، وقد حصل في عام 1949 ثلاثة انقلابات عسكرية كانت الأولى من نوعها في المنطقة، وجاءت بدعم مختلف من القوى الدولية المتنافسة، بدءاً من الولايات المتحدة الأمريكية التي دعمت انقلاب حسني الزعيم بالتوافق مع فرنسا، لمواجهة نفوذ المملكة المتحدة التي كانت تسعى لتشكيل نفوذ قوي لها في المنطقة، ومروراً ببريطانيا التي دعمت انقلاب سامي الحنّاوي لاستكمال مشروع الهلال الخصيب، وصولاً إلى انقلاب أديب الشيشكلي الذي يعتبر مدعوماً بشكل غير مباشر من الولايات المتحدة، أي عبر المملكة العربية السعودية. وفي تلك الفترة اتّسمت العلاقة بين الطبقة السياسية والبرلمانية والمؤسسة العسكرية بالمضطربة، لكن بعد انقلاب الشيشكلي أصبح التيار القومي متنفذاً في المؤسسة العسكرية والبرلمان، ومهّد ذلك بطبيعة الحال إلى الوحدة مع مصر عام 1958.
ما سبق، يعكس بشكل أو بآخر صراع الولاء على هوية سورية بين المحاور الإقليمية والاتجاهات الدولية، وفي حين وجد التيار القومي الطريق لتكريس وجوده، كانت بقيّة التيارات غير قادرة على المنافسة والمواجهة لحين عام 1963.
بروكار برس