الأنظمة العربية ومواقفها المتباينة من الصراع في سوريا/ مصطفى الولي
منذ بداية الثورة السورية، وبخاصة إثر تداعيات الصراع المبكر نحو العنف، بمبادرة من السلطة الحاكمة، برزت المواقف الرسمية للدول العربية، متباينة ومتعارضة بين تأييد للثورة، من خلفيات متعددة، وبين مناهضة لها بشكل علني أو خفي، وفي الغضون هناك بعض الدول التي قدمت مواقفها مدعية الحياد، أو “النأي بالنفس”. بيد أنه فيما بعد، وفي غضون ثماني سنوات ونصف، حصلت تبدلات جزئية، أو انزياحات نحو الرخاوة، من قبل الدول المناهضة للسلطة المستبدة، أما الدول التي أعلنت وقوفها ضد الثورة بحجج شتى ومنذ البداية، فهي لم تعد مضطرة لتقديم الذرائع والتبريرات، وسقطت مقولة الطرف الذي غطى سياسته من الصراع في سوريا خلف ستار “النأي بالنفس”، فانضم كل من العراق ولبنان، بشكل فج وسافر لمعسكر سلطة الطغيان، ليس سياسيا وإعلاميا فحسب، بل قدما لسلطة الأسد الدعم العسكري والاقتصادي بشكل معلن ومكشوف.
فعلى خلفية النجاحات التي حققتها قوات السلطة مدعومة بحليفيها (روسيا وإيران)، وباستثمار التفكك والتناقض داخل قوى المعارضة السياسية والمسلحة، وبالتقاط الإشارات القادمة من عدد من الدول الكبرى (الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا)، والتي تحمل في ملامحها الرئيسية استعدادا لتعويم الموقف من سلطة الاستبداد لدرجة القبول ببقائها على قمة هرم السلطة. نقول جراء ذلك كله وبتأثير عوامل أخرى أيضا، إقليمية، أهمها الموقف الإسرائيلي، الذي حدد مشكلته في سوريا في رفض التوغل الإيراني على الأراضي السورية، الذي ترافق مع نشر أنواع من الأسلحة التي ادعت إسرائيل بأنها تشكل خطرا على أمنها، بدأت ملامح الضعف في الدور الرسمي العربي، مقابل ازدياد تأثير الدول الإقليمية الأخرى غير العربية.
وإذا أراد المرء تقييم حصيلة المواقف الرسمية العربية، بشكل عام، سيقف عند استنتاج أساسي، يصعب تجاهله أو القفز عنه، حيث لم تستطع الدول العربية، مجتمعة، أو كل على حدة، مواكية حاجات الشعب السوري في سعيه للحرية والخلاص من سلطة الطغيان والاستبداد، إذ بقيت مواقف جامعة الدول العربية محدودة بتعليق عضوية نظام الأسد في الجامعة، وتركت الشأن السياسي والدبلوماسي خيارا خاصا بكل دولة بمفردها، كما فشلت الجامعة في اتخاذ قرارات تنص على عقوبات اقتصادية بحق نظام الاستبداد الذي أوغل في سفك دماء السوريين، وتدمير مدنهم وبلداتهم، وفي تشريدهم خارج مناطق سكناهم كما إلى خارج سوريا.
والأمر الذي اتضح من تباينات وتعارضات مواقف الدول العربية، يبين أن الدول التي انحازت الى جانب نظام الاستبداد، لم تتوقف عند دعمه سياسيا ودبلوماسيا وإعلاميا، بل هي شاركت عسكريا في القتال ضد الشعب السوري، ونشير هنا إلى نظام العراق في عهد المالكي، والذي لم يختلف كثيرا في عهد حيدر العبادي. وإذا كانت السلطة اللبنالنية قد اجترحت خديعة” النأي بالنفس” فهي استخدمت تلك البروبوغندا للتغطية على دور حزب الله العدواني الوحشي على الشعب السوري، وفي ذات الوقت إنزال العقاب باللاجئين السوريين في لبنان، استكمالا للجرائم التي أقدم عليها الطاغية بشار الأسد. زد على ذلك مخالفة السلطات اللبنانية للقوانين الدولية بخصوص اللاجئين التي تنص تحريم إعادتهم قسرا إلى أي مكان لا يريدون الذهاب إليه، أوتسليمهم للنظام الذي فروا من جرائمه. والأخطر في سلوك المؤسسات الرسمية اللبنانية هو اعتقال عدد كبير من المعارضين السوريين وتسليمهم لأجهزة المخابرات التابعة لسلطة الطاغية.
ما أريد قوله، إن الدول العربية التي انحازت لسلطة الاستبداد، جسدت انحيازها وبالسبل كافة، العسكرية والأمنية بشكل خاص، ناهيك عن توظيف إعلامها ومؤسساتها الدبلوماسية لإسناد السلطة المتوحشة في سوريا. مقابل ذلك، اقتصر موقف الدول التي أعلنت تأييدها لحق الشعب السوري بالحرية، على الدعم السياسي والإعلامي، وبعض الدعم المادي لإغاثة أبناء المناطق التي طالها الدمار، وأصابها الشلل الاقتصادي، فضلا عن الحصار الذي فرضته أجهزة السلطة، وأما في مجال الدعم السياسي، فلقد بدت حالة الوهن والتردد في دعم مطلب إسقاط سلطة الاستبداد، واتسم الموقف السياسي هذا في الالتباس بين إسقاط النظام وبناء نظام ديمقراطي تعددي، وبين تغيير النظام، أو التغيير من داخل النظام.
في الميدان العسكري، كان دعم الدول العربية، لقوى المعارضة المسلحة التي تواجه سلطة الأسد، مبنيا على حسابات خاصة بكل دولة، والأسوأ في كل تلك الحسابات اقتصار الدعم المادي والتسليحي على القوى الإسلامية غالبا، أو بتقديم القليل من الدعم للجيش الحر، الذي يقوده ضباط منشقون عن جيش السلطة، وعليه فقد ازداد دور القوى الإسلامية كما ونوعا وأضحى سمة بارزة في واقع فصائل المعارضة المسلحة التي تواجه النظام. وبذلك أصبح المشهد في ميدان الصراع ملتبسا وخطيرا، ما أعطى للسلطة المستبدة ذريعة لإظهار المعركة التي يخوضها السوريون دفاعا عن حياتهم، وسعيا منهم لنيل حريتهم، على أنها حرب طائفية، وقدم نفسه أمام العالم كجزء من معركة الدول الكبرى والإقليمية ضد “الإرهاب”، وجاء ظهور القاعدة- النصرة- هيئة تحرير الشام، وداعش ، ليساعد على رواج ذلك الادعاء، وفي الحقيقة نجح النظام في تزييف طبيعة الصراع وتشويهها اعتمادا على تلك المعطيات، كما على الماكنة الإعلامية للدول الكبرى والإقليمية والعربية الداعمة له ( روسيا وإيران وحكومة المالكي في العراق والسلطة اللبنانية المؤتمرة بقرار حزب الله، إضافة لدول عربية أخرى بعيدة عن الجغرافيا السورية)، وحتى الدول التي ادعت وقوفها مع حرية الشعب السوري مالبثت أن تبنت شعار” الأولوية لمحاربة الإرهاب في سوريا”.
في هذا الخصوص، يجب ألا يفوتنا التوقف عند الموقف الرسمي الفلسطيني (سلطة محمود عباس). وإذا كانت تلك السلطة دون مستوى “دولة” سوى أن تمثيلها للفلسطينيين وقضية فلسطين، يجعل لموقفها وزنا معنويا وسياسيا، لا يقل عما تملكه الدول العربية من وزن اقتصادي ومادي، في انعكاسه على الرأي العام العربي والفلسطيني أساسا، ثم في أثره على المنظومة الدولية. ولقد اتسم موقف السلطة، من الثورة السورية، في السنوات الخمسة الأولى، بالالتباس والغموض (الذي تعلمته من فكرة إيهود براك” الغموض البناء”، في معرض إبداء رأيه باتفاق أوسلو 1993 مع قيادة منظمة التحرير) ثم أولا بأول راحت السلطة الفلسطينية تنزع القناع عن وجهها، وتفصح عن تأييدها لنظام بشار، باستخدام ضلالة” المؤامرة، وضرورة الدفاع عن الصمود من أجل مواجهة” صفقة القرن”. متجاهلة عمليات القتل والتدمير للمخيمات الفلسطينية في سوريا، حتى أنها لم تحرك ساكنا للكشف عن المخطوفين والمعتقلين في سجون الطاغية. لقد تجاهلت السلطة الفلسطينية تاريخ العلاقة بين الفلسطينيين وسلطة آل الأسد منذ عهد الأب، حيث المجازر ضدهم في لبنان من تل الزعتر الى صيدا وشاتيلا وطرابلس.
هكذا، فإن نظام الأسد الاستبدادي تمكن من توظيف ما يدعى “الورقة الفلسطينية”، التي لطالما روجت لتقديم نفسها ” كمالك حصري” لموقف الدفاع القضية الفلسطينية. ومعلوم أنه منذ بدء الثورة السورية 2011 ادعى النظام بأن ما يجري في سوريا يستهدف “صمودها” في وجه التهديدات التي تتعرض لها القضية الفلسطينية، ووجدت تلك الكذبة رواجا في أوساط واسعة من شعوب البلدان العربية، وهو ما أظهر الواقع الشعبي العربي وكأنه يصطف خلف موقف السلطة الطاغية، وهو موقف مغاير لما أبدته الشعوب العربية من ثورات الربيع العربي، خاصة في تونس ومصر.
وإن أردنا مقاربة الجذر الأساسي لمواقف الدول العربية من الصراع في سوريا، وفشله عن تقديم مايمكن السوريين من تحقيق أهدافهم في الحرية، مقارنة مع محددات مواقف الدول الإقليمية الأخرى(إيران وإسرائيل وتركيا)، سنجد أن المنظومة العربية، مجتمعة ( الجامعة العربية) أو كل على حدة، غاب عن أجنداتها ومحددات مواقفها وسلوكها، أي ملامح لمشروع عربي ينقذ سوريا من السلطة المتوحشة، ذلك المشروع الذي لاتستقيم ركائزه دون التلاقي الحقيقي مع هدف السوريين في انتزاع الحرية والقضاء على الاستبداد في بلدهم، وبناء نظامهم الديمقراطي التعددي المدني والحديث. وبقي أساس المواقف العربية الرسمية، التي لم تقف مع سلطة الطاغية، محددا بالاستياء من ارتماء بشار الأسد تحت سقف الحظيرة الإيرانية.
أي أن مشروع تجسيد الحرية، وبناء الفضاء السياسي الديمقراطي في سوريا، لم يشكلا أساسا لإدارة الصراع في سوريا، أو لبناء التحالفات الداخلية في صفوف قوى الثورة. ولقد أنتجت التناقضات العربية- العربية، في طريقة تعاطي هذا النظام، أو ذاك، مع معطيات الصراع وتداعياته، تمزقات وخلافات بين قوى الثورة في الداخل السوري، وفي أوساط القيادات السياسية المعارضة، مما أسهم في إجهاض الأفق الديمقراطي للتحولات داخل قوى الثورة، بل وأسهم في دفع التناقضات بين عدد من القوى السورية إلى مستوى التناقض الأساسي، في كثير من المراحل والمنعطفات.
فهذه إسرائيل مثلا، وخلال مؤتمرات هيرتسليا السنوية، وفي مواقف حكومة نتنياهو وغالبية القيادات الحزبية، اعتمدت على تجربتها مع نظام الأسد الأب ثم الابن، ولم يكن لديها اي رغبة في نغيير الواقع السياسي في سوريا، وإسقاط النظام. ولكنها حاولت إظهار موقف محايد، ولم تفصح عن أحد حقائق استراتيجيتها الأمنية العليا، التي لاتنسجم مع نشوء ديمقراطيات في البلاد العربية، تحديدا فيما يسمى” بلدان الطوق”. ولقد قدم لها نظام الأسد ما يريحها من العقدة التاريخية” التوراتية” (الخطر يأتي من الشمال)، والتي تبنتها القيادة الإسرائيلية منذ بن غوريون، وقلبها إلى حقيقة أن: ” الأمن يأتي من الشمال”. فالتدمير الشامل لمقدرات سوريا وقدراتها، على يد سلطة الأسد، ونجاحه بالاستناد الى تحالفاته (روسيا وإيران)، بإجهاض إمكانية بناء سوريا الديمقراطية، يعزز الفكرة الزائفة للاستراتيجية الإسرائيلية” إسرائيل واحة الديمقراطية الوحيدة في الصحراء العربية”، لتبقى مقولة القيادات الصهيونية: “ليس للغرب في الشرق أفضل من الغرب نفسه سوى إسرائيل”، هي السائدة في نظرة العالم للمنطقة وللصراع العربي- الإسرائيلي.
أما الهجمات التي طالت التواجد الإيراني في سوريا فهي لاتنال من سلطة الأسد ولا تستهدفه، ولم تستهدف التدخل الإيراني لقمع وسحق الثورة السورية، وركزت هدفها على منع إيران من التنافس معها لبناء دور إقليمي يكون بجزء منه على حساب مكانة إسرائيل، وقدرتها، في رسم ملامح الخرائط الجيوسياسية في المنطقة. وتلقى السياسة الإسرائيلية هذه احتضاناَ أميركيا، ويدا روسية تشد أزرها، فهي الأكثر اطمئنانا على مستقبل علاقتها مع تطورات الوضع السوري كيفما مضت الأحداث. فالأسد في السلطة وأميركا مع إسرائيل وروسيا لاتمانع ما تقوم به حكومة نتنياهو لشل الدور الإيراني في سوريا.
ونأتي على الدور الإيراني في سوريا، فهو الأكثر وضوحاَ، ومنذ آذار 2011، حيث قدمت طهران دعمها لسلطة بشار، وأدخلت ميليشياتها الشيعية الطائفية لتقاتل بوحشية ضد الشعب السوري. ودفعت المليارات لحليفها المجرم، فضلا عن الذخائر والأسلحة بكميات هائلة. ويمكن القول إن طهران اعتبرت دعمها لبشار معركتها الاستراتيجية لاستكمال مشروعها العنصري” الفارسي” المغطى بالمذهبية الطائفية” الشيعية”. وفي هذا المجال تربط طهران بين أوراقها في العراق واليمن ولبنان وسوريا، لابتزاز الموقف الدولي، ولمقايضة مشروعها النووي والبالستي بالفوز بدور إقليمي ” امبراطوري” على حساب أي دور عربي، وتتحدد المشكلة التي تؤثر سلباَ على دورها، مصدرها تعارضات جزء من سياساتها، مع أجندة روسيا التي لها الوزن الأكبر في تقرير السياسات نحو سوريا، حتى هذه اللحظة.
الطرف الثالث –التركي، له خصوصيته في العلاقة مع قوى الصراع في سوريا. في البداية بدا وكأنه منحاز كليا للشعب السوري، لكنه وعلى إيقاع السياسات الدولية (روسيا وأميركا وأوروبا)، ولضروراته في العلاقات الإقليمية مع طهران، وجراء تنافسه وتعارضه مع مواقف بعض الدول العربية (دول الخليج بزعامة السعودية)، وعلى خلفية قلقه التاريخي من الحركة القومية الكوردية، والتي تتواجد فصائل منها في شمال وشرق سوريا، أعاد النظر بمواقفه، فأصبح متقاطعا مع بشار الأسد، بطريقة غير مباشرة، في بعض النقاط، وتنازل عن مواقفه المتشددة التي بدت في مراحل سابقة، وأعاد التموضع على قاعدة التنسيق مع موسكو، وتحسين شروط التحالف مع أميركا، لكن عيناه لاتفارقان الهاجس الكوردي، واعتبار التخلص منه هو أساس العلاقة الراهنة في تعقيدات الصراع في سوريا.
إزاء تلك اللوحة المعقدة، وما يتخللها من مساع يقوم بها حلفاء الأسد، وبعض الدول العربية، لإعادة تطبيع العلاقة بين دول الجامعة العربية وبين سلطة بشار، يبدو أن الدول غير المؤيدة لبشار، مجتمعة، وكل على حدة، في حالة ضعف لا تسمح لها بتقديم شيء مهم للشعب السوري. زد على ذلك أن قدرتها على التماسك بوجه المتغيرات الدولية والإقليمية، ومنها متغيرات الداخل السوري، لا تنبئ بثبات على المواقف السابقة، رغم محدودية تأثيرها على مجريات الصراع في سوريا. ما يفيد بأنها قد تجاري، على الأغلب، ما تقرره الدولتان (روسيا وأميركا)، بشأن مستقبل سوريا. ولعل ما تملكه الدول العربية من تأثير في هذا المجال، يقتصر على محاولتها عبر حليفها الدولي (أميركا)، لمنع إعادة تأهيل بشار الأسد شخصيا لرئاسة سوريا، وذلك يختلف عن مشروع إعادة تأهيل النظام، وهو ما يتسرب من كواليس الدول الكبرى المؤثرة في الأحداث.
عموما فإن المقدرات الوحيدة عند الدول العربية، خاصة دول الخليج، هي المال اللازم لإعادة الإعمار بالتزامن مع إنجاز حل سياسي للصراع، وهو بالتأكيد ليس الحل الذي ينشده السوريون، ولاهو الهدف الذي وضعوه نصب أعينهم عندما فجروا ثورتهم الشعبية السلمية العظيمة. وكان انتقال” ملف الصراع في سوريا” إلى آستانة، ثم اختزاله بمثلث (روسيا إيران وتركيا)، إقصاءاَ لدور الدول العربية، واستبعادا لتأثيراتها على المسار السياسي الجاري. ومن غير المتوقع أن تستطيع الدول العربية استعادة دور فاعل في الملف السوري. والمؤشرات تشي بالعكس، أي بزيادة في التراجع والتقهقر، إذا بقيت الأمور تسير على ما سارت عليه.
بروكار برس