انعكاس انهيار النظام الإقليمي العربي على مسارات القضية السورية/ خطار أبو دياب
تطرح مآلات الحراك الثوري السوري في اللحظة الراهنة التساؤل المشروع عن الأسباب والمسارات التي قادت إلى الوضع الحالي. ومما لا شك فيه أن الإطار الإقليمي كان أساسياً في تفاعل الوضع السوري منذ 2011، وكان لترنح النظام الإقليمي العربي منذ حرب العراق في 2003، وكذلك للتدخلات العربية في شؤون وشجون الثورة السورية ومجمل الحالة السورية، أثر ملموس في تسهيل مهمة الثنائي الروسي – الإيراني في الانتداب والاستحواذ، وبالطبع لا ينعزل ذلك عن المواقف الدولية الأخرى وتحويل الساحة السورية إلى ساحة صراع متعدد القطب في سياق إعادة تركيب الإقليم بعد قرن على اتفاقية سايكس – بيكو ووعد بلفور.
انفجرت الأزمة السورية في مارس2011 بعد بدايات الانتفاضات العربية من تونس ومصر إلى ليبيا واليمن، وتبين مع الوقت أن الكثير من الأطراف الإقليمية والدولية وأنظمة “الحفاظ على الوضع القائم” (ومن ضمنها منظومة الاستبداد) أرادوا وقف ” الربيع العربي” على أبواب دمشق نظرا لموقع سوريا الجيوسياسي المميز ولكونها تاريخياً ” قلب العروبة النابض” ولأن من يغير وجه سوريا يغير وجه العالم العربي والمشرق تحديداً. ومنذ البدايات بدت الصورة واضحة بأن الثلاثي الإقليمي الصاعد بعد 2003 (إيران – إسرائيل – تركيا) سيتنازع مستقبل سوريا مع تكريس النظرة إلى العالم العربي بمثابة “الرجل المريض” لهذا القرن. وهكذا بعد استباحة العراق وصل الدور لأكثر من دولة عربية أساسية ولم تكن هذه النتيجة بنت ساعتها بل وليدة تطور بدأ مع استقلال الدول العربية منذ منتصف القرن الماضي.
تصدع النظام الإقليمي العربي
يحلو للبعض من أصحاب القرار أو من نخب الرأي العام تبرير التقاعس أو العجز عبر ترداد مقولة: “اتفق العرب على ألا يتفقوا”، ويحمل البعض الآخر جامعة الدول العربية المسؤولية عن عدم إعادة بناء نظام إقليمي عربي فعال في زمن التجمعات الكبرى … ويحمل البعض المسؤولية لانسحاب مصر من موقعها القيادي مع توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، أو لدول الخليج العربي التي يأخذ عليها مناهضوها أنها “تتصور أنه بإمكان الأموال شراء الجغرافيا والتاريخ والدور الإقليمي”.
وهناك كذلك تصورات أخرى وأقاويل واعتبارات مرتبطة بالمصالح المباشرة أو التحالفات الظرفية، لكن نظرة تاريخية تبين لنا أن تجربة العمل العربي المشترك مخيبة للآمال، فجامعة الدول العربية تأسست في العام 1945 وهي من أقدم المنظمات الإقليمية في العالم وأكثرها انقساما وأقلها فعالية. على الصعيد العملي، تجدر الإشارة إلى أن فكرة إنشاء سوق عربية مشتركة طرحها أعضاء في جامعة الدول العربية عام 1953، وحينذاك كانت أوروبا تمتحن فكرة التعاون بين بعض بلدانها في مجالات إنتاج الحديد والصلب. يبدو الفارق جليا بين أوروبا التي بدأت تجربتها بالخطوات الاقتصادية الملموسة ومن تحت إلى فوق حتى غدت اليوم من كبار الأقطاب الاقتصاديين في العالم، بينما ضاع النظام العربي في السعي للتوحيد السياسي من فوق وللشعارات دون إيلاء الاهتمام المطلوب للاقتصاد وديناميكية المصالح المتشابكة الكفيلة بتطويع الانقسامات السياسية.
في الأساس لم تدم الفترة الذهبية لنواة نظام إقليمي عربي إلا خلال الفترة الممتدة بين أزمة السويس عام 1956 وحرب حزيران 1967، وحينها تمكن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر من قيادة مشروع عربي بدأت انتكاساته مع سقوط الوحدة في سوريا وكانت نهاياته مع الهزيمة أمام إسرائيل والغرق في حرب اليمن.
ترتبط إذن بدايات سقوط النظام العربي الوليد مع تهاوي المشروع الناصري واكتمال التصدع العربي مع تداعيات الحقبة الفلسطينية من الأردن إلى لبنان، واتفاقية كامب ديفيد عام 1978 إلى أن كانت الضربة القاضية مع سقوط بغداد في نيسان ـ إبريل من العام 2003. وإذا تمعنا عن قرب مسار اتفاق أوسلو والأداء العربي الرسمي في تسعينيات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي وتبخر حلم الدولة الفلسطينية، لاستنتجنا بسرعة أن من لا يحسن القيام بالحرب لا يحسن صناعة السلام. وإذا أردنا أن نكون منصفين في توزيع المسئوليات عن مصائب الشعوب العربية بين معسكر ما سمي بالاعتدال ومعسكر ما سمي بالصمود والتصدي سابقا والممانعة حاليا، لكان الحكم القاسي على مزايدات كل الذين اتخذوا قضية فلسطين شماعة ولم ينجحوا في محاربة إسرائيل ولا في التنمية الحقيقية وبناء دول الاستقلال والقانون، بل حجزوا شعوبهم في سجن كبير وحجزوا أيضا الإبداع العربي والعقل العربي.
ليس هناك إذن من محور استقرار إقليمي مكرس بالفعل، بل أن النظام العربي الرسمي كان دوما رهينة أو نتاج تعاون ـوتجاذبات القاهرة والرياض وبغداد ودمشق، لكن المسألة لا تنحصر بين المشرق وشبه الجزيرة العربية ومن يستطيع إنكار المغرب العربي والسودان. والأهم الآن أن جامعة الدول العربية التي لعبت دورا في مساندة القرار الدولي حول ليبيا والقرار الإقليمي حول اليمن، عادت لدائرة العجز حول سوريا.
هذا التوصيف لتهاوي النظام الإقليمي العربي يستند إلى معطيات ما بعد حرب العراق التي أدت لتغييب العرب وصعود ثلاث قوى إقليمية غير عربية، هي إسرائيل وتركيا وإيران. وحتى الآن ما زال من المبكر الحكم على آثار التحولات منذ ٢٠١١، فمن دون العودة إلى المسلمات واستكمال التحول الديمقراطي وتجميع عناصر القوة لن يكون هناك من قيامة لنظام إقليمي عربي، وسيبقى العرب على هامش العولمة ودوائر صنع القرار الدولي.
في مواجهة الأزمة السورية
اصطدمت البدايات الحذرة لتعاطي جامعة الدول العربية حيال انفجار الوضع السوري بصعوبات منتظرة ترتبط بما يُـعرف عن النظام السوري من قُـدرة كبيرة على المُـراوغة وتوظيف عُـنصر الزّمن لصالحه. وبرز منذ البدء إصراره على الحلّ الأمني والحسم العسكري والتلاعب بمُـفردات الحلّz السياسي، ومع فشل المساعي العربية في الأشهر الأولى وفِي موازاة تدويل الملف تعمق الانخراط في صراع المحاور الإقليمية وكان يعتريه الالتباس لجهة المعسكر الإقليمي الداعم نظرياً للثورة السورية، إذ في مقابل المحور الإيراني المتماسك كان لتركيا أجندتها وكانت لدول عربية خليجية والأردن مقارباتها وتناقضاتها. وعلى منوال الوضع العربي عامة كانت عدة دول عربية أبرزها مصر والجزائر وسلطنة عمان قد استبعدت كل قطيعة مع النظام السوري. وفِي الإجمال لم يتنبه الكثير من اللاعبين إلى أن وضع سوريا الاستراتيجي والجغرافي سيصبح عِـبئا كبيرا على النظام العربي وعلى الإقليم ككل، كما أن تطور الأزمة، مع دفع النظام الى العسكرة، وصعود العنصر “الجهادي”، ومجيء المقاتلين الأجانب لتدعيم المحاور الإقليمية، سرعان ما فتح أبواب الفوضى التدميرية وأنهى عمليا دور جامعة الدول العربية.
بالفعل، كان مصير الجامعة العربية دائما مطروحا على طاولة البحْـث، أثناء وبعد كل أزمة عربية كبيرة، تغير من معادلات القوّة والتوازن التي تحكم عمل الجامعة، وما حدث بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق في مارس 2003 مِـن حوار صاخِـب حول بقاء أو اختفاء الجامعة، هو مثل هام لان البعض طرح من حينها توسيع الجامعة نحو تركيا وإيران!
وعلى الرغم من التوافق العربي بحده الأدنى الذي سمح حتى الآن في الحفاظ على الجامعة كبيْـت للعرب وإصلاحها عند الإمكان، لكن الواقع العربي الحالي يزيد من ضرورة التفكير بالهيكلية المطلوبة لإحياء النظام العربي، بحيث تبقى تلك الجامعة منظمة إقليمية للحكومات والنظم، وأي تطعيم جزئي لتطلُّـعات الشعوب أو للمجتمع المدني والشباب والفعاليات الاقتصادية يظل محكوماً بانتظار الإصلاح المنشود.
لاحقاً مع تفاقم الوضع في سوريا وانتكاسات المراحل الانتقالية وحروب ليبيا واليمن، استعجل البعض للاستنتاج بطي صفحة “الربيع العربي”، واستمرار تحطيم الدول المركزية وربما يكون التفتت سيد الموقف، بالإضافة إلى مخاطر امتداد النزاع السني ـ الشيعي وآثاره السلبية على وحدة المجتمعات، وعلى كل إعادة ترتيب للبيت العربي المشترك. وهذه النظرة السلبية تتقاطع مع الذين يتكلمون عن ” الشتاء الإسلامي” في توصيف للحراك المنطلق من سيدي بوزيد في ديسمبر 2010، في إنكار لكل إيجابيات التحولات الحاصلة. بيد أن المقاربة الواقعية تدفعنا للمقارنة مع تعبير ” ربيع الشعوب” الذي جرى إطلاقه على الثورات الأوروبية في 1848، وهذا الربيع لم تكن نتائجه آنية وتلقائية، بل سرعان ما انتكس في 1849. لكن كانت لهذه الثورات إنجازاتها، فهي كانت علامة فارقة في التاريخ الأوروبي. صحيح إنها كانت معركة خاسرة في البداية إلا إنها لم تكن نهاية الحرب، فهي كانت رسالة واضحة بان التغيير قادم ولو بعد حين مهما طال.
في عودة للتاريخ العربي المعاصر، لا شك أن العام 2011 هو عام العرب بامتياز، إنه اختزل مائة عام من ناحية الفعل وترك البصمات على لوحة التاريخ الإنساني المعاصر. بعد القرن العشرين وخيباته، بدأ العقد الثاني من القرن الحالي بتدشين زمن الحالات الثورية العربية التي ترمز عند البعض إلى اليقظة، وعند البعض الآخر إلى حركة انعتاق وتحرر، والكل يجادل حول ما يسمى الربيع العربي، والأهم كان الخروج من حالة الجمود والانحطاط، وتسجيل الشباب العربي نجاحات في بدايات صنع واقع جديد.
يختلف البعض على توصيف الحالات الثورية (لأن الثورة يخطط لها حزب أو جماعة مثل حال الثورتين البولشيفية أو الإيرانية) ولكن العناصر المشتركة هي الآتية:
– إنها انتفاضات غير أيديولوجية ومطالبها في الكرامة والحرية والعدالة تقربها من أطروحات الثورة الفرنسية، أي أن لها علاقة بالقيم العالمية وحقوق الإنسان، وتتصل بترقية الفرد وتركيب عقد اجتماعي جديد.
ـ إنها صناعة محلية وغير مستوردة، ولا يعني تأثير الانترنت ووسائل الاتصال الحديثة ومواكبة الغرب لها بأنها نتاج غربي بشكل حصري.
ـ إنها ثورات غير حزبية وغير دينية، ولو أن أبرز القوى المنظمة أي القوى الإسلامية التحقت بها وتسعى للسيطرة عليها.
ـ إنها ثورة الجيل الشاب (18 – 35 سنة) الذي يأبى أن يرضى بالذل الذي عاناه الجيل الذي سبقه.
ـ إنها حركات مناقبية وأخلاقية ضد الفساد ونهب المال العام، وضد فشل دول الاستقلال
– إنها أيضا حركة تحرر وطني بمعنى سعيها لنزع الاستعمار الثقافي. (التحدي المباشر يكمن في تحرير الذهنيات وبناء نموذج حداثي ملائم، والتحدي الأكبر يبقى في بناء تكامل اقتصادي عربي لا بد منه لتحصين الوضع العربي الجديد)
ـ إنها في نهاية المطاف تهدف لإعادة العالم العربي إلى خريطة القوى الفاعلة. بيد أن البعض يراهن عليها كصحوة إسلامية من اجل بلورة ميزان قوى جديد مع الغرب. وفي هذه النظرة الاختزالية ما يرد على تبسيط آخر يتصور أن هذه الحركات ليس لها بعد قومي أو إنها غير معنية بالسياسة الخارجية.
بعد تلك البدايات المبشرة انطلقت قوى الثورة المضادة لتمنع تمددها، ورأى البعض في تصرف الإسلاميين مسعى مباشر لمصادرة الثورات أو تحريف مسارها. بيد أن هذه المبالغة في التجاذب بين التيارين الإسلامي والمدني كانت أفضل وصفة لضرب المراحل الانتقالية. من الناحية المثالية من الأفضل أن يكون هناك مواثيق شرف وعهود تحدد الثوابت من اجل عدم الوقوع في شرك الاستبداد بوجوه جديدة. وهذا يتطلب المزيد من الحوار والواقعية في فهم طبيعة المجتمعات والتدرج في إتقان التمرين الديمقراطي.
أرشدتنا دروس المعضلة السورية إلى التحديات الجمة لكل حراك ثوري أو لكل حركة تحرر لا تحظيان بعمق إقليمي وغطاء دولي. وفي الحالة السورية كان هناك انكشاف استراتيجي لمناهضي النظام نتيجة المكيافيلية الأميركية وكذلك الاستثمار الروسي والإيراني داخل سوريا. ومما لا شك فيه أن فرصة إعادة إحياء أو تحسين وضع النظام الإقليمي العربي تبدو معدومة أكثر من أي وقت مضى ومن الأسباب الأساسية استمرار الشرخ العربي – العربي وكذلك حروب العرب وحروب الآخرين على أرض العرب.
بروكار برس