بعد عامٍ على رحيله.. استعادة ضرورية لسلامة كيلة/ مصطفى ديب
بعد عامٍ كاملٍ مرّ على رحيل سلامة كيلة (1955-2018)، لا يزال الرجوع إلى منجزهِ الفكري مُغريًا، بل ضروريًا أيضًا، إذ لا تزال تجربة المفكّر الفلسطينيّ الماركسي دعوة مفتوحة إلى وليمة فكرية دسمة تتوزّع على فلسطين والعالم العربيّ، قبل أن تتجاوزهما نحو الأفق العمّالية والعالمية، وتنشغل بتشريح قضايانا الجوهرية التي شكّلت وعينا المجتمعي، وتفكيك طبقاتنا الاجتماعية، مرورًا بالأنظمة الاستبدادية الحاكمة، وليس انتهاءً بتغوّل الامبريالية العالمية، ذلك أنّ ما اشتغل عليه الراحل وأنجزهُ أكثر من أن يُحصى.
سلامة كيلة وضع مُنجزًا فكريًا يروي أمالنا وآلامنا، وأحلامنا وهزائمنا، ومشكلاتنا ومصائبنا أيضًا. فعل كلّ ذلك مُتحلّلًا أولًا وأخيرًا من عُقد الأيديولوجيا، دون التنصل منها بالضرورة، كما ذكر الصديق نضال الزغيّر في مقاله “ضرورة سلامة كيلة… براعة تخريب إشكالياتنا الرائجة”.
إذًا، ما نذكرهُ ليس جديدًا، وإنّما يأتي من ضرورة التذكير بمثقّفٍ يكفي أن نقول أنّه كان مُثقّفًا يُعكّر صفو السلطات لنُعرِّفه. وبالتالي، يُمكن القول إنّ خصومته مع الأنظمة الدكتاتورية والاستبداد كفيلةً بتعريفه كمثقّفٍ مناصلٍ عرّف نفسه بنفسه حينما قال: “أنا مواطن سوري، مواطن فلسطيني كما أنا مواطن أردني، كما أنا مواطن مصري. وبالتالي، أنا معني بتغيير هذه النظم”.
مؤلّف “من هيغل إلى ماركس: موضوعات حول الجدل” عَرَفَ دائمًا واجباته كمثقّف، فكان مُناضلًا قبل أن يكون سياسيًا. خوضهُ لغمار السياسة نفسها من الأساس كان انطلاقًا من ربطه للأخلاق بالسياسة التي هي عندهُ نضالًا لن يكون مُكتملًا إن لم يكن هو نفسه على درايةٍ بواقع الناس المعيشي. إذ لا بدّ للمثقّف أن يرى الواقع، لا أن ينكرهُ أو يتجاهلهُ. وأن ينحاز للإنسان، لا للسلطة.
هكذا، كان سلامة كيلة مُنحازًا لكلّ ما هو إنساني وعادل، عميقًا في تحليلاته التفكيكية للظواهر الاجتماعية والسياسية في المجتمعات العربية، مُلتزمًا بقضايا مجتمعه، ومُنكبًّا على مشروعه الفكري ومُطاردة أحلامه البعيدة في إعادة إصلاح مسار العالم. وقبل كلّ ما ذكرناهُ، كان مُنتصرًا للفقراء والبسطاء والمقهورين، يعيش حياةً تحتشدُ بالمنافي القسرية، ويُمضي أيامه إمّا منفيًا أو مُطاردًا أو معتقلًا، وما بدلّ تبديلًا.
استعادة سلامة كيلة في ذكرى مُغادرته لنا تتزامن مع موجةٍ جديدة لثورات الربيع العربي في الجزائر والسودان، واحتجاجات شعبية واسعة في العراق. هنا، لا بد من استعادة حفريات الراحل التفكيكية في بنية الثورات العربية أولًا، والقوى المحلّية الدافعة لها ثانيًا.
هذا بالإضافة إلى مقولاته التي تفيد بأنّ هذه الثورات ليست معطى جاهز، وإنّما نتيجة احتقان طبقات المجتمعات العربية المسحوقة عبر سنواتٍ طويلة من القهر، بشكله الاقتصادي أولًا، والسياسي ثانيًا.
صاحب “الإسلام في سياقه التاريخي” رأى أنّ هذه الثورات، في حراكها اليومي، والتغييرات المُتبدّلة والمُستمرّة في مساراتها، لن تصل إلى نهايتها، وإنّما، بشكلٍ أو بآخر، ستظلّ مستمرّةً باستمرار تفاعلات قواها الديناميكية، والسياسات الاقتصادية التي ثارت ضدّها، بغض النظر إن كانت الأنظمة السياسية قد تغيّرت/ سقطت أو لا.
أسّس المفكّر الماركسي رؤيته هذه، انطلاقًا من الاقتصاد، لأنّنا “إذا لم نبدأ من الاقتصاد، سنبقى في السطح”. وإن لم ننظر إلى الأمور نظرة ماركسية سليمة قائمة على تحليل الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تمرّ بها المجتمعات العربية بعد الانفتاح الاقتصادي وانهيار الصناعة والزراعة، وتحوّل الاقتصاد إلى “ريعي” في يد أقّلية تحتكرهُ؛ لن نعرف أنّ المنطقة مُتّجهة نحو ثورات جديدة، لا صلة لها بالإمبريالية والصهيونية، لأنّها ثورات شعبية جسدها الأساسي الطبقات الفقيرة أو المُفقرون.
ما معناه أنّ مؤلّف “صور الجهاد: من تنظيم القاعدة إلى داعش”، ينفي أن تكون هذه الاحتجاجات مؤامرات أمريكية/ خليجية، يرى فيها إهانة للشعوب العربية التي تصوّرها نظرية كهذه على أنّها مُسيّرة بالريموت كونترول، الأمر الذي يجعلها، وفقًا لصديقنا كيلة، نظرية قائمة على العنصرية واحتقار الشعوب، تتجاهل أو تُغفل مُتعمِّدةً حقيقة أنّ هذه الاحتجاجات ردّة فعلٍ على السياسات الليبرالية التي انتهجتها الأنظمة إلى جانب شدّة القمع والاستبداد.
يعني ما ذكرناهُ أعلاه أنّ هذه الثورات، التي هي ردّة فعل المُفقرين على واقعهم المأساوي؛ لن تتوقّف عن التصعيد إلى أن تُحقّق أهدافها التي يُحاول البعض اختزالها بـ”صندوق اقتراع”، مُتجاهلًا السبب الأول للأوضاع القائمة، أي السياسيات الرأسمالية، والتي إن لم تتغيّر بتغيير النظام/السياسات الاقتصادية، فإنّ صندوق الاقتراع نفسه سيفتح لها، بهذه الحالة، الباب على أقصاه للمزيد من النهب، لأن التغيير المُقتصر على إسقاط رأس النظام عبر انتخابات يُروّج لها أنّها غاية الشعوب، واستبداله برأسٍ آخر، سيكون تغييرًا متوافقًا مع مصلحة النُخب، وليس الشعب.
تُفسّر أفكار سلامة كيلة هذه ما نعيشه الآن واقعًا راهنًا، وتستشرف أيضًا بشكلٍ أو بآخر، مُستقبلنا إن أُغفلت تطلّعات الشعوب العربية الثائرة ومطالبها أيضًا، واستبدالها لاحقًا بُجملة تغييراتٍ شكلية، لا تُسمن ولا تُغني من جوعٍ.
وبأفكاره هذه أيضًا، حذّر مَن قَدّم “الماركسية الجديدة” من أوضاعٍ جديدة قد تصل إليها الثورات الشعبية على اختلافها، تُحاول قوى سياسية معارضة تشكيلها ربّما مع جزءٍ من النظام القديم، لإبعاد مطالب ومصالح الطبقات الشعبية الفقيرة، والطبقات نفسها لصالح ديمقراطية مبتذلة في “صندوق اقتراع” أو “انتخابات نزيهة”، تُعيد بدورها إنتاج رأسمالية جديدة لا تختلف عن سابقتها، إلّا أنّها تضمن مصالح النُخب السياسية.
ومع هذا الضمان الذي تقدمه لمصالح النخب السياسية، فإنها في المقابل تُمعن في إفقار الطبقات الفقيرة أساسًا، والتي لن تجد على طاولتها خيارًا للمواجهة غير الثورة، وسبيلًا للتصدّي لمحاولات تجويعها غير الاحتجاجات المُتجدّدة التي ستعطّل وتنفي كلّ استقرارٍ مزعومٍ، تُحاول فرضه الأنظمة القديمة التي لا تزال في الحكم بفعل جرائمها بحق شعبها، كنظام بشّار الأسد، أو تلك الجديدة التي قدّمت نفسها كبديلٍ عن الأنظمة السابقة، أو باعتبارها نتيجة لثورة شعبية، كنظام عبد الفتاح السيسي في مصر، أو أنظمةٍ قديمة/ جديدة وطّدت حكمها على أساس المُحاصصات الطائفية، كما في حال العراق. أو عبر المحاصصات السياسية كما في اليمن.
نستعيد المفكّر والمناضل الراحل سلامة كيلة في ذكرى رحيله الأولى على وقع ثوراتٍ وانتفاضاتٍ شعبية جديدة تنبأ بها قبل أن يُغادرنا، من خلال تركيزه وانشغاله الدؤوب على تفكيك وتحليل ما يحدث من خلال الاقتصاد والماركسية في آن معًا. ونقول أو نؤكّد أنّ قراءة منجزه الفكري، الآن تحديدًا، ضرورة. والقصد هنا قراءته كما ينبغي لمنجز مُثقّف ومناضل أن يُقرأ، بمعنى الذهاب نحو قراءاتٍ أكثر جدّية.
الترا صوت