قال لي: لا تنسَ هذه الأيام/ وائل السوّاح
في المهجع 2 تعرّفت أيضا على قوّة الجماعة. كان المعتقلون في معظمهم إسلاميين، دون زيارات، بأسمال بالية وقليل من الطعام. حين تشاركنا معهم، منيف وأنا، ما نملكه من زيت وحلاوة، رفضوا أوّل الأمر، وحين أصرّينا، تناول كلّ منهم قطعة حلاوة صغيرة، مجاملة، وبدا أثرها الطيّب على وجوههم. ولم يرتابوا في نقل اثنين شيوعيين إلى مهجعهم، أحدهما علوي، واستمرّوا في طقوسهم، كما هي دون تغيير. وكان بينهم شاب في نحو العشرين، نحيفا ضئيل الجسم، ولكنه يشعّ حيوية وحماسا، وكان في كلّ يوم بعد صلاة الظهر يتلو دعاء طويلا، بصوت قوي، يدعو فيه إلهه أن يبيد الحكّام الظالمين وينصر المستضعفين. وكان الجميع يردّدون وراءه بقوّة وإيمان: آمين. ووجدت نفسي، ومعي منيف، نردّد مع المردّدين، بصوت خافت في البداية، ثمّ بصوت واثق قوي: آمين. آمين.
على أن المقام لم يطل في المهجع 2. فقد قررت الإدارة نقلنا إلى المهجع 13 في القسم الغربي من الفرع. كان القسم الغربي مخصصا للسجناء المرفهين، فأعداد سكان المهجع الواحد لا يتجاوز العشرين مما يتيح للسجين فراشا بعرض 50 سنتيمترا، وهو ترف لا يحلم به سكان المهاجع الأخرى. فارقت شباب المهجع 2 بحسرة، ومع أن الوضع في المهجع الجديد أفضل حالا، وفيه حمام داخله، فقد ظلّ قسم من قلبي وعقلي مع الشباب الذين خلّفتهم هناك.
كان شاويش المهجع 13، أمين رعيدي، واحدا من أسوأ الرجال الذين عرفتهم في السجن: قصير القامة قوي البنية بلحية سوداء جعداء، يأكل كالفيل ويدخن كالمدخنة. ويبدو أنه كان من إحدى العصابات المدعومة من جميل الأسد، شقيق حافظ وشبيح اللاذقية الأول وقتها ورئيس جمعية المرتضى التي كانت تروّع الآمنين وتجبي الإتاوات من الناس عنوة. على أن أمين تجاوز الحدّ عندما قتل رجلا من رجال مكافحة التهريب، وقد تخلى عنه معلمه فانهار وأظهر أسوأ ما لديه من خصال. ولكنه حين يكون في مزاج جيد فإنه غالبا ما يسمح للسجناء بالحوار في المهجع. وكان يحب خاصة الاستماع إلى إمام مسجد كان موقوفا في المهجع ومنه سمعت لأول مرة جدلا عنيفا حول ما إذا كان الموتى يبعثون يوم القيامة بأجسادهم أم بأرواحهم. كان ينام إلى جانبه خادم المسجد الذي كان يصر على أن القيامة بالجسد لا بالروح فقط، بينما كان الإمام يعيد بهدوء شرح مقولته عن قيامة الروح. ولكن الحوارات كلها كانت تتوقف عندما يقع الشاويش صريع نوبة يأس، فيبدأ بالصراخ والسباب والضرب، ويتوقف المصلون عن صلاتهم، فهم إن فعلوا لم يأمنوا أن يخلع الشاويش سرواله ويقف أمامهم متلفظا بأقذع الألفاظ وأكثرها سوقية.
أعطاني الشاويش مكانا بجانب مارد ضخم بشعر أسود خشن كثّ وعينين سوداوين عملاقتين وكفين كل منهما كرحى الطاحون، ولكن أيضا بقلب نبيل لا يقدر على إيذاء أحد وثقافة شافة وشخصية ماتعة لا تنسى. سألته، بعد دقائق من دخولنا المهجع، متظاهرا بالخبرة: “شو دعوتك؟” ودعوتك في هذا المقام تعني بأي تهمة أتيت. نظر إلي بعينين باسمتين وقال: ” دبحت دجيجة”. واحتجت إلى ثلاثين ثانية لأدرك أنه كان يداعبني. بعدها علمت أنه من الشباب أيضا. كان ذلك محمد عيسى. أحد الأبطال الحقيقيين الذين مرّوا في حياتي. كان واحدا ممن حرّروا مرصد جبل الشيخ سنة 73. وهو في كل مرة يروي فيها قصة الانتصار الكبير تدمع عيناه ويبين التناقض الغريب بين حجمه ودموعه. ولكي يبدد جو الحزن يبدأ يروي قصصا عن إقامته في المغرب أثناء دورة عسكرية أجراها هناك وعن النساء اللواتي يبادرن إلى دعوتك إلى فنجان من القهوة.
ما الذي يجعل رقيبا أول في الوحدات الخاصة ينضمّ إلى تنظيم سياسي يساري محظور؟ الفقر والرهافة وتقصّي العدل. كان لدى محمد عيسى الأشياء الثلاثة جميعها. كان يسكن مع زوجته وأبنائه الثلاثة في بيت صغير منفي في منطقة الدحاديل خارج دمشق، سأزوره كثيرا حين يُطلَق سراحنا، لنسكر ونحكي في السياسة والثقافة والفلسفة. ولست أعرف إن كان قبل السجن قد قرأ مجموعة شعرية كاملة أو كتب قصيدة. أعرف، مع ذلك، أنه خلال السجن وبعده، سيكتب قصائد شديدة الإيجاز والرهافة والعمق:
“عندما أنزلوه عن السرير،
كانت الأرض قد انخفضت
مقدار ساقين».
“وطنكم صيدٌ ثمين
وطني… زر مقطوع
أشد عليه قبضتي. ”
وبفضل محمد عيسى، لم يستطع الشاويش أن يسيء لأي منا نحن الثلاثة، محمد، منيف وأنا. وقد حاول مرة فتصدّى له العملاق وأفهمه أن يبتعد عنا، ويبدو أن إدارة السجن أيضا أفهمته ذلك، فكان لا يتعرّض لنا مهما بلغ من نوبات جنونه. ومع ذلك، لم يكن المهجع أفضل المهاجع في السجن، ولم نندم عندما فتح الباب يوما وقال لنا السجان أن نلملم أشياءنا. فعلنا، وبدأت ملحمة المهجع الخامس.
في المهجع الخامس، سأعرف نمطا جديدا للحبس. كنا ثمانين معتقلا في نحو 24 مترا مربعا. سأتعلّم مفردات جديدة، مثل التسييف، وهي تعني النوم على أحد جانبيك كالسيف، طوال الليل، دون أي التواء في جسمك، يحدّك من أمامك وخلفك، سجناء آخرون يلتصقون بك كسمك السردين في علبة الصفيح. وفي المهجع الخامس، سأتعرف إلى التعذيب الوحشي الذي لم أتعرّض له أنا. سيأخذون أحدنا ساعات، ثمّ يعيدونه محمولا على بطانية فيرمونه بيننا ككيس زبالة، مهشمّا ومدمّى ومنكسرا، فيروح الشباب في المهجع يغسلون جروحه ويضمدونها بقماش قذر يقتطعونه من غياراتهم الداخلية.
وفي المهجع الخامس، سأعرف قيمة الهواء، كان ثمانون شخصا يتنافسون على سرقة كمية الهواء التي كانت تأتينا من خلال أنابيب التهوية التي تضخ الهواء من الخارج إلى المهجع في القبو الذي كان بلا نافذة طبعا. وحين يفتح الباب كنا نتسابق على إدخال قصعات الطعام من الخارج لاستنشاق بعض الهواء الأقلّ فسادا. صديقي منصور المنصور كان يحب إدخال طعام الفطور، لأن السجانين يكونون وصلوا لتوهم من الخارج، وعلى ثيابهم هواء الخارج المنعش والبرودة الطازجة، وخاصة شتاء. وحين ذات مرّة رأى ثلجا على كتفي سجان وصل الفرع لتوه، اقترب منه حتى كاد يحكّ أنفه بملابسه يحاول تنشق البرودة، وحين أغلق الباب، دمعت عيناه، وانزوى بعيدا، يحلم بندف ثلج بيضاء نقية تهبط بصمت على سطح منزله في حوران.
كان المهجع الخامس بابلا سورية بامتياز، فيها من كل المناطق والأديان والأعراق. وفي المهجع، تعرّفت على سوريا الحقيقية. سوريا خارج دمشق وحمص وحلب واللاذقية. تعرفّت على أكراد لا يجيدون العربية، كان بينهم شاب في منتصف العقد الثالث، يكرر بانتظام إنه مظلوم، وإنه هنا لأنهم يريدون أخاه الأصغر. تعرّفت على شامل، بدوي عملاق من عشيرة الهيب، أسمر غامق بشاربين يقف عليهما نسر كما كان يقول، لا يزال يعتقد أن شيخ القبيلة قادر على إطلاق سراحه. روى لي شامل أمتع الحكايات البدوية عن فرسان وسيمين وأشدّاء وصبايا حسان وغزو متبادل.
في المهجع أيضا كان محمود، شاب من سراقب، شديد الهدوء والصبر، يعود من جلسة تحقيق، فيواسينا بدل أن نواسيه، وحين كان لا ينزف من قدميه، كان يحدثني عن مدينته والعلاقات الاجتماعية فيها، عن أعراسها وأتراحها، وعن الصبية التي أحبها خمس سنوات دون أن يلمّح لها ولو بنظرة. وفاجأني أنه لم يغادر سراقب سوى بضع مرات، إلى إدلب، فقط. وفي المهجع، كان أبو عزّو، رجل متين من ريف الرقّة، يفيق كلّ صباح، ويطلب من الشاويش أن يسمح له بالاغتسال، لأنه حلم بزوجته، كما كان يوقل بتباهٍ واضح برجولته.
ولكن شخصا واحدا سوف يجعلني أقع أسير سحره. كان بهاء الخطيب في السابعة عشرة من عمره، اعتقل قبل أن يجلس لامتحانات الشهادة الثانوية، نحيلا، قصيرا، وسيما، وذكيا. جاء من أسرة دمشقية ثرية وعريقة، تسكن بيتا كبيرا في المالكي، ليعيش على البرغل ويسيّف في نحو 25 سنتمترا. وضعني الشاويش بجانبه. سألته عن دراسته وأسرته، وسألني عن مهنتي وتهمتي. وأبدى اهتماما واضحا بفهم الشيوعية. اعتقل مع أربعة من إخوته، بسبب تردّدهم على مساجد في المدينة لحضور دروس دينية. وتمّ توزيعهم على مهاجع مختلفة في الفرع، قبل ترحيلهم إلى تدمر. كنا نسهر كلّ ليلة للفجر، يصلّي الفجر بعدها بعينيه، لأن الصلاة في المهجع الخامس كانت محظورة، ثم يغفو. حكى لي عن أمه وأبيه وأخيه زكي الذي كان يتعمشق على نافذة المهجع لكي يراه في المهجع المقابل، وحكيت له عن النساء اللواتي عرفتهن. رغم حداثة سنه كانت له رؤى ثاقبة في الحياة والحرية والسجن. في معنى أن تفقد حريّتك، وكيف تعوّض عن فقدان الحرية الخارجية، بحيرة داخلية، وكيف تستبدل الطعام والشراب بالفكر والحلم، وتستبدل الشوارع والحارات والمقاهي بجادات العقل، وتستبدل المدينة بالله. أما أنا الذي كنت أفضّل الحرية الخارجية والشوارع والمقاهي وعرق الريان، فكنت أتساءل من أين، وهو بهذه السنّ، يأتي بكلّ هذا العمق. وما إن أصمت متأملا عبارة قالها حتى يفاجئني بفكرة أكثر عمقا وغرابة.
كلّ أسبوع في يوم محدّد، كان يفتح الباب، ويقف عند الباب رئيس السجن ومعه ثلّة من السجانين، وفي يده ورقة قاتلة عليها أسماء. تصفرّ وجوه الجميع. بترقّب، ينادي على خمسة أو عشرة منّا، يجمعون أشياءهم، نودّعهم، ونحن نعرف أنهم ذاهبون إلى سجن تدمر الرهيب الذي سمعنا عنه الكثير. في واحد من تلك الأيام، كان اسم بهاء بين من نودي عليهم. شحب وجهه الحيي شحوبا خفيفا، ولكنه لم يهنْ أو يُظْهر جَزَعا. بشجاعة نادرة، جمع أشياءه القليلة، وعانق أصدقاءه في المهجع، وتوقف معي لحظة. عانقني، وهمس: “لا تنس هذه اليتم.” ولم أنسَ!
تلفزيون سوريا