“ألف ليلة وليلة”.. الترجمة في ميزان بورخيس/ نجيب مبارك
كُتب الكثير عن علاقة الكاتب الأرجنتيني خوسيه لويس بورخيس بالشرق عموماً، وبـ”ألف ليلة وليلة” على الخصوص، تلك العلاقة التي تستشفّ بوضوح من مجموع أعماله الأدبية، وكذلك من وقائع حياته كقارئ وكاتب عظيم. لكن تبقى أفضل وسيلة لاكتشاف أفكاره وآرائه عن “ألف ليلة وليلة” هي قراءة ما كتبه عنها حصريّاً. ومن هنا تأتي أهمية الترجمة الجديدة التي أنجزها ناصر الكندي بعنوان “ألف ليلة وليلة: مقالتان لبورخيس في الترجمة والتأثير الأدبي” (كتاب نزوى، نيسان/أبريل 2019).
يضمّ هذا الكتاب ترجمة لمقالة ومحاضرة أدبيتين لبورخيس، نشرهما في فترتين متباعدتين جداً. وصدرت المقالة عام 1936 بعنوان “مترجمو ألف ليلة وليلة” ضمن مجموعة مقالات في كتاب “تاريخ الأبدية”، وكان بورخيس قد شرع في كتابتها قبل ذلك بعامين. بينما المحاضرة، وهي بعنوان “الألف ليلة وليلة”، قدّمها بورخيس شفهياً ضمن سبع محاضرات في المسرح المدرّج ببيونس آيرس عام 1977، ونُشرت مجتمعة عام 1980، بعد رقنها تحت عنوان “سبع ليال”.
من جان أنطوان غالان إلى إدوارد لين
في المقالة، التي تحمل عنوان “مترجمو ألف ليلة وليلة”، يعود بورخيس إلى أوّل ترجمة غربيّة للحكايات، وهي التي أنجزها المستعرب الفرنسي جان أنطوان غالان، الذي جلب معه من إسطنبول نسخة من الليالي العربية، مكتوبة بخطّ اليد في حلب، وقام بترجمتها ونشرها عام 1704.
ويلاحظ بورخيس أنّ غالان أضاف حكايات أساسية لم يكن يتضمّنها النصّ الأصلي (قصص علاء الدين، الأربعون حرامي، أبو الحسن، المغامرة الليلية لهارون الرشيد…)، وهي حكايات رواها له “مستشار ماروني غامض” اسمه حنّا دياب، بحيث أسّس غالان قاعدة جوهرية هي إدراج قصص جديدة ستصير مع الزمن شيئاً أساسياً لا غنى عنه، ولن يجرؤ المترجمون اللّاحقون- خصوم غالان- على تجاهلها. ورغم أنّ ترجمته جاءت حرفيّة، كلمة بكلمة، بحيث هي الأضعف والأكثر رداءة من بين جميع الترجمات، والأكثر مخاتلة، إلّا أنّها كانت أوسعها قراءة لعقود طويلة، منذ أن ظهر منها اثنا عشر مجلداً بين عامي 1707 و1717.
بعد تسعين عاماً من وفاة غالان، وُلِد مترجم جديد لـ”ألف ليلة وليلة”، هو: إدوارد لِين. ولقد أمضى هذا المستعرب خمس سنوات دؤوبة في القاهرة، “أغلبها بين المسلمين، مستمعاً ومتحدّثاً إلى لغتهم، ومتماشياً مع أعرافهم بحذر شديد، ومقبولاً من الجميع برحابة صدر”، ولكن كلّ هذه الشروط لم تجعله ينسى تحفّظه البريطاني، أو تلك “العزلة المركزية المرهفة لسادة الأرض” بوصف بورخيس. وبالتالي، فإن ترجمته المتعمّقة في الليالي هي (أو تبدو) مجرّد موسوعة في التملّص. إنّ النصّ الأصلي ليس فاحشاً بالشكل المتعمّد، حيث قام غالان بتصحيح فظاظات متفرّقة لأنّه جزم بأنّها كانت ذات نكهة سيّئة، بينما استهدفها إدوارد لين واضطهدها مثل مفتّش عام. كما أنّ نزاهته لم تعقد ميثاقاً مع الصمت: فقد فضّل إدراج جوقة حذرة من الملاحظات بشأن ذلك الجزء السفلي الضيّق من الجسد، بحيث تمّ رفض ترجمة حكايات بأكملها “إذ من الصعب تطهيرها بدون تشويه”. وباستثناء هذا الهاجس، جاءت ترجمته صادقة، لأنّه برّر في شروحه كلّ كلمة مبهمة، وقام بعرض الطبعة والصفحة الأصلية، وأفرد مجالاً واسعاً للإيضاحات بطريقة متّسقة، في مجلّد منفصل.
وإذا كان من المعروف أنّ ما قام به غالان ولين هو تطهير الليالي من المضمون الجنسي، فإنّ المنتقدين رأوا في هذا التصرّف أنّه دمّر وجرح سذاجة القلب الطيّب للنصّ الأصلي. لكنّهم مخطئون، في نظر بورخيس، لأنّ كتاب “ألف ليلة وليلة” ليس ساذجاً (من الناحية الأخلاقية)، وإنّما هو تكيّف مع القصص القديمة للأذواق السّفيهة والتّافهة للطبقات الوسطى في القاهرة. وما ضمّه من فواحش ليس سوى اجتهادات من جانب المحرّر، باعتبارها قصصاً متولّهة وحزينة، وأحد مواضيعها المفضلة الموت لأجل الحب، الموت الذي استدعى علماء الأمة إلى الإعلان بأنّه ليس أقلّ مرتبة من الشهيد الذي يموت في سبيل الإيمان. وإذا قبلنا بهذا الرأي، ربّما نرى ساعتها أنّ تحفّظ غالان ولين ليس سوى تعويض عن نصّ أوّلي.
ترجمة القبطان برتن والدكتور ماردوس
يمرّ بورخيس، بعد ذلك، إلى مترجم آخر من المترجمين الكبار لـ”ألف ليلة وليلة”، وهو القبطان ريتشارد فرنسيس بِرتن. لقد سبق لهذا القنصل الإنكليزي أن قام بالحجّ إلى المدن المقدّسة عند العرب، متخفّياً في زيّ أفغاني. كما مارس قبل ذلك الطبّ في القاهرة، متنكّراً في زيّ درويش. وفي عام 1858، قاد بعثة إلى المنابع السرّية للنيل، وأوصلته مهمّته لاكتشاف بحيرة تنجانيقا إلى غيرها من المغامرات في الأراضي الأفريقية. ويشبه بورخيس ما حصل لترجمة بِرتن بما يسري على الشّعر الذي يتطلّب كثافة لا تتسامح مع النثر. وعليه، فقد قدّر لبرتن مسبقاً الهيبة والنفوذ حتى أنّ باقي المستعربين باتوا عاجزين عن منافسته، بحيث أنّ الارتحال في “ألف ليلة وليلة” عبر هذه الترجمة لا تقلّ غرائبية عن المضي في “التدفّق الحرفي للّغة العربية والمشروحة” من قبل سندباد البحار. لهذا، فعدد المشاكل التي حلّها برتن هائل جداً، يختزلها بورخيس في ثلاث: تبرير ونفخ سمعته كمستعرب؛ الاختلاف عن لين ظاهرياً قدر الإمكان؛ وأخيراً، تسلية نخبة بريطانيا القرن التاسع عشر بترجمة حكايات عربية شفهية مكتوبة في القرن الثالث عشر.
من جهة أخرى، يتّسم مصير المترجم الدكتور ماردوس بالمفارقة. فإليه تعود الفضيلة الأخلاقية باعتباره أكثر مترجم صادق لـ”الألف ليلة وليلة”، هذا الكتاب المنقول الّذي يثير فسقه الإعجاب بحرفيّته الاستثنائية، والّتي تمّ توضيحها في عنوانه الفرعي غير القابل للنقاش “ترجمة حرفيّة وكاملة للنص العربي”. لكن رغم ذلك، لم تتّسم إقحامات ماردوس على النصّ الأصلي بالتجانس؛ ذلك لأنّه اختلق بعض الفقرات سعياً منه باستمرار لإكمال العمل المهمل من قبل العرب المجهولين. وقد أضاف مقاطع فنية جديدة، بذاءات جديدة، فواصل كوميدية قصيرة، تفاصيل ظرفية، تماثلات، والكثير من الاستشراف البصري. ومن الممكن القول، مع بورخيس، إنّ ماردوس “لم يترجم الكلمات، وإنّما ترجم مناظر الكتاب، إذ تعدّ ترجمته الأكثر قابلية للقراءة بعد ترجمة بِرتن التي لا تضاهى، وغير الموثوقة أيضاً”.
نظرة على الترجمات الألمانية
في الأخير، يلقي بورخيس نظرة سريعة على الترجمات الألمانية الأربع: ترجمة أمين المكتبة غوستاف فيل من صفحات كاتالونية لإحدى الموسوعات؛ ترجمة ماكس هينيحن، مترجم القرآن؛ ترجمة رجل الأدب فيليكس بول جريف؛ وترجمة إينو لِتمَن الذي فكّ شيفرة المخطوطات الأثيوبية في قلعة أكسيوم.
إنّ أوّل ترجمة من هذه الترجمات بأربعة أجزاء (1829-1842) هي الأكثر إمتاعاً، ذلك لأنّ المؤلف سعى لأن يُبقي على النمط الشرقي ويضيف إليه إقحامات نالت الإعجاب. بينما تستغني الترجمة الثانية (1895-1897) عن افتتانات الدقّة، وأيضاً المتعلّقة بالأسلوب. وهي ترجمة منقّحة، يتّميّز أسلوبها بالصرامة والسطحية، وفضيلتها التي لا تُنازَع هي طولها الواضح. وبالنسبة للترجمة الثالثة، فقد استمدّ فيها جريف إنكليزية بِرتن وكرّرها، ما عدا الملحوظات الموسوعية، ونشرتها مطبعة انسيلفيرلاغ قبل اندلاع الحرب. أمّا الترجمة الرابعة (1923-1928)، فقد أتت لتحلّ محل الترجمة السابقة، وبلغت مثلها ستّة مجلّدات، بتوقيع إينو لِتمن، وجاءت صريحة بشكل تامّ، ولم تتوقّف أمام أكثر الفواحش العصيّة على الوصف، بل أذابتها في ألمانية مسالمة، ولم تبتر كلمة واحدة، ولا حتى تلك المقاطع الافتتاحية في كلّ ليلة.
في محاضرة بعنوان “الألف ليلة وليلة” (هذا العنوان مستلهَم من غالان)، يؤكّد بورخيس منذ البداية أنّ أبرز حدث في تاريخ الأمم الغربية كان اكتشاف الشرق. وإضافة إلى هذا الوعي بالشرق- الشاسع، الساكن، المذهل، وبعيد المنال- يرى بورخيس أنّ هناك لحظات فارقة تستحقّ التسجيل: “يبدو لي أنّ هذه أفضل مقاربة لموضوع أحبّه كثيراً، شيء أحببته منذ الطفولة، كتاب “الألف ليلة وليلة”، والذي يطلق عليه في الترجمة الإنكليزية – الكتاب الذي قرأته أوّلاً – “اللّيالي العربية”، وهو عنوان لا يخلو من الغموض، إلّا أنّه أقلّ جمالاً من عنوان الألف ليلة وليلة”. وفعلاً، يعكس هذا العنوان بالنسبة لبورخيس تجربة مع الزمن، لأنّ فكرة اللّانهائي تتوافق مع طبيعة الكتاب، مثلما تمثّل الأحلام موضوعه الأثير.
ضفة ثالثة