الكاتب الكتالوني إدواردو مندوثا: كلنا بحالة تحليل نفسي للهوية
“الكتالونية لغتي، لكنها ليست لغتي الأدبية”
ما الذي يحدث في كتالونيا بعيداً عن البروباجندا السياسية؟ وما الذي يشغل الكاتب الكتالوني إدواردو مندوثا في السنوات الأخيرة؟ كان مندوثا يعمل في الأمم المتحدة في سنوات إسبانيا الصعبة، مرحلة نهايات فرانكو والانتقال الديمقراطي، لكنه لم ينفصل عنها أبداً، وعاد في أوائل الثمانينيات ليندمج في الأحداث. مع ذلك، تكرّس مندوثا منذ روايته الأولى عام 72، وكانت خروجاً عن الرواية الإسبانية المطروحة وقتها، بحسها البوليسي وبعدها عن القضايا الفكرية.
في أعماله الأخيرة يسترد مندوثا، في ثلاثية تنشر بالتتابع، فترة الديكتاتورية ثم الانتقال، يقرأها بعين أخرى، أكثر هدوءًا وحكمة، أكثر نضجاً. مندوثا في عامه الـ 75 يراجع التاريخ الإسباني الذي عاشه هو نفسه، وشاهد توابعه. ربما يكون ذلك هو التحول الأكبر في كتابته، أقصد الكتابة الذاتية التي تتماهى مع الكتابة الجمعية، عن حال مجتمع وثقافته وعلاقتها بالفرد.
هنا حوار مع مندوثا أجرته جريدة “الباييس” الإسبانية:
في أحد الأعمال المسرحية التي يكتبها أخو البطل في “صفقة الين واليانج”، روفو باتايا، تتجول إحدى الشخصيات باتجاه الوراء وتنظر بتركيز إلى الأرض لترى إن كان من الممكن فهم لماذا لا يطأها. “عبث”، يقول باتايا. “لكنك من فعلت ذلك”، يرد عليه المؤلف. “نعم، أشعر بذلك، لا أفهم كيف أستطيع اليوم أن أكون مع هذه الرواية، فليتنبه لي الناس. لم أبحث أبداً عن شيء؛ يدهشني الحظ الذي رافقني في حياتي: فضيلتي الوحيدة مجرد فرص كبيرة استغللتها، مثل الدراسة في لندن، العمل في نيويورك…”. هكذا يتأمل إدواردو مندوثا في الجزء الثاني من ثلاثيته التي بدأها العام الماضي برواية “الملك”، ويتناول فيها مغامرات غريبة لصحافي هاوٍ. وفي الجزء الثاني يستكمل مندوثا مهمات جديدة حول توكولو، أمير غريب بلا مملكة.
يوافق مندوثا (برشلونة، 76 عاماً) على أن الشخصية الرئيسية شبيهته: “خبراتها الحياتية تشبه خبراتي”- هي أيضاً صاحبة “حياة بلا نماذج ولا إرادة في الالتزام، والشعور بالحرية في العبث والتافه”، كذلك تشبه كارلوس باتروياس، بطل عمله “كوميديا خفيفة” ذي الصبغة الأوتوبيوغرافية من طفولته.
يلعب بين الجد والهزل
يقول مندوثا: “كل أعمالي سلسلة من المتمردين السلبيين، أناس وجدوا أنفسهم في العالم ولا يعرفون جيداً فيما يفكرون وحين يصلون إلى خلاصة ما يكون وقت الموت قد حان”. إنه يلعب بين الجد والهزل، كما فعل دائماً في أعماله السابقة. وهذا الانتقال بين عوالم متناقضة بدون الانتماء إلى شيء يجعل مؤلف “الحقيقة حول مسألة سابولتا” يعتبر، في الواقع وفي الأدب، نوعاً من الساموراي بلا صاحب: إنها صورة إسبانية جداً، صورة الخانع بلا سيد، “الحقيقة أني أتمنى أن أكون في خدمة قضية كبرى أو قائد”.
العناصر الأوتوبيوغرافية في الرواية الـ 17 لـ مندوثا كثيرة، خاصةً تفاصيل أبويه، يقول: “أنا موزّع بين البطل وأخيه، لكن أبي موجود، وكان رجلاً محباً للمسرح وكان ممثلاً شبه محترف. في البيت كان لدينا صور له وهو بشارب ولحية وسيف، في هيئة عمدة ثالاميا أو فوينتيوخونا بالتبادل. كان يصحبني إلى المسرح لأشاهد ما يروق له؛ ولا زلت أتذكر ألخاندرو أويوا في دور هاملت”. ترك ذلك بصمته، إذ أن مندوثا مؤلف لثلاثة كتب مسرحية مكتوبة بالكتالونية. “كنت أتمنى كتابة أعمال مسرحية أخرى، بالكتالونية لأنها لغتي، لكنها ليست لغتي الأدبية: الرواية تتطلب مرجعيات لغوية مختلفة”، يبرر ذلك.
ثمة اختلافات عديدة في عمل مندوثا الأخير، يعلق على ذلك بأن أعماله الأولى يراها باروكية ومعقدة، “مع الوقت أميل للجملة القصيرة والنقطة والفاصلة والصدام بين الاسم والصفة. لقد بدأت مسيرتي الأدبية منحازاً لتجريبية خوان بينيت وخوان غويتسولو والشكلانية وانتهيت في زمن تويتر”. لا يندم على أنه راهن على أدب يستهدف متعة الحكاية، ساخر وباروخي [يتبع مدرسة الكاتب بيو باروخا]، وربما ينحرف عن الأدب الرفيع. يعلق مندوثا: “طرحت على نفسي هذا السؤال كثيراً. بالأمس كنت أقرأ شيئاً عن خوان بينيت. منذ أربعين عاماً، في حوار معه، تناولنا نفس المسألة: قال لي لماذا لا أصنع رواية ثقافية رفيعة، لكن لم أجد إجابة: لا أعرف إن كان ينقصني الجهد أم لأني غير مضطر لمواجهة احتضار فنان كبير”. ويضيف: “واليوم لا أعرف كذلك إن كان ثمة معنى في رواية لها طموحات فكرية كبيرة؛ لا أظن بوجودها في لغة الأدب الحالية؛ أعتقد أن ذلك انتهى مع توماس بيرنهارد. ما تراهم الآن ليسوا إلا ممارسين لنوع من الطبخ الذي أعتقد أنه لم يعد يروق لنا”.
برشلونة في نهايات السبعينيات
ورغم أن مندوثا لا يتعمد كتابة رواية ثقافية، إلا أن روايتيه الصادرتين ضمن مشروع ثلاثية (وقد تكون رباعية) تعكسان ظواهر اجتماعية أو ثقافية لفترة محددة. نحن أمام برشلونة في نهايات السبعينيات… مدينة مهمشة مقارنة بالحركة المدريدية التي تمثل تغيراً ثقافياً شعبياً. “أسوأ ما في العاصمة الكتالونية اليوم هو المنتج السياحي المصمم لمدة خمسة أيام”.
على المستوى الثقافي، تبدو له برشلونة “سائلة جداً”؛ “نعم تتمتع بكثير من المسرح الصغير في الأحياء ودور نشر صغيرة”. هل هي أفضل من لندن، حيث تقضي معظم شهور السنة؟ يجيب مندوثا: “هي مدينة مذهلة، لكنها لن تستمر كذلك مع البريكسيت: كل انكلترا ستتوقف مع البريكسيت”. إنه شر عالمي: “الولايات المتحدة مبتلاة بحماقات ترامب؛ وكتالونيا بالانفصال. كل الدول محبوسة في عملية مشابهة، ربما يكون ذلك ثمرة الرأسمالية الحمقاء التي بلغت مداها، والتي تجعلنا لا نعرف إن كنا من برشلونة أم من سنغافورة. لذلك، فكلنا غارقون في أمجاد الماضي بانحرافاته، فيما نتفتت ويسقط الاقتصاد على الأرض، نلف وندور حول مسألة الهوية. كلنا في حالة تحليل نفسي للهوية”.
المسألة واضحة عند مؤلف كتاب “ما الذي يحدث في كتالونيا”: “فكر كما تشاء حول كتالونيا.. أنا أعيش في اضطراب أتقاسمه مع الجميع، وأرى المسألة بتشاؤم وأن كل ذلك سيؤذي صورة البلد ونظامها السوسيواقتصادي”، وينادي بالتوافقية: “لا أعرف إن كانت المسألة ستُحل، لكن يجب أن نعالجها. لا أعرف إن كان ثمة حل، لكن لا شك أن هناك حلولاً”.
يلفت نظر مندوثا، مع ذلك، أنه في انكلترا لا تُترجم أزمة البريكسيت في الشارع إلا قليلاً: “لا ترى في القرى لافتات أو أعلام؛ المظاهرات نادرة والحشود قليلة وذلك لأن هناك سياسة متروكة في أيدي الساسة: ساسة يعملون، وعليهم أن يظهروا بوجوههم. هنا، ولأننا لا نثق في الساسة ونصوّت للأفكار، نخرج للشارع لتصليح ما فسد بأيدينا لأننا لا نثق فيهم”.
أما الخيط الآخر الذي يحيك الرواية فهو فترة الانتقال الديمقراطي الإسبانية. يقول مندوثا: “لم أعشها في وقتها مباشرة، عدت إلى إسبانيا عام 83، ويؤلمني أني لم أحضرها حين استعاد الناس الشارع حقيقةً. لكن الآن يهمني أكثر موت فرانكو لما يعنيه من ترك جيل عاجز، بلا ماضٍ؛ وهذا هو موضوع الكتاب الثالث”.
هل تم الانتقال بشكل سيء؟ يجيب مندوثا: “كانت ارتجافاته ملحوظة، موت الديكتاتور كان يبدو مقدمة لحرب أهلية جديدة… كانت لحظة شديدة التسامح وبمعنى تاريخي مضمونه أن على الجميع أن يساهم فيما بينهم من أجل تجنب الشرور الكبيرة. وسنرى، إن كنا في لحظة مشابهة الآن وبنفس الروح”.
الترجمة عن الإسبانية: أحمد عبد اللطيف
ضفة ثالثة