سيبقى شخص ليروي الحكاية”… 400 شهادة جديدة عن سجن صيدنايا وحياة ما بعد الاعتقال
ناجون من مسلخ صيدنايا يروون شهاداتهم
أصدرت رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا اليوم تقريراً بعنوان الاحتجاز في صيدنايا (تقرير عن إجراءات وتبعات الاعتقال)، جاء حصيلة نحو عام ونصف من إجراء المقابلات وجمع البيانات وتحليلها. ويعتمد التقرير على البيانات الواردة في المقابلات التي أجراها فريق الرابطة مع 401 شخصاً من الناجين من السجن الرهيب، الذي سبق أن وصفته منظمة العفو الدولية بأنه المكان الذي «تقوم فيه الدولة السورية بذبح شعبها بهدوء»، ثم تحليل هذه البيانات للوقوف على تصور يقارب حجم الفظائع والانتهاكات فيه، ويسلط الضوء على آليات الاعتقال وتبعاته المديدة على المعتقلين وعائلاتهم.
وقد بدأ إجراء هذه المقابلات مطلع العام 2018 واستمرّ حتى آذار من العام 2019؛ يقول دياب سرّية، المنسق العام للرابطة، في حديث له مع الجمهورية: «كنا نتوقع أن نوثق خلال عام من العمل قرابة الألف حالة اعتقال، لكننا فوجئنا أننا لم نصل سوى لأقل من نصف هذا الرقم بعد عام من العمل، وهو مؤشر على قلّة أعداد الناجين؛ كانت صدمة حتى بالنسبة لنا». وكان تسجيل تلك الشهادات أمراً فائق الصعوبة، لأن استعادة تلك التفاصيل مع الناجين هو أحد أكثر العمليات قسوة على الموثِّق والناجي، كما أن المخاطر التي تعرض لها الفريق خلال العمل كانت أحد أكبر العوائق، إذ اعتقل ثلاث موثقين في منطقة إدلب التي تسيطر عليها فصائل معارضة خلال عملهم، وتم اطلاق سراحهم لاحقاً بحسب سرّية.
سجن صيدنايا هو سجن عسكري، وهو يستخدم لاحتجاز المعتقلين السياسيين في سوريا منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي، وقد تحوّل بعد انطلاق الثورة السورية عام 2011 إلى واحد من أسوأ معسكرات الاعتقال في البلد، الذي يعج بمعسكرات اعتقال وسجون سرّية يستخدمها نظام الأسد لإخفاء وقتل السوريين الذين يشتبه بأنهم شاركوا في الاحتجاجات ضده أو في أي نشاطات مناهضة له. ويكشف التقرير التحولات في إجراءات الاعتقال وظروف السجن خلال هذه السنوات كلها منذ تأسيسه حتى الآن، كما يبين حجم الانتهاكات وظروف الاعتقال بالغة الوحشية فيه، التي أدت إلى حدوث وفيات جماعية نتيجة أمراض يمكن معالجتها بسهولة مثل مرض الإسهال.
يتابع دياب سرّية في حديثه للجمهورية: «كان ابتزاز أهالي المعتقلين في سجن صيدنايا عملية شائعة بين المسؤولين في أجهزة أمن النظام، حيث كانت بعض العائلات تدفع مبالغ خيالية لمجرد نقل ابنها من سجن صيدنايا إلى سجون مدنية مثل سجن عدرا أو سجن حماة المركزي». وتُظهر هذه القصة بعضاً من أبرز أوجه الاعتقال في سوريا، فهو وسيلة لجمع الأموال ومراكمة الثروات لقادة الأجهزة الأمنية، كما أن المبالغ المالية الهائلة التي تدفعها العائلات لنقل أبنائها من سجن صيدنايا إلى سجن عدرا مثلاً تُظهر كيف أن الخروج من الأول هو نجاة من موت محقق.
يقول التقرير إن 100% من الناجين الذين تمّ أخذ شهاداتهم ذكروا تعرضهم للتعذيب الجسدي، بينما ذكر 97.8% التعذيب النفسي، وقد حددت نتائج التقرير 20 وسيلة تعذيب من بينها الضرب بالعصي والصعق الكهربائي والشبح (التعليق من اليدين أو القدمين) والحرمان من الطعام وسكب المياه الباردة والدولاب (وسيلة تعذيب اشتهر بها النظام السوري، حيث يتم طوي جسد المعتقل ضمن دولاب شاحنة ويتم ضربه بالعصي على مختلف مناطق جسده).
وقد كانت النسبة العظمى من المعتقلين في السجن من المختفين قسرياً، إذ لم يتم إبلاغ عائلاتهم رسمياً بمكان اعتقالهم، ولم يتم عرضهم على محاكم مدنية، كما لم يتم إخبارهم بسبب اعتقالهم في حالات كثيرة. وقال التقرير إن أكثر من نصف الحالات التي رصدها حوكمت أمام «المحكمة الميدانية»، وهي محاكم صورية يتم فيها عرض المعتقل أمام لجنة عسكرية دون توجيه تهم واضحة ودون إمكانية تقديم دفاع قانوني، وتصدر هذه المحكمة أحكاماً قد تصل إلى الإعدام أو إلى السجن لأكثر من عشرين عاماً، دون القدرة على استئناف أحكامها أمام القضاء.
ويتضمن التقرير شرحاً تفصيلياً لآليات التعذيب وعمليات ابتزاز أهالي المعتقلين وظروف الاعتقال الكارثية ضمن كرّاسة من ستين صفحة، تحاول أن تقدم مقاربة لأحد أسوأ السجون في العالم، تُرتكب فيه حتى هذه اللحظة انتهاكات لا يمكن مقارنتها إلا بفظائع المعتقلات النازية، حيث تنتهك الكرامة الإنسانية إلى الدرجة القصوى، فيما يصبح القتل عملاً روتينياً للمجرمين القائمين على هذه السجون.
يضيف دياب سرّية في حديثه: «هناك كثيرٌ من التفاصيل التي حصلنا عليها ولم نشاركها في التقرير، مثل هوية المسؤولين عن الانتهاكات في السجن، والتي قمنا بمشاركتها مع آليات التحقيق الدولية حول سوريا مثل IIIM (آلية دولية محايدة ومستقلة) للتحقيق في سوريا وCOI (لجنة التحقيق الدولية المستقلة في سوريا)، وسنستخدمها أيضاً ضمن الملفات القضائية التي يتم العمل عليها لملاحقة مجرمي الحرب والمسؤولين عن الانتهاكات في سوريا».
ليس هذا التقرير هو الأول الذي يتحدث عن الأهوال التي يعانيها السوريون المحتجزون في سجن صيدنايا، إذ سبق أن نشرت جهات متنوعة تقارير عديدة، من بينها التقرير الصادر عن منظمة العفو الدولية في شباط 2017 بعنوان المسلخ البشري، غير أن ما يميز التقرير الصادر اليوم عن رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا هو العدد غير المسبوق من الشهادات التي يستند إليها، واشتغاله على تقديم إجابات لجملة من الأسئلة: من هم المعتقلون وكيف يتم اعتقالهم؟ وما هي تبعات الاعتقال عليهم أو على عائلاتهم (الآثار الجسدية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية)؟ وما الذي تغير بعد الثورة سواء في إجراءات الاعتقال أو تبعاته؟
تواصل رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا عملها على التوثيق وتسجيل شهادات الناجين، وتحليل البيانات التي تتضمنها هذه الشهادات، ونقتبس هنا مقطعاً من الخلاصة التي جاءت في نهاية التقرير: «فضلاً عن المعلومات المتعلقة بالظروف المأساوية لأوضاع المعتقلين في السجون السورية عموماً، وسجن صيدنايا خصوصاً، يقدم هذا التقرير، والشهادات التي استند إليها، معلومات عن تحولات ملف الاعتقال السياسي في سوريا، وعن مجمل الظروف السياسية والاجتماعية المرافقة له. ونعتقد أن الإحاطة بهذه الظروف تؤمن شروطاً أفضل لفهم الكيفية التي تعمل بها مؤسسات النظام الأمنية، وكيفية استخدامها للاعتقال والتعذيب والتصفية في السجون وسيلة لإرهاب وإخضاع المجتمع كله، وهو ما يساهم في فهم أعمق لبنية النظام السوري الأمنية، وبالتالي في البحث عن وسائل لتفكيكها من جهة، ومحاسبة المسؤولين عن إدارتها وتحقيق العدالة للضحايا من جهة أخرى».
موقع الجمهورية
سجن صيدنايا: 400 شهادة جديدة تكشف عن آليّات الاعتقال والحياة ما بعده/ مايا العمّار
بعد سلسلة من التقارير التي تناولت مراكز الاعتقال وفظاعة ما تخفيه خلف جدرانها وتحت أرضيّتها، يشعر الإنسان وكأنّه تعب من زيارة تلك المشاهد المضنية التي لا يحتمل العقل تصوّرها، وربّما يفضّل الانكفاء عن المتابعة. لكن وسط مساعي الانسحاب هذه، تأتي أصوات المُعتقَلين السابقين والحاليّين في سجون النظام السوري لتعيد إلى القضيّة زخمها وتهزّ ضمائر المعنيّين.
استطاع 400 معتقلٍ ناجٍ من سجن صيدنايا بشهاداتهم التي تشمل الفترة الممتدّة بين آب/أغسطس 1980 ونيسان/أبريل 2017 أن يساهموا مع “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” في توثيق إجراءات الاعتقال والتغذيب، آملين أن يصبّ التوثيق الحثيث في خدمة آليّات تحقيق العدالة وأي محاكمات قضائيّة مستقبليّة لمرتكبي الانتهاكات من مسؤولين وضبّاط في فروع أمنيّة تابعة لنظام الأسد.
يتميّز “الاحتجاز في صيدنايا: تقرير عن إجراءات وتبعات الاعتقال”، الذي أطلقته الرابطة في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، بأنّه مكمّل لتقارير حقوقيّة سابقة صدرت ووثّقت ممارسات نظام الأسد الترهيبيّة والعنفيّة، لا سيّما بعد ثورة عام 2011. لكنّ التقرير يذهب أبعد من ذلك إذ يستند في صفحاته إلى عدد أكبر من الشهادات وعيّنة أشمل من الناجين الذين اعتُقلوا قبل الثورة وبعدها ويقارن بين مرحلتَي حكم الأسد الأب وحكم الأسد الابن، ليثبت أنّ وصول بشار الأسد إلى الحكم ترافق بالفعل مع ازدياد ملحوظ في عمليات الاعتقال، حتى قبل اندلاع الثورة السورية. كما يوسّع التقرير دائرة البحث ليشمل كلّ إجراءات الاعتقال، بالإضافة إلى تبعاته الصحيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وآثاره في حياة المعتفلين وعائلاتهم قبل الخروج من السجن وبعده. علاوةً على ذلك، يقدّم التقرير تفاصيل أكثر دقّة عن أنماط التعذيب التي تعرّض لها الرجال المُعتقلون، بما فيها التعذيب الجنسي في أماكن الاحتجاز، ويبرز حجم الضرر الشخصي الذي ألحقته تجربة الاعتقال بالناجين.
في هذا الإطار، يقول دياب سرية، المنسّق العام “لرابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” إنّها “المرّة الأولى التي يتم فيها الوصول إلى هذا العدد من المعتقلين السابقين في سجن صيدنايا. فلربّما كانت أساليب النظام السوري في الاعتقال والإخفاء القسري معروفة لدى بعض السوريّين، لكن هذا التقرير يوضح بالأرقام والشهادات كيف استخدم النظام آليّات الاعتقال والإخفاء القسري كوسيلة من وسائل الحرب على المجتمع السوري”.
تعتيم وتعذيب ومصادرة أملاك
يوضح التقرير الأخير كيف تسارعت وتيرة الاعتقال، الذي كان أشبه بعمليّة اختطاف، بعد العام 2011، ويؤكّد أنّ 90% من المعتقلين الذين تمّت مقابلتهم تعرّضوا لشكل من أشكال التعذيب داخل السجن أو في الفروع الأمنيّة التي مرّوا بها، من ضرب وتعنيف وممارسات إذلال نفسي وجنسي وتعذيب عبر وضعيّات قاسية مثل “بساط الريح” و”الشبح” و”الدولاب” وغيرها.
في ما خصّ الانتهاكات الجنسية، لحظ التقرير أنّ هذا الشكل من العنف ازداد ارتكابه بشكل كبير بعد الثورة، ومن المرجّح أنّ تكون النسبة الفعليّة لضحاياه أعلى من نسبة الـ29،7% الموثّقة، كون المسألة حساسّة جدّاً للكثير من الرجال الذين يميلون إلى تجنّب إثارتها خوفاً من الوصمة والإذلال.
بحسب معدّي التقرير، إنّ الهدف من اللّجوء لأنواع التعذيب بعد عام 2011 كان “ترك آثار جسدية ملحوظة ترافق المعتقل لفترة طويلة بعد خروجه، بغية بثّ الرعب في المجتمعات المحليّة الثائرة”، ومن بين هذه الآثار: “سلخ الجلد، وسكب ماء مغلي، والكي بأدوات حارقة، وتشويه الوجه والأجزاء الظاهرة من الجسم، والحرمان من الأكل”. وقد تعرّض ثلاثة أرباع مُعتقلي ما بعد الثورة للممارسة الأخيرة، “بينما كانت بحدود النصف بين معتقلي ما قبل الثورة في فترة الابن، وحوالي الثلث في عهد الأب”.
إلى ذلك، غالباً ما كان يتعرّض المعتقلون إلى الحرمان من التواصل مع العالم الخارجي، إلا في حالات معيّنة أدّى فيها الابتزاز المالي للأهالي والرشاوى المدفوعة للوسطاء والمحامين وبعض القضاة دوراً في تمكين أفراد أسرة الشخص المُعتقَل من زيارته أو معرفة مصيره، من دون أن يعني ذلك أي ضمانة في الوصول إلى نتيجة. وبحسب ما جاء في التقرير، “فقد دفع أكثر من نصف المعتقلين أو أهاليهم في عهد الأسد الابن قبل الثورة مبالغ بهدف الحصول على معلومات عن مصير المعتقل أو الزيارة. وبعد الثورة، دفعت أكثرية المعتقلين من أجل ذلك (67.9%).”
ومن الممارسات التي لفت التقرير الانتباه إليها وعادةً ما تغفل التقارير عنها، لجوء الأجهزة المتكرّر إلى الحجز على أملاك المعتقلين ومصادرتها بعد الحجز على حريّتهم، ليخرجوا من السجن، إذا حالفهم الحظّ وخرجوا بعفو عام، ويجدوا أنهم خسروا كلّ شيء، بما فيه منازلهم وأموالهم وأعمالهم.
محاكم الميدان العسكريّة الأكثر بطشاً
شهدت الغالبيّة الساحقة من المعتقلين على التعتيم الممنهج على أسباب الاعتقال، ومدّة المحكوميّة المنوي تنفيذها، وهويّة الجهة منفّذة الاعتقال. وبحسب التقرير، فإنّ “96% من معتقلي ما بعد الثورة قالوا إنه لم يتم إبلاغهم بمدّة حكمهم، وهذه النسبة كانت بحدود 22.2% قبل الثورة. وفقط حوالي 11% من المعتقلين السابقين قالوا إن الجهة التي اعتقلتهم عرّفتهم بنفسها لحظة الاعتقال”. يبتيّن أنّ في معظم الحالات التي شملها البحث، كانت الفروع الأكثر نشاطاً في مجال الاعتقال/الاختطاف فرع التحقيق العسكري، وفرع شؤون الضبّاط، وفرع فلسطين، وهي فروع أمنيّة تابعة لشعبة الاستخبارات العسكريّة السوريّة المسؤولة عن ثلاثة أرباع حالات الاعتقال.
إلى ذلك، يسجّل التقرير ارتفاعاً في عدد ضحايا محكمة الميدان العسكرية في سجن صيدنايا من 24،3% قبل 2011 إلى 87،6% بعدها، مع الإشارة إلى أن حوالي 6،5% فقط من المعتقلين في صيدنايا تمّ عرضهم على محكمة الإرهاب، وأكثر من ثلثهم تمّت محاكمتهم في محكمة أمن الدولة العليا.
ما بعد السجن
يُظهر التقرير في محصّلته أن ببساطة لا حياة طبيعيّة بعد الخروج من السجن. فأكثر من ثلث الناجين من الاعتقال قالوا إن إصابتهم الجسدية أثّرت في قدرتهم على متابعة حياتهم كالمعتاد. وربعهم أكّدوا أنّ الضرر النفسي ظلّ يرافقهم بعد الاعتقال، وكان يتفاقم بفعل الوحدة، بخاصّة في صفوف المعتقلين غير المتزوّجين. غالبيّة الأشخاص الذين شملهم البحث خسروا عملهم من دون أن يحصلوا على أي تعويضات واستحال عليهم الانخراط مجدّداً في سوق العمل، أو الاستفادة من أرزاقهم وأموالهم ذلك أنّها وفي أكثريّة الحالات (62،3%) صودرت من دون وجود أي حكم بذلك.
يشعر المعتقلون السابقون أنّهم حرفيّاً فقدوا كلّ شيء، بانتظار مَن يلتفت إلى معاناتهم ويعوّض عليهم بعضاً من حقوقهم المسلوبة خلال الاعتقال وبعده على يد نظام “ابنٍ” حقّق تفوّقاً لافتاً على نظام أبيه في البطش والشراسة.
درج
سجن صيدنايا… عنوان الرعب في “جمهورية الخوف”/ أمين العاصي
يعد ملف المعتقلين في سجون النظام السوري الأكثر إيلاماً في القضية السورية، إذ لا يزال عشرات آلاف المدنيين والعسكريين، الذين اعتقلوا على خلفية موقفهم من الثورة السورية، مجهولي المصير، فضلاً عن كون الآلاف منهم قضوا تحت التعذيب خلال سنوات الثورة السورية وفق منظمات محلية ودولية. ويرفض النظام التفاوض حول هذا الملف خشية أن يكون مدخلاً واسعاً لسوق كبار ضباط أجهزته الأمنية وجيشه إلى محاكم دولية متخصصة، فيما يكتفي المجتمع الدولي ببيانات إدانة جوفاء عند ظهور بيانات أو وثائق تؤكد أن معتقلات النظام “مسالخ بشرية”، يمارس فيها مختلف أنواع التعذيب وأكثرها بشاعة، والتي تفضي إلى الموت أو العجز مدى الحياة.
وعاد سجن صيدنايا إلى واجهة المشهد السوري مرة أخرى، حيث أصدرت “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، التي تتخذ من تركيا مقراً لها، أول من أمس الثلاثاء، تقريراً وثّقت فيه شهادات 400 ناجٍ، تحدثوا فيها عن أسباب وظروف الاعتقال وتبعاته، منذ تأسيس السجن سيئ الصيت الواقع شمال العاصمة دمشق، في عام 1987 وحتى 2017، اقتصرت على الذكور فقط، وكان بينهم اثنان بالمائة من الأطفال. ووصف المعتقلون السابقون المحاكم التي يُعرضون عليها بأنها أشبه بالأجهزة الأمنية، مهمتها تصفية المعارضين وسلبهم حريتهم وممتلكاتهم. وبعد 2011 لجأ النظام السوري إلى محكمة الميدان العسكرية، وهي تفتقر إلى أدنى شروط التقاضي العادل، حيث لا يسمح للمعتقل بتوكيل محامٍ أو الاتصال مع العالم الخارجي، بينما عرُض نحو 6.5 في المائة فقط من المعتقلين في صيدنايا على محكمة الإرهاب.
ورصد التقرير الآثار الصحية والاجتماعية والاقتصادية على حياة المعتقلين. وقدم صورة واضحة عن حجم الضرر الذي لحق بالمعتقلين جراء عملية الاعتقال نفسها وعمليات التعذيب التي رافقتها. كما تحدث عن وجود شبكة كبيرة من المسؤولين والأشخاص النافذين في النظام وبعض القضاة والمحامين تقوم بعمليات ابتزاز مالي لأهالي المعتقلين والمختفين قسراً، بغية تأمين زيارات لأماكن الاعتقال أو تقديم وعود بإخلاء سبيلهم. أما ممارسات التعذيب، فقد ازدادت بعد الثورة، كسلخ الجلد وسكب الماء المغلي والكي بأدوات حارقة وتشويه الوجه والحرمان من الأكل، وتعرض لها ثلاثة أرباع المعتقلين، بينما كانت بحدود النصف بين معتقلي ما قبل الثورة. وبحسب التقرير، فقد ازدادت بعد الثورة ممارسات التعذيب الجنسي، مؤكداً أن النسبة أكبر من التي تمكّن من إحصائها، بسبب حرج المحتجزين من التطرق إلى الحديث عن مواضيع كهذه. كما ازداد التعذيب النفسي بعد الثورة مقارنة بما قبلها.
تقرير الرابطة عن معتقل صيدنايا ليس الأول من نوعه، إذ وثقت منظمة “العفو الدولية”، في تقرير نشرته بدايات عام 2017، إعدامات جماعية بطرق مختلفة نفذها النظام السوري، بحق المعتقلين في سجن صيدنايا. وفي تقرير تحت عنوان “المسلخ البشري”، ذكرت المنظمة أن إعدامات جماعية شنقاً نفذها النظام بحق 13 ألف معتقل، أغلبيتهم من المدنيين المعارضين، بين عامي 2011 و2015. ووصفت المنظمة سجن صيدنايا العسكري بأنه “المكان الذي تذبح فيه الدولة السورية شعبها بهدوء”. وكانت “العفو الدولية” قد وثقت، في منتصف عام 2016، مقتل 17723 معتقلاً، في أثناء احتجازهم في سجون النظام السوري، ما بين مارس/ آذار 2011 وديسمبر/ كانون الأول 2015، أي بمعدل 300 معتقل كل شهر.
وذهبت جهود المعارضة السورية سدى على صعيد المعتقلين والمفقودين في سورية، حيث رفض النظام مقاربة هذا الملف بشكل جدي في مساري التفاوض في أستانة وجنيف، بل رفع تحديه للمجتمع الدولي من خلال الإفراج عن قوائم الآلاف من المعتقلين الذين قتلوا تحت التعذيب في سجونه. وتكررت محاولات المعارضة السورية تحريك ملف المعتقلين في سورية استناداً إلى تقارير متعاقبة تضيء على الجانب المعتم من حياة السوريين على مدى عقود، لكنها لم تستطع فعل شيء في ظل صمت دولي عما اقترفه ولا يزال يقترفه بحق المعتقلين. ونجحت فصائل المعارضة السورية على مدى سنوات في إجبار النظام على عمليات تبادل محدودة، حيث تجرى عمليات مقايضة بين أسرى من قوات النظام وبين معتقلين سوريين، خصوصاً من النساء. ورغم ادعاء الجانب الروسي الاهتمام بهذا الملف في مسار أستانة، إلا أن الوعود الروسية بقيت حبراً على الورق، حيث لم تضغط على النظام من أجل إطلاق معتقلين في سياق ما يسمى بـ”إجراءات الثقة” بين المعارضة والنظام.
ولم يعد سجن صيدنايا هو السجن الرهيب الوحيد في سورية، حيث انتشرت مئات السجون في سورية، بل بات لكل مليشيا سجن خاص بها، حيث كثر القتل خارج قوانين النظام. لكن سجن صيدنايا يبقى عنوان الرعب البارز في سورية منذ استلام حافظ الأسد للسلطة في عام 1970، واستمر هذا السجن كذلك في عهد ابنه بشار. وبعد خروج عدد من المعتقلين في سجن صيدنايا، سواء قبل الثورة أو خلالها، إلى خارج البلاد، ظهر العديد من الشهادات التي تؤكد أن التعذيب الممنهج هو الأسلوب الوحيد التي تتبعه أجهزة النظام الأمنية مع المعتقلين. ويؤكد المعتقل السابق في سجن صيدنايا زكريا الإبراهيم، لـ”العربي الجديد”، أن “ما قاله رأس النظام منذ أيام عن عدم وجود تعذيب في السجون السورية عهر وكذب صريح”، مضيفاً “تعرضت خلال فترة اعتقالي في جهاز أمن الدولة، ومن بعد ذلك في سجن صيدنايا، والتي امتدت من 2008 إلى 2012، إلى مختلف أنواع التعذيب، بما فيها الضرب والإهانة والتعذيب بالكهرباء والدولاب وبساط الريح والحرمان من النوم والأكل والدواء”. وتابع “كنا معتقلين بمكان ضيق ولا يوجد تهوئة ولا يسمح لنا بالزيارة أو الخروج للتنفس”. وأشار إلى أن “الإهانة كانت مستمرة وممنهجة في سجن صيدنايا، بالإضافة إلى حرمان من التنفس ومن الزيارات ورؤية الأهل والعلاج”. وقال “أسوأ عقاب كان هو السجن في المنفردة، حيث كنا نتعرض للضرب والحرمان من النوم والأكل والحمام والدواء، وكل من يُحبس بالمنفردة يخرج مصاباً بالجرب والقمل، وكنا نتعرض لتهديدات مستمرة بالقتل لنا ولأهلنا”.
من جانبه، أوضح المعتقل السابق في سجن صيدنايا آزاد عثمان، لـ”العربي الجديد”، أن أجهزة النظام الأمنية مارست كل أنواع التعذيب في سجن صيدنايا للدرجة التي تُفقد المعتقل المعذب الوعي. وقال “يضعون المعتقل في الدولاب لتبدأ بعد ذلك حفلة ضرب وتعذيب من قبل العناصر في السجن”. من جانبه، قال أحد المعتقلين في أثناء الثورة والموجود الآن في ألمانيا، والذي فضّل عدم ذكر اسمه بسبب وجود أهله في مناطق النظام، “في الشهور الأولى من الثورة اعتقلت في درعا، ومن ثم نقلت إلى معتقلات المخابرات الجوية في العاصمة دمشق”، مضيفاً “رأيت ما لا أستطيع نسيانه رغم تعاقب السنين. لقد أجبروا أحد المعتقلين على تناول برازه في مشهد لا يمكن نسيانه، ورغم ذلك لم يكسروا إرادة ذاك الشاب الذي ظل لآخر لحظة يهتف للثورة حتى فارق الحياة نتيجة التعذيب”. وأضاف “شهدت مقتل العديد من الأشخاص نتيجة التعذيب، ومنهم أحد الشباب الذين أعرف أهله جيداً. وعندما خرجت لم أخبرهم أنه مات. أردت أن يعيشوا على أمل لقائه مرة أخرى، خصوصاً أمه. رأينا ما يشيب الولدان من اغتصاب النساء والرجال في المعتقلات من قبل عناصر النظام الذين لم يترددوا عن فعل أي شيء لا يمت للإنسانية بصلة”.
إلى ذلك، ذكر رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، المحامي أنور البني، أن خمسة ناجين من التعذيب في سورية تقدموا، الثلاثاء الماضي، بملف ادعاء بحق 17 مسؤولاً عالي المستوى في أجهزة الأمن السورية إلى مكتب الادعاء ووحدة التحقيق بالجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في النرويج بأوسلو. وأشار إلى أن هذه الخطوة تأتي بدعم ومشاركة المركز الأوروبي لحقوق الإنسان الدستورية ولجنة هلسنكي النرويجية والمركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، مع مجموعة قيصر والمركز السوري للإعلام وحرية التعبير. وفي حديث مع “العربي الجديد” اعتبر البني أن التقدم بملف الادعاء ضد مسؤولين في النظام السوري عن التعذيب والإخفاء القسري والقتل تحت التعذيب “خطوة جديدة نحو العدالة للضحايا ومعاقبة المجرمين، ومنع الإفلات من العقاب”. وأشار البني، على صفحته في موقع “فيسبوك”، إلى أن النرويج “دولة لديها الصلاحية العالمية لمحاكمة المجرمين ضد الإنسانية، حتى لو لم يوجدوا على أراضيها”، موضحاً أن ناجين من التعذيب وأهالي الضحايا ومحامين ومدافعين عن حقوق الإنسان وثقوا الجرائم من أجل تقديم المسؤولين إلى العدالة خارج سورية، باستخدام الوسائل القانونية في أوروبا. وأضاف “يمكن تحقيق ذلك من خلال مبدأ الولاية القضائية العالمية، والذي يسمح للسلطات النرويجية بالتحقيق في الجرائم الدولية”، وبيّن أن “الشكاوى الجنائية في بلدان أوروبية أخرى، مثل ألمانيا وفرنسا، أسهمت في إصدار أوامر اعتقال ضد شخصيات رئيسية في نظام التعذيب التابع للأسد”، وفق البني.
العربي الجديد
“سيبقى شخص ليروي الحكاية”… 400 شهادة جديدة عن سجن صيدنايا وحياة ما بعد الاعتقال
في كتابها “تقرير عن تفاهة الشر” تقول حنة أرندت في معرض حديثها عن الهيمنة الشمولية التي أرادت استحداث “ثقوب نسيان” يختفي فيها المعارضون بصمت ومن دون أسماء: “سيبقى شخص ما على قيد الحياة ليروي الحكاية”… ومن سجن صيدنايا، المسلخ البشري كما بات يوصف في عهد الأسد الابن، بقي أشخاص.
من هؤلاء واحد كان قد اعتُقل في آب/ أغسطس 1980 ومنهم واحد اعتُقل في نيسان/ أبريل 2017، ويشكل الاثنان جزءاً من عيّنة من 400 حالة اعتقال سابقة في صيدنايا عملت “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” على توثيقها منذ بداية شهر كانون الثاني/يناير 2018 وحتى بداية آذار/ مارس 2019، وهي مستمرة في توثيق غيرها إلى الآن.
من هم المعتقلون؟ وكيف يتم اعتقالهم؟ ما هي تبعات الاعتقال عليهم أو على عائلاتهم (الآثار الجسدية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية)؟ وما الذي تغيّر بعد الثورة سواء في إجراءات الاعتقال أو تبعاته؟ أسئلة أجابت الرابطة عليها في جداول مفصلة وصادمة، دخلت في التفاصيل “الكميّة” لصيدنايا من خلال العيّنة التي استطاعت الوصول إليها.
تقارير عديدة سابقة نشرتها منظمات معنية بحقوق الإنسان، ومنها “منظمة العفو الدولية”، كشفت جرائم داخل صيدنايا ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، إلا أنها ركزت بشكل أساسي على قضية التعذيب والإعدامات. هذا الجانب على أهميته البالغة في تكوين صورة معمقة عن صيدنايا، لكنه لا يعكس الصورة العامة، فالأخيرة تحتاج بحثاً كمياً يقوم على تحليل البيانات إحصائياً، وهو ما تسعى الرابطة إلى فعله.
وتحت عنوان “الاحتجاز في صيدنايا: تقرير عن إجراءات وتبعات الاعتقال”، أطلقت “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” تقريرها اليوم.
يقول المنسق العام للرابطة دياب سرية إنها المرة الأولى التي يتم فيها الوصول إلى هذا العدد من المعتقلين السابقين في سجن صيدنايا”، معلقاً: “لربما كانت أساليب النظام السوري في الاعتقال والإخفاء القسري معروفة لدى بعض السوريين، لكن هذا التقرير يوضح بالأرقام والشهادات كيف استخدم النظام آلية الاعتقال والاخفاء القسري كوسيلة من وسائل الحرب على المجتمع السوري”.
صيدنايا… أكثر الأبنية تحصيناً
كما كان للأسد الأب سجن جعل مجرّد ذكر اسمه يبث الرعب في النفوس، كذلك فعل الابن. كما كان تدمر بالنسبة للأول أصبح صيدنايا بالنسبة للثاني، والاثنان يوجدان للمفارقة في منطقتين سياحتين شهيرتين في سوريا.
تدير صيدنايا الشرطة العسكرية تحت إشراف مباشر من شعبة الاستخبارات العسكرية، والداخل إليه يمر عبر ثلاثة فروع، إما “التحقيق العسكري” وإما “شؤون الضباط” وإما “فرع فلسطين”، وكلها تتبع للشعبة.
أشهر وسائل التعذيب في السجون العربية
“التعذيب لا يحتمل الارتجال”… قراءة في سيكولوجيا الجلاد باعتباره شخصاً متزِّناً ذا مؤهلات
معتقلون لبنانيون سابقون يروون عن الجحيم الذي عاشوه في سجن تدمر
يتألف “المسلخ البشري” من بنائين منفصلين؛ الأحمر الذي يضم بالدرجة الأولى معتقلين مدنيين، والأبيض الذي يضم العسكريين. يضم المبنى الأحمر ثلاث كتل منفصلة (أ، ب، ج) مستقلة عن بعضها، تلتقي في نقطة واحدة تسمى “المسدس”. يضم قبو السجن في الكتلة (أ) الغرف الأرضية والزنزانات الانفرادية، هذا بالإضافة إلى 100 زنزانة فردية في الطابق الأرضي من الكتلة (ب).
لا توجد تقديرات دقيقة لأعداد المعتقلين الذين مروا عليه، أو الباقين فيه حتى الآن.
ويقول معدو التقرير إن من الصعب جداً الوصول إلى إحصائية دقيقة عن عدد المعتقلين في صيدنايا، حتى أن النظام السوري نفسه عاجزٌ عن إصدار قوائم دقيقة بأعداد المعتقلين بسبب كثرة عمليات الإعدام خارج نطاق القانون والتعذيب والتجويع والحرمان والغياب التام للرعاية الصحية وعدم السماح بالاتصال بالعالم الخارجي.
بحسب العديد من الشهادات التي وثّقتها “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” خلال الفترة الماضية، تمكنت الرابطة من بناء تقديرات عن عدد المعتقلين في هذا السجن منذ افتتاحه عام 1987 وحتى 2018.
يروي أوائل من نُقلوا إلى صيدنايا، عند افتتاحه في 1987، كيف توزعوا على الأجنحة التي افتُتحت حديثاً. استمر نقل المعتقلين إلى السجن، بشكل أساسي من سجن تدمر وبدرجة أقل من الفروع الأمنية وأقل من ذلك من سجن المزة، حتى امتلأ صيدنايا بشكل كامل في عام 1990.
أكثر من 90% (في العينة) قالوا إنهم تعرضوا للتعذيب في السجن وفي الفروع الأمنية التي مرّوا عليها قبل وصولهم إليه (أو بعد خروجهم منه). كل الذين قالوا إنهم تعرضوا للتعذيب ذكروا الجسدي (100%)، و97.8% ذكروا النفسي. أما بخصوص الجنسي، فكانت النسبة 29.7% (على الأرجح النسبة في الواقع أكبر من ذلك بكثير، فهذه قضية حساسة جداً ويتجنب كثيرون الحديث عنها).
أما المحاكم التي يُعرَضُ عليها المعتقلون، فهي أشبه بأجهزة أمنية مهمتها تصفية المعارضين وسلبهم، ليس حريتهم فقط، وإنما في كثير من الحالات ممتلكاتهم أيضاً.
بعد الثورة عام 2011، حدثت تغيرات كبيرة في إجراءات وتبعات الاعتقال: عسكريون أكثر، متعلمون أكثر، شباب أكثر. هذا بالإضافة إلى وحشية أكثر في التعامل معهم، سواء بالتعذيب أو بإجراءات “المحاكمات” وعمليات الابتزاز.
متعلمون أكثر… معتقلون أكثر
في أبرز نتائج التقرير، فإن الغالبية الساحقة من العينة كان عمرهم أقل من 37 عاماً عند الاعتقال (88.2%)، ولديهم عمل (81,9%)، وأكثريتهم كانوا متزوجين وحاصلين على شهادات جامعية (حوالي 58%). ضم السجن معتقلين من جنسيات وطوائف وإثنيات مختلفة، إلا أن النسبة الساحقة كانت من نصيب السوريين السنة (98.7%)، من سكان حمص وإدلب وحلب (أكثر من 15% لكل منها).
تم اعتقال النسبة الأكبر من مكان عملها (46.4%)، لكن يجب الانتباه إلى أن هذه البيانات تعتمد على المعتقلين السابقين الناجين من سجن صيدنايا.
بعد الثورة، أصبحت معظم الاعتقالات تتم من مكان العمل، أما قبلها فكانت تتم من أماكن متعددة، وفي أغلب الحالات، المقصود بمكان العمل هو قطعة عسكرية.
وبخصوص وسائل التعذيب على أنواعه، حدد التقرير 20 وسيلة مختلفة للتعذيب الجسدي، من بينها: الأكثر شيوعاً هو الضرب بالعصا أو بالهراوة. الكل تعرض للتعذيب بهذه الطريقة (100%)، ويأتي بعدها الضرب بالسوط أو الكرباج بنسبة قريبة (95.2%)، ومن ثم الدولاب (حوالي 80.8%). أكثرية المعتقلين تعرضوا للحرمان من الأكل وسكب الماء البارد، وأكثر من نصفهم للدوس بالأقدام، فيما نسبة كبيرة منهم (أكثر من 40%) تعرضوا للصعق الكهربائي و/أو للشبح و/أو للتعذيب ببساط الريح.
وبخصوص التعذيب النفسي، حدد التقرير 24 وسيلة للتعذيب النفسي، من بينها: تغطية الأعين (78.7%)، وإهانة المقدسات الدينية (71.6%)، والإيحاء بالإعدام أو القتل (69.8%)، والإهانة اللفظية وشتم الأعراض (66.9%)، والحبس الانفرادي (65.4%)، والتهديد باعتقال الأهل (59.3%)، والتعرية (58.3%)، والحرمان من النوم (55.9%)، والإجبار على مشاهدة شخص آخر يتم تعذيبه (55.1%).
وعن التعذيب الجنسي، ذكر الناجون 8 وسائل، من بينها الضرب على الأعضاء الجنسية، 81.4%. تعرَّضَ حوالي الثلث لإيذاء الأعضاء الجنسية أو المناطق الحساسة من الجسم بطرق أخرى مختلفة.
ويلاحظ التقرير في عهد الأسد الابن ارتفاعاً كبيراً في الممارسات التي تترك آثاراً جسدية ظاهرة للعيان وتدوم لفترة طويلة بعد الخروج من المعتقل: سلخ الجلد، وسكب ماء مغلي، والكي بأدوات حارقة، وتشويه الوجه والأجزاء الظاهرة من الجسم، والحرمان من الأكل. هذه الممارسة الأخيرة تعرّض لها ثلاثة أرباع معتقلي ما بعد الثورة، بينما كانت بحدود النصف بين معتقلي ما قبل الثورة في فترة الابن، وحوالي الثلث في عهد الأب.
وهذا ما فسره التقرير بأنه سعي من النظام لإرهاب الشعب الثائر ضده، فهذه الممارسات تذكر بحمزة الخطيب وغياث مطر وغيرهم من المعتقلين الذين تعمد النظام تشويه أجسادهم قبل إرسالها إلى ذويهم.
كيف تمت المحاكمات؟
الأكثرية من العيّنة تمت محاكمتهم في محاكم ميدانية عسكرية (57.2%)، فيما تمت محاكمة أكثر من الثلث في محكمة أمن الدولة العليا، و6.5% منهم كانت محاكمتهم في محكمة الإرهاب.
حتى الآن، لا يعرف حوالي ثلث المحتجزين إن كانوا قد حوكموا وفقاً لقانون العقوبات السوري أم لا، فقط حوالي ربعهم قالوا إنهم حوكموا وفقاً هذا القانون، بينما بلغت النسبة الأكبر التي أجابت بالنفي أكثر من الثلث.
يُذكر أن المحاكمة وفق قانون العقوبات السوري كانت بشكل رئيسي تتم وفق المواد القانونية التالية: الانتماء لأحزاب أو جمعيات محظورة (37.9%)، إضعاف الشعور القومي أو إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية (21.2%)، إذاعة أنباء كاذبة في الخارج (12.1%).
تراوحت مدة الحكم على هؤلاء بين سنتين و21 سنة، حوالي الثلث نالوا بين 5 و6 سنوات، والنسبة نفسها تقريباً حُكمت بأكثر من 10 سنوات. وتختلف المدة الفعلية التي يقضيها المحتجز في السجن عن الحكم الصادرة بحقه: حوالي ثلث المحتجزين تم توقيفهم لفترات أطول من مدة الحكم.وفيما تم تجريد النسبة الساحقة منهم من الحقوق المدنية والعسكرية، تمت مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة لأكثر من الثلث من دون وجود أي قرار حكم بذلك.
وفي المحصلة، قبل الثورة كانت المحاكمات بأغلبيتها تتم بناء على قانون العقوبات السوري (61.3%) بينما فقط 5.5% من معتقلي بعد الثورة حوكموا وفق هذا القانون. في عهد الابن قبل الثورة كانت الأكثرية تُحاكم وفق المادة الأولى من القانون 49، ثم تغير الوضع تماماً بعدها لتصبح كل المحاكمات على الأرجح بناء على القانون رقم 19 الصادر عام 2012، الخاص بمكافحة الإرهاب.
ووفقاً للتقرير كذلك، فإن 96% من معتقلي ما بعد الثورة قالوا إنه لم يتم إبلاغهم بمدة حكمهم، بينما كانت هذه النسبة بحدود 22.2% قبل الثورة.
من جهة ثانية، فإن أغلبية المعتقلين في صيدنايا في عهد الابن قبل الثورة قالوا إنه لم تتم مصادرة أملاكهم (72.2%)، بينما صودرت أملاك أكثر من نصف المعتقلين بعدها.
كيف يخرج المعتقل من صيدنايا وبأي حال؟
بداية، يُشير التقرير إلى أن نصف من خرجوا من السجن، وفق العيّنة المعتمدة، فعلوا ذلك بموجب عفو عام، بينما طال العفو العسكريين أكثر من المدنيين بكثير، ومن قضوا بين سنة وثلاث سنوات أكثر ممن اعتقل لمدة أطول.
وكان هناك أكثر من 40% ممن قالوا إن الاعتقال أثّر على حالتهم المدنية (طلاق، انفصال، انقطاع عن الأسرة)، بينما تحفظ آخرون عن الإجابة إذ يبقى الموضوع حساساً لكثر.
التأثير السلبي للاعتقال طال كذلك الناحيتين التعليمية والمهنية، فنسبة قليلة جداً تمكنت من المتابعة بعد السجن (13٪)، وكذلك خسر 87.3% عملهم من دون تعويضات.
ويقول التقرير إن تجاوز الأضرار النفسية للاعتقال كان صعباً على أكثرية المعتقلين السابقين.
التبعات على عائلة المعتقل
وفق التقرير، قالت الأكثرية (57.3%) إن ذويهم دفعوا أموالاً لمعرفة مصيرهم أو لزيارتهم، وفي أكثرية الحالات تجاوزت الأرقام الـ1500 دولار أميركي، بينما يبلغ دخل الفرد اليومي هو 2 إلى 4 دولار يومياً.
وقالت الأكثرية (63.8%) إن ذويهم دفعوا أموالاً مقابل وعود بإخلاء السبيل، وفي أكثرية الحالات تجاوزت الأرقام الـ 4000 دولار أميركي.
تُدفع المبالغ لوسطاء مختلفين على علاقة بالسلطة. بالإضافة إلى ذلك، تُدفع لمحامين وقضاة، والجدير ملاحظته كما ذكر التقرير هو دور “الشبيحة” الذي يبدو أنه “ينافس” دور رجال الأمن والاستخبارات في عمليات الاستغلال والنهب هذه.
وقال 31.4% من المعتقلين في عهد بشار قبل الثورة إنهم دفعوا (هم أو أهاليهم) مبالغ مالية مقابل وعود بإطلاق السراح، وتصل هذه النسبة إلى 38.0% بعد الثورة.
وفي عهد الابن دفع أكثر من نصف المعتقلين قبل الثورة (أو أهاليهم) مبالغ بهدف الحصول على معلومات عن مصير المعتقل أو الزيارة. وبعد الثورة، دفعت أكثرية المعتقلين من أجل ذلك (67.9%).
ماذا بعد؟
تسعى الرابطة، كما تعرّف عن نفسها، إلى كشف الحقيقة وتحقيق العدالة للمعتقلين على خلفية رأيهم أو نشاطهم السياسي. كما تعمل على الكشف عن مصير المفقودين والمختفين قسراً في سوريا بشكل عام وسجن صيدنايا بشكل خاص، وتهتم بشؤون المعتقلين والمختفين في صيدنايا وتعمل على توثيق أعدادهم ومناطقهم وتاريخ فقدانهم والجهة المسؤولة عن اعتقالهم.
وفضلاً عن المعلومات المتعلقة بالظروف المأساوية لأوضاع المعتقلين في السجون السورية عموماً، وسجن صيدنايا خصوصاً، يقدم هذا التقرير، والشهادات التي استند إليها، معلومات عن تحولات ملف الاعتقال السياسي في سوريا، وعن مجمل الظروف السياسية والاجتماعية المرافقة له.
ويرى معدو التقرير أن الإحاطة بهذه الظروف تؤمن شروطاً أفضل لفهم الكيفية التي تعمل بها مؤسسات النظام الأمنية، وكيفية استخدامها للاعتقال والتعذيب والتصفية في السجون وسيلة لإرهاب وإخضاع المجتمع كله، وهو ما يساهم في فهم أعمق لبنية النظام السوري الأمنية، وبالتالي في البحث عن وسائل لتفكيكها من جهة، ومحاسبة المسؤولين عن إدارتها وتحقيق العدالة للضحايا من جهة أخرى.
وبما أن السير على طريق تفكيك هذه الأجهزة الأمنية ومحاسبة المسؤولين عنها يتطلب الدخول في مسار جدي لتحقيق العدالة وإنصاف الضحايا، وهو ما لا يزال متعذراً في المرحلة الحالية نتيجة الدعم الذي يلقاه النظام، ناشدت الرابطة كافة منظمات المجتمع المدني ونشطاء السلام والحقوقيين حول العالم الضغط على حكوماتهم وتقديم الدعم بكافة الوسائل الممكنة.
وفي ختامه، يشدد التقرير على ضرورة أن يبقى صراع التوثيق ونقل الحكايات وجمع البيانات الخاصة بالضحايا والمرتكبين قائماً، مع اعتبار حضور الناجين في أي خطط أو مشاريع عن العدالة في سوريا مستقبلاً ضرورة، وعدم تجاهل أصواتهم وتطلعاتهم عبر تغليب مفاهيم ونماذج جاهزة “للعدالة الانتقالية”…لأن هذا النوع من الجرائم، بكل بساطة، لا يسقط بالتقادم.
رصيف 22